الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس عشر
في الحروف
إنها لما كانت من جملة كلام العرب، وجب على الباحث عنه أن يبحث عنها وكيف لا؟ والأحكام الفقهية قد تختلف بسبب اختلاف معانيها، لكن فيها كثرة يطول ذكر جميعها، فلنذكر منها ما تمس الحاجة إليه.
المسألة الأولى
في الحروف العاطفة
[الواو]
ولنبدأ بالواو منها، فإنها أصل الباب. فنقول:
اتفق الأكثرون من الأدباء والفقهاء على أنها لمطلق الجمع، من غير أشعار بالترتيب والمعية. ونص سيبويه عليه في مواضع من كتابه.
وقال بعضهم إنها للترتيب، ونسب الحنفية ذلك إلى الشافعي- رضي
الله عنه- من غير ثبت بل ظنا منهم، أنه إنما أوجب الترتيب في الوضوء، لكون الواو العاطفة مقتضيا له.
ونسب ذلك إلى الفراء.
أيضا.
[ونقل عنه أيضا]، أنها للترتيب حيث يتعذر الجمع.
وقيل: أنها للجمع بصفة المعية: ونسب ذلك إلى أبي يوسف ومحمد. رحمهما الله.
واستدل عليه بما قال: إنه لو قال الرجل لامرأته قبل الدخول بها: إن
دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق، فدخلت بانت بالثلاث، كما لو قال لها: أنت طالق/ (62/أ) ثلاثا، أن دخلت الدار.
ومما قال: إن زوج الأختين في عقد واحد من غير إذن الزوج فبلغه الخبر، فإن أجاز نكاحهما معا بطل نكاحهما، وإن أجاز نكاح أحديهما قبل الأخرى بطل نكاح الثانية، وإن قال: أجزت نكاح فلانة، وفلانة، فهو كما لو قال: أجزت نكاحهما معا.
ولا يخفى عليك ما في هذا الاستدلال من الضعف هذا كله في "الواو" العاطفة.
[واو المعية]
أما "الواو" بمعنى مع في المنقول معه، فلا خلاف أنها تقتضى الجمع صفة المعية كما في قولهم: جاء البرد والطيالسة.
احتج الأكثرون بوجوه:
أحدها: أن "الواو" لو كانت للترتيب لما جاز دخلوها فيما لا يتصور فيه الترتيب"، كقولهم "تقاتل زيد وعمرو"، إذ المفاعلة حقيقة في صدور الفعل من الجانبين معا كما لا يجوز دخول "الفاء وثم" فيه لكنه يجوز، فوجب أن لا يكون للترتيب.
فإن قلت: ماذا تعنى بقولك: لو كانت الواو للترتيب لما جاز دخولها فيما لا يتصور فيه الترتيب، تعنى به مطلقا، أما بطريق الحقيقة؟
فإن عنيت به الأول فممنوع، وأما القياس على "الفاء" و "ثم" فغير مفيد.
أما أولا: فلأنه قياس في اللغة، وهو ممتنع على ما تقدم.
ولئن سلمنا: صحته في الجملة، ولكن لا نسلم صحة هذا القياس، إذ الفرق قائم وهو "بيان" أنهما يقتضيان الترتيب بصفة التعقيب والتراخي والواو ليست كذلك، بل هي لمطلق الترتيب، ومع قيام الفرق لا يصح القياس.
وأما ثانيا: فلأن المجاز غير لازم الاطراد لاسيما مع اختلاف اللفظ.
وإن عنيت به الثاني: فنقول: ما المراد من قولك: "لو كانت حقيقة في الترتيب لما جاز دخلوها فيه"؟ تريد به أنها لو كانت للترتيب بطريق الانفراد، أم بطريق الاشتراك.
فإن أردت به الأول: فهو مسلم لكن القياس على "الفاء" و "ثم" حينئذ يكون مستدركا، لأنا نعلم بالضرورة أنها لو كانت للترتيب بطريق الانفراد لما جاز دخولها بطريق الحقيقة على غير الترتيب.
وإن أردت به الثاني فممنوع، لجواز أن يكون حقيقة في الترتيب وفي الجمع المطلق، بالاشتراك اللفظي، فلا يمتنع دخولها حينئذ فيما لا يتصور فيه الترتيب بطريق الحقيقة، بمعنى مطلق الجمع.
سلمنا: صحة دليلكم، لكنه يقتضى أن لا تكون الواو للترتيب فقط ولا يقتضى أن لا تكون حقيقة فيه بطريق الاشتراك.
قلت: نعني به عدم جواز الدخول مطلقا والدليل عليه وجهان:-
أحدهما: هو ما ذكرناه. قوله: أنه قياس في اللغة.
