الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر سبب هلاك أبرويز وقتله
قال: وكان سبب ذلك تجبره واحتقاره للعلماء وعتوّه، وذلك أنه استخفّ بما لا يستخفّ به الملك الحازم، وكان قد جمع من المال ما لم يجمعه أحد من الملوك، وبلغت خيله الى قسطنطينية وأفريقية، وكانت له اثنتا عشرة ألف امرأة وجارية، وألف فيل إلّا فيل واحد، وخمسون ألف دابّة، ومن الجواهر والأوانى والآلات ما يليق بذلك، وأمر أن يحصى ما جبى من بلاده وسائر أبواب المال سنة ثمانى عشرة من ملكه، فرفع إليه أنّ الذى جبى فى تلك السنة من الخراج وسائر الأبواب كان ستمائة ألف ألف درهم، وأمر أن يحوّل إلى بيت مال بنى بمدينة طيسفون «1» من ضرب فيروز بن يزدجرد وقباذ بن فيروز اثنتى عشرة ألف بدرة من أنواع الجواهر وغير ذلك.
قال: فعتا وتجبّر واستهان بالناس والأحرار، وبلغ من جرأته أنه رأى رجلا كان على حرس باب الخاصّة، يقال له: زاذان فرّوخ، فأمره أن يقتل كل مقيّد فى سجن من سجونه، فأحصوا من بالسجون من المقيّدين فبلغوا ستّة وثلاثين ألفا، فلم يقدر زاذان فرّوخ على قتلهم، وتوقّف عن إمضاء أمر كسرى وأعدّ عللا له فيما أمره به فيهم، فكان هذا أحد الأسباب التى كسب بها كسرى عداوة أهل مملكته مع وجود احتقاره إيّاهم، واستخفافه بهم، واطّراحه لعظمائهم.
ومن ذلك أنه سلّط علجا، يقال له: فرّخان زاذ، على الخراج فاستخرج بقاياهم منهم بعنف وعذاب. ومن ذلك أنه أجمع على قتل الفلّ «2» الذين انصرفوا إليه من
قبل هرقل، فأكّدت هذه الأسباب بغضه، واستطال الناس مدّته، فكان نتيجة ذلك أنّ قوما من العظماء انصرفوا إلى عقر بابل «1» ، وفيه شيرى «2» بن أبرويز مع إخوته، وقد كان كسرى أبرويز وكّل بهم مؤدّبين وأساورة، يحولون بينهم وبين من يجتمع بهم من الناس، ويمنعونهم من البراح، فأخذه العظماء وأقبلوا به إلى مدينة بهرسير «3» ودخلوها ليلا، فخلّى عمّن كان فى سجونها وأخرجهم، واجتمع إليه الفلّ الذين كانوا غلبوا وفرّوا من هرقل وأمر كسرى بقتلهم، فنادوا: قباذ شاهنشاه، وصاروا كلّهم عند الصباح إلى رحبة كسرى، فهرب الحرس، وانحاز كسرى بنفسه إلى باغ «4» له بالقرب من قصره، يعرف بباغ الهندوان «5» ، فارّا مرعوبا، فأخذ وحبس بمكان غير دار المملكة، فى دار رجل يقال له: مار اسفند، إلى أن قتل بعد حديث طويل ومراسلات كانت بينه وبين ابنه شيرى بمواطأة العظماء، بعد تقريع عظيم، وتوبيخ كثير، على ما كان منه، ومن سوء تدبيره، وقبح فعاله، وهو يجيبهم بأجوبة إقناعيّة، وله مراسلات ووصايا كتبها إلى ابنه من السجن؛ قد ذكرنا بعضها فيما سلف من هذا الكتاب. وكان هلاكه بعد ثمان وثلاثين سنة من ملكه. وبمضىّ آثنتين وثلاثين سنة وخمسة أشهر وخمسة عشر يوما من ملكه، كانت هجرة سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة.
قال: ولمّا قبض على كسرى خلّف فى بيت المال من الورق «1» أربعمائة ألف بدرة سوى الكنوز والذخائر والجواهر والآلات.
