الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأشغانى. ثم اردشير بن بابك. فكانت مدة هؤلاء، الى أن وثب أردشير بن بابك على الأردوان فقتله، مائتين وستا وستين سنة.
وفى أيام ملوك الطوائف اصطلمت «1» طسم وجديس. وسنذكر إن شاء الله خبرهم.
ذكر أخبار الملوك الساسانية
وهم الفرس الأخر. وأوّل من ملك منهم أردشير بن بابك بن ساسان الأصغر.
وكان من أعظم ملوك الطوائف وملوك الأشغانية، فوثب بالأردوان وقتله واستولى على الممالك وقاد الملوك الى طاعته رغبة ورهبة. وكتب الى ملوك الطوائف يدعوهم الى الاجتماع اليه: بسم الله ولىّ الرحمة. من أردشير المستأثر دونه بحقه، المغلوب على ثراث آبائه، الداعى الى قوام دين الله وسنته، المستنصر بالله، الذى وعد المحقّين الفلح «2» ، وجعل لهم العواقب؛ الى من بلغه كتابى هذا من ملوك الطوائف. سلام عليكم بقدر ما تستوجبون بمعرفة الحق، وإنكار الباطل والجور. ودعاهم الى الطاعة: فمنهم من أقرّ له بالطاعة، ومنهم من تربّص حتى قدم عليه، ومنهم من عصاه فكانت عاقبة أمره الى القتل والهلاك؛ حتى استوثق له الأمر. فكانت طائفة الأشكانية ممن امتنعت من طاعة أردشير، فأقسم أنه لا يبقى منهم- إن قدر عليهم- رجلا ولا امرأة. فلما غلب عليهم ما نجا منهم إلا من أخفى اسمه ونسبه. وقد كان أخذ فى جملة من أخذ منهم ابنة ملكهم، وكانت بارعة الجمال، وافرة العقل.
فلما رآها قال لها: أنت من بنات ملوكهم؟ قالت: بل من خدمهم. فاصطفاها لنفسه، فحملت منه. فلما علمت بالحمل شهرت نفسها وقالت: أنا ابنة ملكهم.
فعند ذلك أمر شيخا من رجاله الذين يثق بهم يقال له هرجند «1» [بن سام] بأن يودعها فى بطن الأرض إشارة الى قتلها. فقالت: أيها الشيخ، إننى قد حملت من الملك فلا تبطل زرعه. فعمل لها سربّا تحت الأرض وجعلها فيه، ثم عمد الى مذاكيره فجّبها ووضعها فى حقّ وختم عليه ورجع الى الملك وقال: قد أودعتها بطن الأرض؛ ودفع له الحقّ وقال: إن فيه وديعة وأحب أن يكون عند الملك الى أن أحتاج اليه، فاستودعه الملك؛ وأقامت الجارية فى السّرب حتى كلمت مدّة حملها، فوضعت غلاما فسماه الشيخ: شاه بور، أى ولد الملك؛ فسماه الناس سابور.
وبقى أردشير هذا دهرا لا يولد له، فرآه الشيخ فى بعض الأيام وقد ظهر عليه الحزن، وكان خاصا به، فقال له: ما هذا الحزن سرّك «2» الله أيها الملك وعمرك.
فقال: من أجل أنه ليس لى ولد يرث ملكى. فقال له الشيخ: إن لك عندى ولدا طيبا فادع بالحقّ. وأمر أردشير بإحضاره فأحضر، ففضّ ختمه فإذا فيه مذاكير الشيخ وكتاب فيه: إنه لما أمرنى الملك بقتل المرأة الأشكانية التى علقت من ملك الملوك أردشير لم أر أن أبطل زرع الملك الطيب فأودعتها بطن الأرض كما أمرنى، وتبرأت اليه من نفسى لئلا يجد عائب الى عيبها سبيلا؛ فسرّ أردشير بذلك، وأمر الشيخ أن يجعل الغلام بين مائة غلام من أشباهه فى الهيئة وأقرانه فى السن، ثم يدخلهم عليه، ففعل ذلك، فعرفه أردشير من بينهم وقبلته نفسه، ثم أمرهم أن يلعبوا فى حجرة الإيوان بالصّوالج، فدخلت الأكرة الإيوان، فأحجم الغلمان عن دخولهم وأقدم سابور، فأمر أردشير عند ذلك بعقد التاج له.
وكان أردشير من أهل العقل والمعرفة وحسن التدبير، وله وصايا ومكاتبات صدرت عنه تدل على حكمة ورجاحة عقل. وقد تقدّم إيرادها فى الباب الرابع «1» من القسم الخامس من الفنّ الثانى فى وصايا الملوك. وكانت مدّة ملكه أربع عشرة سنة وستة أشهر.
ثم ملك بعده ابنه سابور بن أردشير؛ والعرب تسميه سابور الجنود. وسابور هذا هو الذى حصر الضّيزن «2» ، وملك حصن الحضر، وهو من مبانى العرب المشهورة. وقد تقدّم ذكره فى الباب «3» الثالث من القسم الخامس من الفنّ الأوّل، وهو فى السفر الأوّل. فلا حاجة الى إعادة ذكره.
وفى أيامه ظهر مانى الزنّديق تلميذ قاردون وقال بالاثنين، فرجع سابور الى مذهب مانى والقول بالنور والبراءة من الظلمة، ثم عاد الى دين المجوسية وترك المانويّة، وهو المسمى عندهم بدين الثّنويّة. وكانت مدّة ملكه ثلاثين سنة.
وقيل إحدى وثلاثين سنة ونصف سنة وثمانية عشر يوما.
ثم ملك بعده ابنه هرمز بن سابور؛ وهو الذى يدعى هرمز البطل، ويلقّب أيضا بالجرىء. وبنى مدينة رامهرمز بين كور الأهواز. وكانت مدة ملكه سنة وعشرة أشهر.
ثم ملك بعده ابنه بهرام بن هرمز. قال: ولما ملك جاءه مانى الزنديق فعرض عليه مذاهب الثنوية فأجابه الى ذلك احتيالا منه عليه، الى أن أحضر له دعاته للتفرقين فى البلاد الذين يدعون الناس الى مذاهب الثنوية. فلما أحضرهم اليه قتلهم وقتل مانى وسلخه.
وفى أيام مانى هذا ظهر اسم الزنادقة الذين أضيفت اليهم الزندقة. وذلك أن الفرس كان لهم كتاب يسمونه السنا، وكان له شرح يسمى الزند. فكان من أتاهم بزيادة على ما فى كتابهم يسمونه زنديا. فلما جاءت العرب أخذت هذا المعنى من الفرس فعربته وقالت زنديق. فالثنوية هم الزنادقة، فألحق هذا الاسم بسائر من اعتقد القدم وأبى حدوث العالم وأنكر البعث.
والذى أتى الفرس بهذا الكتاب زرادشت فى زمن الفرس الأوّل. وقد قدّمنا ذكره فى أخبار بشتاسف. وهذا زرادشت هو الذى تزعم المجوس أنه نبيّها الذى أرسل اليها. وكان زرادشت خادم شعيا فدعا شعيا عليه فبرص. وكان صاحب نيرجات «1» وسحر. وكان يحزر «2» بعض الكوائن قبل أن تقع مما كان قد سمعه من شعيا وقت خدمته له، وادّعى النبوّة فى المجوس وعمل لهم الكتاب الذى قدّمنا ذكره، وزعم أنه أنزل عليه من السماء، وجعل كلامه فيه يدور على نيّف وسبعين حرفا، فلم يقدر أحد منهم على قراءته فاختصره لهم وسمى مختصره الزند.
فلما قام مانى بدين الثنوية سمته المجوس «زندين» وسموا أصحابه الزنادنة لأنه زاد فى شرعهم الذى شرعه لهم زرادشت، فقتل بهرام هذا مانيا وصلبه على باب «3» من أبواب مدينة من مدنه بالعراق؛ فيدعى ذلك الباب الى آخر وقت باب مانى.