قلنا: لا نسلم/ (62/ب) بل هو استدلال لعدم جواز استعمال اللفظ في معنى "على" عدم جواز استعمال ما هو مثله فيه، وليس ذلك من القياس في شيء، بس هو معلوم بالضرورة، كاطراد أسماء الفاعلين والمفعولين والصفات، ووجوب قيام كل واحد من المترادفين مقام الآخر، إذا كان من لغة واحدة.
[فإن] قلت: "الواو" بتقدير أن تكون للترتيب فهي ليست بمعنى
"الفاء" و "ثم" فلم يكن الاستدلال من قبيل ما ذكرتم من الدلالة.
قلت: الأمر وان كان على ما ذكرتم، لكن من المعلوم بالضرورة أنه إنما امتنع عن استعمال "الفاء" و "ثم" فيما لا يتصور فيه الترتيب لكونهما دالين على الترتيب المنافي للمعية، لا بخصوصية التعقيب والتراخي، و "الواو" بتقدير أن تكون للترتيب يشاركها في كونها دالة عليه فتكون "الواو" وكـ "الفاء" و "ثم" في هذا الأمر.
سلمنا: أنه قياس في اللغة، لكن قد ذكرنا ما يدل على صحته، وأما الفرق فيد تقدم جوابه.
قوله: ثانيا المجاز غير لازم الاطراد، قلنا: ليس هذا الباب منه في شيء.
وثانيهما: أنها لو دخلت على ذلك التقدير فيما لا يتصور فيه الترتيب، فإما أن يكون بطريق الحقيقة، وحينئذ يلزم الاشتراك، وهو على خلاف الأصل، وبطريق التجوز، وهو أيضا خلاف الأصل، فلا يجوز دخولها مطلقا.
وثانيها: لو كانت "الواو" للترتيب، لكان قوله تعالى في البقرة:{ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة} مناقضا لقوله تعالى في الأعراف: {وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا} لاتحاد القصة، واللازم باطل فالملزوم مثله.
وثالثها: لو كانت "الواو" للترتيب، لكان قولنا:"جاء زيد وعمرو بعده" تكريرا و "قبله" نقضا، ولكان قولنا "جاز زيد وعمرو" كذبا عند مجيئهما معا.
ورابعها: لأنها لا تفيد الترتيب في قوله تعالى: {واسجدي واركعي} لتقديم الركوع على السجود، وفي قوله تعالى:{فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة} {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} ، وفي قوله تعالى {أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف} والأصل هو الحقيقة الواحدة فوجب أن لا تكون للترتيب.
وخامسها: السيد إذا قال لعبده: اشتر اللحم والخبز لم يذم العبد لو اشترى الخبز أولا ثم اشترى اللحم، ولو كانت "الواو" للترتيب لذم لمخالفته السيد، كما إذا قال: اشتر اللحم أولا ثم اشتر الخبز.
وسادسها: لو كانت للترتيب لما حسن الاستفسار في قول القائل: جاء زيد
وعمرو عن تقدم أحدهما/ (63/أ) وتأخر الآخر.
وسابعها: قوله عليه السلام:"أبدأوا بما بدأ الله" حين سئل عما
يبدأ في السعي، أبالصفا والمروة؟ ولو كانت للترتيب لما سئل عنه لوجود ما يدل عليه، ولا يعارض هذا بمثله، وهو أنها لو كانت لمطلق الجمع لما احتاجوا إلى السؤال أيضا، لأن السؤال حينئذ يكون واقعا عما لا يتعرض له اللفظ "نفيا وإثباتا، لأن اللفظ الدال على القدر المشترك من الأنواع لا دلالة له على تلك الأنواع" لا نفيا ولا إثباتا، فلا يكون السؤال واقعا حينئذ عن شيء مع وجود دليله، بل غايته أنه لا حاجة إلى السؤال، لأنه يخرج عن عهدة التكليف بأيهما يبدأ نظرا إلى البراءة الأصلية، لكنه يجوز أن يسأل للاحتياط ودفعا للمجاز القريب، وهو إطلاق العام وإرادة الخاص، وأما على التقدير الأول يكون السؤال واقعا عما وجد دليله والسؤال
عن مثله عيب.
وثامنها: أن أهل اللغة قالوا: "واو العطف" في الأسماء المختلفة "كواو الجمع" في الأسماء المتفقة و "واو الجمع" لا تفيد الترتيب وفاقا، فكذا "واو العطف" وإلا لم تكن كهي.
