المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة الأولى: الأدلة: - التورق المصرفي

[رياض بن راشد آل رشود]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌أسباب اختيار الموضوع:

- ‌الدراسات السابقة:

- ‌ خطة البحث

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأوَّلُ تعريفُ التَّورُّقِ الفرديِّ لغةً، واصطلاحًا

- ‌المطلب الأول: تعريفُ التَّوَرُّق لُغَةً

- ‌المطلب الثاني: تعريفُ التَّوَرُّقِ اصطلاحًا

- ‌الْمَسْأَلَةُ الأولى: التَّحقيقُ في استعمالِ مصطلحِ التَّوَرُّقِ عند الفقهاء:

- ‌الْمَسْأَلَةُ الثّانيةُ: تَعريفُ التَّوَرُّقِ اصطلاحًا

- ‌المبحث الثّاني تَعْرِيفُ التَّورُّقِ المصْرِفيّ لغةً، واصطلاحًا

- ‌المطلب الأوَّلُ تَعْرِيفُ (المصْرف) في اللغةِ والاصْطِلاحِ

- ‌المطلب الثّاني تَعْريفُ التَّوَرُّقِ المصْرفيّ

- ‌الْمَسْأَلَةُ الأُولى: اختِلافُ مسَمّياتِ (التَّوَرُّقِ المصرفيّ)

- ‌الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَعْريفُ التَّوَرُّقِ المصْرفيّ اصْطلاحًا:

- ‌ التَّعْريفُ الأوَّلُ: تَعريفُ د: سامي السُّوَيلم

- ‌ التَّعْريفُ الثّاني: تَعْريفُ د. عبدِ اللهِ السّعيديّ

- ‌المبحث الثالث حاجةُ الحياة الاقتصادية للسُّيولة النقدية

- ‌الفصل الأول التَّوَرُّقُ الفرديُّ (الفقهى)

- ‌المبحث الأوَّل مبدأ الحِيَل في الشَّريعةِ الإسلامية

- ‌المطلب الأول معنى الحيلة لغةً، واصطلاحًا

- ‌المطلب الثاني تحريرُ محلِّ النزاع

- ‌المطلب الثالث موقفُ العلماء من الحِيَل

- ‌أولًا: موقفُ الحنفية من الحِيَل:

- ‌ثانيًا: موقف المالكية من الحِيَل:

- ‌ثالثًا: موقف الشافعية من الحِيَل:

- ‌رابعًا: موقف الحنابلة من الحِيَل:

- ‌المطلب الرابع الأدلة والترجيح

- ‌الْمَسْأَلَةُ الأولى: الأدلَّة:

- ‌ أدلَّة القائلين بجواز الحِيَل:

- ‌ أدلةُ القائلين بمنع الحِيَل:

- ‌المسألة الثانية: الترجيح:

- ‌المبحث الثاني علاقة التَّوَرُّق بالعِينَة

- ‌المطلب الأول حكم العِيْنَة

- ‌المَسْأَلَةُ الأولى: تعريف العِينَة لغةً، واصطلاحًا

- ‌بعضُ صُور العِيْنَة

- ‌المَسْأَلَة الثانية: تحرير محل النزاع:

- ‌المسألة الثالثة: موقفُ العلماء من بيع العِينَة:

- ‌أولًا: موقف الحنفية من بيع العِيْنَة:

- ‌ثانيًا: موقف المالكية من بيع العِيْنَة:

- ‌ثالثًا: موقفُ الشَّافعية من بيع العِيْنَة:

- ‌رابعًا: موقفُ الحنابلة من بيع العِيْنَة:

- ‌خامسًا: موقفُ الظَّاهرية من بيع العِيْنَة:

- ‌المسألة الرابعة: الأدلة، والترجيح:

- ‌المطلب الثاني دخولُ التَّوَرُّق في العِيْنَة

- ‌المسألة الأولى: شمولُ العِينَة لمعنى التَّوَرُّق:

