الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الرابعة
في أن المكروه، هل هو قبيح أم لا
؟
الكلام فيه، كما في النهي.
إن قلنا: بأن القبيح مرادف للمنهي عنه، أو يفسر بما يؤول إليه، وإلا فإن فسر بما يتفرع عنه الطبع، أو بصفة النقص، فلا يخفى عليك أن ذلك يختلف باختلاف الطباع، والأفعال، فلا يلزم أن يكون كل مكروه قبيحا.
التقسيم الثاني:
الحكم قد يوصف بالصحة والإجزاء، والبطلان والفساد، وكل واحد منها، يطلق تارة في العبادات، وأخرى في المعاملات.
أما العبادات:
فالمتكلمون: يريدون بكون العبادة مجزئة أو صحيحة: إنها موافقة لأمر الشرع، وجب القضاء أو لم يجب.
والفقهاء: يريدون بهما، كون تلك العبادة، بحيث تسقط القضاء.
وليس المعنى منه أنه وجب القضاء، ثم سقط بتلك العبادة، فإن ذلك باطل وفاقا.
أما على رأي من يرى أن القضاء، إنما يجب بأمر جديد فظاهر.
وأما على رأي من يرى وجه / (100/ب) بالأمر السابق فكذلك، لأنه إنما يقول: بوجوب القضاء عند فوات الفعل عن وقته، أما قبل الفوات فليس القضاء واجبا عند أحد حتى تكون العبادة المؤداة في الوقت مسقطة للقضاء، بل معناه: أنه يسقط قضاء ما انعقد سبب وجوبه، وهو وجوب أصل الفعل.
وإن قلنا: إن القضاء بأمر جديد، إذ يعلل وجوبه باستدراك مصلحة الفائت، وأنه آية السببية، ولهذا لو ورد الأمر بتلك العبادة ابتداء لا يسمى قضاء.
والبطلان والفساد.
يقابلانهما على التفسيرين، فعلى هذا صلاة من ظن أنه متطهر، ثم "تبين" أنه ليس كذلك صحيحة عند المتكلمين، لأنها موافقة لأمر الشرع. باطلة عند الفقهاء، لأنها لا يسقط القضاء بها.
ثم الإجزاء يفارق الصحة، في إنه إنما يوصف الفعل به إذا أمكن وقوعه مرة، بحيث يترتب عليه حكمه، [وتارة بحيث لا يترتب عليه حكمه] كالصوم والصلاة، وأما "الذي" لا يقع إلا على جهة واحدة كمعرفة الله، ورد الوديعة فلا يوصف به.
واستدل المتكلمون على فساد قول الفقهاء بوجوه:
احدها: أن القضاء إنما يجب بأمر جديد، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وذلك يدل على بطلان تفسير الإجزاء: بسقوط القضاء.
وبيانه: أن المكلف إذا أتى الفعل مع نوع [من] الخلل مع العلم به، ولم يعده حتى خرج الوقت، ولم يرد أمر جديد فهاهنا حينئذ يسقط القضاء عنه بالمعنى المذكور مع أن الفعل ما كان مجزئا وفاقا.
وثانيهما: أن المكلف إذا فعل الفعل كذلك، ثم مات عقبيه، فهاهنا أيضا يسقط القضاء، مع أن الفعل ما كان مجزئا.
وثالثها: أنا نعلل وجوب القضاء بعدم الإجزاء، والعلة غير المعلول فوجب القضاء عند عدم الإجزاء، وذلك يدل على أن سقوط القضاء غير الإجزاء، لأن التغاير بين العدمين يوجب التغاير بين الوجودين.
وهذه الوجوه بأسرها ضعيفة، غير واردة على ما فسرنا الإجزاء بالفعل الذي يسقط القضاء.
أما الأول: فلأن سقوط القضاء بالمعنى المذكور فيما إذا لم يرد أحد أمر جديد ليس بذلك الفعل المأتي به بنوع من أنواع الخلل، بل بعدم ورود الأمر بالقضاء
والشيء قد ينتفي بانتفاء شرطه، كما ينتفي بانتفاء مقتضيه.
وكذا القول في الصورة الثانية: فإن سقوط القضاء / (101/أ) بالموت لا بالفعل، وأما الثالث: فعنه جوابان:
أحدهما: أنا لا نسلم أن وجوب القضاء معلل بعدم الإجزاء، بل باستدراك مصلحة ما فات عن وقته من العبادة الواجبة، أما ما انعقد سبب وجوبها، ولم يجب بفقد شرط من شرائطه أو لوجود مانع منه.
وثانيهما: أنا وإن سلمنا صحة تعليل وجوب القضاء بعدم الأجر لكن المغايرة بين الإجزاء وبين سقوط القضاء حاصلة، ونحن لا نقول الإجزاء: عبارة عن "سقوط القضاء حتى يكون ذلك واردا علينا بل نقول الإجزاء عبارة". عن الفعل الذي يسقط القضاء ولا خفاء أن الفعل الذي يسقط القضاء غير سقوط القضاء.
واعلم: أن هذه الأدلة الثلاثة، إنما تدل على فساد تفسير من فسر الإجزاء بنفس سقوط القضاء، وهذه العبارة وإن وقعت في كلام بعضهم، لكن ليس المراد منها ظاهرها، بل ما ذكرناه- وحينئذ- لا يكون لها دلالة على فساده.
وأما في المعاملات: فالمراد من كون العقد صحيحا: أن يترتب عليه ثمراته المطلوبة منه، والمراد من كونه باطلا: أن لا يترتب عليه ذلك والفاسد مرادف للباطل عندنا.
والحنفية خصصوا الباطل: بما لا ينعقد بأصله لخلل في ماهية المعقود عليه كبيع الحر والميتة والدم.
والفاسد بما ينعقد بأصله دون وصفه، كعقد الربا فإنه مشروع من حيث إنه مبادلة مال بمال، وممنوع من حيث إنه مشتمل على الزيادة.
والبيع الفاسد عندهم يشارك الصحيح في إفادة الملك إذا اتصل بالقبض
ونحن ننازعهم في تخصيص الفاسد بهذا القسم لو ثبت، وإنما ننازعهم في ثبوته، وهذا لأن كل ممنوع بوصفه بأصله عندنا على ما نبينه في النواهي- إن شاء الله تعالى.
ولقائل أن يقول: ما المراد من قولهم: "أن يترتب" عليه ثمراته المطلوبة منه، أكل ثمراته أم بعضها؟.
فإن كان الأول: فالحد غير جامع، لأن العقد صحيح في مواضع عديدة مع أنه لا يترتب عليه كل ثمراته، كما إذا اشترى ولم يقبض، فإن العقد صحيح، ولم يترتب عليه كل ثمراته.
وكذلك البيع في زمن الخيار صحيح، مع أنه لا يترتب عليه كل ثمراته المطلوبة معه. وكذا إذا باع الدار المكراة.
والعبد الجاني، إن قلنا: إن بيعها صحيح.
وإن كان الثاني: فإما أن يكون ذلك البعض معينا، أو غير معين، أي: بعض كان.
والأول: باطل.
أما أولا: فبالاتفاق.
وأما ثانيا: فلأنه ليس في اللفظ ما يشعر به ولا في العقل ما يدل عليه، فالتعريف به تعريف / (101/ب) بالمجهول وهو باطل.
وإن كان الثاني: فالحد غير مانع، لأن العقد الفاسد قد يترتب عليه بعض ثمراته المطلوبة منه، كالقراض الفاسد، والوكالة الفاسدة، فإن العامل، والوكيل يستفيدان به التصرف في المال، وما وكل فيه، وهو بعض
ثمراتهما.
ويمكن أن يجاب عنه فيقال: المراد منه، أن يترتب "عليه" كل ثمراته إلا ما يتوقف على حصول شرط وزوال مانع، بحيث إنه لو حصل الشرط أو زال المانع حصل ذلك الحكم، وما ذكرتم من الصور إنما لم يترتب عليه كل ثمراته لوجود المانع منه، ولهذا إذا زالت موانع تلك الأحكام الغير المترتبة ترتبت أيضا.
ولا يرد عليه العقود الفاسدة بانضمام الشرائط الفاسدة، فإنها وإن كانت بحيث يترتب عليها ثمراتها لولا تلك الشرائط الفاسدة لكنها ليست بهذه المثابة بعد وجودها، فإن زوالها عنها غير ممكن، ولهذا لم ينقلب صحيحا بالحذف.
ومنهم من قال: المراد منه كون العقد صحيحا أن يكون مستجمعا لجميع أركانه وشرائطه.
والمراد من كونه فاسدا: أن لا يكون كذلك.
وزعم: أنه أولى من الأول: لكونه مناسبا للمعنى اللغوي.
وبيانه: أن الصحة في اللغة: ضد السقم، والصحيح من الحيوان ما
هو على الحالة الطبيعية، التي هي أكمل الأحوال له.
والفساد في اللغة: هو الخروج عن الحالة الطبيعية، يقال: فسد الطعام والهواء، والمزاج، إذا خرج كل واحد منها عن الحالة الطبيعية التي هي له، فالعقود المستجمعة لأركانها وشرائطها، إنما سميت صحيحة بما أنها على أكمل أحوالها، وأنها على الحالة الطبيعية التي اعتبرها الشارع لها، والتي لا تكون كذلك إنما سميت فاسدة. بما أنها خارجة عن أكمل الأحوال، وأنها ليست على الحالة الطبيعية التي اعتبرها الشارع بها، وهذا أيضا سديد.
فلو قيل: العبادة صحيحة بهذا المعنى كان أولى مما تقدم، لتناوله لها وللمعاملات باعتبار واحد.
لكن الصحة: بهذا التفسير أخص منها فيها بتفسير الفقهاء على رأينا ورأي الجماهير، وهو أن الاتيان بالمأمور به، يقتضي الإجزاء بمعنى سقوط القضاء.
لأن العبادة: إذا رأيت بأركانها وشرائطها سقط قضاؤها قطعا، إذ هو لاستدراك مصلحة العبادة الفائتة، فحيث لم تكن العبادة الفائتة لم يكن القضاء مشروعا، وليس أنه إذا سقط القضاء بالفعل وجب أن يكون ذلك الفعل مفعولا بأركانه وشرائطه.
ألا ترى أن من صلى إلى غير جهة / (102/أ) القبلة بالاجتهاد، ثم تبين
له جهة القبلة، فإنه يسقط القضاء عنه بتلك الصلاة، على رأي مع أنها ما كانت مشتملة على شرائطها في نفس الأمر.
وكذلك من صلى عاريا بالركوع والسجود، فإنه يسقط عنه القضاء على الرأي الأظهر، مع عدم اشتمالها على شرائطها. [سقط قضاؤها قطعا، إذ هو لاستدراك مصلحة العبادة الفائتة، فحيث لم تكن العبادة فائتة لم يكن القضاء مشروعا، وليس أنه إذا سقط القضاء بالفعل وجب أن يكون ذلك الفعل مفعولا بأركانه وشرائطه].
وكذا الأسير إذا اجتهد وصام شهرا قبل رمضان، فإنه يسقط القضاء عنه أيضا على رأي، وإن لم يكن مشتملا على شرائطه إذ شرط العبادة أن تكون مؤداة في الوقت، أو بعده.
وأما على رأي من يرى أن الإتيان بالمأمور به، لا يقتضي الإجزاء: بمعنى سقوط القضاء فبين التفسيرين عموم وخصوص من وجه دون وجه.
ومنهم: من فسر صحة الفعل، بإذن الشارع في الانتفاع بالمعقود عليه.
وزيف: بأن البيع في زمن الخيار صحيح بالإجماع، مع أنه لم يتحقق إذن الشارع بالانتفاع بالمعقود عليه، بتقدير الفسخ قبل انقضاء مدة الخيار، لاسيما إذا كان الخيار للبائع وحده، وفي هذا التعريف نظر لا يخفى على المتأمل.
التقسيم الثالث:
قد عرفت أن الخطاب، كما يرد بالاقتضاء، والتخيير، فكذا يرد بالحكم
الوضعي: ككون الشيء سببا، وشرطا، ومانعا، فعلى هذا- فلله تعالى- في كل واقعة: رتب الحكم فيها على وصف، أو حكمة، إن جوزنا التعليل بها: حكمان:
أحدهما: نفس الحكم المرتب على الوصف.
وثانيهما: سببية ذلك الوصف.
والمغايرة بينهما ظاهرة، إذ صحة القياس في الأول: متفق عليها بين القائسين، وفي الثاني: مختلف فيها
، والمتفق عليه غير المختلف فيه، وأيضا فإن نفس الحكم: قد يثبت بدون السببية.
والمسببة: قد ثبتت بدون الحكم كما في صورة المانع.
واحترزنا بقولنا: رتب الحكم فيها على وصف أو حكمة. عن الأحكام المرسلة الغير المضافة إلى الأوصاف، وعن الأحكام التعبدية التي لا يعقل معناها.
ثم ليس المراد من كون السبب موجبا [للحكم]، كونه كذلك لذات أو
لصفة ذاتية، بل المراد منه: إما المعروف وعليه الأكثرون، أو الموجب لا لذاته ولا لصفة ذاتية، ولكن يجعل الشارع إياه موجبا.
وهو اختيار الشيخ الغزالي رحمه الله.
والمغايرة بين المعنيين واضحة، إذ لا داعي لوجوب تعليل أفعاله تعالى وقد حاول الإمام: تزييف ما اختاره الغزالي رحمه الله بوجوه:
أحدها: أن حكم الله عندنا كلامه، وكلامه قديم، وسائر ما يذكر من الأسباب، كالبيع للملك، والنكاح لحل الوطء محدثة والقديم لا يعلل بالمحدث.
وهو / (102/ب) ضعيف من وجهين:
أحدهما: أن المعنى من جعل الشارع إياه موجبا هو قوله في الأزل: إني جعلت البيع المستجمع لشرائطه حين وجوده سببا للملك، وهذا لأن المسببية
حكم شرعي، وهو قديم فيكون آيلا إلى الخطاب، وهذا المفهوم قديم، ولا يلزم من حدوث البيع أن يكون موجبيته التي هي صفة بالمعنى المذكور حادثة، كما لا يلزم من حدوث أفعال المكلفين، أن يكون الحل والحرمة والكراهة حادثة، مع أنها في [الظاهر] من صفات أفعالهم، فلا يلزم من تعليل الأحكام بالأسباب تعليل القديم بالمحدث، بلى يلزم منه تعليل القديم بالقدم، لكن ذلك جائز بالاتفاق، "كما هو في الظاهر صفاته سبحانه وتعالى، كما هو مذهب مثبتي الأحوال، أو بذاته سبحانه وتعالى، كما هو مذهب نفاة الصفات.
وثانيهما: أنا وإن سلمنا أن السبب حادث، لكن المراد من تعليل الحكم بالسبب كونه متعلقا به، وهذا التعليق حادث، إذ هو مفتقر إلى حصول
السبب الحادث، والمفتقر إلى الحادث حادث، فيكون هذا التعلق حادثا، فلا يلزم من تعليله بالسبب، تعليل القديم بالحادث.
وثانيها: الشارع لما جعل الزنا مؤثرا في وجوب الحد مثلا إن تعينت حقيقته، كما كانت قبله لم يكن مؤثرا فيه كما قبله، وإن لم يبق حقيقة كان ذلك إعداما لتلك الحقيقة، والشيء بعد عدمه لا يؤثر.
وهو أيضا ضعيف.
أما قوله في القسم الأول: إن بقيت حقيقته كما كانت لم يكن مؤثرا فيه كما قبله [وإن لم تبق حقيقته كان ذلك إعداما لتلك الحقيقة، كما كانت لم تكن مؤثرا فيه، كما قبله] فغير لازم لجواز طريان وصف المؤثرية علة مع بقاء الحقيقة وليست مؤثرية المؤثر داخلة في الماهية حتى يقال: إنه يلزم حينئذ خلاف المفروض لما عرف فساده في علم آخر.
وأما قوله في القسم الثاني: إن لم تبق حقيقته كان ذلك إعداما لتلك الحقيقة والمعدوم لا يؤثر.
قلنا: نسلم ذلك، لكن نحن لا نقول: إن تلك الماهية بعدم العدم تؤثر حتى أن ما ذكرتموه يكون واردا علينا.
بل نقول: لم لا يجوز أن يقال: إن تلك الماهية بعد الجعل انعدمت لا بالكلية، بل بمعنى أنه نطلب خصوصيتها، وحصلت هناك خصوصية أخرى مسمى أيضا بالزنا يؤثر في وجوب الحد. فهذا احتمال لابد من
إبطاله.
ثم الذي يصحح هذا الاحتمال، أن الأسامي الدالة على الأسباب الشرعية كالبيع والنكاح والهبة وأمثالها، إما حقائق شرعية أو مجازات لغوية على اختلاف فيها، وعلى التقديرين يجب أن يكون مدلولات هذه الألفاظ بحسب الشرع / (103/أ) مخالفو في الماهية لمدلولاتها بحسب اللغة، وهذا لأنه اعتبر من الأركان والشرائط في مدلولاتها بحسب الشرع ما ليس في مدلولاتها بحسب اللغة، وذلك يقتضي تغاير الخصوصيتين.
