الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإذا كانت المحصلةُ النهائيةُ نقدًا حاضرًا بزيادة في الذمة فهي ربا، ولا عبرةَ بما توسط ذلك من عقود (1).
وإذا طبَّقنا هذه القاعدة على عملية التَّورُّق المصرفي، فإن السِّلعة تنتقلُ من ملك البنك إلى العميل (المُتَوَرِّق)، ليقومَ العميلُ بتوكيل البنك في بيعها على طرف آخر، فنجد أن السِّلعة قد خرجت من ملك البنك لتدخل في ملك العميل (المُتَوَرِّق)، ثمَّ تخرج من ملكه إلى ملك طرف آخر، وبذلك نعرف أن السِّلعة ليست إلا مجرد لغو بدليل أن العميل (المُتَوَرق) لا يعرفُ ماهية السِّلعة، فهي لغوٌ لا عبرةَ بها، وبذلك تكون محصِّلةُ التَّعامُل بين البنك والعميل (المُتَوَرِّق) نقدًا حاضرًا بيد العميل، مقابل ثمن أكثر منه في ذمته، فالاعتبارُ ليس بما كان لغوًا من تصرُّفات العاقدين، بل الاعتبار بالمحصِّلة النهائية للمعاملة.
وبذلك نعرفُ أن التَّورُّق المصرفي محرَّم عند المالكية، بناءً على الأمور التالية:
1 -
قَولُهم بمنع التَّورُّق الفردي إذا كانت هناك قرائن تدلُّ على أن القصد من العملية إقراض عشرة مثلًا باثني عشر، وقد وجدت هذه القرائن بشكل أوضح، وأكثر صراحةً في التَّورُّق المصرفي.
2 -
قَولُهم بتحريم العِيْنَة، وتحريم الحِيَل.
3 -
قَولُهم بقاعدة [سدّ الذرائع].
4 -
قَولُهم بقاعدة [المدخلات، والمخرجات].
ثالثًا: موقف الشافعية من التَّورُّق المصرفي:
عرفنا فيما سبق -من موقف الشافعية من الحِيَل، ومن بيع العِيْنَة- أن الشافعية يرون جوازَ الحِيَل، وجواز بيعِ العِيْنَة، بناء على موقفهم من العُقُود
(1) انظر: التَّورُّق والتَّورُّق المنظم. سامي السويلم (66).
عامة، حيث إنهم يرون أن العبرةَ في العُقُود بالظاهر، ولا تأثيرَ لنية المتعاقدين على العقد، ولا يعني هذا جواز إضمار نيَّة المحرم؛ لأنَّ الشافعية يفرِّقون بين صحة العقد وبين نية العاقد، فإذا نوى شخصٌ ما هو محرم أثم، ولا يستلزمُ بطلان العقد عندهم، وقَولُهم بجواز الحِيَل، وبيع العِيْنَة يستلزمُ القَول بجواز التَّورُّق المصرفي، ولكن الأمر ليس كذلك، فالشافعيةُ مع أنهم يقولون بجواز الحِيَل والعِيْنَة، إلا أن التَّورُّق المصرفي لا يدخلُ في العِيْنَة التي أجازها علماء الشافعية، بل يكون التَّورُّق المصرفي بصورته المعروفة اليوم محرّمًا عند الشافعية، ودليل أنَّه محرّم عندهم ما يلي:
أن الشافعية حينما أجازوا بيعَ العِيْنَة، فقد أجازوه بشرطين، هما:
1 -
أن لا يكونَ هناك ارتباطٌ بين البيعتين، بحيث لا تظهرُ نية الحصول على النَّقْد، وقد فُهِمَ هذا الشَّرْط من كلام الشافعي رحمه الله حينما تحدَّث عن العِيْنَة، فقال:"وليست البيعة الثانية من البيعة الأولى بسبيل"(1)، فإذا كان هناك ارتباطٌ بين البيعتين بحيث تظهرُ نية الحصول على النَّقْد، فلا تصحُّ العِيْنَة عنده؛ لأنها ستكون حينئذٍ
تحايل لاستحلال الرِّبا، ولذلك فإن أكثر علماء الشافعية ينصُّون على قيد القبض في تعريفهم لبيع العِيْنَة -كما سبق في تعريف بيع العِيْنَة عند الشافعية-؛ لأنه إذا وجد القبض دلَّ على أنَّه ليس هناك ارتباطٌ بين البيعتين، وإذا لم يوجد القبض، فإن ذلك يوحي بفسادِ نيَّة المتبايعين التي يترتب عليها بطلانُ البيع؛ لأنَّ عدم القبض يعطي دلالةً على أن نية المتبايعين هي الحصولُ على النَّقْد، واتخذت صورة البيع حيلة لاستحلال الرِّبا، فالشافعية ينصُّون على القبض في تعريفهم لبيع العِيْنَة، لكي يثبتوا أن البيعة الثانية ليستْ من البيعة الأولى بسبيل.
2 -
أن لا يكونَ العقدُ الثاني مشروطًا في العقد الأول، إما بالنَّصِّ عليه، أو
(1) الأم (3/ 78).
