الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
الفصل الأول"
في الوجوب
وفيه مسائل:
المسألة الأولى
في حد الواجب
قد عرفت من التقسيم السابق ماهية الوجوب وحقيقته، لأنك عرفت منه كمال المشترك بينه وبين غيره من الأحكام وهو الجنس، وكمال المميز وهو الفصل، والماهية لا تتركب إلا عنهما، وعند ذلك يسهل عليك تحديد الواجب، لكن مع ذلك نذكر ما قيل فيه من الحدود ليعرف الصحيح منها والفاسد، ووجه الفساد في الفاسد.
فالأول: هو ما قيل: الواجب ما يعاقب تاركه.
واعترض عليه بوجهين:
أحدهما: بأنه غير مانع، لأنه يتناول "المندوب" و "المباح"، إذ يعاقب تاركه/ (76/أ) إذا فعل ما يوجبه، فحينئذ يدخل فيه ما ليس
منه، ولو زيد فيه: على تركه. اندفع هذا. لا يقال: لا حاجة إلى هذه الزيادة، لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، فيفيدنا ذلك أنه إنما يعاقب على تركه لا على شيء آخر.
لأنا نقول: هب أن الأمر كما ذكرتم، لكن ذلك مستفاد بطريق القياس لا من اللفظ، وإنما اللفظ يومئ إلى علية الوصف لا إلى ثبوت الحكم، وبتقدير أن يكون كذلك لكن ذلك بطريق الالتزام. ويحترز في التعريفات: عن دلالة الالتزام.
الثاني: أنه يقتضي ألا يكون الفعل واجبا عندما لا يتحقق العقاب على تركه لوجوب انعكاس الحد، لكنه باطل إجماعا.
أما عندنا فلجواز العفو وسقوطه بالتوبة.
وأما عند المعتزلة فلسقوطه بالتوبة الخاصة.
فقيل: فرارا عن هذا الإشكال هو: ما يتوعد بالعقاب على تركه.
"لأنه وإن لم يتحقق العقاب على تركه" لسقوطه، إما بالعفو، أو
بالتوبة، لكنه قد توعد عليه.
وهو باطل أيضا، لأن التوعد بالعقاب يستدعي تحققه، وإلا لزم الخلف في خبره تعالى وهو محال، وحينئذ يلزم أن لا يجوز العفو من الله تعالى.
لا يقال: لا نزاع في ورود التوعد بالعقاب على الفعل والترك في القرآن والأحاديث، مثل قوله تعالى:{ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها} مع أنكم تجوزون العفو فيه، فما يكون جوابكم ثمة فهو جوابنا هنا.
لأنا نقول: يجوز أن يذكر الألفاظ العامة والمطلقة في الإخبارات والإنشاءات، ويراد منها المخصوص والمقيد، وإن لم يذكر معها ما يخصها ويقيدها بل بعدها، ولا يجوز مثله في التعريفات.
نعم لو زيد في الأول: وقيل هو: ما يعاقب تاركه على تركه إن لم يوجد العفو والتوبة وسائر المكفرات.
اندفع الاعتراضان المذكوران، لأن هذه الحيثية باقية، وإن لم يوجد العقاب للعفو أو للتوبة، لكنه تطويل من غير فائدة أو غيره أوجز منه.
وأسد مما قيل: فرارا عن هذا الإشكال، هو: ما يخاف العقاب على تركه.
وهو غير مانع، لأن الذي يشك في وجوبه يخاف على تركه، مع أنه غير واجب، وحينئذ يدخل فيه ما ليس منه.
وقيل هو: "ما يستحق تاركه العقاب على تركه".
وهو باطل أيضا، إذ الاستحقاق يستدعي مستحقا عليه، وليس هو الله تعالى على ما ثبت في علم الكلام، أنه لا يستحق "عليه"/ (76/ب) شيء ولا أحد من المخلوقين بالإجماع.
نعم لو أريد بالاستحقاق، أنه لو عوقب على ذلك لحسن ذلك، بالنسبة إلى مقاصد الشرع، فهذا سائغ لكنه خلاف ظاهر اللفظ.
وقال القاضي أبو بكر: وارتضاه جمهور الأصحاب، الواجب: ما يذم تاركه شرعا على بعض الوجوه.
أما الذم: فهو قول، أو فعل، أو ترك قول، أو ترك فعل، ينبئ عن اتضاع حال الغير، وتارك الوجب وإن عفا عنه فالذم والتوبيخ من الشارع غير منفك عنه، إذ أقله أن يسميه عاصبا وهو اسم ذم وفاقا، ولأنا نعلم منه أنه لم يكرمه مثل إكرام الآتي به، وإن عفا عنه إذ سلب عنه منصب العدالة، وهي شرط قبول الشهادة، ولا شك أن عدم قبول الشهادة، وما يجري مجراها ذم منه.
وبهذا يعرف اندفاع ما اعترض به على هذا، وهو أنه لابد وأن يكون لهذا الذم فاعل، لكن ذلك غير معقول، إذ لا يجوز أن يكون فاعله هو الشرع، لأنه ليس حيا ناطقا، ولا أهله لاستحالة الدور، ولا الشارع، لأنه لم ينص على لوم كل تارك للواجب، ولا على ترك كل صنف من أصناف الواجبات.
وقولنا: شرعا. يحترز به عما يذم تاركه عقلا، أما على مذهبنا: فعلى الإطلاق، وأما على رأي المعتزلة لو قالوا به: فعبن ما يذم تاركه عقلا، لا بالنسبة إلى أنه مطلوب الشرع، بل إما لفوات مصلحة، أو جلب مضرة دنياوية.
وقولنا: "على بعض الوجوه" إنما ذكرناه. ليدخل فيه "الواجب الموسع" و "المخير" و "الفرض على الكفاية". لأنه وإن كان لا يذم تارك الصلاة في أول الوقت مع اتصافها بالوجوب فيه، لكن لو تركها في جميع الوقت، أو في أوله ولم يعزم على فعله فيما بعده لا يستحق الذم، على رأي من يجعل العزم بدلا عنه.
وكذا القول في "الواجب المخير"، فإنه لو ترك كل الخصال استحق الذم، وإن كان لا يستحق ذلك على ترك بعضها إذا فعل البعض الآخر.
وكذا القول في الفرض الكفاية، فإنه لو تركه البعض، وقام به البعض لا يذم تاركه، أما لو تركه الجميع حرجوا جميعا.
لا يقال: الحد غير مانع فإن السنة تدخل فيه، لأن تارك السنة قد يذم ألا ترى أنه لو اتفق أهل بلدة على ترك الأذان- مثلا- لقوتلوا.