وثالثها: الشرع إذا جعل الزنا مثلا مؤثرا في وجوب الحد، فعند الجعل إن لم يصدر عنه أمر ألبتة استحال أن يقال: إنه جعله علة للحكم، لأنه حينئذ يكون كذبا، وإن صدر عنه أمر فذلك إن كان هو الحكم نفسه كان المؤثر فيه هو الشرع لا السبب، وإن كان ما يوجبه كان المؤثر فيه وصفا حقيقيا، وهو قول المعتزلة، وسنبطله، وإن كان غيرهما كان أمرا أجنبيا لا تعلق له بالحكم.
وهو أيضا ضعيف. لأنا نمنع أن يكون المؤثر وصفا حقيقيا، بتقدير أن يكون الصادر من الشارع ما يوجب الحكم، وهذا لأنه يجوز أن يكون وصفا اعتباريا وهو بحسبه يؤثر في الحكم.
سلمنا: أنه وصف حقيقي، لكن لم ظننتم أنه قول المعتزلة: الذي سيظهر
بطلانه في التحسين والتقبيح، بل هو غيره، وهذا لأن الذي يقوله المعتزلة: هو أن الشيء إنما يحسن أو يقبح لاشتماله على وصف حقيقي، قبل ورود الشرع يوجب كونه كذلك، ولولاه لما ورد الشرع بحسن شيء وقبحه وإلا لكان ذلك ترجيحا من غير مرجح.
فالحاصل أن الذي يقوله المعتزلة: إن الوصف الحقيقي الموجب للحكم حاصل قبل الشرع في محل الحكم وإنه لذاته يوجب الحكم لا بجعل الشارع، لكن العقل قد يستقل بمعرفته تارة فيجب العمل بمقتضاه، وإن لم يرد الشرع به، وتارة لا يستقل بمعرفته فيتوقف وجوب العمل بمقتضاه على ورود الشرع به، وهو بعرفنا اشتماله على ذلك الوصف.
والشيخ الغزالي لا يقول: بشيء من ذلك، بل لو قال بأن الوصف الحقيقي مؤثر في الحكم.
فإنما يقول: إنه إنما يؤثر بجعل الشارع لا لذاته، وأنه ما كان مقتضيا للحكم قبله، وأنه لا يمكن أن يستقل العقل بمعرفته اقتضائه الحكم، فلا يلزم من بطلان ما قالوه: بطلان ما قاله.
سلمنا: أن القول بكون الوصف الحقيقي موجب للحكم باطل على الإطلاق، لكن لا نسلم أن الصادر من الشارع عند الجعل إذا كان غير الحكم وغير الوصف الحقيقي الذي يوجبه كان الصادر منه أمرا أجنبيا لا تعلق له بالحكم، ولم لا يجوز أن يكون الصادر منه المؤثرية؟ وهي ليست نفس الحكم ونفس الوصف الحقيقي ولها تعلق بالحكم.
ثم اعلم: أن السبب في اللغة: عبارة عام يحصل المقصود عنده لا به، لأنه يطلق في اللغة: على الطريق، والحبل، فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك / (103/ب) بينهما دفعا للاشتراك والمجاز.
وهو ما ذكرناه، لأن الوصول بالسير لا بالطريق لكن يحصل عنده، وكذا نزع الماء بالاستقاء لا بالحبل لكن يحصل عنده.
والمسبب الشرعي: إنما سمي بذلك، لأنه يحصل الحكم عنده لا به.
وهذا ظاهر عند من يفسره بالمعرف، إذ لا يجوز أن يكون في الواقعة حكم مكلف به ولا ينصب عليه علامة لئلا يلزم تكليف ما لا يطاق، فهو إذن مشروع عند المعرف.
وأما من يفسره بالموجب لكن يجعل الشارع إياه كذلك، فكذلك لأن الموجب للحكم بالحقيقة هو الشارع وإنما نصب السبب للحكم ليستدل به على الحكم حيث يعسر الوقوف على خطاب الله تعالى لاسيما بعد انقطاع الوحي كالعلامة فشابه ما يحصل الحكم عنده لا به فسمي باسمه.
ثم السبب: ينقسم إلى ما يتكرر الحكم بتكرره: كالدلوك للصلاة، ورؤية هلال رمضان، لوجوب صومه، وكالنصاب للزكاة، بدليل الإضافة إليه، وتضاعفها عند تضاعف النصب في حول واحد، وإنما
جعل النصاب سبباً دون الحول، مع أنها تتكرر بتكرره عند اتحاد النصاب، لأن اعتباره صفة المال التي باعتبارها يصير المال نصابا، وهي النماء، إذ الحول في الغالب مظنة حصول النماء فأقيم مقامه يكون المال المخصوص معدا للنماء بأحد الاعدادين، وهو السبب للزكاة وهو المسمى بالنصاب، وهذا المعنى متكرر بتكرر الحول، لأن ما أعد للنماء لما مضى من الحول، غير ما أعد لما يأتي منه.
وإلى ما لا يتكرر بتكرره: كوجوب معرفة الله تعالى عند تكرر الأدلة الدالة على وجوده وتوحيده، وكوجوب الحج عند تكرر الاستطاعة عند من يجعلها سببا، أما من يجعل البيت سببا بدليل الإضافة إليه في قوله تعالى:{ولله على الناس حج البيت} الآية. وفي غيره من الاستعمالات فنقول: إنما لا يتكرر الوجوب، لأن السبب لا يتصور فيه التكرر.
تنبيه:
اعلم أنا إذا حكمنا على الوصف أو الحكمة بكونه سببا، فليس المراد منه:
أنه كذلك في مورد النص سواء فسرناه "بالموجب" أو "بالمعرف، لأن سببيته مستفادة من الحكم فيه، فلو كان الحكم فيه مستفاد من السببيىة لزم الدور، بل المراد منه: أنه سبب في غيره، ومن هذا تعرف أن سببية المسبب، وإن كانت حكما شرعيا فليست مستفادة من سبب آخر، لأنه حينئذ يلزم إما الدور، وإما التسلسل، وهما ممتنعان، بل هي مستفادة من النص أو من المناسبة مع الاقتران.
وأما المانع:
فهو منقسم إلى مانع / (104/أ) الحكم- ويأتي ذكره إن شاء الله تعالى في القياس- وإلى مانع السبب: وهو كل وصف وجودي مخل وجوده بحكمة السبب التي لأجلها يقتضي السبب المسبب. كالدين في باب الزكاة مع ملك النصاب.
إذا قلنا: بأنه يمنع الوجوب. وكحيلولة النصاب بالغصب والإباق، فإنها تمنع من انعقاد النصاب سببا للوجوب على الأظهر.
وأما الشرط، فهو ما يقتضي عدمه عدم ما هو شرط له ولا يقتضي وجوده.
وهو منقسم إلى ما هو شرط السبب: وهو كل معنى يكون عدمه مخلا لمعنى السببية، كشرائط المبيع من كونه منتفعا به ومقدورا على تسليمه وغير ذلك، فإن تلك الشرائط شرائط كون البيع سببا للملك.
وإلى ما هو شرط الحكم: وهو كل معنى يكون عدمه مخلا بمقصود الحكم
مع بقاء معنى السببية، كالقبض في البيع للملك التام.
التقسيم الرابع:
الحكم قد يوصف بالعزيمة والرخصة.
أما العزيمة: فهي في اللغة: عبارة عن النية المؤكدة، ومنه قوله تعالى {فنسى ولم نجد له عزما} أي قصدا مؤكدا، ومنه يقال: أولوا العزم لبعض الرسل الذين تأكدت قصودهم في إظهار الحق، وأداء الرسالة.
وفي الشرع: عبارة عن الحكم الأصلي الذي شرعه الشارع ولم يتغير عن ذلك الوضع بعارض.
كالصلاوات الخمس من العبادات ومشروعية البيع من المعاملات.
وهذا أولى من قول من قال: إنها عبارة عما لزم العباد بإيجاب الله تعالى.
إذ لا اختصاص للعزيمة بالواجبات، لأنها تذكر في مقابلة الرخصة، ولا اختصاص لها بالواجبات، إذ يقال: عقد السلم رخصة "شرع على خلاف الأصل"، فإنه بيع ما لا يقدر على تسليمه، وكذلك العرايا رخصة، إذ يقال:"رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرايا لمحاويج الأنصار" فلا يكون للعزيمة اختصاص بها أيضا.
وأما الرخصة: بتسكين الخاء فهي في اللغة: عبارة عن اليسر والسهولة، ومنه يقال: رخص السعر إذا تراجع وسهل الشراء.
وأما بفتح الخاء فهو عبارة عن الأخذ بالرخصة.
وأما في الشرع: فقيل: الذي أبيح مع كونه حراما.
وقيل: فرارا عما فيه من التناقض: بأنه الذي رخص فيه مع كونه حراما. وهو مثل الأول فيه، لأن الترخيص يقتضي جواز الفعل.
وقيل: هي عبارة عما تغير عن الأمر الأصلي في حق المعذور- لعارض- إلى سهولة ويسر.
وهذا التعريف مع ما فيه من إطلاق العام الذي هو الأمر، (104/ب) وإرادة الخاص الذي هو الحكم، غير مانع، لأنه يقتضي أن يكون الحكم
الأخف الناسخ للحكم الأثقل لعذر رخصة، كقوله تعالى:{الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين} الآية.
والصحيح أن يقال: إنها عبارة عما تغير من الحكم الشرعي لعذر إلى سهولة ويسر مع قيام السبب للحكم الأصلي "فبالقيد الأول: يندفع الإشكال الأول، وبالقيد الثاني: الإشكال الثاني، لأن السبب للحكم الأصلي" يزول في صورة النسخ، إما يرفع أو بالانتهاء على اختلاف فيه، وأن شئت بعبارة أخرى فقل إنها: عبارة عما يجوز فعله أو تركه لعذر مع قيام السبب المحرم.
وشكك بعض الناس في تحقق الرخصة بأن قال: العذر المرخص، إن كان راجحا على السبب المحرم، كان موجبة عزيمة لا رخصة، وإلا لكان كل حكم ثبت بدليل راجح مع وجود المعارض المرجوح رخصة، وهو خلاف الإجماع.
وإن كان مساويا.
فإن قلنا: بتساقط الدليلين المتعارضين من كل وجه، والرجوع إلى حكم الأصل فلا يكون ذلك رخصة، وإلا لكان كل حكم ثابت على النفي الأصلي، قبل ورود الشرع رخصة. وهو ممتنع.
وإن لم يقل بالتساقط: فبعضهم قال: بالوقف عن الحكم إلى ظهور الترجيح، وذلك عزيمة لا رخصة.
وبعضهم قال: بالتخيير بين حكميهما فيلزم أن لا يكون أكل الميتة حالة الاضطرار رخصة، ضرورة عدم التخيير بين جواز الأكل وتحريمه.
وقد وقيل: بكونه رخصة.
وإن كان العذر المرخص مرجوحا: فحينئذ يلزم العمل بالمرجوح ومخالفة الراجح، وهو في غاية الإشكال.
ثم قال: وإن كان هذا القسم هو الأشبه بالرخصة لما فيه من اليسر والتسهيل بالعمل المرجوح ومخالفة الراجح. وهو ساقط.
أما قوله: في القسم الأول: إن كان العذر المرخص راجحا كان موجبه عزيمة لا رخصة. فممنوع، على الإطلاق، بل ما يثبت بالراجح،
ينقسم عندنا إلى عزيمة: بأن يكون الحكم ثابتا على الوجه الذي اعتبر فيه تعريف العزيمة.
وإلى رخصة: بأن يكون ثابتا على الوجه الذي اعتبر فيه تعريف الرخصة.
قوله: في الدلالة عليه: وإلا لكان كل حكم ثبت بدليل راجح مع وجود المعارض المرجوح رخصة.
في غاية السقوط، لأنه لا يلزم من كون دليل الرخصة راجحا، أن يكون كل حكم يثبت بدليل راجح رخصة، إذ العام لا يستلزم الخاص، ثم الذي يدل على أن / (105/أ) دليل الرخصة راجحا على ما يعارضه، أما بالنسبة إلى النص فظاهر، فإن نص الرخصة خاص، ونص العزيمة عام والخاص راجح على العام.
أما بيان الأول: فباستقراء النصوص: ألا ترى أن قوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} خاص بالنسبة إلى قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم} الآية.
وقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} عام بالنسبة إلى قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} .
وكذا قوله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} خاص بالنسبة إلى النصوص الدالة على تحريم إجراء كلمة الكفر على اللسان.
وكذا قوله عليه السلام: "يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليها والمقيم يوما وليلة".
خاص بالنسبة إلى قوله تعالى: {وأرجلكم إلى الكعبين} .
وكذا ما روي عنه عليه السلام: "أنه رخص في العرايا لمحاويج الأنصار فيما دون خمسة أوسق" خاص بالنسبة إلى قوله عليه السلام: "نهى عن
بيع الرطب بالتمر". وأمثاله كثيرة غير عديدة.
وأما بيان الثاني- فسيأتي إن شاء الله تعالى-.
وأما بالنسبة إلى العلة والعذر المرخص، فكذلك لأن عليته مستفادة من النص الخاص، وعليه السبب المحرم بنص عام وما تثبت عليته بنص خاص راجح على ما تثبت عليته بنص عام، على ما يأتي بيان ذلك في التراجيح إن شاء الله تعالى.
وأما قوله في القسم الثالث: وإن كان العذر المرخص مرجوحا فيلزم جواز العمل بالمرجوح ومخالفة الراجح وهو في غاية الإشكال.
قلنا: متى لا يجوز العمل بالمرجوح إذا لم يتعلق به غرض الشارع أو على الإطلاق.
والأول: مسلم.
والثاني: ممنوع، وهذا لأنه حكم بالاحتمال المرجوح مع وجود الراجح فيما له [فيه] تشوق، نحو الإسلام، والعتق، فإنه حكم بإسلام لقيط في مدينة الكفار، ولو كان الساكن بها مسلم واحد، وحكم بحرية
لقيط وجد في بقعة يسكنها العبيد وحر واحد، مع احتمال كونه من المسلم ومن المسلم مرجوحا ولا شك إن التيسير والتسهيل، مما إليه يتشوق فجاز أن يحكم بالرخصة، وإن كان عذرها مرجوحا وأيضا.
قوله: إن كان القدر المرخص مرجوحا، لابد وأن يعني به بعد اعتبار الشرع بكونه مرخصا وإلا فقيل: الاعتبار ما كان دليلا فلا يكون راجحا ولا مرجوحا، ولأنه ذكره قسيما لكونه راجحا، وهو إنما يكون كذلك بعد اعتبار الشرع، فكذا كونه مرجوحا، وحينئذ يلزم أن لا يكون مرجوحا، بل يكون راجحا، لأنه لا معنى للدليل الراجح إلا ما ثبت مقتضاه عند التعارض، فإذا ثبت مقتضى العذر المرخص / (105/ب)، وهو الترخص مع قيام السبب المحرم ولم يثبت مقتضاه كان هو راجحا عليه لا مرجوحا.
ثم قوله: وإن كان هذا القسم هو الأشبه بالرخصة لما فيه من التيسير والتسهيل بالعمل المرجوح ومخالفة الراجح.
ليس بسديد، لأن التيسير والتسهيل لم يحصل من العمل بالمرجوح من حيث إنه مرجوح، إذ قد يكون مقتضاه أشق وأصعب، بل من العمل
بمقتضى العذر رخصة، وإن كان مرجوحا لما فيه من التيسير والتسهيل، لأن العمل بالمرجوح هو الرخصة فإنه ليس في مطلق العمل بالمرجوح التيسير والتسهيل، [أو] أيضا فإنه يقتضي انحصار الرخصة فيما ذكروه وهو باطل.
فإنا نعلم بالضرورة أن مصلحة بقاء مهجة الإنسان، راجحة على مصلحة اجتناب ما في أكل الميتة من الخبث المحرم في نظر الشارع، فلا يكون العمل بالمرجوح هو الأشبه بالرخصة.
ثم اعلم: أن الذي يجو فعله مع قيام السبب المحرم، قد يكون واجبا كأكل الميتة عند [خوف] الهلاك من الجوع والإفطار من الصوم للمرض أو للسفر عنده وقد يكون مندوبا كالقصر في السفر على الرأي الأظهر.
وقد يتساوى فعله وتركه: كرخص المعاملات وكعقد السلم، والعرايا.
وقد يكون تركه أولى، كإفطار في السفر عند عدم التأذي بالصوم، وكترك
الاقتصار على الحجر في الاستنجاء.
تنبيه:
اعلم أن الرخصة تستعمل تارة بطريق الحقيقة: وهو فيما ذكرنا من الصور وأمثالها.
وتارة بطريق التجوز: وهو فيما حط عنا من الإصر والأغلال التي كانت على غيرنا من الأمم السابقة.
