الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس عشر
في التعارض الحاصل بين أحوال اللفظ
الفصل السادس عشر
في التعارض الحاصل بين أحوال اللفظ
وأعلم أن الخلل في فهم مراد المتكلم، إنما يقع/ (68/ب) بناء على خمس احتمالات: وهي: الاشتراك، والنقل، والإضمار، والمجاز، والتخصيص.
والدليل عليه: أنه إذا انتفى احتمال الاشتراك، والنقل، كان اللفظ حقيقة في معنى واحد، وإذا انتفى احتمال الإضمار، كان المراد مدلول اللفظ، وإذا انتفى احتمال المجاز، كان المراد منه مدلوله الحقيقي، وإذا انتفى احتمال التخصيص، كان المراد منه جميع ما وضع له بطريق الحقيقة، وحينئذ لم يبق خلل في الفهم ألبتة.
فإن قلت: ترك احتمال الاقتضاء، ومنه ينشأ الخلل في فهم مراد المتكلم أيضا، فإن قوله عليه السلام:"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، لما علم أن واحد منها غير مرفوع، لوقوعه من
الأمة، فلابد، وان يكون مراده عليه السلام شيئا آخر لئلا يلزم كذبه، وهو غير معلوم من ظاهر الكلام، فقد نشأ الخلل في فهم مراد
المتكلم من غير الاحتمالات الخمسة.
قلت: أما من قال من الأصوليين، كالشيخ أبي زيد الدبوسي ومن.
تابعه: أن الاقتضاء ليس مغايرا للإضمار، لأن كل واحد منهما عبارة عن إسقاط شيء من الكلام، لا يتم الكلام بدونه، نظرا إلى العقل أو الشرع أو إليهما، لا نظرا إلى اللفظ، إذ اللفظ صحيح فيهما، فهذا السؤال ساقط عنه.
وأما من زعم أنه مغاير للإضمار فالسؤال متوجه إليه. لكن الجواب عنه يستدعى تقديم بيان وجه التغاير فيهما وقد ذكروا فيه وجوها:
أحدها: ما أشعر به كلام الإمام، أن الاقتضاء إثبات شرط يتوقف عليه وجود المذكور، ولا يتوقف عليه صحة اللفظ، كقول القائل: اصعد السطح فإنه يقتضى نصب السلم، وهو أمر يتوقف عليه وجود الصعود، ولا يتوقف عليه صحة اللفظ، بخلاف الإضمار، فإنه إثبات أمر يتوقف عليه صحة اللفظ.
وهو ضعيف، إذ إضمار الأهل، في قوله تعالى:{واسأل القرية} ليس مما يتوقف عليه صحة اللفظ أيضا، ألا ترى أن العقل لو لم يدل على امتناع صدور الجواب من القرية نظرا إلى العادة، لما احتجنا إلى هذا الإضمار، ولهذا قالت الظاهرية المنكرون للمجاز في القرآن: لا حاجة إلى هذا الإضمار، لأن الله تعالى قادر على إنطاق القرية بالجواب، والزمن زمن
خرق العادة، لأنه زمن النبوة، ولو كان ذلك مما يتوقف عليه صحة اللفظ لما كان كذلك.
فإن قلت: لما لا يجوز أن يكون السؤال في اللغة موضوعا بإزاء استدعاء الجواب من القادر؟ فعلى هذا يكون إضمار الأهل، وما يجرى مجراه في كونه قادرا على الجواب، مما يتوقف عليه/ (69/أ) صحة اللفظ.
قلت: هذا باطل.
أما أولا: فلأن الإمام، والدليل يساعدان على أن أمثلة الأفعال لا دلالة لها على خصوصية المؤثر، ولو كان السؤال موضوعا لما ذكرتم، لكان للأفعال المشتقة منه دلالة عليه أيضا.
ولئن سلم ذلك فغاية ما يلزم من هذا أن إضمار الأهل، وما يجرى مجراه من مقتضيات اللفظ، نظرا إلى الوضع الحقيقي وليس اللفظ إذا استعمل في غير ما وضع له لا يكون صحيحا، فإن المجاز صحيح من الكلام.
