الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث من القسم الرابع من الفن الخامس فى أخبار ملوك الأمم من الأعاجم
؛
وهم ملوك الفرس الأول، وملوك الطوائف من الفرس، والملوك الساسانية واليونان والسريان والكلوانيين والروم والصقالبة والنوكبرد والإفرنجة والجلالقة وطوائف السودان
ذكر أخبار ملوك الفرس وهم الفرس الأول
وقد اختلف الناس فى الفرس وأتسابهم وكم من دولة كانت لهم. وسنذكر هاهنا مقالاتهم فى ذلك واختلافهم. فمن الناس من زعم أنهم من فارس بن ياسور ابن سام بن نوح، وهذا قول هشام بن محمد. ومنهم من زعم أنهم من ولد يوسف ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. ومنهم من زعم أنهم من ولد هدرام ابن أرفخشد بن سام بن نوح، وأنه ولد له بضعة عشر رجلا كلهم كان فارسا شجاعا؛ فسمّوا الفرس لفروسيتهم، وفى ذلك يقول حطّان بن المعلّى الفارسىّ:
وبنا سمّى الفوارس فرسا
…
نا ومنّا مناجب الفتيان «1»
وزعم قوم أن الفرس من ولد لوط من ابنتيه رشا ورغوشا. وذكر آخرون أنهم من ولد بوّان بن أران بن الأسود بن سام بن نوح، ولبوّان هذا ينسب شعب بوّان وهو أحد متنزّهات الدنيا. وقد تقدّم ذكره فى باب الرياض «2» من الفن الرابع.
ومن الناس من يرى أن الفرس من ولد إيران بن أفريدون، ولا خلاف بين الفرس أجمع أنهم من ولد كيومرث «1» وهو الأشهر، وإليه يرجع جميع الفرس الأول وملوك الطوائف والملوك الساسانية.
وأما التنازع فى دولهم فمن الناس من زعم أنهم أربعة أصناف، وأن الصنف الأوّل منهم كان من كيومرث إلى أفريدون وهم الجرهانية، وقيل الجهدهانية. والصنف الثانى من كيان إلى دارا بن دارا وهم الكيانية. والصنف الثالث ملوك الطوائف.
والصنف الرابع الساسانية. ومن الناس من جعلهم صنفين: فجعل الصنف الأوّل من كيومرث إلى دارا بن دارا. والصنف الثانى من أردشير بن بابك إلى يزدجرد ابن شهريار المقتول فى خلافة عثمان رضى الله عنه. فمدّة ملكهم فى الدولة الأولى ثلاثة آلاف سنة وثلاثمائة وستة وعشرون سنة. وعدّة ملوكهم عشرون ملكا فيهم امرأة واحدة.
فأوّل ملك ملك من الفرس الأول كيومرث وقيل فيه جيومرث.
وقد اختلف فى نسبه، فمن الناس من قال: إنه ولد آدم «2» لصلبه. ومنهم من قال: إنه ولد لاوذ بن إرم بن سام بن نوح. وقد قيل: إنه أوّل ملك ملك من بنى آدم. وكان السبب فى ملكه أنه لمّا كثر البغى والظلم فى الناس اجتمع أكابر أهل زمانه ورأوا أنه لا يقيم أمرهم إلا ملك يرجعون إليه فيما يأمر وينهى، فأتوه وقالوا: أنت أكبر أهل زمانك وبقية أبينا، والناس قد بغى بعضهم على بعض، وأكل القوىّ الضعيف، فضمّ أمرنا إليك وكن القائم بصلاحنا. فأخذ عليهم العهود والمواثيق بالسمع والطاعة له وترك الخلاف عليه. فصنعوا له تاجا ووضعوه على رأسه. وهو أوّل من وضع التاج على رأسه. فاستوثق له الأمر وقام
بأمر الناس وحسنت سيرته فيهم. وكانت مدّة ملكه عليهم أربعين سنة. وكان ينزل إصطخر من أرض فارس حتى مات. واختلف فى مقدار عمره، فقيل:
إنه عاش ألف سنة، وقيل غير ذلك. والله تعالى أعلم.