- ‌المسألة الثانية: أوجه التشابه بين التَّوَرُّق والعِينَة:

- ‌المسألة الثالثة: الفرقُ بين التَّوَرُّق والعِيْنَة:

- ‌المبحث الثالث صُوَرُ التَّوَرُّق الفردي

- ‌ الصُّورة الأولى:

- ‌ الصُّورة الثانية:

- ‌ الصُّورة الثالثة:

- ‌ الصُّورة الرابعة:

- ‌ الصُّورة الخامسة:

- ‌المبحث الرابع حكم التَّورُّق الفردي

- ‌المطلب الأول تحرير محل النزاع

- ‌المطلب الثاني موقفُ الفقهاء المتقدمين من بيع التَّورُّق

- ‌أولًا: موقف الحنفية من بيع التَّورُّق:

- ‌ثانيًا: موقف المالكلية من بيع التَّورُّق:

- ‌ثالثًا: موقف الشافعية من بيع التَّورُّق:

- ‌رابعًا: موقف الحنابلة من بيع التَّورُّق:

- ‌المطلب الثالث موقف العلماء المتأخرين والمعاصرين من بيع التَّورُّق

- ‌المطلب الرابع الأدلة، والترجيح

- ‌المسألة الأولى: الأدلة:

- ‌المسألة الثانية: الترجيح:

- ‌المبحث الخامس شروط التَّورُّق الفردي

- ‌الفصل الثانى تصوير التَّورُّق المصرفى

- ‌المبحث الأول صورة التَّورُّق المصرفي، والأطراف المشتركة فيه

- ‌المطلب الأول صورة التَّورُّق المصرفي

- ‌المسألة الأولى: الصورة العامة لعملية التَّورُّق

- ‌المسألة الثانية: ميزة التَّورُّق المصرفي:

- ‌المسألة الثالثة: ماهية السِّلع المستخدمة في عمليات التَّورُّق المصرفية:

- ‌المطلب الثاني الأطراف المشتركة في التَّورُّق المصرفي

- ‌المسألة الأولى: الأطراف المشتركة التي تقتضيها عمليات التَّورُّق المصرفية:

- ‌المبحث الثاني الفروق بين التَّورُّق المصرفي والتَّورُّق الفردي

- ‌المبحث الثالث الفروق بين التَّورُّق المصرفي والرِّبا

- ‌المبحث الرابع الآليات العملية للتَّورُّق المصرفي، ومدى انضباطها

- ‌المبحث الخامس التَّورُّق المصرفي وعلاقته بصيغ التَّمويل الأخرى

- ‌الفصل الثالث تطبيقات على التَّورُّق واستخدامه في العمل المصرفي

- ‌المبحث الأول التَّورُّق المصرفي في مرابحات السِّلع الدولية مع المؤسَّسات المالية

- ‌المطلب الأول تصوير المعاملة وبيان إجراءاتها

- ‌المطلب الثاني التكييف الفقهي لهذه المعاملة

- ‌المبحث الثاني التَّورُّق لتمكين العملاء من سداد مديونياتهم لدى المصارف التقليدية، والانتقال إلى التَّعامُل مع المصارف الإسلامية

- ‌المطلب الأول تصوير المعاملة وبيان إجراءاتها

- ‌المطلب الثاني التكييف الفقهي لهذه المعاملة

- ‌التكييف الفقهي للصورة الأولى:

- ‌التكييف الفقهي للصورة الثانية:

- ‌المبحث الثالث استخدام التَّورُّق المصرفي في التَّمويل الشخصي

- ‌المطلب الأول التَّورُّق عن طريق البطاقات الائتمانية

- ‌المسألة الأولى: تصوير عملية التَّورُّق في بطاقة تيسير الأهلي:

- ‌المسألة الثانية: تصوير عملية التَّورُّق في بطاقة الخير للبنك الأمريكي:

- ‌المسألة الثالثة: أوجه الشَّبه والاختلاف بين بطاقتي التيسير والخير:

- ‌المسألة الرابعة: التكييف الفقهي للتَّورُّق في بطاقتي التيسير والخير:

- ‌المطلب الثاني التَّورُّق باستخدام الأسهم

- ‌المسألة الأولى: تصوير التَّورُّق بالأسهم:

- ‌الفرع الأول: تصوير عملية التَّورُّق باستخدام الأسهم:

- ‌الفرع الثاني: تصوير التَّمويل باستخدام الأسهم:

- ‌المسألة الثانية: التكييف الفقهي للتورق بالأسهم

- ‌الفرع الأول: التكييف الفقهي للتورق باستخدام الأسهم:

- ‌الفرع الثاني: التكييف الفقهي للتمويل باستخدام الأسهم (برنامج وطني):

- ‌المبحث الرابع حكم برامج التَّورُّق المصرفي في البنوك المعاصرة

- ‌المطلب الأول موقف الفقهاء من التَّورُّق المصرفي

- ‌أولًا: موقف الحنفية من التَّورُّق المصرفي:

- ‌ثانيًا: موقف المالكية من التَّورُّق المصرفي:

- ‌ثالثًا: موقف الشافعية من التَّورُّق المصرفي:

- ‌رابعًا: موقف الحنابلة من التَّورُّق المصرفي:

- ‌خامسًا: موقف الظاهرية من التَّورُّق المصرفي:

- ‌المطلب الثاني موقف العلماء المعاصرين والمختصين الاقتصاديين من التَّورُّق المصرفي

- ‌أولًا: آراء المانعين من التَّورُّق المصرفي:

- ‌ثانيًا: آراء المجيزين للتَّورُّق المصرفي:

- ‌المطلب الثالث الأدلة والإشكالات والمناقشات

- ‌المسألة الأولى: الأمور الدالة على تحريم التَّورُّق المصرفي:

- ‌المسألة الثانية: الإشكالات المتعلقة بإجراءات عملية التَّورُّق المصرفي:

- ‌المسألة الثالثة: الشبه التي تمسَّك بها من أجاز التَّورُّق المصرفي ومناقشتها:

- ‌المطلب الرابع قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بشأن موضوع التَّورُّق المصرفي

- ‌المبحث الخامس التَّورُّق المصرفي ومستقبل البنوك الإسلامية

- ‌المطلب الأول مفهوم البنك الإسلامي وخصائصه

- ‌المطلب الثاني أثر عمليات التَّورُّق المصرفي على مستقبل البنوك الإسلامية

- ‌المطلب الثالث البديل للتمويل النَّقديّ

- ‌الخاتمة

- ‌أولًا: أهم نتائج البحث:

- ‌ثانيًا: أهم التوصيات:

- ‌الفهارس العلمية

- ‌ترجمة الأعلام الواردة أسماؤهم في البحث مرتبة حسب حروف المعجم

- ‌فهرس‌‌ المراجع والمصادر مرتبة حسب حروف المعجم

- ‌ ا

- ‌ ب

- ‌ت

- ‌ح

- ‌ث

- ‌ج

- ‌رُّ

- ‌س

- ‌دِّ

- ‌(ذ)

- ‌ ش

- ‌ ع

- ‌ ص

- ‌ف

- ‌ط

- ‌ل

- ‌ م

- ‌ق

- ‌ك

- ‌ه

- ‌ن

الفصل: ‌المسألة الأولى: الأدلة:

القول الثاني: الكراهة، وهو قولٌ عند الحنفية، وهو رأيُ المالكية، ورواية عن الإمام أحمد، والحقيقة أن الحنفية يقصدون بالكراهة بيع العِيْنَة لا بيع التَّورُّق، كما سبق بيانه.

القول الثالث: المنع، وهو قَولُ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وهو رأيُ بعض المعاصرين كالدكتور سامي السويلم، وحسين حامد حسان، وصالح الحصين.

‌المسألة الأولى: الأدلة:

أدلة القائلين بجواز التَّورُّق:

• الدليل الأول: قَولُه تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (1).

