الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة السابعة
في تقسيم المجاز
المجاز إما أن يقع في مفردات الألفاظ فقط، أو في تركيبها فقط، أو فيهما جميعا.
والأول: كاطلاق الأسد على الشجاع، وقد عرفت حقيقته بما سبق. من التحديد ووقوعه بما سبق من الدليل ويسمى أيضا بالمجاز المثبت.
والثاني: كقوله تعالى: {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا} / (51/أ){رب إنهن أضللن كثيرا من الناس} {وأخرجت الأرض أثقالها} . ويسمى هذا النوع بالمجاز المركب، والجملي، والإثباتي، والحكمي، والإسنادي، والعقلي، لأن مفردات هذا النوع من المجاز
كلها مستعملة في موضوعاتها، وإنما التجوز في إسناد بعضها إلى بعض، وذلك حكمي، عقلي، ألا ترى أن "أشاب الصغير" في قول الشاعر:
أشاب الصغير وأفنى الكبير .... كر الغداة ومر العشي
مستعملان في موضوعيهما، وكذلك: أفنى والكبير، لكن إسناد "أشاب وأفنى" إلى "كر الغداة ومر العشي"، هو الذي وقع فيه التجوز لكونهما، مستندين إلى الله في نفس الأمر. ومثله:"أنبت الربيع البقل". و "فعل النور" والضابط فيه إنك متى نسبت الشيء إلى غير ما هو منسوب إليه لذاته لضرب من الملاحظ بين الإسنادين كان ذلك مجازا في التركيب.
وبهذا القيد الأخير خرج، قول الدهري:"أنبت الربيع البقل"، و
"أسعد الفلك"، عن أن يكون مجازا، لأن ذلك الإسناد عنده ليس لضرب من الملابسة، بل هو أصلي عنده منتسب إلى ما ينبغي انتسابه إليه، وبه ينفصل الكذب عنه أيضا. لأن الكاذب لم يسند الأثر إلى ما أسنده لمشابهة ذلك الإسناد إسنادا آخر الذي هو أصلي، بل إما لأنه أصلي عنده، أو وإن لم يكن كذلك لكنه لم يلاحظ الملاحظة.
والملاحظة قد تكون بأن يختص الشيء بأثر بأن يوجد الأثر عند وجوده، وينعدم عند عدمه، وهو غير صادر عنه، لكن أجرى الله [تعالى] سنته بأن يوجده عند وجوده، ويعدمه عند عدمه، كالهلاك مع أكل السم في قوله: قتله السم: أو بأن يكون الأثر صادرا عنه حسا كما في قوله تعالى {وأخرجت الأرض أثقالها} و {تؤتي أكلها كل حين} وبأن يكون الشيء سبب كقولهم: "أعطى الأمير الفقير"، و "كسا الخليفة الكعبة"، وما أشبه ذلك.
وذهب بعض الشاذين إلى إنكار المجاز العقلي. إما لزعمهم: أن صيغ
الأفعال موضوعة في اللغة بإزاء صدور مدلولاتها عن القادر المختار، فإذا أسندت إلى غيره كانت مجازات لغوية. وربما استدلوا عليه: بأن من علامة المجاز اللغوي صحة النفي كما سيأتي- وهي موجودة فيما نحن فيه كما في المفرد، إذ يصح أن يقال: ما أخرجت الأرض الأثقال، وإنما أخرجها الله تعالى منها / (51/ب)، وما أتت النخلة أكلها، ولكن أتى الله منها الأكل، وما قعد فلان ولكن اقعد فيمن هو كذلك، قال الله تعالى:{وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} وهذا على رأينا ظاهر. وإما لزعمهم: بأن صيغ الأفعال لا تدل إلا على صدور مدلولاتها ممن أسندت إليه، سواء كان موجبا أو مختارا، وخصوصية أحدهما غير مستفاد منها- كما سيأتي- فإذا أسند فعل إلى فاعل سواء كان موجبا أو مختارا، وجب أن تكون حقيقة فيه، إذ لو كان مجازا في الموجب لكان له جهة حقيقة، كما في المفرد، ولما لم يكن كذلك، علمنا أنه ليس بمجاز.