فلما مات قام بالأمر من بعده أو شهنج ابنه وقيل: أخوه، وقيل: أو شهنج ابن فيشداد «1» بن كيومرث. وفى الناس من يزعم أنه أوّل ملك ملك من الفرس، وهو الذى جمع الأقاليم السبعة، ورتب الملك ونظّم الأعمال، ولقّب بفيشداد، وتفسيره بالعربية أوّل سيرة العدل. ويقال: إن أوشهنج هذا كان بعد الطوفان بمائتى سنة، وهو أوّل من قطع الحجر وبنى به، واستخرج المعادن، وبنى مدينتى بابل والسوس.
وكان فاضلا حسن السياسة محمود الأثر. قال: ونزل الهند وتنقّل فى البلاد وعقد التاج وجلس على السرير. وكان من حسن سياسته أنه نفى أهل الفساد والدعارة من البلدان وألجأهم إلى رءوس الجبال وجزائر البحر، واستخدم منهم من كان يصلح للخدمة وسمّاهم الشياطين والعفاريت، وقرّب أهل الخير والصلاح. وكانت مدّة ملكه أربعين سنة.
ولما مات ملك بعده طهمورث «2» وقيل فيه طهورث بن أنوجهان بن أوشهنج، وقيل بل بينهما عدّة آباء. قال: ولما ملك سار فى الناس سيرة جدّه أوشهنج. وكان ينزل نيسابور. وقيل إنه الذى أنشأها ثم جدّدها بعد ذلك سابور. وقيل: إنه أوّل من كتب بالفارسية «3» ونفى أهل الدعارة والشرّ واستقام له نظام الملك. قيل: وفى أيامه ظهر بوداسف الذى «4» أحدث دين الصابئة. وكان ملكه ثمانين سنة. وقيل ثلاثين سنة.
ولما مات ملك بعده أخوه جمشيد «1» ، وتفسير شيد: الشعاع، سمى بذلك لوضاءة وجهه. قال: ولما ملك سلك سيرة من تقدّم وزاد عليها بأن صنّف الناس وطبّقهم ورتّب منازل الكتّاب وأمر لكل واحد وظيفة وأمره أن يلزمها.
وعمل أربعة خواتيم: خاتما للحرب والشّرط «2» وكتب عليه الأناة، وخاتما للخراج وجباية الأموال وكتب عليه العمارة، وخاتما للبريد وكتب عليه الوحا، وخاتما للمظالم وكتب عليه العدل. فبقيت هذه الرسوم فى ملوك الفرس الى أن جاء الإسلام.
وكان ملكه ستمائة سنة. وقيل سبعمائة سنة وستة أشهر. وقيل ألف سنة إلا عشر سنين. وفى أيامه أحدث النيروز «3» وجعله عيدا، وأمر الناس أن يتنعموا فيه. ثم بدّل سيرته بالجور بعد الإنصاف، والظلم بعد العدل، والإساءة بعد الإحسان، فثقلت وطأته على الناس. ثم أظهر الكبر على وزرائه وكتّابه وقوّاده.
ثم انهمك على لذّاته وترك مراعاة كثير من السياسة الملوكية التى جرت عادة الملك أن يتولّاها بنفسه. وقيل: إنه ادّعى الإلهية فخرج عليه بيوراسب، وكان من جملة عمّاله، واستجلب الناس وجمعهم عليه واستصلحهم لنفسه، وقصد جمشيد بعد أن كثرت أتباعه وقويت شوكته، فهرب منه فاتبعه حتى أدركه وظفر به ونشره بمنشار.
وملك بعد جمشيد بيوراسب؛ وهو الذى يسمّيه العرب الضحّاك. قالوا:
وهو بيوراسب «4» بن أرونداسف بن بغاداس بن طوخ بن قروال بن ساعل بن فرس ابن كيومرث، وهو الدّهّاك، فعرّب اسمه فقيل الضحّاك. وقيل: إنه ملك ألف سنة. وزعم قوم أنه نمروذ. وزعم قوم آخرون أنه كان من عمّال بيوراسب على كثير من أعماله.