وكانت مدة ملك بهرام ثلاثا «4» وثلاثين سنة وثلاثة أشهر.
ثم ملك بعده ابنه بهرام بن بهرام. قال: ولما ملك أقبل فى أوّل ملكه على اللهو والصيد والنّزه، وترك ملكه لا يفكر فيه ولا فى رعيته؛ فخربت البلاد ونقصت
بيوت الأموال. فلما كان فى بعض الأحيان ركب الى بعض متنزهاته وصيده فجنّه الليل وهو يسير نحو المدائن، وكانت ليلة قمراء. فدعا بالموبذ لأمر خطر بباله، والموبذ عند المجوس كالقسيس عند النصارى، فجعل يحادثه فتوسطا فى مسيرهم بين خرابات كانت من أمهات الضياع فخربت فى ملكه، وإذا بوم يصيح وآخر يحاوبه، فقال الملك: أترى أحدا من الناس أعطى فهم ما يقول هذا الطائر؟
فقال الموبذ: أنا أيها الملك ممن خصه الله تعالى بذلك. قال: فما يقول هذا الطائر، وما يقول الآخر؟ فقال الموبذ: هذا يوم ذكر يخاطب بومة أنثى ويقول:
متّعينى من نفسك حتى يخرج من بيننا أولاد يسبحون الله تعالى. فأجابته البومة:
إن الذى دعوتنى اليه هو الحظ الأكبر، والنصيب الأوفر، إلا أننى أشترط عليك شرائط. فقال: وما هى؟ فقالت: أن تقطعنى من خرابات أمهات الديار عشرين قرية مما خربت فى أيام هذا الملك السعيد. فقال له الملك: فما الذى قال الذكر؟
قال الموبذ: كان من قوله لها: إن دامت أيام هذا الملك السعيد أقطعتك منها ألف قرية، فما تصنعين بها؟ قالت: فى اجتماعنا ظهور النسل وكثرة الولد، فنقطع كل واحد من الأولاد ضيعة. فقال الذكر: هذا سهل ما حيى الملك.
فلما سمع الملك هذا الكلام من الموبذ عمل فى نفسه وفكر فيما خوطب به، فنزل من ساعته وخلا بالموبذ وقال له: ما هذا الكلام الذى خاطبتنى به؟ فقد حركت منى ما كان ساكنا. فقال: صادفت من الملك وقت سعد بالعباد والبلاد، فجعلت الكلام مثلا وموقظا على لسان الطائر عند سؤال الملك إياى. فقال له الملك:
أيها الناصح للملك، [المنبه «1» على] ما أغفله من أمور ملكه، وأضاعه من أمور بلاده ورعيته، اكشف لى عن هذا الغرض ما المراد منه. فقال له: أيها الملك! ان الملك
لا يتمّ إلا بالشريعة والقيام لله بطاعته، ولا قوام للشريعة إلا بالملك، ولا عزّ للملك إلا بالرجال، ولا قيام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل للمال إلا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل، والعدل هو الميزان المنصوب بين البرية، نصبه الربّ وجعل له قيّما وهو الملك.
قال: أما ما وصفت فحّق، فأبن لى عما اليه تقصد، وأوضح لى فى البيان.
قال: نعم أيها الملك! عمدت الى الضياع فأقطعتها الخدم وأهل البطالة فعمدوا الى ما تعجل من غلاتها فاستعجلوا المنفعة وتركوا العمارة والنظر فى العواقب وما يصلح الضياع، وسومحوا فى الخراج لقربهم من الملك. ووقع الحيف على الرعية وعمّار الضياع فانجلوا عن ضياعهم، وقلّت الأموال، وهلكت الجند والرعية، وطمع فى ملك فارس من طمع فيه من الملوك والأمم، لعلمهم بانقطاع المواد التى بها تستقيم دعائم الملك. فلما سمع الملك ذلك أقام فى موضعه ثلاثة أيام، وأحضر الوزراء والكتاب وأرباب الدواوين، فانتزعت الضياع من أيدى الخاصة والحاشية وردّت إلى أربابها، وحملوا على رسومهم السالفة، وأخذوا بالعمارة، وقوى من ضعف منهم، وعمرت البلاد، وكثرت الأموال، وقويت الجند، وانتظم ملكه حتى كانت أيامه تدعى بالأعياد، لما عمّ الناس من الخصب، وشملهم من العدل. وكان ملكه سبع عشرة سنة.
ثم ملك ابنه بهرام بن بهرام بن بهرام البطل، وكان يدعى شكان شاه، وهو الذى يقال له شاهنشاه «1» . فكان ملكه أربعين «2» سنة وأربعة أشهر.
ثم ملك بعده أخوه نرسى بن بهرام الثانى فكان ملكه تسع سنين. وقيل سبع سنين وخمسة أشهر.
ثم ملك بعده ابنه هرمز بن نرسى. قال: وكان فظا إلا أنه كان يرفق بالرعية، وكان حسن السيرة فيهم. وكان ملكه سبع سنين وخمسة أشهر.
ثم ملك بعده ابنه سابور بن هرمز؛ وهو الملقب بذى الأكتاف. وكان هرمز قد تركه حملا فى بطن أمه، فعقدوا التاج على بطنها، وقام الوزراء بتدبير الأمر مدّة حملها، وفى مدّة رضاع سابور وطفولته وصغره حتى كبر؛ فكتب إليه الناس الكتب من الآفاق وأجابهم، ووجه البريد إلى الآفاق والأطراف، ورتّب الوزراء والكتاب وقرّر العمال.