وإنما لم تكن حقيقة في هذا، لأن السبب المحرم لتركه أو فعله غير قائم في حقنا إذ صارت تلك الشرائع منسوخة، فلم يكن التضييق حاصلا في حقنا
بسبب شرعية تلك الأحكام فلم تكن إزالتها رخصة في حقنا، إذ الرخصة تنبئ عن فسحة في مقابلة التضييق.
وأما ما أباحه الله تعالى في الأصل، ومن الأكل والشراب لنا ولمن قبلنا
لا يسمى رخصة لا حقيقة ولا مجازا.
وكذلك ما شرع في البدل عند فقد الأصل تيسيرا للمكلف، كالتيمم عند فقد الماء- لا كالتيمم للجراحة أو لبعد الماء أو لشرائه بأكثر من [ثمن] المثل، فإن كل ذلك رخصة وأمثالها- والإطعام عند فقد الرقبة في الكفارة المرتبة لا تسمى رخصة لا حقيقة ولا مجازا.
التقسيم الخامس
التقسيم الخامس:
اعلم أن الحكم: ينقسم أيضا إلى كونه حسنا وإلى كونه قبيحا.
فالقبيح عندنا: ما يكون منهيا / (106/أ) عنه.
ونعني به ما يكون تركه أولى، وهو القدر المشترك: بين المحرم، والمكروه، فإن جعل النهي حقيقة فيه فلا كلام وإلا فاستعماله فيه بطريق التجوز فيدخل تحته المحرم والمكروه.
والحسن: ما لا يكون كذلك.
فيدخل تحته أفعال الله تعالى، والأحكام الثلاثة: من أفعال المكلفين، وأفعال غيرهم، كالصبي، والمجنون، والساهي، والنائم، والبهائم.
وهذا أولى من قول من قال: الحسن ما كان مأذونا فيه شرعا.
لأنه يلزم أن لا يكون فعله تعالى حسنا.
وهو باطل قطعا إذ الأمة مجمعة على إطلاق الحسن على أفعاله تعالى وإنما النزاع بينهم في المأخذ.
وقيل: الحسن ما ورد الشرع بالثناء على فاعله.
فيدخل تحته أفعال الله تعالى، والواجب، والمندوب، من أفعال المكلفين، دون الثلاثة الباقية، وأفعال غيرهم نحو الصبيان والمجانين والبهائم.
والقبيح: ما ورد الشرع بذم فاعله.
فيدخل تحته الحرام فقط، فعلى هذا المباح والمكروه وأفعال غبر المكلفين ليست بحسنة ولا بقبيحة.
ولو قيل: القبيح ما لا يرد الشرع بالثناء على فاعله. دخل كل هذه المستثنيات تحته لكن يكون ضعيفا. إذ لا يقال للمباح وفعل البهيمة قبيح.
وقيل الحسن: هو الذي يصح من فاعله أن يعلم أنه غير ممنوع عنه شرعا.
ويدخل تحته أفعال الله، لأن وجوب العلم لا ينافي صحته، والأحكام الأربعة من أفعال المكلفين دون المحرم، وأفعال الساهي، والنائم، والمجنون، والصبي، الذي لا يميز، والبهائم، والقبيح وما يقابله.
وأما القبيح عند المعتزلة: فقد قال أبو الحسين البصري في تعريفه: إنه الذي ليس للمتمكن منه، ومن العلم بحاله: إن يفعله يتبعه أنه يستحق الذم
فاعله.
ثم قال: معنى قولنا: ليس له أن يفعله، معقول لا يحتاج إلى التفسير.
وأما الحسن: فهو ما للقادر عليه المتمكن من العلم بحاله أن يفعله.
أقول: قوله "ليس له أن يفعله
لا يريد به أنه لعجزه عنه لا يفعله، أو لكونه ممنوعًا عنه حسًا، أو شرعًا، ولا لأن به نفرة طبيعية عن فعله وإن كانت هذه العبارة مستعملة في هذه الأسئلة الأربعة.
أما أن المعنيين الأولين غير مرادين فظاهر.
وأما أن المعني الثالث: غير مراد فلكونه يقتضي أن يكون القبح مفسرًا بالمنع الشرعي، وهو خلاف مذهبه.
وكذا المعني الرابع: غير مراد، إذ لو كان مرادًا لوجب أن لا يكون الفعل حسنًا، حيث تكون النفرة الطبيعية حاصلة لكونه قبيحًا حينئذ. لكنه باطل وفاقًا.
بل يريد به: أنه ليس له أن يفعله لكونه ممنوعًا عنه من جهة العقل لقيام المانع العقلي، إذ المانع من فعل القبيح عنده عقلي وهو ما قام / (106/ب) به من الصفات الحقيقية الموجبة للقبح، وهذا كما يقال ليس للإنسان أن يسلك الطريق المخوف مع وجود الطريق الآمن، فإن: المانع العقلي، في هذا المثال خارج عما تقدم من الموانع الأربعة.
وأما الذم: فقد تقدم تفسيره في أول الكتاب: بأنه عبارة عن قول أو فعل أو ترك قول أو ترك فعل ينبئ عن اتضاع حال الغير.
بقي أن يقال: فما المعني من الاتضاع؟
قلنا: هو عبارة عن الإهانة والتحقير، وهو أمر معقول بدون النفرة الطبيعية، نعم: في الأكثر هي لازمة لهما حيث تحقق الطبيعة.
وأما قوله في آخر الحد: ومتبعه أنه يستحق الذم فاعله، فليس يريد بقوله: يستحق أنه يحسن: لأنه حينئذ يلزم الدور لتفسيره الحسن به، ولا هو بمعني ما يقال: الأثر يستحق المؤثر، فإن ذلك ظاهر الفساد.
بل هو بمعنى ما يقال: المؤثر يستحق الأثر. وهذا لأن تلك الصفات الحقيقية التي اشتمل عليها القبيح تؤثر لذاتها في استحقاق الذم.
وعند هذا ظهر سقوط كلام الإمام على هذا التعريف.
وحد القبيح أيضًا: بأنه الذي على صفة لها تأثير في استحقاق الذم.
والحسن: ما لم يكن على صفة تؤثر في استحقاق الذم.
والتعريفان يشتركان في أن الأحكام الأربعة داخلة تحت الحسن، والمحظور داخل تحت القبيح، وفي أن أفعال غير المكلف كالنائم، والساهي، والمجنون، والصبي، والبهائم، غير داخلة تحتها، إذ لا يتوجه إلى هؤلاء مدح ولا ذم، بسبب أفعالهم، وإن كان يجب بسببها، ضمان وارش
في مالهم، وفي مال مالك البهائم في صورة جنايتها ويجب إخراج ذلك على أوليائهم، وأما ما به ينفصل أحدهما عن الآخر فظاهر.
وإذ قد تكلمنا في تعريفهما فلنتكلم فيما يتعلق بهما من المسائل:
المسألة الأولي
في أن حسن الأشياء وقبحها لا يثبت بالعقل
ذهب أصحابنا وأهل الحق من كل ملة، إلى أن العقل لا يحكم بحسن فعل ولا بقبحه، لا بمعني ملائمة الطبع، ومنافرته الذي يختلف باختلاف الأشخاص، ولا بمعني صفة الكمال وصفة النقص.
بل بمعني كونه متعلق الثناء والذم عاجلاً، والثواب والعقاب آجلاً، وأن حسن الشيء وقبحه ليس لكونه مشتملاً على صفة ذاتية تقتضي حسنه أو
قبحه، بل إنما يثبت الحسن والقبح بالمعني المذكور بالشرع لا غير.
وذهبت: الثنوية، والتناسخية، والبراهمة، والخوارج،
والكرامية، والمعتزلة، وبعض الفقهاء من الحنفية: إلى أن العقل قد
يحكم استقلالاً بحسن بعض الأفعال وقبحه تارة ضرورة، كحسن الصدق النافع، والإيمان، وقبح الكذب/ (107/أ) الضار، والكفران، وإن المقتضي لذلك هو كونه صدقًا نافعًا، وكذبًا ضارًا بالدوران، وتارة نظرا كحسن الصدق الضار، أو قبحه وقبح الكذب النافع، أو حسنه، على قدر اختلاف المضرة والنفع، وقد لا يستقل بذلك، بل يحكم به بواسطة ورود الشرع بحسن الشيء أو قبحه، كحكمه بحسن الصلاة وقت الظهر، وقبحها في وقت الاستواء، وكحكمه بحسن الصوم في اليوم الأخير من رمضان، وقبحه في اليوم الأول من شوال، ويحكم بواسطة ورود الشرع بذلك على اشتماله على صفة حقيقية توجب قبحه وحسنه لولاها لما ورد الشرع بذلك.
احتج الأصحاب على صحة مذهبهم بوجوه:
أحدها: أن العبد غير مختار في فعله وحينئذ يكون فعله، إما اضطراريًا أو اتفاقيًا، وهما لا يقبحان عقلاً اتفاقًا.
أما عندنا فظاهر.
وأما عند الخصم فلأنه لا يجوز أن تكون الأفعال الغير الاختيارية مكلفًا بها شرعًا، فضلاً عن أن يكون ذلك معلومًا بضرورة العقل أو بنظره.
بيان الأول: أن فعل العبد إن كان مخلوقًا لله تعالى، أو كان مخلوقًا له لكن يتوقف فاعليته "له" على مرجح مخلوق لله تعالى، بحيث
لا يتمكن العبد من تركه عند وجوده فقد لزم الاضطرار، وإن لم يتوقف على ذلك فقد لزم الاتفاق، وذلك لأن انتفاء هذا المجموع، إما بأن لا يتوقف فاعليته له على مرجح أصلاً، أو وإن توقف لكن ذلك المرجح ليس من الله - تعالى - بل منه، أو وإن كان من الله - تعالى - لكن لا يجب الفعل عنده.
لكن القسم الثاني: باطل وهو أن يكون المرجح منه، لأن الكلام في فاعليته له كالكلام في الأول، إما الدور أو التسلسل، أو الانتهاء إلى مرجح مخلوق لله تعالى شأنه ما ذكرناه، لكن الدور والتسلسل باطلان.
فيتعين الثالث: وهو الانتهاء إلى مرجح مخلوق لله تعالى، شأنه ما ذكرناه، وحينئذ يلزم الإضرار، كما في القسمين الأولين.
وإذا بطل القسم الثاني: تعين القسمان الباقيان، وحينئذ يلزم الاتفاق.
أما لزومه على تقدير القسم الأول: فظاهر، وأما على تقدير القسم الثالث: فلأنه إذا لم يجب الفعل عنده فيمكن وجوده تارة وعدمه أخرى، إذ لو لم يكن كذلك لكان ممتنعًا وهو ممتنع قطعًا، لأن الفعل يستحيل أن يكون ممتنع الوجود عند وجود مرجحه، فيكون ممكنًا فاختصاصه بالوجود أو بالعدم في وقت دون وقت، مع أن نسبة ذلك المرجح مع كل الأوقات على السوية [يكون اتفاقًا محضًا. فثبت أن فعل العبد، إما أن] يكون اتفاقيًا، أو اضطراريًا، وثبت أنهما لا يقبحان عقلاً، فوجب [أن لا يكون تحسين فعل العبد وتقبيحه عقليًا. وحينئذ يلزم] أن لا / (107/ب) يكون التحسين والتقبيح عقليًا مطلقًا سواء كان في الشاهد أو في الغائب، إما بالإجماع لأن لا قائل بالفصل.
وأما لأن التكليف بهذا الفعل ممتنع عند الخصم، والتكليف بالممتنع قبيح ولا شك في ورود التكليف بأفعال العباد، فيكون فعل الله قبيحًا وهو باطل بالإجماع، وإن اختلف طريقه.
واعترض عليه: بأنه منقوص بأفعاله تعالى، وهذا لأن ما ذكروه من الدليل آت فيها.
وأجيب: بالفرق، وهو أن فاعلية الله تتوقف على مرجح من قبله تعالى، وهو قديم وهو إرادته القديمة المتعلقة بالإيجاد في وقت مخصوص، وما ذكرنا من التقسيم غير آت فيه حتى يلزم التسلسل أو الاضطرار أو الاتفاق ولا قدم مخلوقاته تعالى، لأن المرجح ليس نفس الإرادة القديمة حتى يقال:
يلزم من قدم القادر "وقدم المرجح" قدم المقدور، وإلا لزم التخلف عن المرجح التام، وهو باطل.
وبتقدير تسليمه يكون الفعل اتفاقيًا كما سبق، بل المرجح هو إرادته المتعلقة بالإيجاد في وقت مخصوص، ولا يأتي الدليل المذكور في تعلق الإرادة بذلك الوقت دون غيره، لما أن ذلك من مقتضى الإرادة، بخلاف مرجح فاعلية العبد، فإنه إن كان منه فلابد وأن يكون حادثًا ضرورة، إن فعل المحدث محدث [و] حينئذ يفتقر إلى محدث، والكلام فيه كما سبق، وإن كان من الله تعالى، فإنه حينئذ يلزم إما الاضطرار، أو الاتفاق كما سبق.
واعترض عليه أيضًا: بأنه يقتضي امتناع الحكم بالحسن والقبح على أفعال المكلفين شرعًا لوجود الدليل المذكور بعينه فيهان لكنه باطل وفاقا.
وهو في غاية السقوط، لأن الدليل على المقدمة الثانية: في البرهان المذكور إنما هو الإجماع على أن الاضطراري والاتفاقي لا يقبحان عقلاً، وهو غير حاصل في الحسن والقبح الشرعيين، لأن الجمهور ممن قال: بأنهما شرعيان.
قالوا: يجوز تكليف مالا يطاق، كالشيخ أبي الحسن وأتباعه،
والمجبرة القائلين: بنفي الكسب بأسرهم، فلا يمكن أن يقال: الاتفاقي والاضطراري لا يقبحان شرعًا وفاقا. والدليل المذكور لا يتم بدونه.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أن فاعلية العبد للفعل، إذا لم يتوقف على مرجح يجب الفعل عنده فقد لزم الاتفاق.
وهذا لأن من الظاهر أن المعني منه هنا هو أن يوجد الشيء بلا سبب، لأن بهذا المعني لا يجوز الخصم ورود التكليف بالاتفاقي، فأما بغير هذا المعني نحو: كون السبب خفيًا أو كونه/ (108/أ) واقعًا بالقدر الذي نسبته إلى فعله وتركه على السوية أو غيره، فلا نسلم أنه لا يجوز ورود التكليف به، وإذا كان كذلك فنحن نمنع قول الفعل اتفاقيًا بهذا "المنع على هذا" المعني على هذا التقدير، وهذا لأن سببته القادر المختار وهو العبد، فإنه عند الخصم كذلك فله أن يرجح أحد مقدوريه على الآخر بغير مرجح، كما جوزتم ذلك بالنسبة إلى الله تعالى.
واستدللتم على جوازه بأن الهارب إذا عن له طريقان متساويان فإنه لابد أن يختار أحدهما للسلوك، وكذلك العطشان إذا قدم إليه قدحان متساويان فإنه لابد وأن يختار أحدهما للشرب، وبه أجبتم عن الشبهة المشهورة للفلاسفة في قدم العالم، فلا يكون الاتفاقي بهذا المعني لا يقبح عقلاً بالاتفاق.
وثانيها: لو كان الحسن والقبح ذاتيين للصدق والكذب، لوجب أن أن لا ينفكا عنها لكنهما قد ينفكان، فلم يكونا ذاتيين لهما.
أما الملازمة: فظاهرة إذ الذاتي للشيء، لو جاز أن ينفك مع بقاء الذات لم يكن ذاتيًا له بل كان مفارقًا، ولأنه لو جاز أن ينفك عنه مع بقائه للزم جواز انفكاك المعلول عن العلة، إذ الصفات الذاتية معلولات الذات على ما عرف ذلك في موضعه، وانفكاك المعلول عن العلة العقلية غير جائز، سواء كان لمانع أو لغير مانع وإلا لكان عدم المانع جزء علة الوجود أو شرطها وهما غير جائزين.
أما ما يخص الأول: فبالاتفاق، ولأن المركب من العدمي عدمي ضرورة أن وجود الشيء يستدعي وجود أجزائه أجمع، وعدم الشيء لا يستدعي عدم جميع أجزائه، فلو جاز استناد الأمر الوجودي إلى الأمر العدمي لا يفسد علينا باب إثبات كون الصانع موجودًا.
وأما ما يعمها: فلأن العلية حينئذ تدور معه وجودًا وعدمًا، إذ عند وجوده تصير الذات مؤثرة في المعلول، وعند عدمه لم تكن مؤثرة فيه، والعلية أمر وجودي لكونها نقيض اللاعلية المتصفة بها المعدومات ونقيض العدمي وجودي، فتكون العلية وجودية ولا سبب لها سوى ذلك العدم الذي هو جزء أو شرط فوجب تعليله به فيعود المحذور المذكور، وهو تعليل الأمر الوجودي بالأمر العدمي.