قال: ولما ملك بيوراسب ظهر منه خبث شديد وفجور كثير، وملك الأرض كلها، فسار فيها بالجور والعسف وسفك الدماء والصلب، وهوّل على الناس ومحاسيرة من تقدّمه من الملوك، وسنّ الأعشار واتخذ الملاهى والغناء. وكان على منكبيه سلعتان «1» يحرّكهما إذا شاء كما يحرّك يده، فادّعى أنهما حيّتان تهويلا على ضعفاء الناس. وقد تقدّم ذكره فى الباب الرابع من القسم الثالث من الفنّ الأوّل، وهو فى السفر الأوّل «2» من نسخة الأصل فى أخبار أعياد الفرس، فلا حاجة الى إعادة ما قدّمنا ذكره من أمره.
قال: ولما عمّ الناس جوره كان من سوء عاقبة ذلك أن ظهر بأصبهان رجل يقال له كابى «3» من عوامّ الناس. ويقال: إنه كان حدّادا. وكان الضحاك قتل لكابى ابنين، فبلغ به الجزع على ولديه مبلغا عظيما، فقام وأخذ عصا وعلّق عليها جرابا.
وقيل: بل علّق النّطع الذى كان يشدّه على وسطه يتّقى به النار إذا صنع الحدادة.
وقيل: بل كان جلد أسد. وقيل: بل جلد نمر، ودعا الناس إلى مجاهدة بيوراسب، فحمل الناس ما كانوا فيه من البلاء إن اتبعوه وأطاعوه، فاستفحل أمره، وكثرت أتباعه، واجتمع عليه أشراف الناس وأكابرهم؛ فقصد بيوراسب. فلما أشرف عليه هرب عن منازله، فجاء أشراف الناس إلى كابى الأصبهانى واجتمعوا عليه ليملّكوه، فامتنع من ذلك وقال: إنى لست من بيت الملك، ولكن التمسوا من هو من بيت الملك فنولّيه علينا. وكان أفريذون «4» بن اثفيان قد استخفى من الضحاك
فى بعض النواحى، فجاء إلى كابى الأصبهانىّ ففرح الناس به واستبشروا بمقدمه، وكان مرشحا للملك فملّكوه عليهم، وصار كابى من جملة أعوان أفريذون.
قال: وتفاءل الفرس وتبركوا بذلك العلم الذى كان قد رفعه كابى الأصبهانى وعظّموه ورصّعوه بعد ذلك بالجواهر وسمّوه الدّرفس وجعلوه علمهم الأكبر الذى يتبرّكون به، وهو الذى صار الى المسلمين فى وقعة القادسية «1» . وكانت الفرس لا ينشرونه إلا فى الأمور العظيمة.
قال: ولما هرب بيوراسب ملك بعده أفريذون؛ وهو التاسع من ولد جمشيد. قال: فأوّل ما بدأ به أن اتبع بيوراسب فأدركه بدنباوند «2» وقتله. وفى يوم قتله أحدث المهرجان على ما قدّمناه «3» . قال: ثم ردّ أفريذون مظالم الناس وأمر بالإنصاف وبسط العدل، ونظر الى ما كان بيوراسب قد اغتصبه من أموال الناس وأملاكهم وأراضيهم، فردّ ذلك على أهله، وما لم يجد أهله وقفه على المساكين ومصالح العامة. وكان مؤثرا للعلم وأهله. وكان صاحب طبّ وفلسفة ونجوم.