أما ثانيا: فلأن قوله تعالى {واسأل القرية} يكون مجازا بسبب النقل حينئذ لا بسبب النقصان.
وثانيها: ما أشعر به كلام بعضهم: وهو أن في صورة الإضمار يتغير إسناد اللفظ عند التصريح بالمضمر، وفي صورة الاقتضاء ليس كذلك بل يبقى الإسناد على حاله ألا ترى أن السؤال في قوله تعالى {واسأل القرية} مسند إلى القرية في الدلالة الذكر وعند التصريح بالأهل يتغير ذلك الإسناد، ويصير السؤال مسندا إلى الأهل، بخلاف قولك:"اصعد السطح"
فإن عند التصريح بنصب السلم، الذي هو مقتضاه، لا يتغير الإسناد، بل هو مسند إليه، كما هو عند عدمه.
وهو أيضا ضعيف، لأنه منقوض بقوله عليه السلام:"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" الحديث، لأن الرفع في الذكر مسند إلى الخطأ فإذا أضمر الإثم أو الحكم يتغير ذلك الإسناد. وقد اتفق الأصوليون على أنه من باب الاقتضاء.
وثالثها: هو ما ذكره بعض الحنفية أن المضمر كالمذكور لفظا، ولهذا له عموم، ألا ترى أن الرجل لو قال لامرأته: طلقي نفسك ونوى ثلاثا صحة نيته إذ المصدر مضمر فيه فكأنه قال: طلقي نفسك طلاقا، وأما المقتضى فليس هو كالمذكور لفظا، ولهذا ليس عموم ألا ترى أن الرجل لو قال:"إن أكلت فأنت طالق" ونوى مأكولا معينا لم تصح نيته، لأن تقدير المأكول على وجه الاقتضاء والمقتضى لا عموم له، وكذلك قوله عليه السلام:"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" الحديث، فإن ظاهره يقتضى رفع الخطأ عنهم، وهو غير مرفوع لوقوعه منهم، فلابد من تقدير شيء آخر، من الإثم أو الأحكام الدنياوية، أو الأخراوية، صونا للكلام عن الكذب، لكن لا يقدر الكلم، لأن ذلك على وجه الاقتضاء، والمقتضى لا عموم له. وهو أيضا غير سديد.
أما أولا: فلأنا، لا نسلم أن المصدر مضمر في تلك المسألة، وهذا لأن الإضمار على خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلا لضرورة، ولا ضرورة إلى
/ (69/ب) إضمار المصدر فيها، إذ الكلام تام بدونه، كما هو في قوله:"أنت طالق". ولهذا لو نوى الثلاث فيه، لم يصح عنده.
ولئن سلمنا: كون المصدر مضمرا فيه، لكن لا نسلم أن صحة نية الثلاث في تلك المسألة، إنما كانت بناء عليه، وهذا لأنه يصح بنيته أيضا عندنا في قوله:"أنت طالق" مع عدم إضمار المصدر فيه.
سلمنا ذلك: لكن لا نسلم أن ذلك يدل على أن للمضمر عموما، وهذا لأن النية كما تؤثر في تخصيص العام، فكذا تؤثر في تقييد المطلق، وإذا كان كذلك، فجاز أن يكون صحة نية الثلاث، إنما كانت بناء على أنه من باب تقييد المطلق، لا أنه من باب تخصيص العام، بل هذا أولى، لأن المصدر لو كان مذكورا بصراحته لم يكن له عموم، على ما عرف أن المصدر لا عموم له، فكيف يكون للمضمر منه عموم؟.
سلمنا ذلك: لكنه مثال واحد، فلا تثبت به القاعدة الكلية.