قال: وكان قد شاع فى الممالك أن ملك الفرس صغير السنّ، وأنه يتدبّر برأى وزرائه، ولا يدرى ما يراد منه، ولا ما يكون من الأمر، فطمع فى مملكة الفرس الترك والروم والعرب. وكانت أدنى بلاد الأعداء إلى الفرس بلاد العرب. وكانت العرب من أحوج الأمم إلى تناول شىء من المعايش لسوء حالهم وشظف عيشهم، فانبسطت أيديهم فى البلاد وغلبوا أهلها عليها واتسعت حالهم وكثرت مواشيهم، وأفسدوا فى بلاد فارس، ومكثوا كذلك حينا، وقد أمنوا جانب الفرس واطمأنّوا من قتالهم لقلة هيبتهم. وكان الذى غلب على سواد العراق من العرب جمرة العرب ولد إياد بن نزار. وكان يقال لها طبق لإطباقها على البلاد، وملكها يومئذ الحارث بن الأغر الإيادى. قال: ولما ترعرع سابور جعل الوزراء يعرضون عليه أمر الجنود الذين فى الثغور، وأن الأخبار وردت عليهم أن أكثرهم قد أخلّ، وعظّموا عليه الأمر وهوّلوه، فقال لهم: لا يهولنّكم ذلك، فالخطب فيه غير جسيم، والحيلة فى ذلك يسيرة. وأمر الكتّاب أن يكتبوا الى أولئك الجنود أنه قد انتهى إلىّ طول مكثكم فى النواحى التى أنتم فيها، وعظم عنائكم وذبّكم عن إخوانكم وأوليائكم، فمن أحب منكم الانصراف الى أهله فلينصرف مأذونا له فى ذلك،
ومن أحبّ أن يستكمل الفضل بالصبر فى موضعه عرفنا له ذلك؛ وتقدّم الى من اختار الانصراف منهم بلزوم أهله وبلاده الى وقت الحاجة إليه. فلما سمع الوزراء قوله ورأيه استحسنوه وقالوا: لو كان هذا قد أطال تجربة الأمور وسياسة الجنود مازاد على ما سمعناه. ثم تتابعت آراؤه فى تقويم أصحابه وقمع أعدائه؛ حتى إذا تمت له ستّ عشرة سنة جمع أساورته وأمرهم بالاستعداد لقتال العرب. وكانت إياد تصيف بالجزيرة وتشتو بالعراق. وكان فى جيش سابور رجل منهم يقال له لقيط «1» ، فكتب الى إياد شعرا ينذرهم وهو:
سلام فى الصحيفة من لقيط
…
الى من بالجزيرة من إياد
بأن الليث آتيكم دليفا «2»
…
فلا يحبسكم سوق النّقاد
أتاكم منهم سبعون ألفا «3»
…
يزجّون الكتائب كالجراد
فلم يعبئوا بكتابه، وسراياهم تكرّنحو العراق وتغير على السواد. فلما تجهّز القوم نحوهم ظفربهم سابور فعمّهم بالقتل، وما أفلت منهم إلا نفر لحقوا بأرض وبار «1» ، وخلع سابور أكتاف كثير منهم، فلذلك سمّى ذا الأكتاف. وكان سابور فى مسيره أتى البحرين وفيها بنو تميم فهربوا، وشيخها يومئذ عمرو بن تميم بن مرة وعمره ثلاثمائة سنة، وكان يعلّق فى عمود البيت فى قفّة، فأرادوا حمله فأبى عليهم إلا أن يتركوه فى ديارهم وقال لهم: أنا هالك اليوم أو غدا فتركوه. فلما صبحت خيل سابور الديار لقوها خالية، فلما سمع عمرو صهيل الخيل جعل يصيح بصوت ضعيف، فحمل إلى سابور، فلما نظر إلى دلائل الهرم ومرور الأيام عليه قال له: من أنت أيها الفانى؟ قال: أنا عمرو بن تميم بن مرة، قد بلغت من الكبر ما ترى، وقد هرب الناس منك لإسرافك فى القتل، فآثرت الفناء على يديك ليبقى من بقى من قومى، ولعل الله يجرى على يديك فرجهم، وأنا سائلك عن أمر إن أذنت فيه؛ فقال سابور:
أقتلهم لما ارتكبوا فى بلادى وأهل مملكتى؛ فقال عمرو: فعلوا ذلك ولست بقيّم عليهم؛ فلما ملكت وقفوا عما كانوا عليه من الفساد هيبة لك؛ قال سابور: وأقتلهم لأنا نجد فى مخزون علمنا وما سلف من أنباء أوائلنا أن العرب ستدال علينا. فقال عمرو: هذا أمر تظنه أم تتحققه؟ قال: بل أتحققه ولا بدّ أن يكون؛ فقال عمرو: فلم تسئ إليها؟ والله لئن تبقى عليها وتحسن إليها ليكافئون قومك عند إدالة الدوله إليهم بإحسانك، وإن أنت طالت بك المدّة كافئوك عند مصير الأمر إليهم إن كان حقا، وإن كان باطلا فلم تتعجل الإثم وتسفك دماء رعيتك؟ فقال
سابور: الأمر صحيح والحقّ ما قلت، ولقد صدقت فى القول ونصحت.
فنادى منادى سابور بأمان الناس ورفع السيف. ويقال: إن عمرا بقى بعد هذا الوقت ثمانين سنة.
ثم سار سابور إلى أرض الروم ففتح المدن وقتل خلائق من الروم وقال لمن معه: إنى أريد أن أدخل بلاد الروم متنكرا لأتعرّف أحوالهم وسيرهم ومسالك «1» بلادهم، فإذا بلغت من ذلك حاجتى انصرفت الى بلدى فسرت إليهم بالجنود؛ فحذّروه التغرير بنفسه فلم يقبل قولهم. وسار متنكرا الى أرض القسطنطينية فصادف وليمة لقيصر اجتمع فيها الخاص والعامّ، فدخل فى جملتهم وجلس على بعض موائدهم، وقد كان قيصر أمر مصوّرا أتى عسكر سابور فصوّره وجاء الى قيصر بالصورة، فأمر بها فصوّرت على آنية الشراب من الذهب والفضة، وأتى بعض من كان على المائدة التى عليها سابور بكأس، فنظر بعض الخدم الى الصورة التى على الكأس، وسابور مقابل له، فانطبعت مثالا لصورة سابور، فقام الى الملك فأخبره، فمثل بين يدى الملك، فسأله عن خبره فقال: أنا من أساورة سابور وهربت منه لأمر خفته منه. فلم يقبل ذلك منه، وقدّم إلى «2» السيف فأقرّ بنفسه، فجعل فى جلد بقرة، وسار قيصر فى جنود حتى توسط العراق، فافتتح المدن، وشنّ الغارات، وعقر النخل، وانتهى الى مدينة نيسابور، وقد تحصن بها وجوه فارس، فنزل عليها وحضر عيدا للنصارى فأغفل الموكّلون بسابور أمره، وأخذ منهم الشراب، وكان بالقرب من سابور أسارى من الفرس، فراطنهم بالفارسية أن يحلّ بعضهم بعضا، وأمرهم أن يصبّوا عليه زقاق «3» الزيت ففعلوا، فلان عليه
الجلد وتخلص، وأتى المدينة فراطنهم فرفعوه بالحبال، ففتح خزائن السلاح وخرج على الروم فكبس جيشهم عند ضرب النواقيس، فانهزم الروم، وأتى بقيصر أسيرا، فأبقى عليه وضمّ إليه من أسر من أصحابه، وأخذهم بغرس الزيتون بالعراق بدلا من النخل التى عقروها؛ ولم يكن الزيتون بالعراق قبل ذلك. وفى فعل سابور ودخوله الى أرض الروم يقول بعض شعراء الفرس:
وكان سابور صفوا فى أرومته
…
اختير منها فأضحى خير مختار
إذ كان بالروم جاسوسا يجول بها
…
حوم المنيّة «1» من ذى كيد مكّار
فاستأسروه، وكانت كبوة عجبا
…
وزلّة سبقت من غير عثّار
وأصبح الملك الرومىّ مغتربا
…
أرض العراق على هول وأخطار
فراطن الفرس بالأبواب فافترقوا
…
كما تجاوب أسد الغاب «2» بالغار
فجذّ بالسيف أصل الروم فامتحقوا
…
لله درّك من طلّاب أوتار
إذ يغرسون من الزيتون ما عضدوا
…
من النخيل وما حفّوا بمنشار
وسابور هذا هو الذى بنى الإيوان المعروف بإيوان كسرى، وبنى السّوس «3» والكرج «4» ونيسابور «5» . قال صاحب كتاب تجارب الأمم: وبنى بالسواد مدينة نرجس سابور، وبنى الأنبار «6» . قال: وبنى مدائن أخر بالسند وسجستان، ونقل
طبيبا من الهند وأسكنه السوس، فورث طبّه أهل السوس. وهلك سابور بعد اثنتين وسبعين سنة من ملكه.
ثم ملك بعده أردشير بن هرمز وهو أخو سابور بن هرمز هذا. قال:
ولما ملك ظهر منه شرّ كثير وقتل من العظماء وذوى الرياسة خلقا كثيرا، فاجتمع الناس على خلعه فخلعوه بعد أن ملك أربع سنين.
ثم ملّكوا عليهم بعده سابور بن سابور. قال: ولما ملك استبشرت الرعية برجوع ملك أبيه إليه، فأحسن السيرة ورفق بالرعيّة. وكانت له حروب كثيرة مع إياد بن نزار وغيرها [من العرب «1» ]، وفيه يقول شاعر إيادىّ:
على رغم سابور بن سابور أصبحت
…
قباب إياد حولها الخيل والنّعم
وكان ملكه خمس سنين وأربعة أشهر، وسقط عليه فسطاط كان ضرب عليه فمات.
وملك بعده أخوه بهرام بن سابور ذى الأكتاف، وهو الملّقب كرمان شاه؛ لأن سابور كان ولّاه كرمان. قال: وكان حسن السيرة، جميل السياسة، محمود الأثر، محبّبا للرعية. وكان ملكه عشر سنين. وقيل إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وثمانية عشر يوما.