وزعم بعض الفرس أن بيوراسب الضحاك هو النمروذ، وأن أفريذون هو إبراهيم عليه السلام. قال: ودام ملكه خمسمائة سنة. وقال: هو أوّل من تسمى بكى، فكان يقال له: كى أفريذون، وهى كلمة يراد بها التنزيه؛ أى روحانىّ منزّه متصل بالروحانية. وهو أوّل من ذلّل الفيلة وقاتل بها الأعداء. قال: وكان لأفريذون
ثلاثة أولادوهم: سرم وقيل فيه سلم، وطوخ «1» ، وإيرج وقيل فيه إيران؛ فخشى أفريذون ألا يتفقوا بعده وأن يبغى بعضهم على بعض، وظن أنه إذا قسم الملك بينهم فى حياته بقى الأمر بعده على انتظام واتساق فقسمه بينهم. فجعل الروم والشام وناحية المغرب لسرم. وجعل الترك والصين لطوخ. وجعل العراق والهند لإيرج، وهو صاحب التاج والسرير. ففى ذلك يقول شاعرهم:
وقسمنا ملكنا فى دهرنا
…
قسمة اللحم على ظهر الوضم «2»
فجعلنا الروم والشام الى
…
مغرب الشمس الى الملك سرم
ولطوخ جعل التّرك له
…
فبلاد الصين يحويها ابن عم
ولإيران جعلنا عنوة
…
فارس الملك وفزنا بالنعم
فلما مات أفريذون وثب طوخ وسرم بأخيهما إيران فقتلاه وملكا الأرض بينهما، ولذلك نشأت العداوة بين الترك والروم، وقامت الحروب، وطلب بعضهم بعضا بالدماء. فكان من سوء عاقبة غدرهما بأخيهما وتغلبهما على ملكه أن نشأ ابن لإيران بن أفريذون يقال له منوجهر، وقيل اسمه منواشجهر، وقيل فيه منوشهر، فغلب على ملك أبيه إيران.
وملك منوجهر بن إيران بلاد فارس، ثم نشأ ابن لطوخ التركى فنفى منوجهر عن بلاده وجرت بينهما حروب، ثم ظفر منوجهر وعاد الى ملكه، ونفى ولد طوخ وقوى أمره وظهر اسمه. وكان منوجهر موصوفا بالعدل والإحسان فى مملكته.
ويقال: إنه أوّل من خندق الخنادق، وجمع آلة الحروب، وأوّل من وضع الدّهقنة «3» ، وجعل لكل قرية دهقانا، وجعل أهلها عبيدا وخولا وألبسهم لباس
المذلّة. ولما قوى أمره سار نحو الترك وطلب بدم أبيه فقتل عمّيه اللذين قتلا أباه، وأدرك ثأره وانصرف الى بلاده.
ثم نشأ فراسياب «1» بن ترك من ولد طوخ بن أفريذون وإليه ينسب الترك، فحارب منوجهر وحاصره بطبرستان «2» ، ثم اصطلحا وضربا بينهما حدّا لا يجاوزه واحد منهما، وهو نهر بلخ، فانقطعت الحرب بين فراسياب ومنوجهر. وكان لمنوجهر هذا خطب تدل على سداد رأيه، ووفور عقله، وجودة فهمه؛ قد ذكرنا بعضها فى الباب الرابع «3» من القسم الخامس من الفنّ الثانى فى وصايا الملوك. قال: وفى أيام منوجهر ظهر موسى بن عمران عليه السلام.
قال: ولما مات منوجهر تغلّب فراسياب على إقليم بابل اثنتى عشرة سنة، وأكثر الفساد، وخرّب البلاد، وطمّ الأنهار ودفن القنى، فقحط الناس الى أن ظهر زوّبن طهماسب فأخرجه عن بلاد فارس الى تركستان.
وملك زوّبن طهماسب وقيل فيه: زاع، وقيل فيه: زاب، وقيل: راسب، وهو من أولاد منوجهر، وبينه وبين منوجهر عدّة آباء. قال: ولما ملك ابتدأ فى عمارة ما خرّبه فراسياب، وأمر ببناء ما هدم من الحصون، وحفر الأنهار والقنى، حتى عادت البلاد إلى أحسن ما كانت عليه، ووضع عن الناس الخراج
سبع سنين، فعمرت البلاد فى أيامه، ودرّت معايش الناس، واحتفر بالسواد «1» نهرا وسماه الزاب، وبنى على حافتيه مدينة وهى التى تسمى المدينة العتيقة، وكوّرها كورا، وجعلها ثلاثة طساسيج «2» : الزاب الأعلى، والزاب الأوسط، والزاب الأسقل، ونقل إليها بذور الرياحين، وأصول الأشجار، وزوّ هذا أوّل من اتخذ ألوان الطبيخ، وأنواع الأطعمة، وقسم الغنائم على جنوده. وكانت مدّة ملكه ثلاث سنين.