فإن قلت: ما ذكرتموه باطل، بما أنا نرى تخلف الأثر عن العلل العقلية الموجبة لموانع، كما في نزول التقبل وإحراق النار "في" الأغذية والأدوية وغيرها من الصور.
قلت: لا نسلم أنها علل موجبة لتلك الآثار، بل تلك الآثار عندنا يخلقها الله تعالى / (108/ب) عند وجود تلك الأسباب مع شرائطها فلا يرد نقصًا علينا وإنما يرد ذلك على من يقول: إنها علل موجبة.
وأما بيان نفي اللازم فبصورتين:
إحداهما: إذا كان الكذب يتضمن عصمة دم نبي عن كافر يقصده، فإنه
يصير حسنًا، والصدق المفضي إلى هلاكه يصير قبيحًا.
وثانيهما: إذا استلزم الصدق الكذب، كما إذا قال: إني أكذب غدًا إن عشت فإن صدق الخبر يتضمن الكذب، وهو قبيح ومستلزم القبيح قبيح، فالصدق قبيح، فكذا إذا تضمن الصدق ظلم الغير، كما في المتوعد للغير بالظلم، فإن الصدق هاهنا أيضًا قبيح، لاستلزامه القبح وهو الظلم والكذب يصير حسنًا إذا لو كان قبيحًا أيضًا للزم تكليف ما لا يطاق، ضرورة أنه ألا خروج عن النقيضين، ولأنه لو كان كذلك لكان ترك الظلم قبيحًا لكونه مستلزمًا له، ولكون مستلزم القبيح قبيحًا، وهو باطل وفاقا.
فإن قلت: لا نسلم أن في الصورة الأولى يصير الكذب حسنًا والصدق قبيحًا، بل إنما يحسن فيه التعريض عندنا دون الكذب وفيه استغناء عنه.
كما قيل: "أن في المعاريض لمندوحة عن الكذب".
سلمنا: حسن الكذب، لكن لم لا يجوز أن يحكم عليه بالحسن من جهة كونه متضمنًا دم النبي، وبالقبح لكونه كذبًا وهما جهتان متغايرتان غير متلازمتين.
وهذا كما قلتم: في الصلاة في الدار المغصوبة، فإنها من حيث إنها صلاة مأمور بها، ومن حيث أنها في الدار المغصوبة منهي عنها.
وكذا القول: في الصدق، فإن كونه صدقًا يقتضي حسنه، وكونه مفضيًا إلى قتل النبي يقتضي قبحه. ولا يدفع هذا بأنه قول ثالث لم يقل به أحد، فكان على خلاف الإجماع، لأنه قال به بعض أصحابنا.
قلنا: أن يمنعه لنا علة، وهو الاعتراض بعينه على الصورة الثانية:
قلت: الجواب عن الأول: من وجهين:
أحدهما: أنا نفرض الكلام فيما إذا دهش عنه ولم يقدر على الإتيان بالتعريض، أو وإن لم يدهش عنه وقدر على إتيانه، لكن عين في السؤال المكان والزمان والمسئول عنه باسمه ووصفه بحيث لا يمكنه التعريض عنه.
بأن يقول: هل رأيت الآن دخل في هذه الدار رجل اسمه كذا، ووصفه كيت وكيت؟. فيقول: لا.
فيقول له: تعني بقولك: لا نفي ما سألت عنه أم غيره؟ فهاهنا يتعين الكذب عليه ويصير إذا ذاك حسنًا، إذ لا سبيل إلى الصدق ولا إلى التعريض.
وثانيهما: إنا نسلم أنه إنما يحصل التعريض لا غير، لكن / (109/أ)[الخبر].
إنما يصير من باب المعاريض بإضمار أمور لا يتنبه لها السامع ليصير مدلوله غير ما دل عليه ظاهره، وإلا لم يحصل المقصود، وهو إما بزيادة، أو بنقصان، أو تقييد مطلق أو تخصيص عام، كما إذا سئل عنه؟
هل رأيت في هذه الساعة رجلاً دخل في هذه الدار؟
فيقول: لا. وينوي بذلك رجلاً متبحرًا في فنون العلوم، أو في غير تلك الساعة وأمثاله، وحينئذ يتعذر عليكم الاستدلال بقاعدة التحسين والتقبيح على كثير من فروعها، بل تبطل فائدتها بالكلية.
وهذا لأن من جملة فروعها: أنه يجب إجراء خطاب الله على ظاهره والقطع بأنه مراده، إذ لا يجوز أن يريد به غير ظاهره ولا يدل عليه. وأنه لا يجوز تأخير بيان التخصيص والنسخ على رأي أبي الحسين منهم، وتأخير بيان النكرة إذا أريد بها شيء معين وتأخير بيان الأسماء الشرعية. لأن تأخير بيانها عن وقت الخطاب إغراء بالجهل، وهو قبيح، لأنكم إذا جوزتم
التعريض لمصلحة لم يمكنكم الجزم بالوجوب والامتناع في هذه الصور ما لم يثبت أنه لا مصلحة هناك توجب ذلك ولا سبيل إليه ألبتة، بل غاية ما يقال فيه: هو إنا لا نجد هناك مصلحة بعد البحث التام والتفتيش الشديد، لكن ذلك لا يدل على عدم الوجود، وذلك لا يمكنكم الاستدلال بقبح شيء من الأفعال على امتناع صدوره من الله تعالى ما لم يثبتوا أنه ليس في صدوره مصلحة مسوغة لذلك، لكنه ممتنع، فإذا القول: بجواز التعريض للمصلحة يبطل فائدة التحسين والتقبيح بالكلية.
فالحاصل أن القول بجواز الكذب للمصلحة يبطل القول بالتحسين والتقبيح العقلي. والقول: بجواز التعريض دونه يبطل فائدته، وما أفضى ثبوته إلى نفى فائدته يكون باطلاً.
فالقول: بالتحسين والتقبيح باطل، ولا يخفى عليك أن هذا الدليل مبني على أن الدوران يفيد العلم بالعلية، لكنه ضعيف.
فإن بتقدير أن يفيد ظن العلية لا يجوز التمسك به في المسألة العلمية.
وعن الثاني: أنه احتمال قادح، لم يظهر لي عنه جواب على تقدير جواز أن يكون الشيء الواحد مأمورًا به ومنهيًا عنه باعتبارين مختلفين غير متلازمين، من حيث مفهوميهما، وإن حصل التلازم بينهما بسبب من خارج، لكنه لم يقل به أحد منهم غير الجبائي وأتباعه.
وثالثها: لو كان القبح ذاتيًا للخبر الكاذب، فالمتقضي لذلك، أما نفس
اللفظ من حيث إنه لفظ.
وهو باطل، وإلا لزم أن يكون كذلك عندما يكون صادقًا لوجود المقتضي له حينئذ وهو نفس اللفظ ولا يجوز جعل الصدق مانعًا عنه لما تقدم ذكره، وإما عدم / (109/ب) المخبر عنه، وإما مجموعهما.
وهما باطلان، لما أن العدم لا يكون علة للأمر الثبوتي، أو أمر خارج عنهما، وهو إن كان مفارقًا لم يكن القبح حينئذ ذاتيًا له، وقد فرض أنه ذاتي له هذا خلف. وإن كان لازمًا فالمقتضي له: إما نفس اللفظ أو عدم المخبر عنه، أو مجموعهما. والكل باطل لما تقدم، أو أمر خارج والكلام فيه كالكلام في الأول فيقضي على التسلسل وهو ممتنع.
واعترض عليه: بأن القبح على تفسير أبي الحسين: عدمي، فلا يتعدى تعليله بالأمر العدمى.
ويمكن أن يجاب عنه بأن العلية أمر معنوي على ما تقدم تقريره، فلا يجوز قيامها بالعدم سواء أكان العدم علة للوجودي أو للعدمي.
ورابعها: لو كان القبح وصفًا ذاتيًا للكذب، فالمؤثر: إما الخبر الكاذب أو غيره، وهذا الثاني: باطل، لأن الوصف الذاتي للشيء لا يقوم بغيره، وإلا لم يكن ذاتيًا فيتعين الأول: وهو أيضًا باطل، لأن المؤثر فيه إما مجموع الحروف، أو بعضها.
والأول: باطل، لأنه لا وجود لمجموع الحروف في الخارج، فيستحيل قيام المؤثر به التي هي أمر وجودي بها.
والثاني: باطل أيضًا لاقتضائه أن يكون بعض حروف الكاذب قبيحًا وهو باطل.
إما أولاً: فبالاتفاق.
وإما ثانيًا: فلأنه يلزم منه أن يكون الخبر الصادق قبيحًا إذا وجد فيه ذلك الحرف.
ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون المؤثر فيه بعض تلك الحروف بشرط وجود الباقي، والحرف الأخير، بشرط مسبوقيته بالباقي، وأيضًا فإنه يقتضي امتناع اتصاف الخبر بالصدق أو الكذب؟ وهو باطل إجماعًا.
وخامسها: لو كان القبح وصفًا حقيقيًا ذاتيًا له، لما أمكن أن يختلف بحسب الأوضاع والعبارات، لكنه يمكن أن يختلف بأن يوضع صيغة الأمر والنهي له، وصيغة لهما أو أحدهما.
واعترض له: بأن القبح صفة للمعني المدلول عليه باللفظ بالذات، واللفظ الدال عليه بالعرض، والمعني غير مختلف بحسب الأوضاع والعبارات.
سلمنا: أنه صفة للفظ فلم لا يجوز أن يكون مشروطًا بالوضع لذلك المعنى؟ وهذا كما أن الكذبية صفة له بشرط الوضع له.
وسادسها: لو كان قبح الخبر الكذب لكونه كذبًا، لزم أن يكون المعلول متقدمًا على العلة، لأن علة القبح حينئذ هي كونه كذبًا لكن القبح متقدمًا عليه.
ولذلك يقال: إنه يمنع من فعله فهو متقدم عليه وإلا لم يكن مانعًا له وهذا أيضًا ضعيف.
فإن لقائل أن يقول: ما ذكرتم يقتضي أن لا تكون الكذبية صفة له، لأن كونه كذبًا يمنع من الإقدام عليه وفاقا، وإن كان مأخذه مخلفًا، ولذلك / (110/أ) يقال كونه كذبًا يمنع من فعله وعلة المنع من الفعل متقدم على المنع منه فيكون متقدمًا على الفعل فيلزم كونه كذبًا متقدمًا على الخبر الكاذب.
وهو محال لاستحالة تقدم الصفة على الموصوف وأيضًا فإنا لا نسلم تقدم قبح الخبر الكذب عليه، وكيف يكون متقدمًا عليه وهو صفته؟ بل المتقدم هو الحكم بالقبح على ما يوجد من الخبر الكاذب، وذلك الحكم هو المانع منه لا القبح.
وسابعها: أن الأفعال بأسرها متساوية بالنسبة إلى الله تعالى، فالحكم على بعضها بأنه حسن: يوجب الثواب، أو قبيح: يوجب العقاب، ترجيح للبعض على البعض من غير مرجح. وهو باطل.
بيان الأول: إنها لو لم تكن كذلك، بل يكون البعض راجحًا على البعض في إيجاب الثواب أو العقاب، وذلك وإن كان لقيام صفة حقيقية قائمة به عند الخصم، لكنها إنما تقتضي الحسن والقبح لتضمنها المصلحة أو المفسدة، ألا ترى أن القتل ابتداء من غير تقدم جناية توجيه قبيح عند الخصم لاشتماله على المفسدة، ثم إنه يصير حسنًا بعدها لاشتماله على المصلحة، مع أن الصفة الحقيقية الذاتية للقتل لم تختلف، وإذا كان كذلك فذلك الرجحان، إما لمصلحة تعود إلى الله، أو إلى العبد.
والأول: باطل وفاقًا، لتنزهه عن الأغراض العائدة إليه.
والثاني: أيضًا باطل، لأن حصول تلك المصلحة له، إما أن يكون أولى بالنسبة إلى الله تعالى، أو لا يكون بل يتساويان.
فإن كان الأول: فإما أن تكون تلك الأولوية لحصول مصلحة أخرى للعبد، أو لغرض عائد إلى الله تعالى.
والأول: باطل لإفضائه إلى التسلسل.
والثاني: أيضًا كذلك لما مر.
وإن كان الثاني: فيلزم حينئذ أن تكون الأفعال متساوية عند الله تعالى، وهذا وإن كان على خلاف التقدير، لأن علة رجحان تلك الأفعال هي حصول تلك المصلحة، فإذا كان حصولها ولا حصولها على السوية بالنسبة إلى الله تعالى [أو لا تكون، بل يتساويان. فإن كان الأول]: لزم أن تكون تلك الأفعال متساوية أيضًا عنده تعالى، وإلا لزم أن تكون الوسيلة راجحة على المقصود. وهو باطل، فيكون خلفًا، لكن يلزم منه المدعى: وهو ترجيح البعض على البعض من غير مرجح.
وثامنها: لو كان شيء من الأفعال حسنًا أو قبيحًا لذاته، لزم قيام العرض بالعرض التالي باطل فالمقدم مثله.
بيان الملازمة: أن المفهوم من كون الفعل حسنًا أو قبيحًا لابد وأن يكون زائدًا على مفعول نفس الفعل، وإلا لكان كل من علم فعلاً ما علم حسنه أو قبحه.
وهو باطل، لمساعدة الخصم عليه وبالبرهان، ثم إنهما صفتان وجوديتان / (110/ب) لكونهما تقتضي اللا حسن واللا قبح المحمولين
على العدم ولكون المحمول على العدم عدمي، ونقيض العدمي وجودي فيكون الحسن والقبح وجوديين أيضًا، فإنهما عند الخصم معلولا الصفة الحقيقية القائمة بذلك الشيء الحسن أو القبيح، فلو كان شيء من الأفعال موصوفًا بهما لزم قيامهما وقيام ما يوجبهما من الصفة الحقيقية به وهو قيام العرض بالعرض ضرورة كون الفعل عرضًا.
وأما بطلان الثاني: فلأنه لا معني لقيام العرض بالجوهر إلا كونه حاصلاً في الحيز تبعًا لحصول الجوهر فيه، فلو كان العرض قائمًا بالعرض لزم حصوله في حيز العرض الذي هو محله تبعًا لحصوله فيه وحيزه هو حيز الجوهر فهما حاصلان في حيز الجوهر تبعًا لحصوله فيه فهما قائمان به، وإن فرض كون أحدهما بحيث يستحيل وجوده فيه بدون الآخر لجواز أن يكون حصوله فيه مشروطًا بحصول الآخر فيه، كما في الأعراض المشروطة بالحياة. لا يقال: ما ذكرتموه ينفي كون الفعل حسنًا أو قبيحًا شرعًا أيضًا، وهو خلاف الإجماع. فما هو جوابكم عنه فهو جوابنا عن الحسن والقبح العقليين.
وأيضًا فدليلكم منقوض بما أن الفعل يوصف بعدة من الصفات لكونه ممكنًا ومعلومًا ومقدورًا، أو مخيرًا عنه ومذكورًا.
لأنا نقول: إن كون الفعل حسنًا أو قبيحًا شرعًا أمر اعتباري لا وجود له في الخارج، ولذلك يختلف باختلاف الشرائع فلا يلازم حسن ولا قبح لفعل بحيث لا يجوز ورود الشرع على خلافه عندنا، بل الحسن ما حسنه الشارع والقبيح ما قبحه ولا امتناع في اتصاف الفعل بالأمور الاعتبارية، إذ لا يلزم منه قيام العرض بالعرض، وهو الجواب بعينه عن الثاني: لأن ما ذكروه من الصفات كلها أمور اعتبارية، والخصم لا يمكنه أن يجيب بهذا لأنهما عنده من الصفات الثبوتية للذات المعللين به أو لصفة حقيقية قائمة به على اختلاف لهم فيه، وفيه نظر.
أما أولاً: فلأنا لا نسلم امتناع قيام العرض بالعرض وما ذكروه من تغير الحلول والقيام فغير مسلم.
ولم لا يجوز أن يعني به أن السببين إذا اختص أحدهما بالآخر بحيث يصير أحدهما نعتًا والآخر منعوتًا يكون النعت قائمًا به وحالاً فيه والمنعوت محلاً؟
وإن كنا لا نعلم حقيقة ذلك الاختصاص، وإنما يعلم منه هذا اللازم لا غير وليس يجب نفي الشيء إذا لم يعرف حقيقته، وإلا لزم نفي أكثر الأجناس الغالبة فإنا لا نعرف منها إلا اللازم ومعلوم أن ما ذكرتموه / (111/أ) من الدلالة لا يدل على امتناع قيام العرض بالعرض بهذا المعني وأيضًا. فدليلكم منقوض بما أن البطء صفة للحركة، دون الجسم المتحرك، إذ يمتنع أن يقال: الجسم بطئ في جسميته، وإنما يقال: إنه بطئ في حركته وهي صفة وجودية، لأنه نقض اللابطء المحمول على العدم، فيكون وجوديًا، والحركة عرض بالاتفاق فيلزم قيام العرض بالعرض، وأيضًا - فإنه منقوض بما أن كل واحد من الأعراض موجود، والوجود وصف عرضي، وهو: قائم بتلك الأعراض الموجودة فيلزم قيام العرض بالعرض.