وملك بعده ابنه يزدجرد بن بهرام المعروف بالأثيم. قال: وكان فظّا غليظا، ذا عيوب كثيرة، وكان من أشدّ عيوبه وضعه ما آتاه الله من ذكاء ذهن وحسن أدب فى غير موضعهما؛ وذلك أنه كان كثير الرّويّة فى المضارّ من الأمور، واستعمل الذى أوتيه فى الدهاء والحيل، واستخف بكل علم كان عند الناس، واحتقر آدابهم، وتعاظم عليهم واستطال بما عنده. وكان معجبا بنفسه سيىء الخلق، حتى بلغ من شدته وحدّته أنه كان يستعظم صغار الزلات، ولا يرضى فى عقوبتها إلا بما لا يستطاع.
وكان لا يقدر أحد من بطانته- وإن كان لطيف المنزلة منه- أن يشفع عنده لمن ابتلى به وإن كان ذنب المبتلى به يسيرا، ولم يكن يأتمن أحدا على شىء ألبتّة، ولا يكافئ على حسن البلاء. وكان يعتدّ بالخسيس من المعروف اذا أولاه ويستجزل ذلك، فإن جسر على كلامه أحد فى أمر قال له: ما قدر جعالتك فى هذا الأمر الذى كلمتنا فيه، وما الذى بذل لك بسببه؟ وما أشبه ذلك. فلما اشتدت بليّة الناس به، وكثرت إهانته للعظماء، وأكثر من سفك الدماء، واستعمل الضعفاء فى الأعمال الشاقّة، وحمّلهم ما لا طاقة لهم به، تضرّعوا الى الله عز وجل وسألوه أن ينقذهم منه. فزعم الفرس أنه كان ذات يوم مطلعا من قصره إذ رأى فرسا عائرا لم ير مثله قط فى الخيل من حسن الصورة وتمام الخلقة حتى وقف على بابه، فتعجب الناس من ذلك، فأمر يزدجرد أن يسرج ويلجم ويدخل عليه به، فحاول السوّاس وأصحاب المراكيب أن يلجموه أو يسرجوه فعجزوا عن ذلك، ولا مكّنهم الفرس من نفسه، فخرج يزدجرد بنفسه الى الفرس وتقدم اليه وأسرجه وألجمه ولبّبه وهو لم يتحرّك، فلما استدار ورفع ذنبه ليثفره «1» رمحه الفرس على فؤاده رمحة فهلك منها لساعته، ثم لم يعاين الفرس بعد ذلك؛ فأكثرت الفرس فى حديثه فظنّوا الظنون. وكان أحسنهم مذهبا وأمثلهم طريقة من قال: إنما استجاب الله عز وجل دعاءنا. فكان ملكه الى أن هلك إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وثمانية عشر يوما. وقيل اثنتين وعشرين سنة غير شهرين.
قال: وكان ابنه بهرام جور فى حجر النعمان بن المنذر بن ماء السماء أسلمه أبوه اليه ليرّبيه بالحيرة لصحة هوائها. وقد تقدّم خبره فى ذكر بناء الخورنق «2» والسدير.
فعدل الفرس عنه لسوء أثر يزدجرد فيهم وملّكوا عليهم كسرى، وهو رجل من عترة ساسان، فاستعان بهرام جور بالعرب وأرسل الى الفرس وأعلمهم إنكاره سيرة أبيه، ووعدهم بإصلاح ما فسد، وأنه إن مضى لملكه سنة ولم يف لهم بما بذل تبّرأ من الملك طائعا، فمال اليه قوم وبقيت طائفة مع كسرى، فتراضوا أن يوضع تاج الملك بين أسدين مشبلين فمن تناوله فهو الملك. وكان بهرام جور شجاعا بطلا، فلما وقف هو وكسرى الى جانب الأسدين هابهما كسرى، فوثب بهرام جور فإذا هو على ظهر الأسد وعصر جنبيه بفخذيه، فلما تمكّن منه قبض على أذنيه، ولم يزل يضرب رأس الأسد برأس الآخر حتى قتلهما. فكان كسرى أوّل من هتف به وأذعن له.
فملك بهرام جور بن يزدجرد؛ فأحسن السيرة، وجلس سبعة أيام متوالية للجند والرعيّة، يعدهم الخير من نفسه ويحضّهم على تقوى الله وطاعته. وكان جلوسه على سرير الملك وهو ابن عشرين سنة، فغبر زمانا وهو يحسن السيرة، ويعمر البلاد، ويدرّ الأرزاق، ثم آثر اللهو على ذلك وكثرت خلواته بأصحاب الملاهى حتى كثرت عليه الملامة من أرباب دولته، وطمع من حوله من الملوك فى استباحة بلاده والغلبة على ملكه. وكان أوّل من سبق الى مغالبته ومكاثرته خاقان ملك الترك، وغزاه فى مائتى ألف وخمسين ألفا من الأتراك، فبلغ الفرس إقبال الترك فى هذه الجموع العظيمة فهالهم ذلك، ودخل على بهرام جور جماعة من عظماء الفرس وأهل الرأى والنجدة وقالوا: أيها الملك، قد أرهقك من بائقة «1» عدوّك ما يشغلك عما أنت فيه من اللهو والتلذذ، فتأهّب له لئلا يلحقك منه أمر يلزمك فيه مسبّة وعار. وكان بهرام لثقته بنفسه ورأيه يجيب القوم بأن يقول: الله ربنا قوىّ ونحن أولياؤه. ثم يقبل على ما هو عليه من اللهو والصيد.
قال: ثم أظهر بهرام جور التجهز الى أذربيجان ليتنسّك فى بيت نارها، ويتوجه منها الى أرمينية ويتصيد فى آجامها، وسار فى سبعة رهط من عظماء الفرس وأهل البيوتات، وثلاثمائة رجل من رابطته ذوى بأس وشدّة ونجدة، واستخلف أخاله يقال له نرسى على ملكه، فما شك الناس- لما بلغهم ذلك- أنه هرب من خاقان، فتآمر الفرس فى مراسلة خاقان والانقياد الى طاعته والإقرار له بالخراج؛ مخافة منه أن يستبيح بلادهم، فاتصل هذا الخبر بخاقان فاطمأنّ وترك التحفظ والاستعداد وآثر المسالمة. وتعرّف بهرام خبر خاقان وحال جنده وما هم عليه من الطمأنينة والفتور وعدم الاستعداد، فسار بمن معه وبيّت خاقان وقتله بيده. فلما علم الأتراك أن ملكهم خاقان قد قتل انهزموا لا يلوون على شىء وخلّفوا أثقالهم وأموالهم. فأكثر بهرام فيهم القتل وأمعن فى طلبهم، وحاز غنائم لم يسمع بمثلها، وسبى من ذرّيتهم كثيرا.
وكان مما غنمه تاج خاقان وإكليله، وغلب على بلاد الترك وانصرف بالظفر والغنائم، وكتب الى أهل مملكته يعلمهم بما حصل له من الظفر بخاقان وجموعه بمن كان معه من أولئك القوم الذين استصحبهم معه.