وكان وزيره والقائم بتدبير دولته بزرجمهر الحكيم. ولبزرجمهر هذا قضايا وحكم ومواعظ فى أيدى الناس. ويقال: إنّ بزرجمهر هذا إنما كان وزيرا لكسرى أنو شروان، وهو الذى قتله. وذلك أنّ بزرجمهر ترك المجوسيّة ورجع إلى دين عيسى بن مريم عليه السلام ودان به، فقتله كسرى لذلك. ويقال: إنه وجد فى منطقته لمّا قتل كتاب فيه: إذا كان القدر حقّا فالحرص باطل، وإذا كان الغدر فى الناس طباعا فالثّقة بكلّ أحد عجز، وإذا كان الموت نازلا فالطّمأنينة إلى الدنيا حمق.
قالوا: ولمّا بلغ بزرجمهر من العمر خمس عشرة سنة دخل على كسرى، وقد جلست الوزراء على كراسيها والمرازبة «2» فى مجالسها. فوقف وحيّا الملك بتحيّة الملوك ثم قال: الحمد لله المأمون نعمه، المرهوب نقمه، الدالّ عليه، بالرغبة اليه، المؤيّد الملك، بسعوده فى الفلك، حتّى رفع شأنه، وعظم سلطانه، وأنار به البلاد، وأنعش به العباد، وقسّم به فى التقدير، وجوه التدبير، فرعى رعيّته بفضل نعمته، وحماها الموبلات، وأوردها المعشبات، وذاد «3» عنها الأكّالين، وألّفها بالرّفق واللين، إنعاما من الله عليه، وتثبيتا لما فى يديه. وأسأله أن يبارك له فيما آتاه، ويخيّر له فيما استرعاه، ويرفع قدره فى السماء، ويسير ذكره على وجه الماء، حتى لا يبقى له بينهما مناوى، ولا يوجد له مساوى. وأستوهب الله له
حياة لا يتنغّص فيها، وقدرة لا يحيد أحد عنها، وملكا لا بؤس فيه، وعافية تديم له البقاء، وتكثر له النّماء؛ وعزّا يؤمّنه من انقلاب رعيّته، أو هجوم بليّته، فإنه مؤتى الخير، ودافع الشرّ.
فلمّا سمعه كسرى أمر فحشى فمه بنفيس الجواهر، ولم تمنعه حداثة سنّه أن استوزره، وقلّده خيره وشرّه؛ فكان أوّل داخل، وآخر خارج. وكان أبوه خامل القدر، وضيع الحال، سفيه المنطق، اسمه البختكان.
قال: ولمّا قبض على أبرويز ملك بعده ابنه: قباذ بن أبرويز ويعرف قباذ بشيرويه. وقباذ هذا هو القابض على أبيه والقاتل له، وقتل سبعة عشر أخا له، وقيل ثمانية عشر، ذوى آداب وشجاعة؛ فكان عاقبة ذلك أنّ الله عز وجل ابتلاه بالأسقام، فانتقض عليه بدنه، ولم يلتذ بشىء من ملاذّ الدنيا، وجزع بعد قتل إخوته جزعا شديدا؛ وكان يبكى حتى يرمى التاج عن رأسه، وعاش ما عاش مهموما حزينا مدنفا. وفى أيامه فشا الطاعون فأهلك أكثر الفرس. وكان ملكه ثمانية أشهر، وقيل أكثر من ذلك.
وملك بعد وفاته ابنه أردشير بن شيرويه وهو ابن سبع سنين ولم يوجد من بيت الملك غيره.