ويمكن أن يجاب عن بعض هذه الأسئلة فليتأمل فيه.
وأما الخصوم: فبعضهم ادعى العلم الضروري به، وقال: إن العلم يقبح الكذب الضار والجهل والظلم، وجنس الصدق النافع [والعلم] والعدل ضروري غير مستفاد من الشرائع، بدليل أنه حاصل لجميع الأمم من أهل الأديان والأهواء المنكرين للشرائع بأسرها كالبراهمة والزنادقة، ولو كان
مستفادًا منه لما كان حاصلاً لهم.
ولا يقال: لو كان كذلك لما كان مختلفًا فيه لاسيما بين الجمهور الكبير والجم الغفير، لأن حسن ما ذكرنا من الأفعال وقبحها غير مختلف فيه، وإنما الخلاف في المأخذ
والخصوم وإن نازعونا فيه، إما عنادًا، وإما لأنه التبس عليهم ما هو الحق من المدرك، لكن وافقونا في العلم بهما ولا بعد في التباس المأخذ.
وهذا كما زعمتم أن الخبر المتواتر يفيد العلم الضروري، وأن خلاف السمينة في إفادته أصل العلم. وخلاف الكعبي وجماعة من
المحققين في وصف كونه ضروريًا لا يقدح فيه، فكذا هنا بل هنا أولى، إذا الاختلاف فيما نحن فيه في أصل الحكم، بل في مدركه.
ثم زعم هؤلاء أن المقتضى لقبح الكذب الضار مثلاً، هو كونه كذلك لأنا عند العلم بذلك نعلم قبحه وإن جهلنا سائر أوصافه، وعند الجهل به لا يعلم قبحه وإن علمنا سائر أوصافه، والدوران دليل العلية.
وبعضهم حاول الاستدلال، وذكر وجوهًا فيه:
أحدها: لو لم يكن التحسين والتقبيح عقليين، لزم ترجح أحد الجائزين على الآخر من غير مرجح، واللازم باطل، فالملزوم مثله.
بيان الملازمة: إن الفعل الذي اختص بالوجوب مثلاً، لو لم يكن مشتملاً على ما لأجله اختص به لكان اختصاصه بذلك دون سائر الأفعال، أو دون سائر الأحكام ترجيحًا لأحد الجائزين على الآخر من غير مرجح.
وثانيها: إنا نعلم بالضرورة، أن العاقل يختار الصدق على الكذب عندما يتساويان في تحصيل جميع المقاصد والأغراض المتعلقة / (111/ب) بهما غير كونه صدقًا وكذبًا، مع قطع النظر عن عرف أو شريعة أو غيرهما وليس ذلك إلا لحسنه.
وثالثها: لو لم يكن التحسين والتقبيح عقليين لحسن من الله كل شيء، ولو حسن منه كل شيء لحسن منه إظهار المعجزة على يد الكاذب، ولو حسن ذلك منه لجاز أن يقع منه، وحينئذ يقع التباس النبي بالمتنبي فلا يمكن التمييز [بينهما، إذ التمييز] ليس إلا بالمعجزة، ولحسن منه الكذب أيضًا وحينئذ لم يبق الوثوق على شيء من أخباره نحو الوعد والوعيد وغيرها، ولحسن منه الأمر بالكفران والطغيان، والنهي عن الإيمان والإحسان، ولكان الوجوب متوقفًا على السمع وحينئذ يلزم إفحام الأنبياء - على ما ستعرف ذلك في المسألة الآتية - واللوازم كلها ممتنعة،
فالملزوم أيضًا كذلك.
ورابعها: أن الإنسان قد يعرض نفسه للتعب والعطب في إنقاذ غريق أو حريق أو في حفظ سر ومراعاة عهد، ويستحسن الصبر على السيف إذا أكره على فاحشة، ويؤثر المحتاج على نفسه في ضائقة، وإن لم يعتقد دينًا من الأديان، ولا حشرًا ولا نشرًا لا روحانيًا ولا جسمانيًا، ليقال: إنما فعل ما فعل رجاء للثواب ودفعًا للعقاب، وإن كان لا يرجو أحسن الثناء والمجازاة والشكر على ذلك، ليقال: إنما فعل ذلك ابتغاء لحسن الثناء والمجازاة والشكر، أو قد يفرض ذلك في الخلوة، حيث لا يعرفه أحد ولا المنعم عليه بأن كان أعمي فليس ذلك إلا لحسنه.
الجواب عن الأول: إن دعوى الضرورة في الحسن والقبح، بالمعني المتنازع فيه ممنوعة. كيف يمكن ادعاؤها؟ ومن العقلاء من لا يعتقد قبح ما ذكروه من الأشياء ولا حسن نقائضها كالملاحدة.
ولئن سلم: اتفاق العقلاء في العلم به، فلا يستلزم أن يكون ضروريًا لجواز أن يكون اتفاقهم عليه لدليل أو لشبهه.
قوله: الخصوم مساعدون في الحكم دون المأخذ ممنوع.
وهذا فإنا لا نقبح من الله تعالى إيلام البهائم، وإن كان من غير جريمة وعوض، بل يحسن ذلك، وذلك يدل على عدم المساعدة في أصل العلم، إذ هو من صور النزاع.
وأما دعوى العناد والالتباس فمعارض بالمثل.
سلمنا: إن العلم بهما ضروري، فلم قلتم: إن المقتضي لقبح الكذب هو كونه كذلك؟، أما الدوران الدال على العلية فمعارض بالتخلف فيما ذكرنا من الصور الدال على عدم العلية.
ولئن سلمنا: سلامته عن المعارض، لكن لا يفيد إلا ظن العلية على ما يأتي تقريره في القياس إن شاء الله تعالى، والمسألة علمية فلا يجوز التمسك [به].
وعن الثاني: بمنع الملازمة إذ ليس جهة (112/أ) الرجحان منحصرة في الوصف الذاتي، ولم لا يجوز أن يكون الرجحان خارجيًا؟ نحو إرادة الشارع وغيرها من المصالح الدنيوية أو الأخروية.
سلمنا: الملازمة لكن لا نسلم نفي اللازم، وهذا لأنه تعالى: فاعل مختار
وللفاعل المختار أن يرجح أحد مقدوريه على الآخر من غير مرجح عندنا، كما نقول: في تخصيص اتحاد العالم بوقت معين دون سائر الأوقات مع صلاحية الإيجاد فيها.
سلمنا: ذلك لكن نقول: ترجيح أحد الجائزين على الآخر من غير مرجح، إن كان جائزًا فقد سقط الدليل بالكلية، وإن لم يجز فقد لزم الحيز حينئذ، لأن رجحان فاعلية العبد، على تاركيته، يتوقف على مرجح يجب الفعل عنده على ما تقدم تقريره، وحينئذ يلزم بطلان التحسين والتقبيح العقليين على ما ذكرناه.
وعن الثالث: فقد أجاب عنه بعضهم: بأن التفاوت بين الصدق والكذب إن كان حاصلاً ولو بوجه، فقد بطل الاستدلال وإلا فيمتنع الإتيان بأحدهما دون الآخر.
وهذا ضعيف، لأنه إن أراد بحصول التفاوت بينهما التفاوت في غير الصدق والكذب لم يلزم من عدم حصوله امتناع الإتيان بأخدهما دون الآخر، وإن أراد به حصول التفاوت بينهما أعم من كونه تفاوتًا في الصدق والكذب، أو في غيرهما لم يلزم من حصوله بطلان الاستدلال.
فإن الخصم: إنما فرض التساوي فيما وراء كونه صدقًا أو كذبًا، فإن كونه صدقًا جهة الرجحان وفاقا، أما عندنا فللإلف العام، وأما عند الخصم فلذاته بل جوابه: أن العاقل إنما يختار الصدق على الكذب للإلف العام، وسببه أن نظام العالم لا يحصل إلا بالصدق، إذ لولاه لم يبق الوثوق على شيء من
شيء من الاختيارات، وحينئذ ينسد أبواب المعاملات وسائر أسباب المعائش، فيكون اختياره لحسنه لكن بمعني ملائمة الطبع لا بالمعني المتنازع فيه.
فإن قلت: أنا أفرض نفسي خالية عن الإلف والعادة، ثم أعرض عليها الصدق والكذب المتساويين من جميع الوجوه إلا في كونه صدقًا أو كذبًا أحدهما جازمة بترجيح الصدق على الكذب وهو ينفي ما ذكرتم من الاحتمال.
قلت: هب أنك فرضت كذلك، لكن فرض الخلو لا يوجب حصول الخلو، فلعل الإلف والعادة حاصل في النفس مع فرض الخلو، فحينئذ الحكم بترجيح الصدق على الكذب يكون بناء عليه.
نعم: لو خلقنا خالين عن هذه العوارض، ففي ذلك لا ندري أكنا نحكم بذلك أم لا؟.
سلمنا: أن العاقل يختار الصدق على الكذب لحسنه بالمعني المتنازع فيه، فلم يثبت الحسن والقبح بالنسبة إلى الله تعالى / (112/ب)، [فإن] أثبتم بقياس الغائب على الشاهد فهو باطل، لأنه لو أفاد لما أفاد إلا الظن، على ما عرف ذلك في موضعه، فلا يجوز التمسك به في المسالة العلمية.
سلمنا: إفادته اليقين، لكن الفرق بين الغائب والشاهد قائم ومعه لا يصح [القياس. وبيانه: من حيث الإجمال أنه قد لا يصح] منه تعالى [شيء ويقبح مثله منا، إذا لا يقبح منه تعالى] أن يترك عبيده، وإماءه يموجون في المعاصي والقبائح، مع علمه بذلك وقدرته على منعهم منها، وبقبح ذلك منا.
فإن قلت: لا نسلم أنه تعالى قادر على منعهم، وهذا لأن مقدور العبد غير مقدور الله تعالى عندنا، والكف عنها مقدور له فلا يكون مقدورا لله تعالى وأنه تعالى علم وقوعها منه ومنعهم منها يقتضي عدم وقوعها وذلك يفضي إلى انقلاب علم لله تعالى جهلا. وهو محال، وما أفضى إلى المحال فهو محال فمنعهم عنها محال، والمحال غير مقدور له.
سلمنا: القدرة على المنع لكن إنما لم يمنعهم قهرا ليحترزوا باختيارهم فيستحقوا الثواب.
قلت: الدليل على أنه تعالى قادر على منعهم عنها هو أنه تعالى قادر على إيجاد كل الموجودات، فيكون قادرا على تركه، لأن القادر على الشيء لابد وأن يكون قادرا على ضده، ويلزم من هذا أن لا يكون العبد قادرا على شيء منها، ولا يلزم حصول مقدوريين قادرين. وهو باطل وفاقا.
بيننا وبين المعترض: أما عندنا فلا انتفاء القادر من المؤثرين في الإيجاد وأما عند الخصم فلأنه لا يجوز ذلك.
بيان الأول: أنه لا نزاع في أنه تعالى قادر على إيجاد الجواهر والأجسام وبعض الأعراض التي هي غير مقدور للعبد، ويلزم منه أن يكون قادرا على الكل، لأن الواقع بقدرته في تلك الصور عند الخصم ليس هو الماهية الثابتة في العدم ولا الصفات اللازمة لها، كالمشيئة والمعية، ولا الصفات التابعة للحدوث، كالقيام بالنفس والتحيز والحجمية، فإنها ليست من آثار القدرة عنده، بل إما الوجود أو اتصاف الماهية به وكل واحد منهما معنى واحد غير مختلف في الموجودات ولذلك لا يختلف بعقله عند تعقل الموجودات المختلفة، ومن الظاهر أن جهة الصلاحية في القدرة الواحدة بالنسبة إلى المقدور الواجد غير مختلف أيضا، والإمكان المصحح للمقدورية، إما بمعنى السببية أو
الشرطية حاصل في الكل ويلزم من هذا كون الله تعالى قادرا على كل الموجودات، ولهذا خرج الجواب أيضا عما ذكره في سند منعه.
وعن الثاني: أن ذلك موجود في الشاهد، فوجوب أن لا يكون للسيد قدرة على المنع، فوجب أن لا يقبح منه ترك المنع بكونه محالا وأيضا، فإنه يقتضي نفي قدرة الله تعالى عن كل الممكنات فعلا وتركا، أما في / (113/أ) الإيجاد ما علم أنه لا يقع أو في تركه فيما علم أنه يقع فيتعين ما ذكرتم، وأن في ضديهما فلما ثبت في علم آخر أن القدرة على المشيء قدرة على ضده.
وأما قوله: إنما لم يمنعهم قهرا لكي ينزجروا باختيارهم فيثابوا.
فضعيف، لأنه إذا علم أنهم لا ينزجرون بأنفسهم لا يكون ذلك مقصودا ومرادا، لأنه محال فليمنعهم قهرا، فإن ذلك أصلح من أن يتركهم على فعل المعصية، لأن بتقدير المنع قهرا وإن لم يستحقوا الثواب، لكن لا يستحقون العقاب أيضا، وأما على تقدير فعل المعصية فإنه يحصل الأمران جميعا.
وعن الرابع: أما عن الملازمة أولى: فقد أجاب الإمام عنها: بأن خلق المعجزة إن وجد تعليله لغرض التصديق، فقد لزم الجبر، لأنه لا يجوز رجحان الفاعلية على التاركية إلا لمرجح، وحينئذ يبطل القول بالتحسين والتقبيح العقليين، وإن لم يجد تعليله به فجاز أن يخلقهما لا لغرض أو لغرض غير التصديق، وعلى التقديرين جاز أن يخلقها على يد الكاذب، لأن القبيح هو خلقها على يد الكاذب، لغرض التصديق لا خلقها لغيره، وحينئذ يلزم ما ذكرتم من الالتباس.
وهذا الجواب ضعيف، لأنه إن لزم الجبر على تقدير وجوب تعليل خلق المعجزة لغرض التصديق، فإنما يلزم في أفعاله تعالى ضرورة كون المعجزة من خلقه تعالى، وهو قد اعترف في الكتب الكلامية أنه وإن توقف رجحان الفاعلية على التاركية على مرجح لكن لا يلزم منه الجبر في أفعاله تعالى لما أن مرجح فاعليته تعالى منه كما ذكرنا وعلى هذا التقدير لا يلزم بطلان التحسين والتقبيح.
بل جوابها: أنا لا نسلم أنه يلزم منه الالتباس المذكور، وهذا لأن الالتباس إنما يلزم بتقدير الوقوع، وليس حسن الشيء يوجب وقوعه بل قد يرحم بانتفائه، كما في العلوم العادية.
وعن الملازمة الثانية: فمن وجهين:
أحدهما: أنه وارد عليكم أيضا، لأن الكذب قد يصير حسنا عندكم باشتماله على المصلحة - فما تقدم ذكره - وحينئذ لا يمكن الاستدلال بقبح الكذب على امتناع صدوره من الله تعالى، إلا إذا علم أنه لا مصلحة هناك تسوغه لكن ذلك متعذر كما تقدم.
وثانيهما: أنه إنما يلزم ما ذكرتم إن لو لم يكن لامتناع صدور الكذب منه تعالى مدرك آخر سوى القبح العقلي، وذلك ممنوع [ثم] أنا نتبرع ببيانه: وهو أن الكذب صفة نقص، وهي على الله محال وفاقا.
وعن الثالث: بتسليمها ومنع امتناع اللازم، وهذا لأنه لا معنى للطاعة
عندنا إلا ما ورد الأمر به ولا معنى للمعصية إلا ما ورد النهي عنها، وإذا كان كذلك فلا يبعد أن يصير المأمور به منهيا عنه وبالعكس / (113/ب).
وعن الرابعة: ما سيأتي إن شاء الله تعالى "في المسألة الآتية".
وعن الخامس: بمنع ما ذكروه عند فرض تلك الحالة.
سلمناه: لكن ذاك لرقة البشرية، وشفقة الطبع إلى الجنس ولصفة الكمال وعزة النفس.
سلمناه: لكن للإلف العام، فإن الطباع قد ألفت ذلك لحصول تلك الأغراض المنفية في ذلك الفعل [في] الأكثر "شأن الفعل منا" فبقيت راسخة في النفس، فتكون حاملة على الفعل ولو لم توجد تلك الأغراض في بعض الصور.
واعلم أنه إذا بطل الحسن والقبح العقلي بطل ما هو من تفاريعه، وجوب شكر المنعم، وثبوت الحكم الشرعي لشيء من الأفعال قبل الشرع، إلا أن عادة الأصحاب قد جرت في أن يتكلموا في هاتين المسالتين بعد إبطال قاعدة التحسين والتقبيح إظهارًا ضعف مأخذ الخصم فيهما بناء على مذهبه على طريق الالتزام.
المسألة الثانية
[في حكم شكر النعم]
شكر المنعم غير واجب عقلاً عندنا
خلافًا للمعتزلة، وبعض الحنفية.