وكان بهرام يتكلّم بلغات كثيرة، منها اللغة العربية. ومما حفظ من شعره يوم ظفره بخاقان:
أقول له لما فضضت جموعه
…
: كأنك لم تسمع بصولات بهرام
وأنّى حامى ملك فارس كلّها
…
وما خير ملك لا يكون له حامى
ومن شعره أيضا:
لقد علم الأنام بكل أرض
…
بأنّهم قد اضحوا لى عبيدا
ملكت ملوكهم وقهرت منهم
…
عزيزهم المسوّد والمسودا
فتلك أسودهم تبغى «1» حذارى
…
وترهب من مخافتى الورودا
وكنت إذا تشاوس «2» ملك أرض
…
عبأت له الكتائب والجنودا
فيعطينى المقادة أو أوافى
…
به يشكو السلاسل والقيودا
قال: ولما قتل خاقان بعث بهرام جور أحد قوّاده إلى ما وراء النهر فغزاهم وأقرّوا لبهرام بالعبودية وأداء الجزية. قال: وأسقط بهرام جور عن رعيته إثر هذا الظفر خراج ثلاث سنين، وترك ما كان قد بقى من الخراج ولم يستخرج من قسط تلك السنة، وكان سبعين ألف ألف درهم، وقسم فى الفقراء ما لا عظيما وفى أهل البيوتات والأحساب عشرين ألف ألف درهم؛ ونحل بيت النار بأذربيجان جميع ما غنمه من الترك من اليواقيت والجواهر والتاج والإكليل.
ويقال إن بهرام دخل إلى أرض الهند متنكرا فمكث حينا لا يعرف حتى بلغه أن فيلا قد هاج وقطع السّبل وأهلك الناس، فسألهم أن يدلوه عليه، فرفع أمره إلى الملك فأرسل معه رسولا، فلما انتهى إليه أوفى «3» الرسول على شجرة لينظر ما يصنع بهرام مع الفيل، فصرخ بالفيل فخرج اليه، فجعل يرميه ويثبّت النّشّاب بين عينيه، ثم دنا وأخذ بمشفره وجذبه جذبة خرّمنها الفيل، ثم احتز رأسه وأقبل به إلى الملك فحباه وأحسن اليه.
ثم إن ملكا من أعداء ذلك الملك أقبل لغزوه فجزع ذلك الملك من كثرة جنود الملك الذى أتى نحوه، فقال له بهرام: لا يهولنّك أيها الملك أمره؛ فركب بهرام وقال لأساورة الهند: احموا ظهرى، وانظروا إلى عملى، وكانوا لا يحسنون الرمى، وأكثرهم رجالة، فحمل عليهم حملة هدّهم بها، ثم جعل يضرب الرجل فيقطعه
نصفين، ويأتى الفيل فيضرب مشفره ويكبّه ويأخذ من عليه فيقتله، ويأخذ الفارس فيذبحه على قربوس سرجه، ويتناول الرجلين فيضرب أحدهما بالاخر فيموتان جميعا، ويرمى فلا تقع له نشابة إلا فى رجل، فولّوا أمامه منهزمين، وحمل الذين كانوا يحرسون ظهره عليهم فأكثروا القتل فيهم، فزوّجه ملك الهند بنته ونحله الدّيبل «1» ومكران وما يليهما من أرض السند وأشهد له بذلك، وانصرف بهرام جور إلى مملكته وضمّ ذلك إلى بلاده وحمل خراجها إليه، ثم أغزى بهرام جور أخاه نرسى إلى بلاد الروم فى أربعين ألفا فدخل القسطنطنية وهادن ملك الروم على إتاوة يحملها إلى أخيه. ثم مضى بهرام جور إلى أرض السودان على طريق اليمن فأوقع بهم وعاد إلى مملكته وهلك بعد ذلك فى ماء. وذلك أنه توجه إلى الصيد فشدّ على عير وأمعن فى طلبه، فارتطم فى ماء فى سبخة فغرق فيه، فسارت أمه إلى ذلك الموضع بمال عظيم ونزلت بالقرب منه، وأمرت بإنفاق تلك الأموال على من يخرجه، فنقلوا طينا عظيما وحمأة كثيرة حتى صار من ذلك آكاما عظاما ولم يقدروا على [استنقاذ «2» ] جثته. وكان ملكه ثلاثا وعشرين سنة.
وحكى عنه فى صغره ما يدلّ على نباهته، وجودة فكرته وجميل رأيه. فمن ذلك أنه قال للنعمان بن المنذر لما بلغ عمره خمس سنين: أحضر لى مؤدّبين ليعلّمونى الكتابة والفقه والرمى والفروسية. فقال له المنذر: إنك بعد صغير السنّ، ولم يأن لك ذلك بعد. فقال له بهرام: أما تعلم أيها الرجل أنى من ولد الملوك، وأن الملك
صائر إلىّ، وأولى ما كلّف به الملوك وطلبوه صالح العلم؛ لأنه زين لهم وركن، وبه يعرفون. أما تعلم أن كل ما يتقدّم فى طلبه، ينال فى وقته، وما لم يتقدّم فيه ويطلب فى وقته، ينال فى غير وقته، وما يفرّط فيه وفى طلبه يفوت ولا ينال؟
عجّل علىّ بما سألتك. فبعث المنذر من ساعته إلى باب الملك من أتاه برهط من المعلمين الفقهاء والرماة، وجمع له حكماء الروم وفارس وغيرهم، وألزمهم إياه، ووقّت أوقاتا لكل منهم؛ فتعلّم بهرام من كل علم أحسنه، وسمع الحكمة ووعى ما سمع منها، وثقف كلّ ما علم بأيسر شىء، وبلغ أربع عشرة سنة، وقد فاق معلّميه، وحفظ للنعمان حقّ التربية، فملّكه على العرب لمّا صار الملك إليه.
ولما هلك بهرام جور ملك بعده ابنه يزدجرد بن بهرام جور؛ فسار بسيرة أبيه؛ ولم يزل قامعا لعدوّه، كثير الرفق برعيته. وكان له ابنان أحدهما يسمّى هرمز، والآخر فيروز. ودام ملك يزدجرد تسع عشرة سنة، وقيل ثمانى عشرة سنة وأربعة أشهر وثمانية عشر يوما ثم هلك.
فتغلّب على الملك بعده ابنه هرمز بن يزدجرد. ولما ملك هرمز هرب منه فيروز ولحق ببلاد الهياطلة «1» ، وأخبر ملكها بقصته وقصة أخيه هرمز، وذكر أنه أحقّ منه بالملك، وسأله أن يمدّه بجيش يقاتل به أخاه، فأبى عليه ملك الهياطلة وقال:
سأعلم خبره ثم آمرك بعد ذلك بما تفعل. وكشف ملك الهياطلة عن خبر هرمز وتعرّف أحواله فبلغه أنه غشوم ظلوم؛ فقال عند ذلك: إن الجور لا يرضاه الله تعالى، ولا يصلح عليه الملك، ولا تقوم به سياسته؛ وأمدّ فيروز بالعساكر ودفع له الطالقان «2» ؛ فأقبل فيروز من عنده بجيش طخارستان وطوائف خراسان، فظفر بأخيه فحبسه.
وملك فيروز بن يزدجرد. ولما ملك أظهر العدل وحسن السيرة، وكان يتديّن إلا أنه كان مشئوما على رعيته، فقحط الناس فى زمانه سبع سنين، فأحسن فيها الى الناس، وقسم ما فى بيوت الأموال. ويقال: إن الأنهار غارت فى مدّة القحط، وكذلك القنى والعيون، وقحلت الأشجار والغياض، وهلكت الوحوش والطير، وجاعت الدوابّ حتى كادت لا تطيق الحمولة، وعمّ أهل البلاد الجهد والمجاعة، فبلغ من حسن سياسة فيروز لهذا الأمر أن كتب الى جميع الرعية: أنه لا خراج عليكم ولا جزية ولا سخرة، وأنه قد ملّكهم أنفسهم، وأمرهم بالسعى فيما يقوتهم ويصلحهم، وكتب بإخراج ما فى المطامير من الأطعمة وقسمها فى الناس، وترك الاستئثار عنهم وتساوى بهم، وأخبر أهل الغنى والشرف، بكل مدينة وقرية، أنه إن بلغه أن إنسانا مات جوعا عاقب أهل تلك المدينة أو الجهة التى يموت بها، وينكّل بهم أشدّ النكال. فقيل إنه لم يهلك فى هذا القحط والمجاعة من رعيته إلا رجل واحد من رستاق «1» .
