الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثامنة
في بيان جهات التجوز في المفرد
قد عرفت مما سبق في حد المجاز أن العلاقة لابد منها فيه.
فنقول: العلاقة التي هي شرط المجاز، ليست هي عبارة عن مجرد الاشتراك في أمر من الأمور التي هي موجودة في الحقيقة، وإلا لجاز إطلاق اسم كل شيء على كل ما عداه لأنه ما من شيء إلا ويشارك كل ما عداه في أمر من الأمور، بل لابد من المناسبة والمشاركة في أمر خاص ظاهر.
إذا عرفت هذا، فلنذكر ما يحضرنا منها، وقبل الخوض في التعداد لابد من التنبيه على شيء. وهو: إنا إذا / (52/ب) أوردنا مثالا بجهة من جهات التجوز لا يشترط فيه أن لا يكون مشتملا على جهة أخرى، بل يجوز أن يكون فيه جهتان وثلاثة، فلا يفهم من قولنا: مثال الجهة الفلانية كذا الاختصاص بتلك الجهة، بل شرطه أن يكون مشتملا على تلك الجهة، مع قطع النظر عن غيرها من الجهات، فإن كان فيه جهة أخرى فإنما لم ينبه عليها لأنا نذكر لها مثالا آخر.
الجهة الأولى: من جهات التجوز، إطلاق اسم العلة على المعلول سواء كانت العلة "فاعلية" أو "قابلية" أو "صورية" أو
"غائبة".
مثال الأول: إذا كانت حقيقية إطلاق اسم الفاعل وإرادة المفعول كقوله تعالى: {عيشة راضية} أي: مرضية، ومثاله إذا كانت ظنية كتسميتهم "المطر بالسماء".
مثال الثاني: كقولهم: "سال الوادي"، و "جرى الميزاب" و "النهر"
مثال الثالث: كتسميتهم القدرة باليد، والعقل، والفهم، بالقلب.
مثال الرابع: كتسميتهم العنب بالخمر، والعقد بالنكاح.
وثانيها: إطلاق اسم المعلول على العلة، كتسميتهم المرض الشديد، والمحنة العظيمة بالموت، ومنه قوله تعالى:{حجابا مستورا} أي ساترا.
تنبيهان:-
الأول: إذا وقع التعارض بين هذين المجازين، كان الأول أولى.
وهذا ظاهر، على رأي من يجوز تعليل المعلولين المتماثلين بعلتين مختلفتين
لأن العلم بالمعلول المعين حينئذ لا يستلزمه العلم بالعلة المعينة. وأما العلم بالعلة المعينة، فإنه يستلزمه العلم بالمعلول المعين. وأما على رأي من لم يجوز ذلك فكذلك، لأن العلم بالعلة المعينة كما تفيد العلم بوجود المعلول المعين، فكذا يفيد كمية وجوده. وأما العلم المعلول، وإن أفاد العلم بوجود العلة المعينة حينئذ لكن لا يفيد كمية وجوده، فكان الأول أولى.
الثاني: إذا وقع التعارض بين هذه العلل الأربع، كانت العلة الغائبة أولى، لا لما قيل: بأن فيها جهتي العلية والمعلومية بالنسبة إلى العلل الثلاثة الباقية؛ فإنها علة لها في الذهن ومعلول لها في الخارج، فإن هاتين الجهتين حاصلتان أيضا للعلل الثلاثة بالنسبة إليها ضرورة أن العلية والمعلولية من الأمور الإضافية المتلازمة، بل لأن عليتها في الذهن ومعلوليتها في الخارج وسائر العلل بالعكس من هذا. وقد عرفت أن دلالة الألفاظ على ما في الأذهان بالذات، وعلى ما في الخارج بالعرض فتكون جهة الرجحان التي هي العلية حاصلة / (53/أ) للعلة الغائبة في الدلالة الذاتية ولغيرها في الدلالة العرضية، فتكون العلة الغائبة أولى من غيرها.
وثالثها: إطلاق اسم اللازم على الملزوم، كإطلاق المس على الجماع في
قوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} أي قبل الوطء" وخصه قوم بالكناية إذ قالوا: أن قولهم: "كثير الرماد" للمضياف، و "طويل النجاد" لطويل القامة من باب الكنية، وهو إطلاق "اسم" اللازم على الملزوم.