ثم ملك بعده كرشاسب بن أسباس؛ وأمه من سبط يامين بن يعقوب عليه السلام. قال: وكان مسكنه ببابل. ومدّة ملكه عشرون سنة. وبعض المؤرّخين لم يذكره فى الملوك. وقال الشيخ أبو على أحمد بن محمد بن مسكويه فى كتابه المترجم بتجارب الأمم: إن كرشاسب كان وزيرا لزوّ بن طهماسب، وأنه من أولاد طوخ ابن أفريذون. قال: وقد حكى أن زوّا وكرشاسبا اشتركا فى الملك. قال:
والصحيح من أمره أنه كان وزيرا لزوّ ومعينا له، والذى أثبت كرشاسب فى الملوك الشيخ عبد الملك بن عبد الله بن عبدون الحضرمى الشلبى فى كتابه المترجم بكمامة الزهر وصدفة الدرر، وقال: ولم يذكره بعض المؤرّخين.
ثم ملك بعده كيقباذ بن زوّ؛ وقيل فيه: ابن زاب بن تور، وسلك سبيل أبيه فكوّر الكور، وبين حدودها، وأمر الناس بالعمارات، وأخذ العشر من الغلات لأرزاق الجند. وكان حريصا على العمارة، مانعا لحوزته. والملوك الكييّة «3» من نسله. وكان بينه وبين الترك حروب كثيرة. وكانت إقامته فى الحدّ
الذى بين مملكة الفرس والترك بناحية بلخ. وكان ملكه مائة وعشرين سنة ثم مات.
وملك بعده كيقابوس «1» بن كينة بن كيقباذ الملك. قال: ولما ملك شدّد على أعدائه، وقتل خلقا كثيرا من عظماء البلاد وسكن بلخ، وولد له ابن لم ير مثله فى عصره جمالا وتمام خلقة، وسمّاه سياوخش وضمه الى رستم الشديد بن دستان من ولد كرشاسب. وكان أصبهبذا بسجستان وما يليها من قبل كيقابوس وأمره بتربيته.
فمضى به رستم الى سجستان وتخيّر له الحواضن والمراضع الى أن عقل، فجمع له المعلمين، ثم علّمه الفروسية حتى فاق فيها، فقدم به على أبيه وهو كامل الصفات من العقل والأدب والفروسية، فامتحنه والده فوجده فوق ما يحب.
قال: وكان لكيقابوس زوجة بارعة الجمال يقال إنها بنت فراسياب ملك الترك؛ ويقال: إنها ابنة ملك اليمن، فهويت سياوخش وهويها، ويقال: إنها كانت ساحرة فسحرته، وآل أمرهما الى أن انكشف لأبيه كيقابوس واطّلع على ما كان من أمر ابنه وزوجته، فأشفق سياوخش على نفسه وخشى عاقبة أبيه فتلطف فى البعد عنه، فسأل رستم أن يشير على أبيه لإرساله لحرب فراسياب ملك الترك، وكان قد تجدّدت بين فراسياب وكيقابوس وحشة، ففعل رستم ذلك وخاطب كيقابوس فيه واستأذن له فى جند يضمهم إليه، فأذن له وضمّ إليه جندا كثيفا وأشخص سياوخش الى بلاد الترك، فسار حتى التقى بفراسياب فانتظم الصلح بينهما من غير حرب، فكتب سياوخش الى أبيه يخبره بما كان بينه وبين فراسياب من الصلح والاتفاق، فكتب إليه كيقابوس بإنكار ذلك عليه وأمره بمناهضته ومناجرته الحرب، فرأى سياوخش
أنه إن فعل ما أمره به والده من الحرب ونقض الهدنة من غير سبب وقع يوجب نقضها، يكون ذلك عارا عليه ومنقصة، فامتنع من إنفاذ أمر أبيه وأجمع رأيه على الهرب منه، فكتب الى فراسياب ملك الترك يطلب منه الأمان لنفسه، وعرّفه أنه آثر اللحاق به فأجابه الى ذلك. وكان السفير بينهما أحد عظماء الترك وأكابرهم يسمى قيران. فلما استوثق سياوخش من ملك الترك سار نحوه وانصرف من كان معه من جند أبيه ورجعوا إليه. قال: ولما وصل سياوخش الى فراسياب ملك الترك أكرمه وعظّمه وزوجه بابنته، وهى أم كيخسرو الذى ملك الفرس. ولم يزل على إكرامه الى أن ظهر له من أدبه وحسن سياسته وجميل تلطفه ما أشفق منه وخشى على ملكه لميل الناس إليه فقتله. وكانت ابنة الملك قد اشتملت من سياوخش على حمل، فقصد أن يسقطه وتحيّلوا فى ذلك فلم تسقط؛ ثم جاء قيران، وهو الذى كان السفير فى الصلح بين الترك وسياوخش، وأنكر ما كان من فعل الملك وحذّره عاقبة الغدر والطلب بالثأر، وأشار عليه أن يدفع ابنته زوجة سياوخش إليه لتكون عنده الى أن تضع وقال: اذا أردت بعد ذلك قتل ولدها فاقتله؛ فأجابه الملك الى ذلك وسلّم إليه ابنته، فكانت عنده الى أن وضعت كيخسرو؛ فلما وضعته امتنع قيران من قتله وستر أمره، فكان عند قيران حتى بلغ، ثم احتال جدّه كيقابوس الى أن أخرجه هو وأمّه من بلاد الترك.
