الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الخامسة
[في أقوال العلماء في وقوع المجاز في كلام الله تعالى]
قد ثبت بما ذكرنا اشتمال اللغة العربية على المجاز. فهل هو واقع في كلام الله تعالى أم لا؟
ذهب الأكثرون إلى أنه واقع.
وقالت: الروافضة. والظاهرية، كأبي بكر الأصفهاني.
إنه غير واقع
احتج الأكثرون على وقوعه بآيات، كقوله تعالى:{ليس كمثله شيء} فإن حقيقته غير مرادة، لأن حقيقته نفي مثل مثله، وهو كفر، لأنه يقتضي نفيه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، بل المراد منه نفي المثل، وهو مجاز فيه بالزيادة، إذ لو حذف الكاف استقام الكلام.
وكقوله تعالى: {جدارا يريد إن ينقض} ، وقوله تعالى:{واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها} . والعير إما الإبل التي تحمل الميرة أو القافلة المجتمعة من الناس والجمال والبهائم، وعلى التقديرين السؤال عنها ممتنع، بل المراد على التقدير الأول، أهل العير فيكون مجازا من باب الإضمار كما في قوله تعالى:{واسأل القرية} ، وعلى التقدير الثاني بعض العير، وهو الناس، فيكون مجازا، من باب إطلاق اسم الكل على الجزء. وفي هذه الاستدلالات نظر.
أما الاستدلال بالآية الأولى فإن لقائل أن يقول: لا نسلم أن قوله {ليس كمثله شيء} المراد منه نفي المثل، بل هو محمول على حقيقته، وهو نفي مثل مثله، ولا يلزم منه نفيه تعالى بل نفي مثله.
وبيانه: أن نقول لو كان لله تعالى مثل، لكان هو مثلا له ضرورة أن المماثلة لا تتحقق إلا من الجانبين، لكن ليس كمثله مثل فلا يكون له مثل وإذا أمكن حمل اللفظ على حقيقته، بحيث يحصل منه المقصود من غير محذور، كان الحمل على المجاز غير جائز لاسيما على المجاز بالزيادة، فإنه أشد محذورا من المجاز بالنقصان، إذ هو من باب الفصاحة والبلاغة، ومن المجاز / (49/أ) للمشابهة فإنه من باب الاستعارة. لا يقال: فعلى هذا لا يكون النص مفيدا لنفي المثل ما لم يضم إليه ما ذكرتم من المقدمة فلا يكون مستقلا بالإفادة لكن الأمة عقلت منه [نفي المثل من غير اعتبار تلك المقدمة]، وذلك يدل على أنه "غير" محمول على ما ذكرتم. لأنا نقول: لا نسلم أن الأمة بأسرها عقلت منه نفي المثل من غير اعتبار تلك المقدمة. وكيف يقال ذلك وفي الأمة من ينكر أن يكون في كلام الله
مجاز؟ ومنهم من ينكر أن يكون فيه زيادة لا معنى لها، ولا يمكن حمل الآية على نفي المثل إلا بعد الاعتراف بهذين الأصلين "على القائلين بهذين الأصلين" جاز أن يفهموا منه نفي المثل على سبيل الاستقلال، وجاز أن يفهموا ذلك منه بواسطة ما ذكرنا من المقدمة وإن لم يصرحوا بها، لما أنها ضرورية على تقدير ثبوت المثل له.
وأما قوله {جدارا يريد أن ينقض} فيمكن حمله على حقيقته- أيضا- إذ لا يبعد أن يخلق الله تعالى فيه الحياة والإرادة، إذ ليس البنية شرط الحياة، وزمن النبوة زمن خرق العادة.
وكذلك القول في العير والقرية، إن سلم أن القرية اسم مختص بالبيوت والبنيان المجتمعة، وأما إن لم يقل بذلك بل يقول بأنها مشترك بينها وبين الناس المجتمعين، إما باشتراك لفظي، أو معنوي، فالاستدلال ساقط بالكلية، لأنه يمكن إجراء اللفظ على ظاهره، فلا حاجة إلى الإضمار، ثم الذي يدل على أن القرية حقيقة في الناس المجتمعين أيضا الاستعمال والاشتقاق أما الاستعمال فكقوله تعالى:{وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة} ، وقوله تعالى {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة} ، وقوله تعالى:{وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها} . وأمثالها كثيرة، والأصل في الاستعمال الحقيقة.
وأما الاشتقاق فلأن القرية مشتقة من القرء وهو الجمع، ومنه يقال: قرأت الماء في الحوض أي جمعت، [ومنه المقراة للحوض]، ومنه القراء، وهو الضيافة لاجتماع الناس لها، وقرأت الناقة لبنها في الضرع أي جمعته، ومنه القرآن لاجتماع السور والآيات فيه، ومنه القرء للطهر والحيض.