وجه الاستدلال: أن الآية دلت على إباحة البيوع، حيث إن لفظ (البيع) على بأل التي تفيد العموم، فالآية تدلُّ على إباحة كلِّ بيع، إلا ما دلَّ الدليل على تحريمه، ولا دليلَ على حرمة التَّورُّق، فيبقى على الإباحة التي دلت عليها الآية.

ويمكن أن يناقش الاستدلال بالآية بالتالي:

1 -

أن هذه الآية قد يستدلُّ بها أصحابُ الحِيَل المحرمة، فكلُّ حيلة من الحِيَل الربوية يمكن أن يستدلَّ أصحابها على جوازها بهذه الآية؛ لأن الحيلةَ بيعٌ في الظاهر، وهي في الحقيقة تؤولُ إلى الرِّبا، فإنْ صحَّ الاستدلال بالآية على

إحدى هذه الحِيَل، لزم صحة الاستدلال على الجميع، وإن بطل الاستدلالُ بطل في الجميع، ولا يوجد من الفقهاء من يجيزُ جميع الحِيَل بلا استثناء، وهذا يعني أن الاستدلال بالآية على جواز التَّورُّق غير مسلم.

2 -

أن التَّورُّق عبارةٌ عن عقدين، وكون كل عقد مشروع على انفراده، لا يلزم

(1) سورة البقرة آية (275).

ص: 104

منه أن مجموع العقدين مشروع؛ لأن الاجتماع قد يؤثر في الحُكْم الشرعي (1)، جاء في الموافقات:"الاستقراء من الشرع عرف أن للاجتماع تأثيرًا في أحكام لا تكون في حالة الانفراد. . . ونهى الله عن الجَمْع بين الأختين في النكاح، مع جواز العقد على كل واحدة بانفرادها. . . وذلك يقتضي أن للاجتماع تأثيرًا ليس للانفراد"(2)، ولذلك لا بُدَّ من وجود دليلٍ خاصّ يقضي بالجواز.

الدليل الثاني: عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة رضي الله عنهما: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلًا على خيبر، فجاءه بتمر جنيبٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أكل تمر خيبر هكذا"؟ قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصَّاع من هذا بالصَّاعين، والصَّاعين بالثلاثة. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لا تفعل، بعِ الجمع بالدَّراهم، ثم ابتع بالدَّراهم جنيبًا"(3)[متفق عليه].

وجه الاستدلال من الحديث: أن في هذا التوجيه النبوي مخرجًا للابتعاد عن حقيقة الرِّبا وصورته، إلى طريقة ليس فيها قصد الرِّبا، ولا صورته، فالحديثُ نصّ في جواز عقد صفقتين متتاليتين لأجل تجنُّب الوقوع في الرِّبا، وإذا جاز هذا فيكون بيع التَّورُّق جائزًا من هذا الباب، إذ هو عبارة عن عقدين، كلّ عقد منهما صحيح مشتملٌ على تحقيق شروط البيع، وأركانه.

ويمكن أن يناقش الاستدلال بالحديث:

أن الذي أمر الرجلَ بأن يبيعَ الجمع بالدَّراهم، ليشتريَ بها جنيبًا هو نفسه صلى الله عليه وسلم، الذي ذمَّ الحِيَل، وحذَّرنا منها، حيث قال: "قاتل الله اليهودَ، حُرمت

(1) انظر: التَّورُّق والتَّورُّق المنظم. د: سامي السويلم (47).

(2)

الموافقات للشاطبي (3/ 192).

(3)

انظر: صحيح البخاري: كتاب البيوع. باب: إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه (2/ 767) رقم (2089) وصحيح مسلم: كتاب المساقاة. باب: بيع الطعام مثلًا بمثل (3/ 1215) رقم (1593).

ص: 105

عليهم الشحوم فجملوها، فباعوها" (1) فيحرم بيعُ التَّورُّق؛ لأنه حيلة من الحِيَل، مآلها إلى الرِّبا.