قال: ثم أغاثه الله فأمطرت السماء، وجرت الأنهار ونبعت العيون، وصلحت الأشجار، وسمنت المواشى؛ فاستوثق له الملك، وأخذ فى غزو أعدائه وقهرهم. وبنى مدنا إحداها بين جرجان [وباب «2» صول] وأخرى بناحية آذربيجان.
ثم سار بجنوده نحو خراسان لقصد حرب أخشنوار «3» ملك الهياطلة لأشياء كانت فى نفسه، ولأن الهياطلة كانوا يأتون الذّكران ويركبون الفواحش فسار اليهم؛ فلما
بلغ أخشنوار ملك الهياطلة خبره خافه واشتدّ رعبه منه، وعلم أنه لا طاقة له به، وأن جيشه يضعف عن مقابلة الجيوش التى أقبل بها فيروز فحار فى أمره؛ فتقدّم اليه رجل كبير السنّ من أهل بلاده وقال: أنا أفدى الملك وأهل مملكته بنفسى، فليأمر الملك بقطع يدىّ ورجلىّ ويؤثر فى جسدى آثار العقوبة بضرب السياط، ويلقنى فى الطريق التى يمرّ فيروز بها، ويحسن إلى ولدى وعيالى الذين أخلفهم؛ ففعل به ذلك وأمر بإلقائه فى الطريق. فلما مرّ به فيروز أنكر حاله، فأخبره أن أخشنوار فعل به ذلك؛ لأنه أشار عليه بالانقياد إلى طاعة فيروز والإقرار بعبوديته، وأن يحمل إليه من الأموال والتحف ما يرضيه؛ فرقّ له الملك فيروز ورحمه وأمر بحمله معه، فنهاه أكابر قومه عن تقريبه فلم يرجع إليهم، ثم قال له ذلك الأقطع كالمتنصّح «1» له: أنا أدلّ الملك على طريق مختصر تدخل منه فى مفازة إلى بلاد أخشنوار، فتصادف غرّته؛ وسأله أن يشتفى له منه. فاغترّ فيروز بذلك؛ وأخذ الأقطع بفيروز ومن معه وعدل بهم عن الطريق الجادّة وشرع يقطع بهم مفازة بعد مفازة. فلما شكوا العطش منّاهم بقرب الماء وقطع المفازة. ولم يزل يتقدّم بهم حتى بلغ بهم موضعا علم أنهم لا يقدرون فيه على التقدّم ولا الرجوع، فتبين لهم أمره، فعندها سقط فى أيدى القوم وقالوا لفيروز: ألم ننهك عن هذا الرجل فلم تنته؟ فهلك أكثر أصحابه من العطش، ومضى على وجهه بمن نجا معه؛ فوافى أخشنوار وقومه؛ وهو ومن نجا معه على أسوإ حال، وقد أجهدهم العطش، فدعوا أخشنوار إلى الصلح على أن يخلى سبيلهم وينصرفوا إلى بلادهم، وعاهدوه على ألا يغزوهم أبدا، فرضى أخشنوار بذلك وحصل اتفاقهما على أن يجعلا بينهما حدّا لا يتجاوزه واحد منهما، ووضع عند الحدّ حجر، وحلفّه أخشنوار أنه لا يتجاوز ذلك الحجر،
فخلف له وأخذ عليه العهود والمواثيق وأطلقه أخشنوار، فعاد فيروز إلى بلاده.
فلما سار إلى مملكته داخلته الحميّة وحملته الأنفة على محاربة أخشنوار والغدر به، فنهاه أهل مملكته عن ذلك وقبّحوا عليه نقض العهود والمواثيق، فلم يرجع الى أقوالهم وأبى إلا غزوه. وسار بجيوشه حتى أتى الحدّ الذى بينهما والحجر الذى حلف أنه لا يتجاوزه الى بلاد الهياطلة، فأمر فيروز بالحجر أن يصمد فيه خمسون فيلا وثلاثمائة رجل، فجره أمامه وأمر العسكر ألا يتجاوز ذلك الحجر ولا يتقدّم الفيلة، وزعم أنه يكون قد وفى بيمينه ولم يتجاوز ما عاهد عليه. فلما بلغ أخشنوار ذلك أرسل اليه يقول: إن الله عز وجل لا يخادع ولا يماكر، ونهاه عن الغدر وقبّحه عليه، وهو لا يكترث بقوله، وأحجم أخشنوار عن محاربة فيروز وكرهها، ثم أعمل الفكرة وأخذ يفكر فى وجوه المكايد والمكر والخداع، فخفر حول عسكره خندقا عرضه عشرة أذرع، وعمقه عشرون ذراعا، وغطاه بخشب ضعيف وألقى عليه التراب، ثم ارتحل بمن معه ومضى غير بعيد، فبلغ فيروز رحيل أخشنوار بجنده من معسكره، فما شك أنه انهزم منه، فركب فى طلبه وأغذّ السير بجنوده- وكان مسلكهم على الخندق- فلما مروا عليه تردّى فيروز وعامة جنوده فيه فهلكوا عن آخرهم وعطف عليهم أخشنوار واحتوى على كل شىء كان فى معسكر فيروز، وأسر موبذان موبذ وجماعة من نساء فيروز منهنّ دخت ابنة فيروز، فكان هذا عاقبة مكره. وكان ملكه سبعا وعشرين سنة.
ولما هلك تنازع الملك بعده ابناه قباذ وبلاش؛ فملك بلاش بن فيروز ابن يزدجرد. وكان حسن السيرة حريصا على العمارة؛ وبلغ من حسن نظره أنه كان لا يبلغه أن بيتا خرب وجلا عنه أهله إلا عاقب صاحب القرية التى فيها ذلك
البيت على تركهم إنعاش أهله وسدّ فاقتهم حتى لا يضطرون إلى الجلاء عن أوطانهم. ثم هلك بعد أربع سنين.
وملك بعده أخوه قباذ بن فيروز. قال: وكان قباذ لما ملك أخوه بلاش سار الى خاقان يستنصره على أخيه ويذكر أنه أحقّ منه بالملك؛ فمطله بذلك أربع سنين ثم جهزه بجيش، فلما عاد وبلغ نيسابور بلغه وفاة أخيه بلاش. وكان قباذ فى مسيره إلى خاقان مرّ على نيسابور متنكرا وتزوّج بها بابنة رجل من الأساورة وواقعها، فحملت منه بأنو شروان وتركها بنيسابور، فلما عاد فى هذا الوقت سأل عن الجارية فأتى بها وابنه منها أنوشروان، فتبرّك بهما وفرح بابنه، ثم عاد إلى بلاد فارس وبنى مدينة أرّجان وحلوان وعدّة مدن أخر.
قال: وكان لقباذ خال يقال له سوخرا «1» وقيل فيه: ساخورا، وكان يخلف فيروز والد قباذ على مدينة الملك بالمدائن، فجمع جموعا كثيرة من الفرس وقصد أخشنوار ملك الهياطلة وحاربه وانتقم منه واستنقذ جميع من كان أسره من الفرس ومن سباه من نساء فيروز، وأكثر ما كان قد احتوى عليه أخشنوار من خزائن فيروز؛ فعظم قدره عند الفرس، وحسن فيهم أثره، وكبرت منزلته عند بلاش وقباذ إلى أن لم يبق بينه وبين الملك إلا مرتبة واحدة، وتولى سياسة الأمر بحنكة وتجربة؛ ومال إليه الناس وأطاعوه، واستخفوا بقباذ ولم يعبأوا بأمره، وهان عندهم فما حملت نفسه هذه الإهانة والذّلّ، فأخذ فى التدبير على ساخورا وكتب إلى سابور الرازى، وهو الذى يقال له اللبيب، وهو أصبهبذ البلاد، فى القدوم عليه بمن قبله من الجند، فقدم بهم سابور فخاطبه قباذ فى أمر خاله، فوافقه سابور عليه، فأمره
قباذ بالتلطف فى هذا الأمر وكتمانه، وإعمال الحيلة وحسن التدبير فيه، فغدا سابور على قباذ فوجد خاله ساخورا عنده، فتقدّم سابور إليه وهو آمن، فألقى وهقا «1» فى عنقه واجتذبه وأوثقه بالحديد ثم أودعه السجن، وقتله قباذ وخافته الفرس بعده.