أجاب الأكثرون عن الأول: بأن صيغ الأفعال لا دلالة لها على صدور
مدلولاتها من الفاعل المختار ويدل عليه وجوه:-
أحدها: لو كانت صيغة الفعل دالة على صدور الفعل من المختار لكان قولنا: "أخرج" و "أنبت" خبرا تاما، لأنه حينئذ يجري مجرى قولنا:"أخرج القادر"، و "أنبت القادر" وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم. وفيه نظر، لأن لقائل أن يقول: هب أنه لا يدل على خصوصية القادر المختار، لكن لا نزاع في أنه يدل على صدوره عن شيء.
فقولنا: أخرج حينئذ يجري مجرى، قولنا: أخرج شيئا فكان يجب أن يكون خبرا تاما، فما هو جوابكم فيه؟ فهو جوابنا فيما أوردتموه علينا.
وثانيها: أن إسناد الفعل إلى الفاعل، تارة يفيد صدوره منه فقط كقولك:"ضرب زيد"، وتارة يفيد اتصافه به فقط كما في قولك:"مرض زيد"، و "مات عمر"، وتارة يفيد المعنيين جميعا كقولك:"قام زيد"، فلو كان الفعل دالا على صدوره من القادر المختار بطريق التضمن لم يكن إسناد الفعل إلى الفاعل في هذه الصور الثلاثة على سبيل الحقيقة، لكن لم يقل أحد من أئمة اللغة، إن مرض زيد ومات عمر، مجاز لغوي.
وثالثها: أن من الاستعمال الشائع من غير نكير من أهل اللسان قول القائل: "السواد يضاد البياض وينافيه"، و "إن الجسم الجمادي يقبل العرض"، ويشغل الحيز، وينتقل عن مكانه غير الطبيعي. والأصل في الكلام الحقيقة الواحدة، وحينئذ يلزم أن لا يكون حقيقة في خصوصية القادر المختار، وهو المطلوب.
ورابعها: أن الفعل لو كان له دلالة على القادر من حيث الوضع لكان
قولنا: "أخرج القادر"، تكرارا وغيره نقصا نظرا إلى الوضع ومعلوم أنه ليس كذلك.
وخامسها: هب أن الأفعال دالة على القادر المختار بطريق التضمن / (52/أ) لكن لا دلالة لها على القادر المعين، وإلا لزم الاشتراك بحسب القادرين وأنه خلاف الأصل. إذا ثبت هذا فنقول: إذا أسند الفعل إلى غير ذلك القادر الذي صدر الفعل عنه لم يكن ذلك مجازا لغويا، لأن التغيير غير واقع في المفهوم اللغوي، فيكون مجازا عقليا لدخوله تحت ما ذكرنا من الضابط
وأما الجواب: عما استدلوا به أولا: فهو أنا نسلم أن صحة النفي من علامات المجاز، لكن لا نسلم أنها من خواص المجاز اللغوي أو العقلي على التعيين، وحينئذ يستدل بصحة النفي على المجاز اللغوي فإنما هو بواسطة أن المجاز العقلي فيه غير متصور، أما بمجرد النفي فلا.
وعن الثاني: إن نسلم أنه لا دلالة للأفعال من حيث الوضع على خصوصية الفاعل كما بينا، لكن ما الذي تريد من قولك؟ أنه لو كان مجازا في الموجب لكان له جهة حقيقة. إن أردت به أنه يكون له جهة حقيقة بحسب اللغة فهو ممنوع، إذ المجاز لو استدعى الحقيقة فإنما يستدعي حقيقة تقابله والحقيقة اللغوية ليست في مقابلة المجاز العقلي، إذا ليس معنى المجاز العقلي أن يكون اللفظ مستعملا في غير ما وضع له حتى يستدعيها، وإن عنيت به أن يكون له جهة حقيقة بحسب العقل فمسلم، لكن لا نسلم أن ليس له جهة حقيقة، بل له ذلك، وهو إسناده إلى ما هو مستند إليه لذاته.
وأما الثالث: وهو الذي وقع التجوز في مفردات ألفاظه وفي تركيبه معا، فهو كقول الشاعر:
أحياني اكتحال بطلعتك
فإن "الإحياء" مستعمل في السرور، وهو غير موضوعه الأصلي، و "الاكتحال" في الرؤية، وهو مجاز فيها، فهذا مجاز في مفرداته ثم نسب "الإحياء" إلى "الاكتحال" وهو مجاز عقلي، لأنه غير منتسب إليه في نفس الأمر "وإنما نسب إليه" لضرب من الملاحظة بينه وبين الإسناد الأصلي.