وأما وجوبه شرعًا فمتفق عليه. والمراد يكون الشكر واجبًا عقلاً: هو أنه يجب على المكلف تجنب المستقبحات العقلية، وفعل المستحسنات العقلية، هذا ما ذكره بعض أصحابنا نقلاً عنهم، ولا يبعد أن يراد به ما نريد نحن به في الشرع.
وهو: إن الشكر يكون بالاعتقاد: وهو بأن يعتقد أن ما به من النعم الظاهرة والباطنة كله من الله تعالى، وأنه المتفضل بذلك عليه فإن نعمة الخلق والحياة والصحة غير مستحق عليه وفاقًا.
ويكون بالفعل: وهو بأن يمتثل أوامره وينتهي عن مناهيه.
ويكون بالقول: وهو أن يتحدث بما به من النعم وأنه تعالى هو المسدي بذلك إليه.
لا يقال: الآية تقتضي نفى التعذيب بالفعل، وهذا لأن النفي يرفع مقتضى الإثبات، ومقتضى الإثبات حصول التعذيب بالفعل، لأن صدق المشتق بصدق المشتق منه، وإذا كان كذلك فلا يلزم من نفس التعذيب بالفعل نفي الوجوب، لأن وجوب الشيء لا يقتضي تحقق العقاب على تركه لما ذكرتم أنه ليس شرط الوجوب تحقق العقاب، ولا يدفع هذا بما إن المراد منه نفي استحقاق التعذيب، لأن الأصل عدم الإضمار.
وأيضًا فلم لا يجوز أن يكون المراد منه نفي التعذيب بالفعل الذي لا يستقل العقل بمعرفته؟
لأنا نقول:
أما الأول: فمدفوع، لأنا إنما / (114/أ) لا نشترط تحقق العقاب في ترك الواجب لجواز العفو، والخصم لا يقول به: فيستدل عليه بطريق الإلزام.
فإن قلت: نحن أيضًا لا نشترطه، لأنا نجوز سقوطه بالتوبة.
قلت: نفرض الكلام فيمن ترك الشكر قبل الشرع، ومات من غير توبة، فإنه يعاقب عندكم لا محالة لعدم المسقط، وهذا خلاف مقتضي النص فيكون بلاطلاً.
وأما الثاني: فكذلك لأن النفي عام، إذ النكرة في سياق النفي تعم
والتخصيص خلاف الأصل.
وثانيها: قوله تعالى: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} فهذه الآية تدل بطريق المفهوم أن قبل بعثة الرسل يكون للناس على الله حجة، فلو كانت الحجة تقوم بالعقل وحده، ويحسن المؤاخذة على الشيء قبل الشرع لما حسن هذا التعليل.
وثالثها: لو وجب الشكر، لوجب: إما لفائدة، أو لا فائدة، والقسمان باطلان، فيكون القول بوجوب الشكر باطلاً.
أما بطلان القسم الثاني فظاهر، لأنه حينئذ يكون عبثا والعقل لا يوجب العبث، ولأن المعقول من الوجوب ترتب الثواب على الفعل وترتب الذم أو العقاب على الترك، فإذا لم يتحقق ذلك لم يتحقق الوجوب.
وأما بطلان القسم الأول: فلأن تلك الفائدة، إما أن تكون عائدة إلى الله تعالى، أو إلى العبد.
والأول: باطل لتنزهه عن الفوائد والأغراض.
والثاني: أيضًا كذلك، لأن تلك الفائدة، إما أخروية أو دنيوية، وكل واحد منهما: إما جلب نفع، أو دفع مضرة.
أما الأولى: أعني الفائدة الأخروية: سواء كانت جلب نفع أو دفع مضرة.
فقد استدل بعضهم: على نفيها بأن العقل لا يستقل بمعرفة الفوائد الأخروية دون إخبار الشارع، ولا إخبار قبل الشرع فلا يجب قبل الشرع لأجلها.
وهو ضعيف: لأنه إن عنى بقوله: أن العقل لا يستقل بمعرفة الفوائد الأخروية دون إخبار الشارع الفوائد التفصيلية فهذا مسلم، لكن ليس من شرط الوجوب العلم بالفوائد التفصيلية، المترتبة عليه حتى يلزم من نفيه نفي الوجوب.
وإن عني به الفوائد الإجمالية، فممنوع أن العقل لا يستقل بمعرفتها، وهذا لأن الخصم بناء على قاعدة التحسين والتقبيح يقطع في الجملة بإيصال الثواب على الله تعالى بفعل الواجبات العقلية، وبإيصال العقاب بتركها عند عدم المسقط نحو التوبة، فكيف يدعى عليه ذلك؟
نعم لو قيل: ذلك بناء على أن الثواب والجزاء تفضل من الله تعالى كان له وجه، لكن الخصم لا يساعد عليه فلا يمكن أن يستدل به إلا بعد إقامة الدلالة عليه وإثباته.
واستدل / (114/ب) البعض الآخر: على أنه لا يجوز أن يجب لجلب نفع أخروية كانت أو دنيوية، لأن جلب النفع غير واجب عقلاً فما يكون وسيلة إليه أولى أن يجب. ولأن الله تعالى قادر على إيصال تلك المنفعة من غير توسط الشكر فتوسط الشكر عيب.
لا يقال: لا نسلم أن جلب النفع غير واجب عقلاً، إذ المنافع مختلفة فيه، ولا نسلم إن الله تعالى قادر على إيصال تلك المنفعة بدون توسط الشكر، وهذا لأنه يجوز أن تكون تلك المنفعة هي نفس كونه شكرًا، لأن وجوب الشيء لا يستدعي أن يكون لشيء آخر، وإلا لزم التسلسل. وهو محال فلابد من الانتهاء إلى ما يكون واجبًا لذاته، كما في دفع المضار عن النفس، وإذا كان كذلك فيستحيل حصول تلك المنفعة بدون الشكر فلا يكون مقدورًا لله تعالى، لأن المحال غير مقدور عليه وفاقًا.
لأنا نقول: الدليل على أن جلب النفع غير واجب عقلاً، هو: أن العاقل لو تركه، فإنه لا يفضي العقل باستحقاق العقاب أو الذم على تركه، وما يكون كذلك لا يكون واجبًا.
نعم: قد يذم على ترك ما لابد له منه في معيشته، لكن على هذا التقدير يرجع حاصله إلى القسم الثاني، وهو دفع المضرة عن النفس وهو غير ما نحن فيه.
ولئن سلمنا: أنه يذم على ترك جلب النفع مطلقًا، لكن فيما لا يلحقه في اكتسابه مشقة، أم مطلقًا سواء كان في اكتسابه مشقة أو لا يكون.
والأول: مسلم.
والثاني: ممنوع ما نحن فيه ليس من قبيل القسم الأول: بل هو من قبيل القسم الثاني، لأن من الظاهر أن حمل النفس على تجنب المستقبحات العقلية التي تميل النفس إليها، وحملها على فعل المستحسنات العقلية التي تميل النفس إلى تركها مشقة وكلفة.
وأما الجواب الثاني: فهو أن تقول: لا يجوز أن يجب الشكر لنفس كونه شكر، لأن العلة الغائبة لوجوب الفعل، هي: الحكمة التي تحصل بفعله لا
نفس الفعل، إذ لو جاز ذلك في فعل لجاز مثله في كل فعل، لأن حكم الشيء حكم في مثله، ولأنه لو لم يجز لكان ذلك ترجيحًا من غير مرجح. وهو ممتنع، وحينئذ يلزم أن لا يكون القياس متعديًا به، لأن خصوصيات الأفعال غير مشتركة بينها، فلا يمكن تعدية الحكم من فعل إلى فعل.
وهو باطل وفاقا، وبهذا أيضًا خرج الجواب: عما ذكره في سند المنع، لأن دفع المضرة حكمة وليس تحصيل الحكمة لحكمه وإلا لزم التسلسل، بخلاف الأفعال فإنها تنتهي إلى الحكم.
وأما أنه لا يجوز أن يجب لدفع مضرة عاجلة [فلأن الشكر مضرة عاجلة]. فكيف يدفع مضرة / (115/أ) عاجلة؟ لاسيما المضرة المدفوعة غير مقطوعة الوقوع.
فإن قلت: الشكر وإن كانت مضرة عاجلة، لكنه يرفع ضرر خوف العقاب على تركه في الآخرة، وهو مضرة عاجلة مقطوعة الوقوع على تقدير ترك الشكر، ولا بعد في [تقدير] أن يجب الشيء، وإن كان فيه مضرة عاجلة، لرفع مضرة عاجلة أخرى فوقها، كما في الفصد والحجامة
قلت: لا نسلم أن خوف العقاب على "تقدير" ترك الشكر مضرة
عاجلة مظنونة الوقوع فضلاً عن أن تكون مقطوعة الوقوع، وهذا لما سيأتي وبتقدير حصوله، فلا نسلم أن ضرره راجح على ضرر فعله، وهذا لأنه يحتمل سقوطه بالعفو والتوبة عندنا، وعندكم يجب ذلك بالتوبة وضرر التوبة أقل من ضرر فعل الشكر، فيحتمل أن لا يترتب العقاب على تقدير الترك، وأما الضرر الناشئ من القول على تقدير الفعل فيستحيل أن لا يترتب العقاب عليه، وأما أنه لا يجوز أن يجب لدفع مضرة آجلة، فلأن القطع لحصول المضرة الآجلة عند ترك الشكر، إنما يمكن إذا كان المشكور يسره الشكر ويسوؤه الكفران، والله تعالى منزه عن ذلك، فلا يمكن القطع بالعقاب منه فلا يجب لدفعه.
فإن قلت: هب أنه لا يمكن القطع بالعقاب من الله تعالى عند ترك الشكر، لكن حصوله عنده أغلب على الظن من لا حصوله أو وإن لم يكن كذلك لكن لا شك في احتماله، وهذا لأنه يجوز أن يكون الله تعالى قد طلب منه الشكر على ما أنعم به عليه، فإذا لم يأت به كان مستوجبًا للذم والعقاب والشيء قد يجب لدفع ضرر مظنون أو محتمل، كما في وجوب العمل بالقياس وطريقة الاحتياط.
قلت: أما ظن حصول العقاب فممنوع أيضًا، وأما الاحتمال فقائم.
ولكنه معارض بما أنه يحتمل العقاب على فعل الشكر أيضاً ويدل عليه وجوه:
أحدها: أن الشاكر ملك الله، فتصرفه في نفسه بالشكر قبل ورود الشرع تصرف في ملك الغير من غير ضرورة بغير إذنه، فوجب أن يقبح كما في
الشاهد، وهذا على أبي هاشم وأتباعه ألزم، لأن التصرف في ملك الغير بغير الإذن قبيح لعينه عنده، وإن إفراد النوع الواحد لا يختلف في الحسن والقبح عنده.
وثانيها: أن الشكر من الشاكر نوع من المجازات، وقد يقبح في الشاهد مجازاة العبد سيده على نعمة لاسيما إذا كانت النعم في غاية الكثرة والجلالة، والجزاء في نهاية الحقارة والخساسة وإذا قبح هذا في الشاهد فلأن يقبح في الغائب بطريق الأولى، لأن المناسبة بين شكر العبد ومجازاته وبين نعم سيده أتم مما بين شكرنا وما بين نعم الله تعالى.
وثالثها: أن النعم إذا كانت حقيرة / (115/ب) قبح الشكر عليها لاسيما إذا كان المنعم في غاية النعمة ونهاية القدرة على الإنعام والإحسان، ألا ترى أن الملك العظيم، إذا أنعم على الفقير بتمرة أو لقمة، ثم أخذ الفقير يشكره على ذلك في محافل الكبراء، ومجامع العظماء، فإنه يعد مستهزئًا بذلك الملك لا محالة، ويستحق التأديب على ذلك، وكل ما أنعم الله تعالى به على المكلف، من النعم الدنيوية فهو بالقياس إلى خزائن الله تعالى أقل من تلك التمرة واللقمة بالنسبة إلى خزائن ذلك الملك، لن نسبة المتناهي إلى غير المتناهي أقل من نسبة المتناهي إلى المتناهي، مقتضي هذا الدليل والذي قبله أن يقبح الشكر بعد ورود الشرع أيضًا، لكن لما ورد الإذن بذلك اندفع ما ذكرتم من الاحتمالين.
ورابعها: أن العبد ربما لا يأتي بالشكر اللائق فيستحق التأديب على ذلك وهو غير آت بعد ورود الشرع، لأن الشارع بين ما هو اللائق من الشكر.
فإن قلت: لما فسر الشكر بتكليف النفس على اجتناب المستقبحات العقلية، وإلزامها بإتيان المستحسنات العقلية، اندفع أيضًا ما ذكرتم من المحذور المذكور، لأن الشكر اللائق حينئذ يكون معلومًا، كما هو بعد ورود الشرع.
قلت: هب الأمر كما ذكرتم، لكن الإتيان بما ذكرتم من الشكر يتوقف على استقباح العقل وتحسينه، فربما يستقبح ما ليس بقبيح ويستحسن ما ليس بحسن، إذ العقول غير معصومة عن الخطأ فحينئذ يقع في [المحذور] المذكور.
لا يقال: إن احتمال العقاب على الترك راجح على احتمال العقاب على الفعل، لأن المشتغل بالعبودية والمواظب على الشكر أحسن حالاً من المعرض عنهما لتطابق العرف والعقل، وإذا كان كذلك فلا يحصل التعارض، وبهذا خرج الجواب عن منع حصول ظن العقاب على الترك.
لأنا نقول: ما ذكرتم مسلم لكن بالنسبة إلى من يسره الشكر والخدمة ويسوؤه الكفران والإعراض، فأما النسبة إلى الله تعالى الذي لا يسوؤه الكفران ولا يسره الشكر فممنوع، وإذا بطلت هذه الأقسام بطل القول بوجوب شكر المنعم عقلاً.
فإن قلت: ما ذكرتم بعينه يقتضي نفي الوجوب الشرعي، وهذا لأنه غير آت فيه بعينه.
أما أولاً: فلأن القسم الأول من التقسيم: وهو أن يجب لا لفائدة، لا
يمكن نفيه بما ذكرتم من الطريق، وهو أ، هـ عيب وهو على الله تعالى محال، لأنا لا نوجب تعليل أفعاله تعالى، وإن كان يمكن نفيه بطريق آخر.
وأما ثانيًا: فلأنه لا يمكن أن يقال: أيضا أنه لا يجوز أن يجب لدفع المضرة عاجلة كانت / (116/أ) أو آجلة بما ذكرنا من الدليل، لأن الشارع لما أوجب وأخبر بحصول العقاب على تقدير الترك، كان خوف العقاب على الترك حاصلاً بطريق غلبة الظن، إذ الأصل عدم العفو، ولأنه لو أخبر بعدم العفو، فعنده يمكن أن يتحقق مقتضى الوجوب لدفع مضرة عاجلة، وهذا الاحتمال غير متصور قبل الشرع.
سلمنا: أنه لا يجوز أن يجب لدفع مضرة عاجلة بما ذكره من الطريق، فلم لا يجوز أن يجب دفع مضرة آجلة؟ ولا يمكن نفيه بما ذكر من الطريق، لأن احتمال العقاب على الفعل غير متصور لورود الإذن به من الشارع، فليس فيه احتمال أن تصرف في ملك الغير بغير إذنه، وليس فيه احتمال المجازاة والمكافأة لأنه امتثال أمره وإظهار عبوديته، والاحتمال أنه قد لا يأتي بالشكر اللائق، لأنه مبين من الشارع.
ولئن سلمنا: احتمال العقاب على تقدير الفعل، لكنا نعلم أن الشاكر والمشتغل بالعبودية، أحسن حالاً من المعرض ولا يمكن أن يدفع هذا بما تقدم، لأنه أخبر الشرع بالثواب على تقدير الفعل، وبالعقاب على تقدير الترك، وأما احتمال العفو فقد سبق جوابه.
سلمنا: أنه يقتضي نفي الوجوب الشرعي، لكن إنما يقتضيه بناء على أصلكم، وحينئذ لا نسلم أن القول: بنفيه باطل، بل نقول: لو ثبت هذا
الأصل لوجب نفي وجوبه عقلاً وشرعًا، وقد ثبت ذلك بما ذكرنا، وما ذكرتم من إتيانه بعد ورود الشرع، ولا يلزمنا الجواب عنه، لأن ذلك الأصل باطل عندنا، والإشكال إنما هو لازم على تقدير صحة الأصل [بل] هو لازم عليك لا غير.