فإن قلت: تشبيه الشيء بالشيء لا يقتضى الاشتراك في كل الأمور، بل يكفى فيه اشتراكهما في أمر من الأمور و "واو الجمع" و "العطف" يشتركان في إفادة الاشتراك في الحكم فيكفى ذلك في صدق قولهم: وحينئذ لا يلزم أن لا يكون "واو للعطف" للترتيب.
قلت: الجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أنهم نصوا على أن فائدة أحدهما عين فائدة الأخرى، وذلك يقتضى ألا يقع الاكتفاء بالاشتراك في أمر من الأمور.
وثانيهما: أن نسلم أن الاشتراك في أمر من الأمور كاف في التشبيه، لكن نقول: لا يطلق التشبيه في الأغلب إلا إذا كان الاشتراك واقعا في كل الأمور وفي الأكثر، وإلا فيقيد بذلك النوع المخصوص، فإطلاقهم التشبيه يدل ظاهرا على أنها ليست للترتيب، والمباحث اللغوية لا تنتهي إلى
القطع فيكتفى به.
وتاسعها: أن الجمع المطلق معنى معقول تمس الحاجة إلى التعبير عنه، فالظاهر أن الواضع وضع له لفظا، وليس ذلك غير "الواو" بالإجماع فهو "هي". ويلزم من هذا أن لا تكون للترتيب دفعا للاشتراك.
ولو عورض هذا بمثله، وقيل "أن" الترتيب المطلق أيضا معنى معقول تمس الحاجة إلى التعبير عنه، فالظاهر أن الواضع وضع له لفظا مفردا وليس ذلك غير "الواو" وفاقا فتعين أن يكون هو "الواو" ويلزم من/ (63/ب) هذا أن لا يكون لمطلق الجمع دفعا للاشتراك. فنحن نرجع الأول: بأنه أعم فتكون الحاجة إليه أكثر.
وعاشرها: لو أفادت "الواو" الترتيب لصح دخولها في جواب الشرط، لكن لا يصح، فوجب أن لا يفيده، وأما انتفاء اللازم فبين.
وأما الملازمة فلأن الشرط لا يقتضى إلا كونه مرتبا عليه "والواو" تفيد [هذا] القدر فوجب القول بصحة الدخول قياسا على صحة دخول سائر الألفاظ الملائمة معناها لمعنى الترتيب.
واحتج من قال أنها للترتيب بوجوه:
أحدها: قوله تعالى: {واركعوا واسجدوا} .
وثانيها: ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"لمن قام خطيبا بين يديه وقال: من أطاع الله ورسوله فقد اهتدى ومن عصاهما فقد غوى: "بئس خطيب القوم أنت، قل من عصى الله ورسوله فقد غوى" ولو لم تكن الواو للترتيب
لم يكن بين العبارتين فرق.
وثالثها: قوله عليه السلام للصحابة: "أبدأوا بما بدأ الله" حين سئل عماذا نبدأ في السعي، فإنه يدل على فهمه عليه السلام الترتيب من الآية.
ورابعها: إنكار الصحابة على ابن عباس- رضي الله عنهما في أمره إياهم بالعمرة قبل الحج، واحتجاجهم عليه في ذلك، بقوله تعالى:{وأتموا الحج والعمرة لله} ، فولا أنهم فهموا من الآية الترتيب لما أنكروا ذلك عليه، ولما صح احتجاجهم بها عليه، وفهمهم حجة، لأنهم من أهل
اللسان.
وخامسها: ما روى عن عمر رضي الله عنه "أنه قال" لما أنشد:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً
…
لو قدمت الإسلام لأجزتك، وذلك يدل على فهمه رضي الله عنه منها الترتيب.
وسادسها: ما تقدم من أن الترتيب أمر معقول تمس الحاجة إلى التعبير عنه، فلابد له من لفظ دال عليه، وترجيحكم مطلق الجمع بكونه اعم، معارض بما إنا لو جعلناها حقيقة في الترتيب أمكن جعلها مجازا عن مطلق الجمع لكونه لازما [له] ولو جعلناها حقيقة في مطلق الجمع لم يمكن جعلها مجازا في الترتيب لكونه غير لازم له، وهذا على رأى من يشترط
اللزوم في التجوز ظاهرا، وأما على رأى من سلم يشترط ذلك بل يكفى فيه بالمناسبة، المعتبرة فإنه وإن أمكن جعلها مجازا فيه لكنه حينئذ يكون من قبيل إطلاق اسم اللازم على الملزوم، أو الجزء على الكل، وعلى التقدير الأول يكون عكسه، وقد عرفت أنه عند التعارض أولى.
وسابعها: أن الترتيب في الذكر، لابد وأن يكون له سبب، والترتيب [في] الوجود يصلح أن يكون سببا له فيضاف إليه.