قال: ولمّا ملّكته الفرس عليها حضنه رجل يقال له: مهآذر جشنس، «1» فأحسن سياسة الملك. وكان شهر براز «2» المقيم بثغر الروم فى جند ضمّهم اليه كسرى أبرويز
وابنه شيرويه، وكانا يكتبان اليه ويستشيرانه فى الأمر الذى يهمهما ويعملان برأيه. فلمّا مات شيرويه وملّكت الفرس عليها ابنه أردشير- مع حداثة سنه- لم يشاوره عظماء الفرس فى ذلك، فعظم عليه انفرادهم عنه، وجعل ذلك ذنبا لهم، وبسط يده وطمع فى الملك، واستهان بعظماء الفرس، ودعا الناس لنفسه، وأقبل بجنده نحو المدائن، فعمد مهآذر جشنس الى مدينة طيسبون، فحصّنها وحوّل أردشير ومن بقى من نسل الملوك ونسائهم والأموال والخزائن والكراع «1» وغير ذلك إليها؛ فورد شهر براز الى مدينة طيسبون وحاصرها ونصب عليها المجانيق، فعجز عنها لحصانتها، فأخذ فى أعمال المكايد والحيل، فلم يزل يتلّطف برجل يقال له: نيوخسرو ويراسله هو وغيره، حتى فتحوا له باب المدينة فدخلها، وقتل جماعة من الرؤساء واستصفى أموالهم وقتل أردشير بن شيرويه. وكان ملكه سنة ونصفا، وقيل:
إنما ملك نصف سنة، وقيل: خمسة أشهر.
وملك بعده شهر براز، وقيل فيه: شهريار، ولم يكن من أهل بيت المملكة.
قال: ولمّا جلس على سرير الملك ضرب عليه بطنه، وبلغ من شدّة ذلك عليه أنه لم يقدر على إتيان الخلاء؛ فدعا بالطست، فوضع أمام ذلك السرير، ومدّ أمامه ما يستتر به، وبقى يتبرّز فى ذلك الطست.
قال: ثم آمتعض رجل يقال له: فسفرّوخ «2» [بن ما خرشيذان «3» ] وأخوان له من قتل شهر براز أردشيرين شيرويه وغلبته على الملك، فتحالفوا على قتله. وكان من السنّة إذا ركب الملك أن يقف له حرسه سماطين عليهم الدروع والبيض،
وبأيديهم السيوف والتّراس «1» والرّماح؛ فإذا حاذاهم الملك وضع كلّ واحد منهم ترسه على قريوس سرجه، ثم يضع جبهته عليه كهيئة السجود.
قال: واتفق ركوب شهر براز فى بعض الأيام فوقف فسفرّوخ وأخواه وهم بالقرب من بعضهم بعضا، فلمّا حازاهم شهر براز طعنه فسفرّوخ، ثم طعنه أخواه فسقط عن دابّته، فشدّوا رجله بحبل وجرّوه إقبالا وإدبارا ساعة، وساعدهم العظماء «2» على ذلك، وقتلوا جماعة ممن كان قد ساعد شهر براز على قتل أردشير. فكان ملكه أربعين يوما، وقيل عشرين يوما.
وملكت بعده بوران بنت كسرى أبرويز ويقال لها: بوران دخت.
قال: فأحسنت السّيرة وبسطت العدل، وأمرت برمّ القناطر والجسور، وإعادة ما تشعّث من العمارات، ووضعت بقايا الخراج، وكتبت الى الناس عامّة كتبا تعلمهم ما هى عليه من الإحسان، وأنها ترجو أن يريهم الله من الرفاهية والاستقامة بمكانها، ومن العدل وحفظ الثغور ما يعلمون أنه ليس ببطش الرجال تدوّخ البلاد، ولا ببأسهم تستباح العساكر، ولا بمكائدهم ينال الظفر وتطفأ النوائر؛ ولكنّ ذلك بالله عز وجل، وحسن النيّة واستقامة التدبير. وأمرت بالمناصحة وحسن الطاعة، وردّت خشبة الصليب على ملك الروم. وكان ملكها سنة وأربعة أشهر.
ثم ملك رجل يقال له: جشنسده وهو ابن عمّ أبروير، وكان ملكه أقلّ من شهر، وقيل: إن الذى ملك يزدجرد بن كسرى وهو طفل.
