الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يعني أن المصرفَ يلتزمُ بالوكالة بالبيع النَّقْديّ لإتمام التَّمويل بالنَّقْد، ولو انفصلت الوكالةُ عن البيع الآجل لانهار البرنامج، ولم يوجد التَّمويل أصلًا. . . فالمصرفُ هو مصدر السُّيُولة في العملية، وبدون السُّيُولة لا فائدة من العملية من أساسها، وهذا هو نفسُ الدور الذي يقومُ به المشتري -الثاني- في بيع العِيْنَة؛ لأنه بشرائه نقدًا يكون قد وفر السُّيُولة للعميل، فمن حيث الواقع لا فَرقَ بين كون المصرف وكيلًا، وكونه مشتريًا؛ لأنَّ التَّمويلَ متحقّق على كل تقدير، والعبرة في العُقُود، والتصرفات للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني" (1).
مما سبق يتَّضحُ أن التَّورُّق المصرفي يكون ممنوعًا عند الحنفية، بناءً على رأيهم في الحِيَل، وبيع العِيْنَة.
ثانيًا: موقف المالكية من التَّورُّق المصرفي:
يتَّضحُ موقفُ المالكية من التَّورُّق المصرفي بالأمور التالية:
1 -
عرفنا فيما سبق -في مبحث حكم التَّورُّق الفردي- أن المالكية يمنعون بعضَ صور التَّورُّق الفردي؛ لأنَّ تلك الصور فيها من القرائن ما يدلُّ على فساد نية البائع والمُتَوَرِّق، حيث إنَّ تلك القرائن توحي بأنَّ الهدف، والغاية من عملية التَّورُّق الفردي هو تأمين نقد حاضر مقابل زيادة في الذمة، واتخذت عملية البيع والشراء ستارًا لتحقيق ذلك الهدف، فالمتبايعان لم يدخلا في القَرْض باشتراط الفائدة لِعِلْمِهِما بحرمته، وإنما دخلا في عملية تورق صاحَبَها بعض الأمور والقرائن، التي تدلُّ على أن المقصدَ من عملية التَّورُّق هو إقراض المحتاج (المُتَوَرِّق) عشرة ليردَّها خمسة عشر. ومن تلك القرائن التي تُوحي بفساد نِيَّة المتبايعين في عملية التَّورُّق الفردي:
(1) التَّورُّق المنظم قراءة نقدية -سامي السويلم (9).
أ- إذا كان المُتَوَرِّق يتعاملُ مع أهل العِيْنَة، فهذه قرينة تدلُّ على أن المقصود من عملية التَّورُّق هو تحصيل نقود مقابل زيادة في الذمة.
ب- أن يطلبَ المُتَوَرِّق من البائع أن يضعَ عنه من الثمن المؤجَّل، فهذه قرينة تدل على أن قصد المتبايعين هو النقود، فالمُتَوَرِّق لما أخذ السِّلعة من البائع لبيعها بنقدٍ حاضرٍ على طرف آخر، وجد المُتَوَرِّق أن سعر السِّلعة نقدًا أقل بكثير من سعرها المؤجَّل، الذي سيأخذه البائع، فرأى المُتَوَرِّق أن يرجعَ إلى البائع، ويطلب منه أن يضعَ من الثمن المؤجَّل لتقليص الخسارة عليه، فهذا الفعلُ عده المالكية قرينة تدلُّ على أن القصد من العملية هو تحليل الرِّبا، يقول ابنُ رشد:"وذلك أن يبيعَ الرجلُ من أهل العِيْنَة طعامًا، أو غيره بثمن إلى أجل، ثمَّ يستروضه المبتاع من الثمن فيضع عنه، فإن مالكًا وغيره من أهل العلم كرهوا ذلك؛ لأنه إنما يبيعه على المراوضة فإنما يضعُ عنه، ويرده إلى ما كان راوضه عليه، فصار البيع الذي عقداه تحليلًا للرِّبا الذي قصداه"(1).
ج - أن يشتريَ المُتَوَرِّق السِّلعة على أن ينقدَ بعض الثمن، ويؤخر البعض، وقد نصَّ فقهاء المالكية على كراهة هذه الصُورة، حيث قالوا:"إذا اشترى طعامًا، أو غيره على أن ينقد بعض ثمنه، ويؤخر بعضه لأجل، فإن كان اشتراه ليبيعه كله لحاجته بثمنه فلا خير فيه، وهو قَولُ مالك"(2).
وقد سبقت الإشارة إلى هذه الصور، التي كرهها المالكية في صور التَّورُّق الفردي، وكذلك في موقف المالكية من بيع التَّورُّق (3).
وإذا عرفنا أن المالكية يمنعون بعضَ صور التَّورُّق الفردي لوجود القرائن،
(1) المقدمات الممهدات (2/ 524).
(2)
الخرشي على مختصر خليل (5/ 106).
(3)
راجع صور التَّورُّق الفردي ص (81). وموقف المالكية من بيع التَّورُّق ص (88).