ويمكن الجواب عن المناقشة:

القَولُ بأن التَّورُّق حيلةٌ من الحِيَل المذمومة غير مسلم به؛ لأن الحيلةَ هي تقديمُ عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي، كما سبق من كلام الشاطبي، فالحيلةُ لا تكون إلا بوجود القصد إلى التَّوصُّل إلى المحرَّم، فالتَّورُّق لا يكون حيلة إلا إذا نوى التَّوصُّل إلى ممنوع؛ لأن أصل الحِيَل راجعٌ إلى القصد والنية، كما بيَّن ذلك شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال:"وأصلُ هذا الباب -يعني الحِيَل- "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" (2) فإن كان قد نوى ما أحلّه الله فلا بأس، وإن نوى ما حرَّم الله، وتوصَّل إليه بحيلة، فإن له ما نوى"(3). والمُتَوَرِّق لم يقصدْ بفعله ارتكابَ المحرم، وإنما أراد اجتناب المحرم، والخلوص من الرِّبا.

- الدليل الثالث: أن الحاجة تدعو إلى بيع التَّورُّق؛ لأن المحتاج لا يجدُ من يقرضه، فيلجأ إلى بيع التَّورُّق (4).

ويمكن أن يناقش هذا الدليل:

أن الحاجة لم تكنْ مبررةً للمحتاج لدخوله في الرِّبا، ومجرد الحاجة لا تكفي لاستباحة المحرمات، التي يعدّ بيع التَّورُّق نوعًا منها، إذ هو بابٌ من أبواب الرِّبا.

ويمكن الجواب عن المناقشة:

(1) صحيح البخاري: كتاب البيوع. باب: لا يذاب شحم الميتة ولا يباع ودكه (2/ 774).

(2)

صحيح البخاري. باب: بدء الوحي (1/ 3) رقم (1).

(3)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (29/ 447).

(4)

انظر: كشاف القناع للبهوتي (3/ 186).

ص: 106

صحيحٌ أن الحاجة لم تكنْ مبررةً للمحتاج لدخوله في الرِّبا، ولم تكن حُجَّة له ليسرق؛ لأن الدخول في الرِّبا والسرقة قد جاء النصُّ الصريحُ على تحريمهما، وأما بيع التَّورُّق فلا دليل صريح يحرمه، فجاز للمحتاج أن يلجأ إليه ليقضي حاجاته، وكون بيع التَّورُّق من أبواب الرّبا فغير مسلم، إذ التَّورُّق عبارةٌ عن عقدين، كل عقد منهما يشتمل على أركان البيع وشروطه، وتقويمُ بيع التَّورُّق من الناحية الاقتصادية يعطي لنا الفوارق الشَّاسعة بينه وبين الرِّبا، وأما الرِّبا فهو زيادةٌ بدون مقابل، تستلزمُ نمو الديون بلا ضوابط.

- الدليل الرابع: أن التَّورُّق يحقّقُ مصالحَ كثيرة للناس، فهناك الكثيرُ ليس لديهم نقودٌ كافية لأداء ديونهم، ولا لزواجهم، ولا لمصالحهم الأخرى، فيستطيع المُتَوَرِّق من خلال عقد البيع لأجل التَّورُّق الحصول على حاجاته (1).

• أدلة القائلين بمنع التَّورُّق:

الدليل الأول: قَولُ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "سيأتي على الناس زمانٌ عضوضٌ يعضُّ الموسر على ما في يديه ولم يؤمر بذلك، قال الله تعالى:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (2) ويبايع المضطرون. وقد نهى النبيُّ عن بيع المضطر، وبيع الغرر، وبيع الثمر قبل أن تدرك (3).

وجه الاستدلال من الدليل:

أن بيع التَّورُّق يقعُ من رجل مضطرّ إلى النقود، ولا يجد من يقرضه،

(1) انظر: حكم التَّورُّق في الفقه الإسلامي. علي محيى الدين (4).

(2)

سورة البقرة آية (237).