لا يقال/ (64/أ): هذا الدليل يقتضى أن يكون ما ليس بمتقدم متقدما، وما ليس بمتأخر متأخرا، لأنه إذا علم حصول المعطوف والمعطوف عليه. أو بالترتيب لكن قدم في اللفظ ما هو المتأخر في الوجود أمكن سرد هذا الدليل فيه فيلزم المحذور المذكور.
لأنا نقول: ترك مقتضى الدليل لمعارض لا يقدح فيه.
وثامنها: لو قال الزوج لغير المدخول بها: "أنت طالق، وطالق، وطالق" طلقت واحدة، ولو كانت للمجمع لوقع الثلاثة، كما لو قال لها: أنت طالق ثلاثا.
والجواب عن الأول: أن لا نسلم تقدم الركوع على السجود مستفاد من الآية، بل من فعله عليه السلام، وقوله عليه السلام:"صلوا كما رأيتموني أصلي".
وغيره من الأدلة الدالة على وجوب التأسي به.
وعن الثاني: بمنع الملازمة، وهذا فإن "الواو" وإن كان لمطلق الجمع كان بين العبارتين فرق، وهو أن الإفراد في الذكر أدخل في التعظيم، ثم الذي
يدل على أن الأمر يتغير كان كذلك هو أن الترتيب غير متصور بين معصية الله ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم لكونهما متلازمتين لا تنفك إحداهما عن الأخرى والأمر لا يرد بتحصيل مثله فيتعين أن يكون الأمر بما ذكرنا، إما لعدم احتمال معنى آخر أو وإن كان محتملا لكن الأصل عدمه.
وعن الثالث: منع أنه عليه السلام فهم الترتيب من الآية. وهذا لأنه لو كان كذلك لعلل بالـ "الواو" لا بالابتداء.
وعن الرابع: بمنع الملازمة فإنه وإن جعل "الواو" لمطلق الجمع كان الإنكار مستقيما أيضا، والاحتجاج بالآية على نفي وجوب تقديم العمرة على الحج صحيح، نعم لو احتجوا بالآية على قد ما كان يأمرهم به، وهو تقديم الحج على العمرة لا على نفي ما كان يأمرهم به، لم يكن ذلك دليلا أيضا على أنهم فهموا الترتيب من "الواو" حتى تكون "الواو" للترتيب لجواز أن يكون ذلك سبب الابتداء بالذكر كما فهمه عليه السلام من آية السعي.
ولئن سلم: صحة الملازمة لكن فهمهم الترتيب منها معارض بعدم فهمه- رضي الله عنه إذ لو فهم الترتيب منها، فأمره بتقديم العمرة على الحج لابد وأن يكون لدليل آخر غير الآية، وإلا لكان ذلك مخالفة للدليل من غير دليل، وهو باطل.
وحينئذ يلزم التعارض وهو خلاف الأصل، ولما كان اللازم باطلا فالملزوم مثله، ولا يجاب عنه بأن فهم الترتيب، معارض بأمر ابن عباس- رضي الله عنه إياهم بتقديم العمرة على الحج، كما أجاب به الإمام وغيره/ (64/ب). لأن ذلك غير مستفاد من الآية، سواء كانت "الواو" للجمع أو للترتيب فلا يكون معارضا له.
وعن الخامس: لأن ذلك بناء على أن الأدب، تقديم الأفضل بالذكر، لأن ما يستحق الترتيب طبعا يستحق التقديم وضعا.
وعن السادس: المعارضة بكثرة الاستعمال، فإن كثرة استعمالها في الجمع يدل على أنها حقيقة فيه، وإلا لزم تكثير المجاز وهو خلاف الأصل.
وعن السابع: أنه دليل مستقل على أن الابتداء بالذكر يفيد الترتيب، لا أن "الواو" تفيده.
ولئن سلمنا: ذلك لكنه لا يفيد كون "الواو" للترتيب من جهة الوضع بل من جهة أخرى، والنزاع إنما وقع في كونها هل تفيد الترتيب من جهة الوضع أم لا؟ وما ذكرتموه لا يفيده.
وعن الثامن: بمنع الحكم. فإن عند البعض، كمالك، وأحمد وأبي حنيفة- رضي الله عنهم يقع الثلاث.
ولئن سلمنا: لكن إنما لا يقع الثلاث، لأن الكلام الثاني والثالث ليسا مفسرين للأول حتى يتم به، والمرأة قد بانت بالطلقة الأولى، فلم تلحقها الثانية والثالثة، بخلاف قوله:"أنت طالق طلقتين" أو "ثلاثا"، فإن الثاني تفسير للأول، والكلام إنما يتم بآخره.