قال أبو على أحمد بن محمد بن مسكويه فى كتابه المترجم بتجارب الأمم: وللفرس فى أمر كيقابوس خرافات كثيرة منها: أنهم يزعمون أن الشياطين مسخوه، وقوم منهم يزعمون أن سليمان بن داود عليهما السلام أمرهم بذلك فى خرافات كثيرة ظاهرة الإحالة: من الصعود الى السماء، وبناء مدينة كنكر بأسوار من ذهب وفضة
وحديد ونحاس وأنهار، وأنها ما بين السماء والأرض؛ وأشياه ذلك مما تحيله العقول السليمة؛ لأن ذلك ليس فى قدرة البشر.
قال: ولما تمّ لكيقابوس أكثر ما كان يقصده سار من خراسان ونزل بابل وترك ما كان يتولاه بنفسه من السياسات، واحتجب عن الناس وتعاظم عليهم، وآثر الخلوة، فكان من عاقبة ذلك أن فسد عليه ملكه وغزته الملوك؛ فكان بعد ذلك يغزوهم فيظفر بهم مرّة وينكب أخرى، الى أن غزا بلاد اليمن، والملك بها يومئذ ذو الأذعار بن أبرهة بن ذى المنار. فلما أتاه كيقابوس خرج اليه ذو الأذعار فى جموعه من حمير وولد قحطان، فظفر به ذو الأذعار وأسره واستباح عسكره وحبسه فى بئر وأطبق عليه طبقا، فخرج رستم الشديد من سجستان فى جموع كثيرة من الفرس؛ فالفرس تزعم أنه أوغل فى بلاد اليمن واستخرج كيقابوس من محبسه، واليمن تقول غير ذلك، وأن ملكهم ذاالأذعار لما بلغه إقبال رستم خرج اليه فى جموعه وجنود عظيمة، وخندق كل منهما على نفسه وعسكره، وأنهما أشفقا على جندهما من البوار، فاتفقا على أن دفع لهم ملك اليمن كيقابوس وانصرف رستم من غير حرب ورجع بكيقابوس الى بابل، فكتب له كيقابوس كتابا بالعتق وأقطعه سجستان. ونسخة الكتاب الذى كتبه: من كيقابوس بن كيقباذ الى رستم. إنى قد أعتقتك من العبودية، وملّكتك بلاد سجستان، واجلس على سرير من فضة مموّه بالذهب، والبس قلنسوة من الحرير منسوجة بالذهب متوجة. قال: ومما يدل على صحة ما نقل من أمر كيقابوس قول الحسن بن هانىء:
وقاظ «1» قابوس فى سلاسلنا
…
سنين سبعا وفت لحاسبها
ولما مات كيقابوس ملك بعده ولد ابنه كيخسرو بن سياوخش بن كيقابوس. قال: ولما ملك عقد التاج على رأسه وخطب رعيته خطبة بليغة أعلمهم فيها أنه على الطلب بدم أبيه سياوخش قبل فراسياب ملك الترك، وكتب إلى جوذرز بأصبهان- وكان أصبهبذا على خراسان- يأمره بالمسير إليه، وأمره أن يعرض جنده وأن ينتخب ثلاثين ألف راجل ويضمهم إلى طوس [بن نوذران «1» ] وكان فيمن أشخص معه برزافره [بن كيقاوس «2» ] عمّ كيخسرو وابن جوذرز وجماعة من إخوته، وتقدّم كيخسرو إلى طوس، وأمره أن يقصد فراسياب وطراخنته «3» وحذره من ناحية ببلاد الترك فيها أخ له من أبيه سياوخش يقال له فروذ، وكان قد رزقه من بعض نساء الأتراك، كان سياوخش قد تزوّجها لما سار إلى فراسياب فولدت له فروذ، وأقام بموضعه