بدلالة العرف والعادة، فإذا كان العقدُ الثاني في بيع العِيْنَة مشروطًا في العقد الأول، فإنَّ العقدين باطلان جميعًا، سواء كان وجودُ الشَّرطْ بالنص عليه أثناء العقد الأول، أو كان وجوده بدلالة العادة، والعرف.
وإذا عرفنا أن الشافعية لا يقولون ببيع العِيْنَة إلا بتوفر الشَّرْطين السابقين "فإن التَّورُّق المصرفي لا يدخلُ في بيع العِيْنَة، الذي أجازه الشافعي؛ لأنَّ الشافعي يشترطُ ألا يكون هناك ارتباطٌ بين البيعتين: البيعة التي بالأجل والبيعة التي بالنَّقْد، وألا تظهر نية الحصول على النَّقْد، وكلا الشَّرْطين غيرُ متحقّق في التَّورُّق المصرفي، فالارتباطُ بين البيعتين منصوصٌ عليه في العقد، فالمصرفُ هو الذي يبيعُ السِّلعة نسيئة بأكثر من ثمنها نقدًا، ويشترط (1) على المستَّورُّق أن يُوكله في بيعها نقدًا بأقل مما باعها له به نسيئة ويسلمه الثمن، ويلتزمُ المصرف بهذا، ولولا التزام المصرف ببيع السِّلعة نقدًا، وتسليمه الثمن ما قبل المستورق شراء السِّلعة من المصرف بأكثر من ثمنها نقدًا"(2).
وأما نيةُ الحصول على النَّقْد فظاهرةٌ كل الظهور، بل هي مصرَّح بها، فمن يرى وسائل الإعلام اليوم يجد الإعلانات عن برامج التَّورُّق المصرفي تُصَرح بالسُّيُولة النَّقْديّة، فالبنكُ الأهليُّ التجاريُّ يقول: تيسير الأهلي أول تمويل نقدي إسلامي، والبنكُ العربيُّ الوطنيُّ يقول: ويستفيد من التَّورُّق المبارك الذين يرغبون في الحصولِ على سيولة نقدية، والبنك السُّعودي الأمريكي يقول:
(1) الحقيقة أن الآليات العملية للتَّورُّق المصرفي تنص على أن المصرف لا يشترط على العملِ المتورق أن يوكله في بيعها، وإنما للعميل الخيار، فله أن يوكل المصرف، وله أن لا يوكله، ولكن الباحث ذكر الاشتراط بناء على العرف، والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، فالمعروف أن العميل يقوم بتوكيل المصرف في بيع السِّلعة، فصار التوكيل بهذا العرف كالمشروط؛ لأنه لولا التوكيل لما دخل العميل في عملية التَّورُّق المصرفي.
(2)
حكم التَّورُّق كما تجريه المصارف في الوقت الحاضر. الصديق محمَّد الأمين الضرير (21).
احصلْ على السُّيُولة بكل يُسْرٍ وسهولة (1)، وإذا كانت نيةُ الحصول على النقود ظاهرة في بيع العِيْنَة، فإن الشافعية يحرمونها؛ لأنَّ ظهورَ نية الحصول على النقود يدلُّ على أن بيع العِيْنَة، إنما عُقد ليتحايل به البائع والمشتري على الرِّبا، ونية الحصول على النقود في التَّورُّق المصرفي أمر مصرَّح به، فيكون مُحَرَّمًا عند الشافعية.
وإذا عرفنا أيضًا أن الشافعية يُحرِّمون العِيْنَة إذا كان العقد الثاني مشروطًا في العقد الأول، فإن التَّورُّق المصرفي يكون مُحرَّما كذلك عند الشافعية، فإن دلالةَ العُرف تدل على أن العميل (المُتَوَرِّق) لم يكنْ ليذهب إلى البنك لولا قيامُ البنك ببيعها عنه بالنيابة على طرف آخر، والمعروفُ عرفًا كالمشروط شرطًا، فالعرفُ عند المصارف أنها تقومُ ببيع السِّلعة عن المُتَوَرِّق بالنيابة، وهذا العرفُ هو بمثابة الاشتراط، فكأن العقد الثاني في عملية التَّورُّق المصرفي مشروطٌ في العقد الأول بدلالة العُرف، وإذا كان الأمر كذلك فالتَّورُق المصرفي يكون محرَّمًا؛ لأنَّ العَقْدَ الثاني مشروط بدلالة العرف في العقد الأول.
وبهذا نعرفُ أن التَّورُّق المصرفي محرَّم عند الشافعية للأسباب التالية:
1 -
لأن فيه ارتباطًا بين العُقُود التي يقومُ عليها التَّورُّق المصرفي.
2 -
ولأن نية الحصول على النقود ظاهرة أشد الظهور، بل مصرَّح بها.
3 -
ولأن العقدَ الثاني في عملية التَّورُّق المصرفي مشروطٌ بدلالة العرف في العقد الأول.
ولا يصحُّ أن نحكمَ بجواز التَّورُّق المصرفي بناءً على تجويز الشافعية لبيع العِيْنَة، فهم إنما أجازوه بضوابط تدلُّ على عدم وجود التلاعب والتحايل، وإذا فقدت تلك الضَّوابط كما في التَّورُّق المصرفي، فإنَّه حينئذٍ نحكم بالتَّحريم.
(1) انظر: المرجع السابق.