(3)

سنن أبي داود. كتاب البيوع. باب: في بيع المضطر (3/ 255) رقم (3382) وانظر: سنن البيهقي الكبرى. كتاب: البيوع. باب: ما جاء في بيع المضطر وبيع المكره (6/ 17) رقم (10859) مصنف ابن أبي شيبة. كتاب البيوع والأقضية. باب في الشراء من المضطر (4/ 327).

ص: 107

فيضطر إلى بيع التَّورُّق لقضاء حاجاته، والحديثُ نهى عن بيع المضطر. والنهيُ يقتضي التَّحريم، فيكون بيع التَّورُّق ممنوعًا.

وقد نوقش الاستدلال من جهتين:

1 -

من جهة السند: فإسنادُ هذا الحديث ضعيفٌ؛ لأنه كما جاء في سنده (عن شيخ من بني تميم)، يقولُ البيهقي:"وقد رُوي من أوجه عن علي، وابن عمر، وكلها غير قوية"(1).

يقول الخطابي: "في إسناده رجلٌ مجهولٌ لا ندري من هو"(2).

وجاء في المحلَّى: "لو استند هذان الخبران -يعني: رواية أبي داود، ورواية البيهقي- لقلنا بهما مسرعين، ولكنهما مرسلان، ولا يجوز القَولُ في الدَّيْن بالمرسل"(3).

ولكن قد ورد ما يعضده، يقول ابنُ تيمية:"وهذا وإن كان في راويه جهالة، فله شاهدٌ من وجه آخر -ثم قال بعد ذكر هذا الوجه-: وهذا الإسنادُ وإن لم تجب به حُجَّة فهو يعضدُ الأول"(4).

غير أن أهل العلم على كراهة بيع المضطر؛ لأن الاضطرار قد يؤثِّر في الرضا، الذي يُعَدُّ شرطًا من شروط صحة العقد، يقول الخطابي:"إلا أن عامةَ أهل العلم قد كرهوا البيع على هذا الوجه"(5).

ويقول ابنُ تيمية: "وإن كان في راويه جهالة مع أنه خبر صدق، بل هو من

(1) انظر: سنن البيهقي الكبرى. كتاب: البيوع. باب: ما جاء في بيع المضطر وبيع المكره (6/ 17) رقم (10859).

(2)

معالم السنن للخطابي (3/ 87).

(3)

المحلى لابن حزم (9/ 22).

(4)

الفتاوى الكبرى (3/ 137).

(5)

معالم السنن (3/ 87).

ص: 108

دلائل النبوة، فإن عامة العِيْنَة إنما تقعُ من رجل مضطر إلى نفقة يضنُّ عليه الموسر بالقرض. . . ولهذا كره العلماء أن يكون أكثر بيع الرجل أو عامته نسيئة، لئلا يدخل في اسم العِيْنَة وبيع المضطر" (1).

2 -

من جهة الدلالة:

1 -

أن الاضطرار الذي يكونُ في التَّورُّق لا يؤثر فيه إلى حدِّ المنع، يقول الخطابي: "بيعُ المضطر يكون من وجهين:

أحدهما: أن يضطرَّ إلى العقد من طريق الإكراه عليه فهذا فاسد.

والوجه الآخر: أن يضطر إلى البيع لدين يركبه، أو مؤنة ترهقه، فيبيع ما في يده بالوكس من أجل الضَّرورة. . . فإن عُقد البيع مع الضَّرورة على هذا الوجه، جاز في الحكم، ولم يفسخ" (2). وبيع التَّورُّق من الوجه الثاني الجائز لا الأول.

2 -

لا نسلِّم أن الذي يلجأ إلى التَّورُّق هو مضطر، فإن البعضَ قد يتورَّق لأمر حاجي أو كمالي، ولا يصحُّ أن نقول: كلُّ متَّورُّق مضطر.

الدليل الثاني:

قَولُ ابن عباس رضي الله عنهما: "إذا استقمت بنقد، فبعت بنقدٍ فلا بأس، وإذا استقمت بنقدٍ فبعت بنسيئة، فلا خير فيه، تلك ورق بورق"(3).