أما الأول فلأنه زمن اجتماع الدم، وأما الثاني فلأنه دم مجتمع، والناس المجتمعون فيه معنى الاجتماع فوجب أن يسمى قرية، مقتضى هذا الدليل أن يسمى كل مجتمع بالقرية، لكن ترك العمل به في عدا البنيان المجتمعة والناس المجتمعين فوجب أن يبقى معمولا به فيهما، وإذا كان الاستدلال بهذه الآيات هذه الإشكالات / (49/ب) فالأولى أن يعدل عنه إلى ما هو أوضح منه، نحو الاستدلال بقوله تعالى:{واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} وليس للذل جناح.
وقوله: {جنات تجري من تحتها الأنهار} ، والأنهار لا تجري وإنما يجري ماؤها، وقوله:{بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه} وليس
للباطل دماغ حتى يدمغ، وقوله:{واشتعل الرأس شيبا} والرأس لا يشتعل بالشيب، وقوله:{وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} والسلخ إنما هو حقيقة في نزع الجلد، وقوله:{لهدمت صوامع وبيع وصلاوات} والصلاوات لا تهدم، وقوله:{ولكم في القصاص حياة} وليس في نفسه الحياة بل الموت وإنما الحياة في شرعيته، وقوله:{أحاط بهم سرادقها} و {كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله} . وأمثالها متجاوزة حد الإحصاء.
واحتج المخالف بوجوه:-
أحدها: ما ذكر في المسألة السابقة وقد عرف جوابه ثمه أيضا.
وثانيها: أن المجاز ركيك من الكلام لا يصار إليه إلا عند العجز عن الحقيقة، والعجز على الله محال.
ثالثها: لو كان في كلامه مجاز واستعارة لوصف بكونه متجوزا ومستعيرا، وهو باطل وفاقا.
ورابعها: كلام الله حق فله حقيقة فلا يكون مجازا، لأن ما له حقيقة لا يكون مجازا.
وخامسها: المجاز لا يستقل بالإفادة بدون القرينة، والقرينة قد تخفى فيضيع المكلف في الجهل ولم يحصل مقصود الكلام، والحكيم لا يسلك مسلكا قد يفضي إلى نقيض مقصوده مع اقتداره على سلوك ما لا يفضي إليه أصلا.
وسادسها: لو جاوزنا أن يكون في كلام الله تعالى مجاز، لم يمكننا القطع بإرادة شيء من مدلولات كلامه تعالى لاحتمال أن يقال لعل المراد منه مجازات ما فهمناه من حقائقه، وإن لم نجد قرينة صارفة عن الحقيقة، لأن عدم وجدناها لا يدل على عدم الوجود، وهذا القدر من الاحتمالات كاف في نفي الجزم
الجواب عن الثاني: بمنع ركاكة المجاز، بل قد يكون أفصح وأبلغ من الحقيقة في إفهام المقصود، ألا ترى أن قوله تعالى:{يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي} أفصح من قول القائل: الأرض شربت ماؤها والسماء وقفت عن الصب، وقولنا:"زيد أسد"، أو "كالأسد" أبلغ في إفهام الشجاعة من قولنا:"زيد شجاع"، لا نسلم أنه لا يصار إليه إلا عند العجز، بل يصار إليه لأسباب أخر، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وعن الثالث: بمنع الملازمة، فغن أسامي الله توقيفية / (50/أ) عندنا
ولئن سلمنا: إنها قياسية، لكن [إنما] يجوز إطلاق ما لا يوهم الباطل، وما نحن فيه ليس كذلك، لأنه يوهم كونه تعالى متسامحاً في أقواله
وهو باطل، لأنه إنما يقال هذا فيمن لا يؤمن بقوله، ويعلم من حاله أنه لا يحتاط فيه.
وعن الرابع: إن كلام الله حق بمعنى أنه صدق لا بمعنى أنه مستعمل في موضوعه.
وعن الخامس: أنه مبني على قاعدة التحسين والتقبيح، وهي باطلة عندنا. ولئن سلمنا: صحتها فالظاهر زوال الالتباس مع القرينة وخفاء القرينة الذي ينشأ من الجهل احتمال مرجوح، وهو غير كاف في تقبيح الشيء وإلا لقبح إبدال المتشابهين.
وعن السادس: أنا لا نقطع بشيء من مدلول كلامه تعالى، بناء على عدم وجدان قرينة صارفة عن ظاهره، بل لا يثبت بهذا الطريق إلا الظن، وأما القطع فبالقرائن المعينة للحقيقة، أو بقيام دلالة قاطعة مانعة من حمله على غير ظاهره، ومعلوم أن كون القرآن مشتملا على المجاز لا يقدح في القطع بهذا الطريق.