التي تدل على فسادِ العملية، فإنَّ التَّورُّق المصرفي يكون ممنوعًا عند المالكية، بناءً على رأيهم في التَّورُّق الفردي، ويتَّضح هذا بأمرين:
الأمر الأول: "التفريق بين أهل العِيْنَة وغيرهم، وأن أهلَ العِيْنَة يعاملون بما لا يعامل به سائر الناس، وهذا التفريقُ يثبت تفريق فقهاء المالكية بين العمل المنظم وبين العمل التلقائي، وهذا واضحٌ في أن المعاملة إذا تحوَلت من تصرُف فردي عفوي إلى عملٍ منظمٍ أخذت بعدًا آخر لم يكن معتبرًا من قبل.
الأمر الثاني: الأخذ في الاعتبار أي علاقة إضافية بين المُتَوَرِّق والبائع، مثل رجوع المشتري للبائع ليضعَ عنه، أو أنه يدفع له بعضَ الثمن نقدًا، وبعضه نسيئة، من أجل تيسير المعاملة على المشتري في الحالتين، ومثل هذه العوامل لا توجدُ في التَّورُّق الفردي، الذي لا يتضمَّن أي صلة إضافية للبائع بالمُتَوَرِّق مطلقًا، فوجودُ علاقة إضافية بين البائع وبين المُتَوَرِّق تؤثر في الحكم قطعًا عند المالكية، فإذا اجتمع هذان الأمران (كون البائع من أهل العِينَة، ووجود علاقة إضافية بينه وبين المُتَوَرِّق) كان الحكم هو التَّحريم. . . ويرجع ذلك -والله أعلم- إلى أن أصلَ التَّورُّق مكروه عند المالكية، لاشتباهه بالرِّبا، فإذا وجدت قرائنُ إضافية تدلُّ على تواطؤ الأطراف المعنية من أجل تأمين النَّقْد الحاضر بالمؤجَّل، فهم يمنعون منها جَزْمًا، وبناءً على ذلك يمكنُ القَولُ بأن مذهبَ المالكية بناء على نصوص الإمام مالك، وأكابر أصحابه، وفقهاء المذهب يقتضي تحريم التَّورُّق المنظم. . . وذلك لأنَّ هذا العملَ يتضمَّن علاقة إضافية بين البائع والمُتَوَرِّق لا توجدُ في التَّورُّق الفردي، ولأنها تتمُّ مع جهات متخصصة ومتفرغة
للتَّمْويل، ويتمُّ التفاهمُ بين الأطراف مسبقًا لقصد التمويل، وهذه تدلُّ صراحةً على تواطؤ الأطراف بغرض مبادلة دراهم حاضرة بمؤجَّلة، وهي العوامل التي لأجلها منعوا التَّعامُل مع أهل العِيْنَة (1).
(1) التَّورُّق والتَّورُّق المنظم. سامي السويلم (62 - 63).
2 -
عرفنا فيما سبق -في مبحث العِيْنَة- أن المالكية يحرمون بيع العِيْنَة بناءً على قاعدة من قواعد المذهب المالكي، وهي [سدّ الذرائع] يقول الدردير عن بيوع الآجال:"وهو بيعٌ ظاهره الجواز لكنه يؤدِّي إلى ممنوع فيمنع، ولو لم يقصد فيه التَّوصُّل إلى الممنوع سدًّا للذريعة التي هي من قواعد المذهب. . . كبيع سِّلعة بعشرة لأجل، ثمَّ يشتريها بخمسة نقدًا، فقد آل الأمر إلى رجوع السِّلعة، وقد دفع قليلًا عاد إليه كثيرًا"(1).
وإذا كان المالكيةُ يحرِّمون بيع العِيْنَة لأنها حيلةٌ محرمة، وذريعة إلى الرِّبا، فالتَّورُّق المصرفي يكون محرَّمًا عند المالكية، إذ التَّورُّق المصرفي حيلة لتحصيل نقد حاضر مقابل زيادة في ذِمَّة العميل (المُتَوَرِّق)، واتخذت سلسلة من البيوع والاتفاقيات ستارًا لتحليل ذلك، فالقَولُ بتحريم العِيْنَة، وتحريم الحِيَل، والقول بقاعدة [سدّ الذرائع] كل هذا يدلّ على أن التَّورُّق المصرفي محرم عند المالكية، ولا يخفى أن التَّورُّق المصرفي يعدّ عينة محرمة، فالبنكُ يؤمِّن النَّقْد للعميل (المُتَوَرِّق) بموجب التوكيل، فالبنكُ هو مصدر السُّيُولة في عملية التَّورُّق المصرفي، وهذا هو نفسُ الدّور الذي يقومُ به المشتري الثاني في بيع العِيْنَة، وسيأتي بَسْطُ هذا في الأمور الدالة على حُرمة التَّورُّق المصرفي.
3 -
عرفنا فيما سبق -من موقف المالكية من بيع التَّورُّق- أن المالكية يرون كراهة التَّورُّق الفردي، بناءً على قاعدة [المدخلات والمخرجات] ومعنى هذه القاعدة: أن تقويمَ التَّعامُل بين طرفي الصفقة يتمُّ من خلال النظر في مدخلاتها ومخرجاتها ككلّ، دون النظر إلى تفاصيل ما يدورُ بين طرفيها، فحقيقتها عدم اعتبار ما كان لغوًا من تصرُّفات العاقدين، بل الاعتبار مرتبط بالمحصلة النهائية،
(1) الشرح الصغير على أقرب المسالك لأحمد الدردير (3/ 116).