وَجْهُ الاستدلال من الأثر: معنى هذا أن السِّلعة إذا قُومَتْ بنقد، ثم اشتراها المشتري إلى أجل، فإن مقصوده اشتراء دراهم مُعَجَّلة بدراهم مؤجَّلة، وهكذا

(1) الفتاوى الكبرى (3/ 137).

(2)

معالم السنن (3/ 87).

(3)

مصنف عبد الرزاق. كتاب البيوع. باب: الرجل يقول بع هذا بكذا فما زاد فلك (8/ 236) رقم (15028).

ص: 109

في التَّورُّق يقوِّم السِّلعة في الحال، ثم يشتريها إلى أجلٍ بأكثر من ذلك، فإن الرجل يأتي فيقول: أريد ألف درهم، فيخرج له سلعة تساوي ألف درهم، فإذا قوَّمها بألف قال: اشتريها بألف ومئتين (1).

ويمكن أن يناقش الاستدلال بهذا الأثر:

أن السلف رحمهم الله كانوا يكرهون مشابهةَ صورةِ التعاقد المحرَّم، ولذلك يقولُ ابنُ تيمية:"حُفظ عن ابن عمر، وابن عباس، وغير واحد من السلف أنهم كرهوا (ده دوازده) (2)؛ لأن لفظه: أبيعك العشرة باثني عشر، فكرهوا هذا الكلام لمشابهته الرِّبا"(3).

وبناء على هذا فإن قول ابن عباس محمول على كراهة أن تكونَ صورة التعاقد المباح مشابهة لصورة التعاقد المحرم، وكُره ذلك؛ لأن المشابهة في الصُّورة قد تؤولُ إلى مشابهة حقيقية.

الدليل الثالث: أن التَّورُّق يشابهُ الرِّبا؛ لأن بعضَ المعاني التي لأجلها حرم الله الرِّبا موجودةٌ في التَّورُّق، وهذا هو الذي جعل عمرَ بن عبد العزيز يقول:"التَّورُّق آخية الرِّبا" أي: أصل الرِّبا، فإن الله سبحانه حرم أخذ دراهم بدراهم أكثر منها، لما في ذلك من ضرر، وأكل للمال بالباطل، وهذا موجودٌ في التَّورُّق (4).

ويمكن أن يُناقَشَ هذا الدليل بالآتي:

أن التَّورُّق لا يشابهُ الرّبا، بدليل أننا إذا وضعنا الرِّبا والتُّورُّق على ميزان المقارنة، وجدنا الفوارقَ الشاسعة بين الرِّبا والتَّورُّق، وبيانُ هذا يتَّضح في ثلاثة أمور:

(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (29/ 442) وانظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/ 138).

(2)

هذه جملة فارسية تعني: بيع ما يساوي عشرة باثني عشر.

(3)

الفتاوى الكبرى (3/ 138).

(4)

انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (29/ 434).

ص: 110

الأمر الأول: من الناحية الإجرائية (الشكلية) فإن التَّورُّق لا يشابه الرِّبا؛ لأنَّ التَّورُّق يكونُ بين أطراف ثلاثة، فالمُحتاجُ يشتري السِّلعة من البائع بثمن مؤجَّل، ثم يقوم المشتري ببيعها بنقد على طرف ثالث لا علاقة له بالبائع الأول، والبائع الأول لا يتجاوز دوره من أنه يبيعُ سلعته إلى أجل بثمن أكثر من ثمن السُّوق، وهذه الزيادةُ هي مقابل الأجل، وهذا أمرٌ مشروع، وأما الرِّبا فهو مختص بقرض بين الطرفين بزيادة في ذِمَّة المدين بدون مقابل، وتستلزم نموّ الديون، وتراكمها بلا ضوابط.