ورابعها: عكسه كقوله تعالى: {أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون} أي يدل، والدلالة لازمة من لوازم الكلام.
وخصه قوم بالاستعارة، والصحيح: أن الاستعارة غيره "وستأتي" ثم من الظاهر تغايرها من الجهتين أعني العلية والمعلولية، واللازمية والملزومية، فإن الاعتبار الثاني يصدق حيث لا يصدق الاعتبار الأول، كما في الخاص والعام، فإن الإنسان ملزوم للحيوان، وهو لازم له، لا علية ولا معلولية بينهما ولا بينهما نسبة العموم والخصوص- أيضا- إن استدعاء الوجود من الجانبين شرط في الجهة الأولى دون الثانية، وإذا وقع التعارض [بين] هاتين الجهتين كانت الجهة الأولى أولى، وإذا وقع التعارض بين إطلاق اسم اللازم على الملزوم وبين إطلاق اسم الملزوم على اللازم، كان الثاني أولى لاستلزامه إياه من غير عكس.
وخامسها: تسمية الشيء باسم ما يشابهه، وإما في الصورة كإطلاق اسم "الفرس" على المصور بصورته، وإما في صفة ظاهرة خاصة بمحل الحقيقة كإطلاق اسم "الاسد" على الشجاع، و "الحمار" على البليد، وهذا النوع هو المستعار، وهذا لأنه هو الذي استعير فيه المعنى فاستعير اللفظ فيه تبعا لاستعارة المعنى.
وإذا وقع التعارض بين هذا، وبين واحد من الأربعة، الأول أعني إطلاق اسم العلة على المعلول، وعكسه، وإطلاق اسم الملزوم على اللازم، وعكسه، فالثلاثة، الأول منها أولى قطعا للملازمة وعدم الانفكاك.
وأما الرابع: فيحتمل أن يقال المستعار أولى، لأنه أكثر ولأنه من أصناف البديع، ولأن تلك الجهة حاصلة للمستعار- أيضا- مع زيادة ما ذكرنا من المرجحات، لأن بين الأسد والشجاعة ملازمة، فإطلاق اسم الأسد على الشجاعة إطلاق إسم الملزوم على اللازم، ثم إطلاقه على الشجاع- أيضا- كذلك، لأن بين الشجاعة والشجاع ملازمة أيضا.
وسادسها: إطلاق اسم الكل على الجزء، كما في قولهم: الزنجي (53/ب) سود، والرومي أبيض، وكإطلاق اليد على العضو المخصوص إلى الكوع، أو إلى المرفق عند من يجعلها حقيقة فيه إلى المنكب.
وسابعها: عكسه، كإطلاق الرأس على الشخص في قولهم: يملك فلان
كذا رأسا من الرقيق، وذبح كذا رأسا من البقر. وإذا وقع التعارض بينهما كان الأول [أولى] لاستلزام الكل الجزء من غير عكس، وهذا إنما يستقيم في إطلاق اسم الجزء الأعم على الكل، أما في إطلاق اسم الجزء الخاص بالشيء كالناطق مثلا النسبة إلى الإنسان فلا، لأنه مستلزم له فيحتاج في تعليل أولوية الأول بالنسبة إلى هذا الجزء، وإلى وجه آخر وهو أن الكل مستلزم للجزء من حيث إنه كل، وأما الجزء الذي يستلزم الكل فإنه لا يستلزمه من حيث إنه جزء بل باعتبار آخر، وما بالذات يكون أولى وأقدم مما بالغير.
وأيضا: الكل يستلزم الجزء بالدلالة التضمنية، والجزء الخاص يستلزم الكل بالدلالة الالتزامية، ولا شك أن الدلالة التضمنية أولى من الدلالة الالتزامية.
ويدخل في هذا القسم إطلاق اسم المقيد على المطلق وعكسه، لأن المطلق جزء المقيد.
وإذا وقع التعارض بين إطلاق اسم الكل على الجزء وبين إطلاق إسم العلة على المعلول أو عكسه، كان الثاني أولى لحصول الاستلزام مع زيادة التأثير والتأثر.