وفى أيام قباذ ظهر مزدق- ويقال فيه: مزدك، وتفسيره: حديد الملك؛ وإليه تضاف المزدقية، ويقال لهم العدلية- وقال: إن الله تعالى إنما جعل الأرزاق فى الأرض مبسوطة ليقسّمها عباده بينهم بالسوية، ولكن الناس يظلمون؛ واستأثر بعضهم على بعض، فانضم اليه جماعة وقالوا: نحن نقسم بين الناس بالسويّة ونردّ على الفقراء حقوقهم من الأغنياء، ومن عنده فضل من المال والقوت والنساء والمتاع وغير ذلك فليس هو له ولا أولى به من غيره؛ فافترص السّفلة ذلك واغتنموه واتبعوا مزدك وأصحابه، فقوى أمرهم حتى كانوا يدخلون على الرجل فى داره فيغلبونه على ما فيها من ماله ونسائه ولا يستطيع أن يردّهم عنه ولا يدافعهم. ورأى الملك قباذ رأى مزدك وأصحابه وتابعهم فازداد قوة، فلم يلبث الناس إلا قليلا حتى صار الأب لا يعرف ولده، ولا الولد يعرف والده، ولا يملك أحد شيئا، وصيّرت العدلية قباذ فى مكان لا يصل اليه غيرهم، فاجتمعت الفرس على خلع قباذ من الملك ففعلوا ذلك.
وملّكوا عليهم عند ذلك جاماسف بن فيروز. وهو أخو قباذ. وقيل:
إن المزدكية هم الذين أجلسوه. قال: ولما ملك جاماسف قبض على أخيه قباذ وحبسه فاحتالت أخت قباذ فى خلاصه. وذلك أنها أنت الى الحبس الذى هو
فيه وحاولت الدخول الى أخيها، فمنعها الموكّل به من الدخول اليه، وطمع أنه يفضحها، وأعلمها أنه لا يمكّنها من العبور إليه إلا إن وافقته على قصده، فأطمعته فى نفسها وقالت: إنى لا أخالفك فى شىء مما تهواه منى، فمكّنها من الدخول الى السجن والاجتماع بأخيها قباذ، فدخلت اليه وأقامت عنده أياما، ثم لفته فى بساط أمرت بعض الغلمان أن يحمله فحمله على عاتقه، فلما مر الغلام بالموكّل بالحبس سأله عن حمله فاضطرب الغلام فلحقته وقالت: إنه فراش كنت أفرشه تحتى وعركت «1» فيه؛ وأنها خرجت لتتطهر وتعود، فصدّقها ولم يمسّ البساط ولم يدن منه استفذارا له على مذهبهم فى ذلك، فمضى الغلام به وخرجت أخته فى أثره، وهرب قباذ فلحق بأرض الهياطلة يستمد ملكها ليمده بجيش بحارد، من خالفه، ويقال:
إن زواجه بأمّ كسرى أنو شروان كان فى هذه السفرة لا فى تلك، وأنه تزوّجها بأبرشهر «2» ، وهى ابنة رجل من عظمائها، وأنه رجع به وبأمه عند عوده من بلاد الهياطلة. قال: وسار قباذ الى ملك الهياطلة فأقام عنده عدّة سنين، ثم عاد الى بلاده بأمداده، فغلب على أخيه ونزعه من الملك بعد أن ملك ستّ سنين.
ثم عاد قباذ الى الملك ثانيا، ولما عاد الى الملك وجد ابن ساخورا قد وثب فى جماعة من أصحابه على مزدك فقتله، فسعى به الى قباذ فقتله بمزدك. قال:
ثم غزا الروم وافتتح آمد، ثم أدبر ملكه لسوء عقيدته. وهلك قباذ إثر ذلك.
وكان سبب هلاكه أن الحارث بن عمرو الكندىّ قتل النعمان بن المنذر ابن امرئ القيس، وملك العرب وما كان ملكه النعمان، فبعث قباذ بن فيروز
الى الحارث بن عمرو يقول: إنه كان بيننا وبين الملك الذى كان قبلك عهد، وإنى أحبّ لقاءك؛ وخرج للقائه فى عدد وعدّة، وجاءه الحارث والتقيا بمكان، فأمر قباذ بطبق من تمر فنزع نواه وبطبق آخر على حالته، فوضعا بين أيديهما، وجعل المنزوع بين يدى قباذ، والذى هو بنواه بين يدى الحارث، فجعل الحارث يأكل التمر ويلقى النوى، وقباذ يأكل التمر ولا يحتاج الى إلقاء شىء. فقال للحارث: مالك لا تأكل كما آكل؟ فقال الحارث: إنما يأكل النوى إبلنا وغنمنا، وعلم أن قباذ يهزأ به. ثم افترقا على الصلح على ألا يجاوز الحارث وأصحابه الفرات، إلا أن الحارث استضعف قباذ وطمع فيه، فأمر أصحابه أن يغبروا الفرات ويغيروا على قرى السواد ففعلوا ذلك، فجاء الصريخ الى قباذ وهو بالمدائن، فكتب الى الحارث بن عمرو أن لصوصا من العرب قد أغاروا على السواد، وأنه يحب لقاءه فلقيه، فقال قباذ كالعاتب له: قد صنعت صنيعا ما صنعه أحد قبلك، فطمع الحارث فيه من لين كلامه وقال: ما علمت بذلك ولا شعرت به، وإنى لا أستطيع ضبط لصوص العرب، وما كل العرب تحت طاعتى، ولا أتمكن منهم إلا بالمال والجنود.
فقال له قباذ: فما الذى تريد؟ قال: أريد أن تعطينى من السواد ما أتخذ به سلاحا، فأمر له بما بلى جانب العرب من أسفل الفرات؛ وهو ستة طساسيج؛ فعند ذلك زاد طمع العرب فيه، أرسل الحارث بن عمرو الى تبّع وهو باليمن:
إنى قد طمعت فى ملك الأعاجم، وقد أخذت منه ستة طساسيج، فأجمع الجنود وأقبل فإنه ليس دون ملكهم شىء؛ لأن الملك عليهم لا يأكل اللحم ولا يستحل هراقة الدماء، وله دين يمنعه من ضبط الملك؛ فبادر إليه بجندك وعدّتك، وأطمعه فى الفرس. فجمع تبّع جنوده وسار حتى نزل الحيرة، وقرب من الفرات، فآذاه البقّ، فأمر الحارث بن عمرو أن يشق له نهر الحيرة فنزل عليه، ووجه ابن أخته
شمرا ذا الجناح إلى قباذ فقاتله فهزمه شمر حتى لحق بالرىّ، ثم أدركه بها فقتله.
وملك بعده ابنه كسرى أنو شروان بن قباذ بن فيروز. ولما ملك استقبل الأمر بجدّ وسياسة وحزم. وكان جيّد الرأى، كثير النظر، صائب التدبير، طويل الفكر؛ فجدّد سيرة أردشير وعمل بها، ونظر فى عهده وأخذ نفسه به، وأدّب رعيته وبطانته، وبحث عن سياسات الأمم فاستصلح لنفسه منها ما رضيه، ونظر فى تدابير أسلافه المستحسنة فاقتدى بها. وكان أوّل ما بدأ به أن أبطل ملّة زرادشت الثانى الذى كان من أهل فسا، وأبطل ملة المزدكية وقتل على ذلك خلقا كثير، وسفك من الدماء بسبب إبطال هذين المذهبين ما لا يحصى كثرة، وقتل قوما من المانويّة، وثبت ملة المجوسية القديمة، وكتب فى ذلك كتبا بليغة الى أصحاب الولايات والأصبهبذين، وقوّى ملك الفرس بعد ضعفه بإدامة النظر وهجر الملاذّ وترك اللهو، وقوّى جنوده بالأسلحة والأمتعة والكراع «1» ، وعمّر البلاد وحفظ الأموال وثمّرها، وسدّ الثغور واستعاد كثيرا من الأطراف التى غلب عليها الأمم.