سلمنا ذلك: لكنه منقوض بقوله تعالى: {واسأل القرية} فإن مضمره وهو الأهل، ليس له عموم، ولهذا لم يكن السؤال واجبا عن جميع أهل القرية لورود الأمر به عن الشارع، لا يعلم أن المقصود حاصل بسؤال واحد منهم؟
سلمنا: سلامته "عن" النقض، لكن لا نسلم أن المقتضى لا عموم له حينئذ، وهذا لأنا إنما لا نقول بعموم المقتضى، لأن ما يثبت بالضرورة، فإنه يتقدر بقدرها، والضرورة تندفع بتقدير أي واحد منه، فلا يجوز إضمار الكل وهذا المعنى بعينه موجود في الإضمار، فإذا جاز معه إضمار الكل،
فلا نسلم أنه لا يجوز حينئذ مثله في صورة الاقتضاء، وهذا لأن العلة حينئذ تكون منقوضة فلا عبرة بها.
سلمنا ذلك: لكنه فرق إجمالي تتوقف معرفته على معرفة وجه المحذوف، أعنى كونه محذوفا "على وجه الإضمار"، أو على وجه الاقتضاء. فمعرفة وجه المحذوف دور.
وإذا عرف ما في هذه الفروق من الضعف.
فلنذكر ما هو الصحيح من الفرق، فنقول: إن بينهما فرقا من حيث المعنى، ومن حيث اللفظ.
أما من حيث المعنى: فهو أن المقتضى أعم من المضمر، وذلك لأن المقتضى قد يكون مشعورا به للمتكلم، وقد لا يكون كذلك، وأما المضمر فلا يكون إلا مشعورا به له، وهذا لأن المضمر اسم المفعول من أضمره المتكلم، إذ من المعلوم أن الكلام لا يضمر فيستحيل أن لا يكون مشعورا به له.
وأما المقتضى فهو اسم المفعول من اقتضاء الكلام، ولا غرو في أن يكون الكلام مقتضيا لشيء ولا يكون مشعورا به للمتكلم، فعلى هذا كل مضمر مقتض من غير عكس.
وأما من حيث/ (70/أ) اللفظ فمن وجهين:
احدهما: أن الإضمار إنما يستعمل حيث بمعرفته كل واحد من أهل اللسان من غير رؤية وفكر، كما في قوله تعالى:{واسأل القرية} ، وهذا لان الإضمار عبارة عن إسقاط شيء من الكلام يدل عليه الباقي، وإن كانت تلك الدلالة بواسطة العقل لا من حيث صحة اللفظ،
كما سبق، لكنه في بادئ النظر حتى لو لم يكن في الكلام الباقي بعد الإسقاط ما يدل عليه لم يصح الإضمار، ولهذا لا يصح أن يقول:"واسأل زيدا" يريد غلامه، أو أباه، بطريق الإضمار، بخلاف الاقتضاء، فإنه قد يحتاج فيه إلى إمعان النظر والاستعانة فيه بعلوم أخر، غير معرفة اللغة، ولهذا لا يعرف كل واحد من أهل اللسان إن في قوله عليه السلام:"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" اقتضاء، ما لم يعرف عصمته عليه السلام عن الكذب سهوا وعما، وذلك يحتاج فيه إلى نظر وفكر.
وثانيهما: أن في صورة الإضمار يتغير إسناد اللفظ لا محالة عند تصريح المضمر، وصورة الاقتضاء قد تكون ذلك، كما سبق في الحديث، وقد لا تكون كذلك، كما في "اصعد السطح"، فإن عند تصريح نصب السلم لا يتغير إسناد الصعود، وكذلك في "اعتق عبدك عني بألف"، فإنه يقتضى إثبات الملك له أولا، وعند التصريح به لا يتغير إسناد العتق إليه، بل هو على حاله.
وإذا اتضح ما ذكرنا من وجه المغايرة.
فنقول: قد حصل لك منه أن المقتضى، إنما يمتاز عن المضمر بأمر عارض معنوي، ولفظي وهو أنه يجوز أن يكون مغفولا عنه، وأن لا يكون مغيرا للإسناد لا بالذات والماهية، فإنهما متحدان في أن مقصود الكلام لا يتم بدونهما، والخلل في فهم مراد المتكلم، إنما ينشأ من هذا الوجه، لا من الوجه العارضي، وإذا كان كذلك، كان الخلل الناشئ من احتمال الاقتضاء [مثل الخلل الناشئ من احتمال الإضمار، وكان ذكره مغنياً عن ذكره،