ثم ملكت بعده آزرميدخت بنت كسرى أبرويز، وكانت من أجمل نساء دهرها، وكان عظيم فارس يومئذ فرّخ هرمز أصبهبذ خراسان؛ فأرسل إليها يسألها أن تزوّجه نفسها، فأرسلت اليه: التزويج للملكة غير جائز، وقد علمت أن أريك فيما ذهبت اليه قضاء حاجتك منّى؛ فصر الىّ ليلة كذا وكذا، ففعل وركب اليها فى تلك الليلة، وتقدّمت الى صاحب حرسها أن يرصده فى الليلة التى تواعدا للالتقاء فيها، فإذا رآه يقتله، فرصده صاحب الحرس؛ فلمّا جاء قتله وجرّ برجله وطرحه فى رحبة دار الملك.
فلمّا أصبح الناس ورأوه علموا أنه لم يقتل إلّا لأمر عظيم، ثم أمرت بتغييب جثّته فغيّبت. وكان رستم بن فرّخ هرمز هذا- وهو رستم صاحب القادسيّة- عظيم البأس، قويّا فى نفسه، فلمّا بلغه ما صنع بأبيه أقبل فى جند عظيم حتى نزل المدائن؛ فقبض على آزرميدخت وسمل عينيها وقتلها بعد ذلك. فكانت مدّة ملكها ستة أشهر.
واختلف فيمن ملك بعد آزرميدخت، فقيل رجل من عقب أردشير بن بابك كان ينزل الأهواز يقال له: كسرى [بن] مهرجشنس «1» ، فلبس التاج وقتل بعد أيام. ويقال: بل كان رجل يسكن ميسان يقال له فيروز، فملّكوه كرها. وكان ضخم الرأس، فلمّا توّج قال: ما أضيق هذا التاج! فتطيّر العلماء من افتتاح الأمر بالضيق وقتلوه. ثم أتى برجل من أولاد كسرى كان قد لجأ الى موضع من الغرب بالقرب من نصيبين، يقال له:«حصن الحجارة» حين قتل شيرويه بن كسرى أبرويز إخوته، وهو فرّخ زاباذ «2» خسرو بن كسرى أبرويز، فانقاد الناس له طوعا زمانا
يسيرا ثم استعصوا عليه وخالفوه. وكان ملكه ستة أشهر. وكان أهل اصطخر قد ظفروا بيزدجرد بن شهريار بن أبرويز باصطخر، وكان قد هرب إليها حين قتل شيرويه إخوته. فلمّا بلغ عظماء أهل اصطخر أنّ من بالمدائن خالفوا الملك فرّخ زاذ خسرو أتوا يزدجرد ببيت نار أردشير، فتوّجوه هناك وملّكوه، وكان حدثا، ثم أقبلوا به الى المدائن وقتلوا فرّخ زاذ خسرو بحيل احتالوها عليه.
وملك يزدجرد بن شهريار بن كسرى أبرويز بن هرمز بن كسرى أنو شروان بن بهرام بن يزدجرد بن سابور بن هرمز بن سابور بن أردشير بن بابك؛ فملك وكان العظماء والوزراء يدبّرون الملك لحداثة سنّه، وهو آخر الملوك الساسانيّة وعليه انقرضت دولتهم، فلم تقم لهم قائمة، وتردّد الى بلاد خراسان والى بلاد الترك، وعاد فقتل بمرو من بلاد خراسان فى سنة إحدى وثلاثين من الهجرة لسبع سنين خلت من خلافة عثمان بن عفّان رضى الله عنه.
وكانت مدّة ملك يزدجرد منذ ملك وإلى أن قتل عشرين سنة، إلّا أنّ فيها مدّة لا يعدّ فيها مع الملوك؛ لأنه كان مشرّدا طريدا على ما نذكر أخباره مفصّلة، وكيف فتحت بلاده ومدنه بلدا بلدا، ومدينة مدينة فى خلافة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفّان رضى الله عنهما.
فعدّة ملوك الفرس الأول والساسانيّة على هذا المساق الذى ذكرناه اثنان وخمسون ملكا منهم ثلاث نسوة. فالفرس الأول عشرون ملكا منهم امرأة واحدة. والملوك الساسانيّة اثنان وثلاثون ملكا فيهم امرأتان. وذكر بعض المؤرّخين أنّ ملوك الفرس ستّون ملكا، وأنّ مدّة ملكهم أربعة آلاف سنة وسبعون سنة وشهورا. والله أعلم.