الأمر الثاني: من الناحية الحقيقية (المقصود، والمآل)، فإن التَّورُّق لا يشابه الرِّبا في المقصد والمآل؛ لأن التَّورُّق وإن كان المقصودُ منه تحصيلَ السُّيُولة، إلا أن هذا لا يجعله يدخلُ في معنى الرِّبا؛ لأن أكثر المعاملات المالية يُقصد منها تحصيلُ النقود، فالتاجر -مثلًا- يشتري السِّلعة ليبيعها على الناس بربح، والمُحتاجُ سعى ليحصل على السُّيُولة لينتفعَ بها من خلال عملية التَّورُّق، فيرى أنه رابحٌ من هذه الجهة.

يقول الشيخُ عبد العزيز بن باز: "وأما تعليل من منعها أو كرهها لكون المقصود منها هو النَّقْد، فليس ذلك موجبًا لتحريمها، ولا لكراهتها؛ لأن مقصودَ التجار غالبًا في المعاملات هو تحصيلُ نقودٍ أكثر بنقود أقل"(1).

وكون التَّورُّق يشابه الرِّبا من جهة أن المحتاجَ المُتَوَرِّق يتحمَّل كثيرًا في ذِمَّته ليحصلَ على نقد أقل منه، فإن هذا لا يقضي بحرمة التَّورُّق؛ لأنه مركَّبٌ من معاوضتين، وقد استقلت كلُّ معاوضة عن الأخرى.

الأمر الثالث: من الناحية الاقتصادية، فإن عملية التَّورُّق حينما نقومُ بتقويمها من الناحية الاقتصادية نرى أن فيها تنشيطًا للحركة الاقتصادية تمامًا،

(1) مجلة البحوث الإسلامية، العدد السابع (53).

ص: 111

كما في البيع والشراء، إذ التَّورُّق في الحقيقة عبارةٌ عن بيع وشراء، وأما الرِّبا فلا يكونُ من ورائه إلا تفشي الدُّيون، التي لا يكون من ورائها إلا القضاء على النشاط الاقتصادي المنتج.

ويمكن الجواب عن هذه المناقشة بالآتي:

لا خلافَ أن صورةَ التَّورُّق تختلفُ عن صورة الرِّبا، والنزاع ليس في هذا، وإنما في حقيقة الرِّبا هل هي موجودةٌ في التَّورُّق أم لا؟.

فمن كان ينظرُ إلى الصُّورة فقط دون النظر إلى الحقيقة فإنه يحكمُ بالجواز، ومن كان ينظرُ إلى المعنى الذي لأجله حرم الله الرِّبا، ووجده في التَّورُّق، فإنه يحكمُ بالتَّحريم، وحقيقة ربا النَّسِيئة هي الزيادةُ في الذِّمَّة دون مقابل، وهذه بعينها موجودةٌ في التَّورُّق، والعبرةُ بالمقاصد والمعاني لا بمجرَّد الألفاظ، والمباني.

والذي يثيرُ العجبَ أن من يجيزُ التَّورُّق ينظرُ لمجرد الصُّورة، في حين أن صاحبَ المعاملة لا ينظرُ للصورة، بل للحقيقة، وهي الحصولُ على نقد حاضر بمؤجَّل أكثر منه، وهذا هو الذي جعل الكثيرَ يظنُّ أن الشَّريعة لا تتعامل بالحقائق، بل بالرسوم والمظاهر، وبناء الحكم على الصُّورة دون الحقيقة يجعلُ الناس أقلّ إيمانًا بالشَّريعة، وتعظيمًا لها، ومن ثم أقلّ التزامًا بأحكامها (1).

الدليل الرابع: أن التَّورُّق فيه إعراضٌ عن مبرَّة الأقراض التي حثَّ عليها الإسلام.

ويمكن أن يناقش هذا الدليل:

أن القَرْض غيرُ واجبٍ على المسلم، بل هو من المندوبات، والإعراضُ عن المندوب لا يكونُ محرمًا.

(1) انظر: التَّورُّق والتَّورُّق المنظم. د: سامي السويلم ص (34 - 35).

ص: 112