الدليل الرابع: في المسألة: إن الإنسان ضعيف حقير قليل المقدار لا يعلم كنه عظمة الله تعالى وكبريائه، كما قال الله تعالى:{وما قدروا الله حق قدره} ولا يعلم نعمه التي أنعم بها عليه، كما قال:{وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} . ومن كان كذلك قبح منه الشكر لخسة قدره، ولعدم إتيانه بالشكر اللائق، ولمحاولته المجازاة لمنعمه الذي نعمه عليه لا تجازى ولا تكافأ لكثرتها وتجاوزها عن حد الإحصاء، ألا ترى أن أحدًا من الأخساء "إذا تصدى" لشكر نعم الملك العظيم الذي عم نواله سائر البرية وإحسانه جميع البشرية، فإنه يعد ذلك نقصًا في حقه ويحسن أن يقال له: من أنت حتى تشكر نعمه، وإنما يصلح لذلك الكبراء والعظماء، الذين يعرفون قدر النعم ومقدار المنعم، ويقدرون على إتيان الشكر اللائق، أما أنت الضعيف الحقير الغير العارف لقدر النعم فلا.
فإن قيل: ما ذكرتم من الدليل على نفي وجوب الشكر في مقابلة ما تكرر في بداية العقول من وجوبه فلا يكون مقبولاً، وهذا لأن النظريات فرع البديهيات، والقدح في الأصل يوجب القدح في الفرع، فلو كانت النظريات مقبولة / (116/ب) في مقابلة البديهيات لكانت مردودة أيضًا لكونها مقدوحة
بسبب قدح الأصل.
الجواب: أنا لا نسلم تقرر ما ذكرتم من الوجوب في البداية.
ولئن قال فيه ما قال: في التحسين والتقبيح.
فجوابه: ما سبق أيضًا.
سلمنا بداهة وجوب شكر المنعم لكن بالنسبة إلى من يسره الشكر ويسوؤه الكفران لا بالنسبة إلى كل المنعمين.
فإن قلت: ما ذكرتم من الدليل الدال على عدم وجوب الشكر معارض بوجهين:
أحدهما: أن الشكر طريق آمن وتركه مخوف، إذ الشاكر أحسن حالاً من التارك للشكر، والعقل يقتضي وجوب سلوك الطريق الآمن.
ألا ترى أن العاقل إذا قدم إليه طعامان توهم في أحدهما السم دون الآخر، فإنه لابد وأن يختار الطعام الذي يتوهم فيه ذلك من حيث اقتضاء العقل.
وثانيهما: لو لم يجب شكر المنعم عقلاً لم يثبت وجوب شيء من الأشياء للإجماع، على عدم التفرقة، ولو لم يثبت الوجوب إلا بالشرع لزم إفحام الأنبياء، وذلك لأن حجتهم إنما تقوم بمعجزتهم الدالة على صدقهم وإنما تتميز المعجزة عن السحر والظلم وسائر الخوارق بالنظر فيها، وإذا كان كذلك
فللمدعو أن يقول: لا أنظر في معجزتك ما لم يجب النظر على، ولا يجب ذلك على إلا بالشرع ولا يثبت الشرع ولا يستقر إلا بالنظر في معجزتك، فإذا أنا لا أنظر حتى لا يجب على النظر، وحينئذ لا يثبت صدقك فلا يلزمني إتباعك وفيه إفحام الأنبياء.
الجواب: عن المعارضة الأولي: إنا لا نسلم أن الشكر طريق آمن، وهذا لأنا بينا أنه كما يحتمل العقاب على الترك فكذا يحتمل على الفعل، فعلى هذا التقدير لا يكون الشكر طريقًا آمنا.
سلمناه: لكن لا نسلم أن العقل يقتضي وجوب سلوك الطريق الآمن بالمعني المتنازع فيه، وهذا لأن العقل لما لم يوجب عندنا شيئًا لم يكن ما ذكروه من القضية مسلمًا، فدعواه دعوى محل النزاع من غير زيادة.
وعن الثانية: من وجهين:
أحدهما: أن ذلك لازم عليكم أيضًا، لأن وجوب النظر ليس ضروريًا عندكم، بل هو نظري فقبل أن ينظر العاقل فيه لا يعرف وجوبه فله أن يقول: حين يدعوه النبي إلى تصديقه إني لا أنظر في معجزتك ما لم يجب على النظر ولا يجب على ما لم أنظر، فأنا لا أنظر كيلا يجب على النظر، وحينئذ يلزم ما ذكرتم من المحذور.
والجواب مشترك وليس لأحد أن يقول: أن وجوبه ضروري ويلتزم ذلك لدفع المحذور المذكور، لأنه ظاهر الفساد، لأن وجوبه يتوقف على كون النظر يفيد العلم وخلاف منكريه فيه مشهور، وبتقدير كونه يفيده في الجملة فهو غير كاف بل لابد وأن يفيده في الأمور الإلهية، وخلاف جمهور الحكماء / (117/أ) فيه أيضًا مشهور.
وإنما قلنا: ذلك، لأن بتقدير أن لا يفيده فيها لا يكون واجبًا لعدم حصول المطلوب منه، وهذا لأن وجوبه ليس بعينه بل لتحصيل المعارف الإلهية والظن غير كاف فيها، بل العلم، فإذا لم يفده لم يجب وبتقدير كونه يفيده فيها أيضًا فإنما يجب على التعيين إن لو كان متعينًا لذلك وهو ممنوع، وهذا لأن له طريقًا آخر عندنا كتصفية الباطن والإلهام، فعلى هذا التقدير لا يكون واجبًا على التعيين، فإذا كان العلم بوجوب النظر يتوقف على هذه المقدمات التي لا تكاد تثبت إلا بالنظر الدقيق كان العلم بوجوبه نظريًا، لأن الموقوف على النظري أولى أن يكون نظريًا.
فظهر بما ذكرنا أن القول بأن وجوبه ضروري ظاهر الفساد.
فإن قلت: إنا نسلم أن وجوبه نظري، لكن الإفحام المذكور غير لازم علينا على هذا التقدير أيضًا، وهذا لأن المكلف الذي لا يأتي بالنظر إلا بعد وجوبه عليه ربما أتي بالنظر قبل الشرع فيكون قد عرف وجوبه قبله، فليس له أن يقول: بعد الدعوة لا أنظر ما لم يثبت وجوبه على، إذ قد يثبت وجوبه عليه، بخلاف ما إذا كان وجوبه شرعيًا، فإنه لا طريق إلى معرفة وجوبه إلا بالشرع فيكون الإفحام لازمًا لا محالة.
قلت: هب أنه لا يلزم الإفحام المذكور فيما ذكرتم من الصور، لكن لا شك في لزومه فيما إذا لم يأت المكلف به قبل الشرع فلا تقوم حجتهم عليه
لكنه باطل لإجماع المسلمين على أن حجتهم قائمة على كل عاقل بالغ بلغته الدعوة، فما هو جوابكم فيه فهو جوابنا في الكل. فإن المحذور متى لزم يجب دفعه سواء كان لزومه على جهة العموم أو الخصوص.
وثانيهما: أنا لا نسلم أنه لا يثبت الشرع ولا يستقر إلا بالنظر في المعجزة، بل ثبوته واستقراره موقوف على ظهور المعجزة الدالة على صدق مدعى النبوة عند التحدي سواء نظر الناظر فيها أو لم ينظر، وهذا لأنه لا يعتبر في كون الدليل يوجب المدلول أن ينظر فيه الناظر فيفيده وجود المدلول، بل المعتبر فيه أن يكون بحيث لو نظر فيه ناظر بشروطه لإفادة العلم بوجود المدلول، وإذا كان كذلك فعندما ظهرت المعجزة التي شأنها ما ذكرناه ثبت الشرع واستقر سواء نظر المدعو فيها أو لم ينظر، وعلى هذا التقدير يكون النظر واجبًا عليه، لكنه غير عارف لوجوبه عليه لجهله بشرط الوجوب لكن ذلك لا يقدح في وجوبه عليه، لأنه لا يشترط في وجوب الشيء العلم بوجوبه وإلا لم يكن ما جهل وجوبه واجبًا، بل التمكن من معرفة وجوبه والمدعو هاهنا متمكن من معرفته / (117/ب) وإنما لا يعرف لتقصيره في معرفته، وذلك لا ينافي نفى الوجوب عليه، كما في فروع الشرائع.
ثم قال بعضهم: إن هذه المسألة ظنية لا قطعية: فيكون الخطأ فيها ظني وهو: خطأ، لأنه إن زعم ذلك بناء على أن أصل هذه المسألة وهو مسألة التحسين والتقبيح ظني فهو باطل، لأنها من المسائل الكلامية التي يقطع بخطأ المخالف فيها، وكيف لا ومعظم مسائل الكلام كخلق الأعمال، وإرادة الكائنات، وعدم جواز العفو عن أصحاب الكبائر، ووجوبه الإثابة والعوض
على فعل الخيرات وغيرها من المسائل كلها مبني عليها، ولا شك أن الخطأ في تلك المسائل ليس بظنى بل هو قطعي، فلأن يكون الخطأ فيها قطعي بطريق الأولي.
وإن لم يكن زعمه بناء على ذلك بل نسلم أنها من المسائل القطعية التي يقطع بخطأ المخالف فيها.
وإنما قال ما قال: بناء على "ما" يخص هذه المسألة فهو أيضًا باطل، لأن القطع بفساد الأصل يوجب القطع ما هو من تفاريعه.
المسألة الثالثة
في حكم الأشياء قبل ورود الشرع، ويعرف منه حكم ما بعده، فيما لا يعرف فيه حكم من أدلته لو أمكن ذلك.
ذهب أهل السنة والجماعة أنه لا حكم فيها سواء كان الانتفاع بها
ضروريًا أو لا يكون، سواء كان محض المضرة، أو محض النفع، أو مشتملاً عليهما، وهذا لأن الحكم عندهم عبارة عن الخطاب على ما تقدم تفسيره فحيث لا خطاب لا حكم.
وكلام الإمام يشعر بخلافه، لكن الحق ما ذكرناه نقلاً ودلالة.
وأما المعتزلة: فإنهم قسموا الأفعال الاختيارية إلى: ما يقضي العقل فيها بالحسن: إما ضرورة أو نظرًا، وهو يتناول الأحكام الثلاثة، أو الأربعة، على حسب اختلاف تفسير الحسن، وإلى ما يقضي فيه بالقبح كذلك، وهو يتناول الحكمين أو الواحد، على حسب تفسيره، وإلى ما لا يقضي العقل فيه بواحد منهما على سبيل الخصوصية.
واختلفوا فيه: فعند معتزلة البصرة: أنه على الإباحة: بالمعنى الذي
تقدم ذكره، لا بمعني نفي الحرج عن الفعل، فإن ذلك متفق عليه بيننا وبينهم.
وعند معتزلة بغداد، وطائفة من الأمامية: أنه على الحظر، وإليه
مال أبو علي بن أبي هريرة من فقهائنا.
ومنهم من توقف فيه: بمعني أنا لا ندري هل لله فيه حكم أم لا؟.
وبتقدير أن يكون فيه حكم، لكن لا ندري هل الإباحة أو الحظر؟.
ومن الناس من قال بذلك لكن قبل ورود الشرع، فأما بعد وروده، قال
بينا أنه كان على الإباحة قبل الورود.
لنا: من المنقول الآيتان المذكورتان في المسألة السابقة.
فإن قلت: الاعتراض على الأولي منهما ما سبق.
والذي نزيده هنا أنها لا تدل على / (118/أ) بطلان مذهب الإباحة والوقف إذ لا عذاب على فعل المباح ولا على تركه. وإذا كان كذلك فيتعذر بها الاستدلال، لأن الدليل حينئذ يكون خاصًا والدعوى عامة.
قلت: أما الجواب عن الاعتراضات المتقدمة، فما سبق، وأما عن الأخير فمن وجوه:
أحدها: أنه مهما ثبت بالآية نفي الوجوب والحرمة قبل الشرع لدلالتها على نفي لازمهما، وهو عدم الأمن من العذاب يلزم منه نفي الإباحة على العموم، لعدم القائل: بالفصل، وهذا لأن القائل: بالإباحة في القسم الثالث، وإن قال: بنفي الوجوب والحرمة فيه لكن قال: بالوجوب في بعض الأشياء، كوجوب معرفة الله وشكره، وبالحرمة في بعضها، كحرمة الظلم والكذب الضار، فإذا ثبت ذلك لدلالة الآية على نفيه وجب أن لا يثبت
شيء من الأحكام كيلا يلزم خرق الإجماع.
وثانيها: أن المباح وإن كان لا عذاب فيه من جهة الفعل والترك، لكن فيه العذاب بالنسبة إلى الاعتقاد، فإن من لا يعتقد المباح مباحًا فإنه ربما يضلل ويفسق، ولهذا يضلل من لا يرى المسح على الخفين، ويضلل من لا يرى عقد الإجارة، ولهذا الاعتبار جعلناه من التكليف، وإذا كان كذلك فمن لا يعتقد المباح مباحًا لا يأمن من العذاب، والآية تؤمن منه قبل الشرع مطلقًا، سواء كان بالنسبة إلى الفعل أو "إلى" الاعتقاد أو إليهما.
وثالثها: إنا لا نثبت [بالآية] إلا عدم الوجوب والحرمة قبل الشرع، فأما عدم ما سواهما فإنما يثبت بدليل آخر.
وأما المعقول: فهو أن الحكم يستدعي حاكمًا ولا حاكم قبل الشرع لما تقدم أن العقل لا يحسن ولا يقبح، وقد انعقد الإجماع على أنه لا حاكم سواهما فحينئذ يلزم أن لا يكون هناك حكم.
أما القائلون بالإباحة قد احتجوا بأمور:
أحدها: أنه لا معني للمباح إلا ما أعلم فاعله، أو دل على أنه لا حرج عليه في فعله ولا في تركه، وما نحن فيه دل العقل على أنه كذلك، فوجب أن يكون مباحًا.
أما الأول: فظاهر لمساعدة الخصم عليه.
وأما الثاني: فلأن الله تعالى خلق الطعوم في الأجسام مع إمكان أن لا يخلقها، فإما أن يكون له فيه غرض أو لا يكون.
والثاني: باطل، لأنه عبث وهو على الحكيم محال.
فيتعين الأول، وذلك الغرض يستحيل أن يكون عائدًا إلى الله لتنزهه عن ذلك فهو إذًا عائد إلى الغير. وهو إما إضراره أو إيقاعه، أو لا إضراره، ولا إيقاعه، والأول: باطل وفاقا.
أما عندنا: فلاستحالة أن يكون له غرض في فعل ما.
وأما عند الخصم: فلاستحالة أن يكون الإضرار غرضًا.
وكذا القسم الثالث: فيتعين أن يكون هو الإيقاع، وهو / (118/ب) يتناولها، وذلك لأن ذلك الإيقاع المقصود منها هو أن المكلف بليد يتناولها ويتقوى باعتدائها وأنه يستحق الثواب باجتنابها، وأنه يستدل بها على وجود الصانع، وكمال قدرته وحكمته و [في] كل ذلك إباحة تناولها.
أما في الأول: فظاهر.
وأما في الثاني: فلأنه إنما يستحق الثواب باجتنابها، إذا مالت النفس إليها والميلان يتوقف على الإدراك وهو بالتناول فإذا كان الإيقاع بجهة استحقاق الثواب مطلوبًا، وهو موقوف على الإدراك الموقوف على التناول كان التناول مطلوبًا، لأن لازم المطلوب مطلوب.
وأما في الثالث: فكذلك، لأن الاستدلال بهما يتوقف على معرفتها الموقوفة على تناولها، إذ لا طريق لنا إلى معرفة الطعوم إلا بحاسة الذوق، فإذا كان الاستدلال بها مقصودًا كان تناولها أيضًا مقصودًا، لما سبق وإذا ثبت بما ذكرنا الإذن في التناول وجب أن يثبت ذلك في الترك أيضًا، إذ لم يقل أحد من الأمة بوجوب التناول.
فإن قلت: لا يلزم من نفي الوجوب الإذن في الترك، بل يلزم منه نفي الحرج عن الترك، وهو لا يستلزم الإذن فيه، إذ هو حاصل عندنا في أفعال العقلاء وتروكهم قبل الشرع مع عدم الإباحة.
قلت: لما ثبت بما ذكرنا الإذن في الانتفاع، وجب أن يثبت ذلك في جانب الترك لعدم القائل بالفصل.
وثانيها: أن الانتفاع بما لا يقضي العقل فيه بالقبح، لعدم أمارة موجبة له انتفاع خال عن أمارات المفسدة ولا مضرة فيه على المالك "فوجب أن يكون مباحًا إما أنه انتفاع خال عن أمارات المفسدة فظاهر، إذ الكلام مفروض فيه وإما أنه لا مضرة فيه على المالك"، [فلأن] المالك هو الله تعالى والضرر عليه محال، وإما أنه متى كان كذلك وجب أن يكون مباحًا، فبالقياس على الاستظلال بحائط الغير، والنظر في مرآته، والاستضاءة بضوء سراجه، والتقاط ما تناثر من حبات زرعه، وفتات خبزه، والجامع هو ما ذكرنا من الوصف المناسب.
فإن قلت: لا نسلم أنه خالٍ عن أمارات المفسدة قوله: إن الكلام مفروض فيه.
قلنا: هو فرض محال، وهذا لأنه لا سبيل إلى العلم بعدم الأمارة حتى يمكن الجزم بأنه خال عنها، بل غايته عدم العلم بها، لكن قد عرفت أنه لا يدل على العدم.