وأما إذا وقع التعارض بينه وبين إطلاق اسم الملزوم على اللازم كان الأول أولى، لأن الاستلزام مشترك ويخص بكونه داخلا في مسمى اللفظ بخلاف اللازم، فإنه غير داخل في مسمى اللفظ، ويعرف منه كونه أولى من عكسه ومن المستعار.
وأما إذا وقع التعارض بين إطلاق اسم الجزء على الكل، وبين ما تقدم من الأقسام، فكل ما تقدم من الأقسام أولى منه إلا إطلاق اسم اللازم على الملزوم فإنهما سواءان، لأنه كما لا يلزم من وجود اللازم وجود الملزوم فكذا لا يلزم من وجود الجزء وجود الكل.
وثامنها: إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر، كقوله تعالى:
{وجزاء سيئة سيئة مثلها} ، وقوله تعالى:{فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما أعتدى عليكم} . سمي جزاء السيئة سيئة واعتداء وهو عدل لكونه ضدها.
وإذا وقع التعارض بين هذا وبين كل ما تقدم من الأقسام، كان كل ما تقدم أولى منه إلا إطلاق اسم اللازم على الملزوم وما في معناه. فإن فيه نظرا.
وتاسعها: تسمية ما يألفوه باسم ما بالفعل سواء كان بالقوة القريبة بالفعل كتسمية الخمر في الدن مسكرا، وكتسمية العال بصنعة الكتابة بالكاتب في غير حالة المباشرة، أو بالقوة البعيدة (عنه)، كتسمية الصبي بالكاتب والعالم.
وإذا وقع التعارض بين هذا وبين إطلاق (اسم) أحد الضدين على الآخر فيحتمل أن يقال: الأول أولى، لأنه أكثر.
ويحتمل أن يقال: الثاني أولى لأن انتقال الذهن عند سماع أحد الضدين إلى الضد الآخر، أكثر من انتقاله ثمة. ويعرف من هذا نسبته إلى الأقسام المتقدمة فلا نطول بذكرها.
وعاشرها: تسمية الشيء باسم ما يجاوره، كتسمية المزادة بالرواية، الشراب بالكأس عند من يجل الكأس اسم الوعاء، ولا يشترط أن يكون فيه الشراب.
وأما من يقول: لا يقال: للوعاء كأس إلا إذا كان فيه الشراب فلا. وإذا وقع التعارض بين هذا وبين تسمية ما يألفوه بالعقل كان الثاني أولى، لأن تقدير الحصول يصير حقيقة فيه بخلاف اسم أحد المجاورين في الآخر، فإنه لا يصير حقيقة بحال إلا بوضع جديد، وهو مشترك، ولأنه أكثر فكان أولى.
حادي عشرها: إطلاق الاسم على الشيء باعتبار ما كان عليه أولا، ثم زال عنه، كالعبد على المعتق، والضارب على من صدر منه الضرب في الماضي.
وإذا وقع التعارض بين هذا وبين ما تقدم من الأقسام كان هذا أولى، لأنه حقيقة عند البعض في الحال، وبتقدير أن لا يكون حقيقة فيه في الحال إلا أنه
كان حقيقة فيه بخلاف ما تقدمه من الأقسام.
وثاني عشرها: المجاز بالزيادة، كقوله تعالى:{ليس كمثله شيء} عد من يجعل الكاف زائدة.
وإذا وقع التعارض بين هذا وبين كل ما تقدم، كان كل ما تقدم أولى، لأن فيه زيادة لا معنى لها، وهو غير مرضي عند الفصحاء.
وثالث عشرها: عكسه كقوله تعالى: {وأسأل القرية} وستعرف أنه إذا وقع التعارض بين الإضمار والمجاز أيهما أولى.
ورابع عشرها: إطلاق اسم المتعلق على المتعلق كتسمية المعلوم علما والمقدور قدرة، في قولهم هذا قدرة الله، وعلم الله أي مقدوره ومعلومه.