إلى أن شبّ، فسار طوس وكان من غلطه الذى فعله أنه لما صار بالقرب من المدينة التى فيها فروذ حاربه فقتل فروذ فى الوقعة. فلما اتصل الخبر بكيخسرو غضب لذلك وشقّ عليه، فكتب إلى عمه برزافره ذلك كتابا غليظا يخبره بما ورد عليه من خبر طوس ومخالفته له ومحاربته لأخيه فروذ وقتله إياه، وأمره بإشخاص طوس إليه مقيدا مغلولا، وأن يتقدّم هو على العسكر ويتوجه. ففعل برزافره ذلك وتولى أمر العسكر، وسار وعبر النهر المعروف بكاشرود، وانتهى خبره إلى فراسياب فوجه للقائه وحربه جماعة من إخوته وطراختنه، فالتقوا وفيهم قيران وإخوته، فاقتتلوا قتالا شديدا، وظهر من برزافره عمّ كيخسرو فى ذلك اليوم فشل لمّا اشتدت الحرب، فهرب وانحاز بالعلم إلى رءوس الجبال، واضطرب على ولد جوذرز الأمر، فقتل منهم فى تلك الملحمة فى وقعة
واحدة سبعون رجلا، وقتل خلق كثير، وانصرف برزافره ومن أفلت معه إلى كيخسرو، فرئيت الكابة فى وجهه وامتنع عن الطعام والشراب أياما، ثم أتاه جوذرز وشكا إليه عمه برزافره وأنه كان سبب الهزيمة، ولاطفه كيخسرو وقال: إن حقك لازم لنا لخدمتك إيانا، وهذا جندنا وخزائننا مبذولة لك فاطلب ترتك «1» واستعدّ وتجهّز للتوجه إلى فراسياب. فنهض جوذرز وقبّل يده وقال: نحن رعيتك وعبيدك أيها الملك، فإن كانت آفة أو نازلة فلتكن بالعبيد دون الملوك، وأولادى الذين قتلوا فداؤك، ونحن من وراء الانتقام من فراسياب والاستيفاء «2» من الترك. فكتب كيخسرو إلى وجوه عساكره وأكابر أجناده يأمرهم بموافاته فى صحراء تعرف بشاه اسطون من كورة بلخ فى وقت وقّته لهم، فوافوه فى ذلك الوقت، وشخص كيخسرو بأصبهبذيته وأصحابهم وفيهم برزافره عمه وجوذرز وولده، فعرض كيخسرو الجند بنفسه حتى عرف عدّتهم واطّلع على أحوالهم، ثم أحضر جوذرز وثلاثة نفر معه من القوّاد فأعلمهم أنه يريد إدخال العساكر على الترك من أربعة وجوه ليحيطوا بهم من جميع جهاتهم، وقوّد على تلك العساكر، وجعل أعظمها إلى جوذرز، ودفع اليه يومئذ درفس «3» كابيان، ولم يكن يدفع قبل ذلك لأحد من القوّاد، بل مع أولاد الملوك.
قال: وأمر أحد القوّاد بالدخول مما يلى الصين وضم اليه ثلاثين ألف رجل، وأمرهم بالدخول من ناحية الخزر من طريق بين جوذرز وبين الذى دخل من طريق الصين، ودخل جوذرز من ناحية خراسان وبدأ بقيران والتحمت بينهما
الحرب واشتدّ القتال، فقتل جوذرز أخالقيران، ثم قتل قيران مبارزة، ثم قصد فراسياب والتحمت عليه العساكر من كل جهة، واتبع كيخسرو القوم بنفسه وقصد الوجه الذى كان فيه جوذرز، وقد أثخن فى القتل وقتل أصبهبذ فراسياب والمرشح للملك بعده، وجماعة كثيرة من إخوته وأولاده، وأسر برويز وهو الذى قتل سياوخش.