"نعم قد يحصل العلم بها لكن قد عرفت أنه لا يدل على العدم".
نعم قد يحصل العلم بعدم الأمارة الظاهرة، لكنه غير العلم بعدمها مطلقًا، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يقبح الشيء لاحتمال قيام أمارة خفية به؟.
سلمنا ذلك. فلم لا يجوز أن يكفي في قبح الشيء احتمال مفسدة فيه؟ وإن كان خاليًا عن جميع / (119/أ) الأمارات.
قلت: الدليل على أنه خال عن أمارات المفسدة، هو ما ذكرنا.
قوله: إنه فرض محال.
قلنا: لا نسلم لأنا نعني بقولنا: إنه خال عن أمارات المفسدة إلا خلوه عن الأمارات الظاهرة التي بسببها يحكم على الشيء بالقبح، دون الأمارات الخفية أو مجرد احتمال المفسدة فيه الخالية عن الأمارة، إذ لا عبرة بهما في القبح ألا ترى أن العقلاء لا يلومون على اشتراء سلعة بربح ظاهر مع أنها ربما تكون مشتملة على أمارة خفية للخسارة أو بمجرد احتمال الخسارة، وكذلك لا يلزمون على أكل طعام شهي مع احتمال كونه مسمومًا أو مشتملاً على إفادة خفية لكونه كذلك، ولأنه لو اعتبر في الحكم بكون الشيء حسنًا أن يكون خاليًا عن جميع] الأمارات المفسدة خفية كانت أو ظاهرة، أو كونه خاليًا عن احتمال المفسدة لوجب أن لا يقطع بحسن شيء أصلاً لما تقدم غير مرة وهو باطل وفاقًا، ولأنه لو قبح الإقدام على الشيء بمجرد احتمال كونه مفسدة، لصح الإحجام عنه بمجرد احتمال كونه مفسدة، ويلزم منه عدم جواز الانفكاك عن الإقدام والإحجام معًا، وهو تكليف ما لا يطاق.
فثبت بما ذكرنا أنه لا عبرة في الحكم بالقبح للأمارة الخفية ولا بمجرد احتمال المفسدة، بل المعتبر فيها، هو الأمارة الظاهرة وقد سلمتم أن العلم بخلو الشيء عنها ممكن فلا يكون ما فرضناه من أنه انتفاع خال عن أمارات المفسدة فرض محال، إذ المراد منها الأمارات الظاهرة.
وثالثها: أن الإباحة فيما نحن فيه تجري مجرى التمكين واللطف، وهو واجب فالإباحة واجبة.
بيانه: أن خلق الله في الفواكه والأطعمة الألوان البهية المرعية، والطعوم الشهية المشوقة، مع اقتدار المكلف على تناوله وخلق الداعية فيه له مع علمه بأنه تعال: لا يتضرر بذلك ولا يبخل بها عنه لتنزهه عن التضرر، والبخل يجري مجرى تقديم الطعام الشهي ممن هو مستغن عنه إلى الضعيف الفقير المحتاج إليه وتمكين هذا الضعيف من تناوله واجب عرفا بدليل أنه يقبح منه المنع عن تناوله عرفا وكذا يقبح منه سائر أسباب ما يمنعه من تناوله، وإذا قبح ذلك عرفًا وجب أن يقبح عنده.
يقال أيضًا لقوله عليه الصلاة: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح".
وبقياس الغائب على الشاهد، وإذا كان عنده قبيح وجب أن لا يفعله لأنه تعال: ليس بفاعل القبيح وفاقا، وإذا قبح المنع لزم الإذن ضرورة أنه لا
خروج عن النقيضين.
وأما القائلون بالحظر: فقد احتجوا: بأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه فوجب أن يقبح، كما في الشاهد.
واعترض عليه: بأنه إنما لا يجوز ذلك لكون العبد يتضرر بذلك، والله تعالى منزه عنه.
وأجيب عنه: بأنه لو كان عدم جواز التصرف في ملك العبد لتضرر، لوجب أن لا يجوز وإن أذن، إذا كان متضررًا لوجود العلة.
وهو ضعيف لاحتمال أن يقال: عدم الإذن شرط لكون التضرر علة القبح التصرف، وهذا التضعيف إنما يتأتي إذ جوزنا تخصيص العلة.
وأجيب: عنه أيضًا بأن قبح التصرف في ملك الغير لو كان لما ذكرتم، لوجب أن يجوز من التصرفات في ملك الغير ما لا ضرر فيه عليه، كدخول داره بحضوره للتفرج، لكنه باطل وفاقا.
وهو أيضًا ضعيف، لاحتمال أن يقال: إن الحكم مرتب على مظنة الضرر لا على نفسه، ثم أن هذه المظنة منفية بالنسبة / (119/ب) إلى الله تعالى.
واحتج الفريقان على فساد قولنا: وهو أنه لا حكم "بأنه حكم" بعدم الحكم، وأنه حكم مخصوص والجمع بين إثبات حكم مخصوص ونفيه مطلقًا متناقض.
واحتجوا أيضًا: على فساد قول: من قال: بالوقف بمعني: لا ندري بأن التصرف إن كان ممنوعًا عنه فهو: الحظر، وإلا فهو: الإباحة، ولا وسطه بين النفي والإثبات، فكان أحدهما معلومًا لا بعينه فالقول: بأنا لا نعلم. هل هناك حكم أم لا؟. وبتقدير أن يكون فإنا لا نعلم أنه أي حكم هو باطل.
واحتج من قال بالإباحة بعد ورود الشرع، ولكن بطريق التبيين: بقوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا} {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض} واللام للاختصاص بجهة الانتفاع.
وبقوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} . أنكر تحريم الزينة والطيبات من الرزق، فوجب أن لا يثبت ويلزم من انتفاعه الإباحة، ولأن الله تعالى خلقنا للعبادة، لقوله تعالى:{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ، ولا يمكن الإتيان بها إلا ببدن صحيح قوى، لكن بقاءه على الصحة والقوة مفتقر إلى الانتفاع بالملابس والمطاعم، والمشارب بما هو أزيد من القدر الضروري، إذ الاقتصار عليه دائمًا يؤدي إلى اختلال أحوال البدن، وحينئذ يختل أمر العبادة ولازم المطلوب مطلوب فالبقاء على وجه الصحة والقوة مطلوب، فيكون الانتفاع مطلوبًا فيكون مباحًا.
ولا يخفى عليك أن هذا الدليل غير آت في الاستدلال على الإباحة قبل الشرع.
الجواب عن الأول: إنا لا نسلم أنه خلق الطعوم فيها مع إمكان أن لا يخلقها وهذا فإن كثيرًا من الأشاعرة، والمعتزلة قالوا: باستحالة خلوها عن الأعراض التي هي قابلة لها.
سلمنا: إمكان خلوها عنها فلم قلتم: إنه لابد أن يكون الخلق لغرض؟
قوله: لو لم يكن لغرض لكان عيبًا ممنوعًا، وهذا لأن العيب عندنا عبارة عن فعل يفضي إلى ضد ما يفعل ذلك الفعل لأجله، ومعلوم أنه غير لازم بما ذكرتم.
سلمنا: أن العيب عبارة عن الفعل الخالي عن الغرض. فلم قلتم: إن العيب بهذا المعني على الله محال؟ وهذا لأن أفعال الله تعالى عندنا غير معللة بالحكم والمصالح.
ولا يمكن الاستدلال: بالتحسين والتقبيح على بطلانه، لأنه مضى إبطاله. وهب أنا إنما نتكلم في هاتين المسألتين بناء على أنه ما بطل، فيمكننا أن نستدل به على الخصم بطريق الإلزام لكن نحن لا نقول به: حتى يستدل به علينا ولا بأنه لو كان فعله لغير غرض لصدق عليه بأنه غائب، وأنه باطل بإجماع الأمة، لأن أسامي الله تعالى / (120/أ) عندنا توقيفيه، وبتقدير كونها قياسية فإنما يجوز إطلاق ما لا يوهم الباطل والنقص، واسم الغائب ليس كذلك.
سلمنا: فساد هذا القسم، فلم لا يجوز أن يكون الغرض غير ما ذكرتم؟ وأما الدليل على انحصار الغرض فيما ذكرتم من الأقسام لابد لهذا من دليل
سلمنا: الحصر لكن لا يحصل منه المطلوب، وهو إباحة التناول قبل الشرع وبيانه لوجهين:
أحدهما: أنه يجوز أن يكون الغرض أحد ما ذكرتم من الأقسام، لكن بعد ورود الشرع، فعلى هذا التقدير لا يلزم منه إباحة التناول قبل الشرع.
وثانيهما: أن الغرض إذا كان هو الاستدلال أو استحقاق الثواب بسبب
الاجتناب فقد يحصل ذلك بمعرفة تلك الطعوم في حالة غير التكليف، فلا تكون الإباحة لازمة لهما لأنه لا يسمى فعل غير المكلف مباحًا على ما عرفته من قبل.
سلمنا: صحة دليلكم لكنه معارض بما يدل على عدم الإباحة، وهو أنه ما من فعل من هذا القسم الذي نحن فيه غلا ويجوز أن يرد الشرع بتحريمه، وذلك يدل على عدم إباحته، إذ لا يجوز أن يرد الشرع على خلاف ما يقتضيه العقل، كما لا يجوز أن يرد الشرع بتحريم الإحسان والإنصاف وإباحة الكذب والظلم.
وعن الثاني: أنا لا نسلم أن الحكم في الأصل عقلي، بل هو شرعي فالعلة المستنبطة منه شرعية، فإثبات الحكم بها إثبات بطريق شرعي فلا يمكن إثباته قبله بل بعده ولا نزاع فيه.
سلمنا: أن الحكم عقلي، لكن لا نسلم أن العلة هي ما ذكرتم من الأوصاف ولا يمكن إثبات عليتها بالدوران وبالمناسبة أو غيرهما من الطرق الدالة على كون الوصف علة، لأن تلك الطرق لا تفيد إلا الظن فلا يجوز الاستدلال بها في المسألة العلمية وأيضًا فإنا إنما نجوز التمسك بتك الطرق المفيدة للظن بعد ورود الأمر بالتعبد بالقياس، وقبل ورود الشرع لا يعلم هل نحن
متعبدون بالقياس المظنون أم لا؟
فبتقدير أن لا نكون متعبدين به لا يجوز التمسك بها والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط.
سلمنا: عليتها في الشاهد فلم يكن علة في الغائب، فإن أثبت ذلك بطريق قياس الغائب على الشاهد فقد عرفت ضعفه.
سلمنا: صحته لكن الفرق بين الأصل والفرع قائم، وبيانه من حيث الإجمال وهو أنه يقبح من العبد المنع من الاستظلال بحائطه والنظر في مرآته، والاستضاءة بضوء سراجه، ولو منع لا يثبت به التحريم أيضًا، بخلاف الغائب فإنه لا يقبح من الله تعالى ذلك ولو منع لثبتت الحرمة به وفاقا. والافتراق في الحكم دليل على الافتراق في العلة / (120/ب) والمناط، وبهذين الوجهين الأخيرين خرج الجواب عن الثالث أيضًا.
وأيضًا قوله: إذا قبح المنع ثبت الإذن. ممنوع، وهذا لأن الإذن ليس نقيضه بل ضده، بل اللازم عند ارتفاعه رفع الحرج عن الفعل، وهو ليس بإذن في الفعل على ما تقدم ذكره، والحديث الذي تمسك به فلا نسلم أن معناه أن المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح بالنسبة إليه، حتى يقال: إنه تعالى ليس بفاعل القبيح باعتبار العدول، فإن صدق هذه القضية عندنا باعتبار السلب لا باعتبار العدول، بل معناه أنه قبيح عنده بالنسبة إليهم وحينئذ لا يحسن الاستدلال به في إثبات القبح بالنسبة إليه.
لا يقال: الدليل عليه هو أن الحديث دل على أن ذلك الشيء قبيح عنده، وهو أعم من أن يكون كذلك بالنسبة إليه أو بالنسبة إليهم، فهو كالعام بالنسبة إليهما فيتناولهما وإلا لزم التخصيص أو التقييد، وأنه خلاف الأصل.
لأنا نقول: الدليل الدال على أن التحسين والتقبيح لا يتطرقان إلى أفعاله تعالى يخصصه أو يقيده، وأيضًا فإن الإطلاق والعموم دليل ضعيف، بدليل أنه يترك مقتضاهما بأدنى قرينة فلا يجوز إثبات التحسين والتقبيح به.
وعن حجة أصحاب الحظر: إنا لا نسلم أن الإذن غير معلوم ولم لا يجوز أن يكون معلومًا؟ بدليل العقل، كما ذكره أصحاب الإباحة ولا يمكنه أن يجيب عنه بما أجبنا، لأنه يقول: بالتحسين والتقبيح.
"سلمنا عدم الإذن" لكنه إثبات بطريق إلحاق الغائب بالشاهد وقد مر أنه ضعيف.
وعن حجة الفريقين: على فساد قولنا: إنه لا تناقض بين نفي الأحكام الخمسة وإثبات حكم آخر وراءهما، فإنا نعني بقولنا: لا حكم نفي الأحكام الخمسة الشرعية: لا نفي مطلق الحكم.
وأما مذهب الوقف: بمعني عدم العلم بالأحكام أو بعدمها "لا بمعني العلم بعدمها" فهو أيضًا باطل لا بما قالوه: فإنه لا يلزم من نفي الحرج
عن الفعل إباحته على ما عرفت ذلك من قبل، بل بما تقدم من أن الحكم إنما يثبت بالخطاب ولا خطاب قبل الشرع، فيجب الجزم بعدم الحكم.
وبهذا أيضًا نعرف فساد مذهب من قال بالإباحة على طريق التبيين.
وأما ما تمسكوا به من النصوص فهي وإن دلت على أن الله تعالى خلق ما في الأرض جميعًا، لكن لا يلزم منه الإذن في الانتفاع بمجرده، فإن الخلق للمكلف ليس عين الإذن له بجهة الانتفاع ولا لازم له، بدليل أن من بني دارًا لغيره وهيأها له ويقول له ذلك، فإنه لا يملك بمجرد الانتفاع بها، بل يتوقف بعده الإذن ولو كان الإذن لازمًا لما / (121/أ) احتيج إليه بعد ذلك القول، ولأنه يصح أن يقول: بنيت لك هذه الدار وهيأتها لك، لكن لا تنتفع بها حتى آذن لك، ولو كان الإذن لازمًا له لما صح هذا.
سلمنا: دلالته على الإذن، لكن من حين القول: أو من حين الخلق بطريق التبين.
والأول: مسلم.
والثاني: ممنوع.
وهذا فإن مجرد القصد غير منح، لأنه لا يحصل [به] الإعلام فلا يكون مباحًا من حين الخلق.
وبه خرج الجواب عن الوجه المعقول أيضًا، إذ لا يلزم من خلقنا للعبادة
وجوب العبادة علينا وطلبها منا بل يتوقف بعده على الطلب والإيجاب، وعلى هذا التقدير لا نعلم أن قبل الإيجاب هل بقاؤنا مطلوب للشارع أم لا؟. فلا يكون مجرد خلقنا للعبادة دالاً على الانتفاع بما هو من أسباب البقاء ما لم يوجب للعبادة، فإذا أوجب ذلك فربما دل عليه لو لم يجز تكليف ما لا يطاق.
[حكم تعلم أصول الفقه]
ولنختم هذا النوع: ببيان أن تعلم أصول الفقه من فروض الكفايات، فإنه من مبادئ هذا العلم فيناسب ختمه به.
فنقول: الدليل عليه أن الحادثة إذا نزلت بالمكلف، فإما أن يكون مأمورًا عنده [بشيء أو لا يكون، بل حاله عنده] كحاله قبله.
وهذا الثاني: باطل بإجماع الأمة لاقتضائه عدم التكليف، فيتعين الأول: وهو إما معرفة حكم الله فيها وما يتعلق به من العمل "أو غيره" الثاني باطل وفاقا، فيتعين الأول: وهو إما معرفة ذلك الحكم بالبناء على طريق أولا بالبناء عليه، بل بمجرد التشهي والاختيار، وهذا الثاني: باطل بإجماع الأمة. على أن المكلف غير مخير بين النفي والإثبات في الوقائع النازلة به، بل هو مأمور بأن يبني حكم الحادثة على الاجتهاد إن كان عالمًا، أو على الاستفتاء إن كان عاميًا، والطرق الموصلة إلى معرفة الأحكام هي أصول الفقه، وقد ثبت أن معرفتها بناء على طريق واجبه، وقد ثبت توقف معرفتها على معرفة أصول الفقه، فيجب معرفة أصول الفقه لما ثبت أن ما يتوقف عليه الواجب المطلق وكان مقدورًا للمكلف فهو واجب، ثم أنه غير واجب على العين لإجماع الأمة على جواز الاستفتاء للعامي فهو إذن على الكفاية.