قال: وأما تدبيره فى أمر المزدكية وإبطال ما فعلوه فإنه ضرب أعناق رؤسائهم، وقسّم أموالهم فى أهل الحاجة، وقتل جماعة كثيرة ممن عرف من الذين كانوا يدخلون على الناس فى بيوتهم، ويشاركونهم فى أموالهم وأهاليهم، وردّ الأموال الى أربابها. وأمر بكل مولود اختلف فيه أن يلحق بمن هو فى سيمائه، وأمر بكل امرأة غلب عليها أن يؤخذ الغالب عليها حتى يغرم لها مهر مثلها، ثم تخير المرأة بين الإقامة عنده وبين تزويج غيره؛ إلا أن يكون لها زوج أوّل فتردّ اليه.
وأمر بكل من أضرّ برجل فى ماله أو ظلمه أن يؤخذ منه الحق، ويعاقب الظالم
بعد ذلك بقدر جرمه. وأمر بعيال ذوى الأحساب الذين مات قيّمهم فكتبوا له فأنكح بناتهم للأكفاء وجعل جهازهم من بيت المال، وأنكح بنيهم من بيوتات الأشراف وأغنيائهم. وأمرهم بملازمة بابه ليستعين بهم فى أعماله، وخيّر نساء والده أن يقمن مع نسائه فيواسين ويصيّرن فى الأحرار، ويبتغى لهنّ الأكفاء من البعول، ثم أمر بكرى الأنهار وحفر القنى. وأمر بإعادة كل جسر قطع، أو قنطرة خربت أن تردّ الى أحسن ما كانت عليه، وتخيّر الحكام والعمال وأمرهم أن يسيروا بسيرة أردشير ووصاياه.
فلما انتظمت له هذه الأمور واستوثق له الملك ووثق بجنده سار نحو أنطاكية فافتتحها، وأمر أن تصوّر له المدينة على هيئتها وذرعها وطرقها وعدّة منازلها، وأن تبنى له مدينة على صفتها الى جانب المدائن، فبنيت المدينة المعروفة بالرومية، ثم نقل أهل أنطاكية اليها. فلما دخلوا باب المدينة مضى كل أهل بيت الى ما يشبه منازلهم التى كانوا فيها بأنطاكية. وفتح مدينة هرقل ثم الإسكندرية، ثم أخذ نحو الخزر، ثم الى الهياطلة فقتل ملكهم بفيروز، وصاهر خاقان ملك الترك، وتجاوز بلخ وأنزل جنوده فرغانة، وبنى باب الأبواب. وقد ذكرناه فى المبانى القديمة «1» .
ولما بنى هذا السور هابته الملوك وراسلته وهادنته؛ فورد عليه رسول ملك الروم بهدايا فنظر الى إيوانه فرأى فى ميزانه اعوجاجا، فقال: ما هذا الاعوجاج؟
فقيل له: إن عجوزا لها منزل فى جانب هذا الاعوجاج فأرادها الملك على بيعه وأرغبها فى الثمن فأبت، فلم يكرهها وبقى الاعوجاج على ما ترى. فقال الرومىّ: هذا الاعوجاج أحسن من هذا الاستواء. وكتب إليه ملك الصين: من نقفور «2» ملك
الصين، صاحب قصر الدرّ والجوهر، الذى يخرج من قصره نهران يسقيان العود والكافور، والذى توجد رائحته على فرسخين، والذى يخدمه بنات ألف ملك، والذى فى مربطه ألف فيل أبيض، الى أخيه كسرى أنوشروان. وأهدى إليه هدايا عظيمة. وكتب إليه ملك الهند: من ملك الهند وعظيم ملوك الشرق، وصاحب قصر الذهب، وأبواب الياقوت والدرّ، الى أخيه كسرى أنوشروان ملك فارس، صاحب التاج والراية. وأهدى إليه هدايا؛ منها ألف منّ «1» من العود يذوب على النار كالشمع، ويختم عليه كما يختم على الشمع. وجام من الياقوت الأحمر فتحته شبر مملوء درّا، وعشرة أمنان كافور كالفستق، وجارية طولها سبعة أذرع تضرب أشفار عينيها خدّيها، وكأن بين أجفانها لمعان البرق مع إتقان شكلها، مقرونة الحاجبين، لها ضفائر تجرها؛ وفراش من جلود الحيّات ألين من الحرير وأحسن من الوشى. وكان كتابه فى لحا الشجر المعروف بالكاذى «2» مكتوبا بالذهب.
وكتب إليه ملك التّبّت: من ملك التبت ومشارق الأرض المتاخمة للصين والهند، الى أخيه كسرى المحمود السيرة والقدر، ملك المملكة المتوسطة فى الأقاليم السبعة، أنو شروان. وأهدى إليه أنواعا مما عمل من عجائب أرض تبت، منها مائة جوشن ومائة ترس تبّتّية مذهبة، وأربعة آلاف منّ من المسك من نوافج غزلانية.
واستغاث به ابن ذى يزن يستصرخه على الحبشة فبعث معه قائدا من قوّاده.
وسنورد ذلك إن شاء الله فى خبر سيف بن ذى يزن.
ولما استتبّ له الأمر ووظّف الوظائف على الترك والخزر والهند والروم وغيرهم، نظر فى الخراج وأبواب المال. وكانت رسوم الناس جارية على الثلث من البقاع، ومن بعضها الربع والخمس والسدس على حسب العمارة. وكان قباذ أبوه قد مسح الأرض وهلك قبل أن يستحكم له أمر تلك المساحة؛ فجمع أنوشروان أهل الرأى فاتفقوا على أن جعلوا على كل جريب من الحنطة والشعير درهما، وعلى الجريب من الكرم ثمانية دراهم، وعلى الرّطاب تسعة دراهم، وعلى كل أربع نخلات فارسية درهما، وعلى كل ستّ نخلات دقل «1» مثل ذلك، وعلى كل ستة أصول زيتون مثل ذلك، ولم يضعوا إلا على نخل فى حديقة، أو مجتمع غير شاذّ، وتركوا فيما سوى ذلك من الغلّات السبع، وألزموا الناس الجزية ما خلا أهل البيوتات والعظماء والمقاتلة والهرابذة والكتّاب، ومن كان فى خدمة الملك، وصيروها على طبقات: اثنى عشر درهما، وثمانية دراهم، وستة دراهم، وأربعة دراهم، على قدر إكثار الرجل وإقلاله، ولم يلزموا الجزية من كان أتى له من السنين دون العشرين أو فوق الخمسين، ورفعوا هذه الوضائع الى كسرى فرضيها وأمر بإمضائها وجباية مبلغها فى ثلاثة أنجم فى كل سنة، وسماها ابراسيار. ومعنى ذلك الأمر المتراضى به.
وكان أنوشروان- لما أراد أن يضع هذه الوضائع- أمر بإتمام المساحة التى بدأ بها قباذ، وأحصى النخل والزيتون وغير ذلك، والجماجم؛ ثم أمر الكتاب فأخرجوا جمل ذلك غير تفصيله، وأذن للناس إذنا عامّا، وأمر كاتب خراجه أن يقرأ عليهم الجمل المستخرجة من أصناف الغلّات وعدد النخل والزيتون والجماجم، فقرأ ذلك عليهم. ثم قال كسرى: إنا قد رأينا أن نضع على ما أحصى من جربان «2»