قال: ولما جاء كيخسرو وجد جوذرز قد أحصى الأسرى والقتلى وما غنم من الكراع «1» والأموال، فوجد ما فى يده من الأسرى ثلاثين ألفا، ومن القتلى خمسمائة ألف ونيفا وستين ألفا على ما تزعم الفرس، وحاز من الكراع والأموال ما لا يحصى كثرة، وأمر كل واحد من الوجوه الذين كانوا معه أن يجعل أسيره ورأس قتيله [عند علمه «2» ] لينظر إلى ذلك كيخسرو عند موافاته. فلما وافى كيخسرو موضع الملحمة تلقاه جوذرز وعرض عليه الأسرى والقتلى، فرأى قيران قتيلا، وأتى بقاتل «3»
أبيه الذى مثّل به بعد قتله. فقتله كيخسرو شرّ قتلة؛ قطعه عضوا عضوا ثم ذبحه، وأحسن صلة جوذرز وفوّض إليه الوزارة التى يقال لها بزر جفر «4» مذار وجعل إليه مع ذلك أصبهان وجرجان، وأحسن لكل من أبلى من قوّاده ورجاله، ثم أتته أخبار قوّاده الثلاثة الأخر أنهم قد أحاطوا بفراسياب، وبرز فراسياب ومن بقى من ولده وعساكره وتوجه نحو كيخسرو بجيوش عظيمة، فيقال إن كيخسرو أشفق منه وهابه حتى ظن أنه لا قبل له به، ودام القتال بين العسكرين أربعة أيام، فقتل شيده مقدّم عسكر فراسياب، وكانت هذه
الحرب معه، ثم أقبل فراسياب فى جمع عظيم من الأتراك والتقى هو وكيخسرو ونشبت بينهما حروب عظيمة يقال إنه لم ير مثلها قبلها قط على وجه الأرض، فكانت الدائرة على الترك، وانهزم فراسياب وكثر القتل فى أصحابه وأتبعه كيخسرو حتى أدركه بأذربيجان فظفر به واستوثق منه بالحديد ووبّخه على ما كان منه من قتل سياوخش، فلم يكن له حجة، فذبحه ثم انصرف. وقد غنم غنائم عظيمة لا تحصى وأدرك بثأره.
قال: ولما فرغ كيخسرو من أمر الترك ورجع إلى بلاده واستقرّ بدار ملكه زهد فى الملك وتنّسك، وأعلم وجوه أهل بيته وأكابر مملكته أنه قد عزم على التخلى والأنفراد وترك الملك؛ فجزعوا من ذلك وسألوه ألا يفعل، فأبى عليهم. فلما أيسوا منه سألوه أن ينصب فى الملك من يراه له أهلا، فأشار بيده إلى لهراسف وأعلمهم أنه خاصته ووصيته، فقبل لهراسف ذلك وأقبل الناس عليه. وفقد كيخسرو. فمنهم من يقول: إنه غاب للتنسك، وبعضهم يقول غير ذلك، إلا أنه لم تعلم جهة وفاته. قال: وكان ملكه ستين سنة. قال: وفى أيام ملكه كان سليمان بن داود عليه السلام.
ثم ملك بعده لهراسف «1» ؛ وقيل فيه بهراسف بن تنوفى بن كيمش وهو ابن أخى كيقابوس ويلقب بكى لهراسف. قال: ولما ملك اتخذ سريرا من ذهب مكللا بالجوهر للجلوس عليه، وبنيت له بأرض خراسان مدينة، وسماها بلخ الحسناء.
قال: وهو أوّل من دوّن الدواوين، وقوّى ملكه بانتخاب الجنود، وعمر الأرض.
وكانت شوكة الأتراك اشتدّت فى زمانه، فنزل بلخ لمقاتلتهم، ووجه بختنصر