وإذا وقع التعارض بين هذا وبين الإضمار فأيهما أولى فستعرف ذلك- فيما يأتي إن شاء الله تعالى- ولا يخفى عليك نسبته إلى كل ما تقدم أيضا مما تقدم.
وخامس عشرها: تسمية الحال باسم المحل، كتسمية الخارج المستقذر بالغائط.
فإنه في الأصل اسم المكان المطمئن من الأرض فسمي نفس الخارج به لكونه يقضي به في الغالب، ومنه قولهم:"لا فض فوك" أي أسنانك.
وسادس عشرها: عكسه، كقوله تعالى:{وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون} أي في الجنة سماها رحمة لأنها محل رحمته.
ومنه يقال: في العرف في سخط الله، أي في النار، لأنها محل سخطه.
إذا وقع التعارض بينهما كان الثاني أولى، لأن الحال يستلزم المحل من غير عكس. فهو كالملزوم بالنسبة إلى اللازم.
لا يقال: إن الأول أولى، لأن المحل مفتقر (إليه) فهو كالمعلول من هذا الوجه [والحال مفتقر فهو كالمعلول من هذا الوجه]، وقد عرفت أن إطلاق اسم العلة على المعلول أولى من عكسه، فيكون ما يشبه أولى.
لأنا نقول: لا نسلك أن أولوية إطلاق اسم العلة على المعلول إنما هو باعتبار الاعتبار الافتقار إليها حتى يلزم ما ذكرتموه، بل لما سبق من أن العلم بالعلة المعينة يستلزم العلم بالمعلول المعين من غير عكس. ولئن سلم ذلك لكن يجوز أن يكون الشيء مرجحا مع غيره، ولا يصلح أن يكون مرجحا وحده، فلا يلزم من كون الافتقار مرجحا مع الاستلزام كونه كذلك بدونه.
سابع عشرها: تسمية البدل باسم مبدله، كتسميتهم الدية "بالدم" في قولهم: أكل فلان دم فلان، أي: ديته.
ومنه قول الشاعر:
يأكلن كل ليلة أكافا.
أي ثمن الاكاف.
وثامن عشرها: عكسه كتسمية الأداء "بالقضاء" في قوله تعالى: {فإذا قضيتم الصلاة} أي أديتم.
وإذا وقع التعارض بينهما كان الأول أولى وإن سلم كون كل واحد منهما مستلزما للآخر، لأنه أكثر، ولأن المبدل أصل، والبدل فرع وتسمية الفرع بالأصل أولى من العكس.
وتاسع عشرها: إطلاق المنكر وإرادة واحد بعينه، كقوله تعالى {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} عند من يزعم أن المأمور به كانت بقرة معينة.
العشرون: إطلاق المعرف وإرادة المنكر، كما في قوله تعالى:{وادخلوا الباب سجدا} عند من يزعم أن المأمور به دخول باب من الأبواب لا بابا بعينه، ولا يظن أن هذا تكرار فإنه سبق ذكر إطلاق المطلق، وإرادة المقيد وعكسه، لأنهما قد يكونان معرفتين وقد يكونان نكرتين، وما نحن فيه ليس
كذلك بل لابد وأن يكون أحدهما معرفة والآخر نكرة.
وإذا وقع التعارض بينهما كان الثاني أولى، وهو ظاهر لكون المعرف كالكل، والمنكر كالجزء [وقد عرفت أن] إطلاق اسم الكل على الجزء أولى من العكس.
ويمكن أن يعارض هذا بما أن فيه تعطيل الكلمة عن الفائدة، وهي الألف ولام التعريف بخلاف عكسه، فإنه لا يتعطل فيه شيء من الكلمة، وإن كان فيه تعطيل التنكير عن الفائدة أيضا.
الحادي والعشرون: إطلاق النكرة، وإرادة الجنس، كما في قوله تعالى:{علمت نفس ما قدمت وأخرت} ، وكقوله تعالى:{وحسن أولئك رفيقا} عند من لم يجعله اسم جنس كالصف والخصم.
الثاني والعشرون / (55/أ): إطلاق المعرف باللام وإرادة الجنس، كقولهم:"الرجل خير من المرأة"، و "الدينار خير من الدرهم"، فإنه ليس