الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السُّوق بسبعين، فقد قال الميرغيناني:"وهو مكروهٌ لما فيه من الإعراض عن مبرَّة الإقراض"(1).
مما سبق يتبينُ أن الحنفية يذكرون التَّورُّق ضمن صُوَر العِيْنَة، وينصُّون على الكراهة، ومرادهم كراهة العِيْنَة المشهورة فقط دون التَّورُّق، ولذلك جاء ابنُ الهمام رحمه الله ففرَّق بين العِيْنَة والتَّورُّق في الحكم بعد أن ذَكَرَ كلام أبي يوسف، الذي يفيد ظاهره جواز العِيْنَة، وبيَّن كذلك أنه لا كراهةَ إذا رفض التاجرُ الإقراض. يقول رحمه الله:"ولا شكَّ أن البيع الفاسد بحكم الغصب المحرم، فأين هو من بيع العِيْنَة الصحيح المختلَف في كراهته، ثم الذي يقعُ في قلبي أن ما يخرجه الدافعُ إن فعلت صورة يعود فيها إليه هو أو بعضه، كعود الثوب أو الحرير في الصُّورة الأولى، وكعود العشرة في صورة إقراضِ الخمسة عشر، فمكروه، وإلا فلا كراهةَ إلا خلاف الأولى على بعض الاحتمالات، كأن يحتاج المديونُ فيأبى المسؤولُ أن يقرض، بل يبيعُ ما يساوي عشرة بخمسة عشر إلى أجل فيشتريه المديون، ويبيعه في السُّوق بعشرة حالَّة، ولا بأس في هذا، فإن الأجلَ قابله قسط من الثمن، والقَرْض غير واجب عليه دائمًا، بل هو مندوب"(2).
وبهذا نعرف أن التَّورُّق جائز عند الحنفية، وما نقل من الكراهة يُحْمَلُ على بيع العِيْنَة، أو لما في التَّورُّق من الإعراض عن مبرَّة الإقراض، ولا يلزم الكراهة كما بيَّنه ابن الهمام رحمه الله.
ثانيًا: موقف المالكلية من بيع التَّورُّق:
الذي يظهر من نصوص فقهاء المالكية أنهم يرون كراهةَ التَّورُّق، جاء في
(1) الهداية (3/ 94).
(2)
شرح فتح القدير (7/ 213).
(شرح مختصر خليل): "وكره أن يقول الرجلُ لمن سأله سلف ثمانين بمئة: لا يحلّ لي أن أعطيك ثمانين في مئة، ولكن هذه سلعة قيمتها ثمانون، خذ مني بمئة ما أي سلعة إذا قوَّمت كانت بثمانين (1).
وقد ذكر المالكيةُ بعضَ صور التَّورُّق، وكرهوها بقيود، من ذلك ما جاء في (شرح مختصر خليل):"إذا اشترى طعامًا، أو غيره، على أن ينقد بعض ثمنه، ويؤخر بعضه لأجل، فإن كان اشتراه ليبيعه كله لحاجته بثمنه، فلا خير فيه، وهو قول مالك"(2).
ويلاحظ أن الكراهة في النَّصِّ السابق قد قيدت بفعل المشتري إذا كان يريدُ بيعَ السِّلعة لا لينتفع بها، إضافةً إلى تعجيل بعض الثمن، وتأخير بعضه، فإن هذه قيود تؤثر في الحكم عند المالكية.
ومن الصور التي نصَّ فقهاءُ المالكية على كراهتها ما جاء عند ابن رشد في مقدّماته: "وذلك أن يبيع الرجلُ من أهل العِيْنَة طعامًا، أو غيره، بثمن إلى أجل، ثم يستروضه المبتاعُ من الثمن فيضع عنه. فإن مالكًا وغيره من أهل العلم كرهوا ذلك؛ لأنه إنما يبيعُه على المراوضة، فإنما يضع عنه، ويردّه إلى ما كان راوضه عليه، فصار البيع الذي عقداه تحليلًا للربا الذي قصداه، وتفسير هذا أن يأتي الرجلُ إلى الرجل من أهل العِيْنَة. . ."(3)(4).
وبهذا يتَّضح أن المالكية يمنعون بعضَ صور التَّورُّق؛ لأن فيها قرائنَ تدلُّ على تواطؤ البائع والمشتري على بيع السِّلعة، لتحصيل النَّقْد الحاضر مقابل
(1) شرح الخرشي على مختصر خليل (5/ 106).
(2)
المرجع السابق.
(3)
المقدمات الممهدات (2/ 526).
(4)
راجع: هذه الصورة في صور التَّورُّق الفردي: الصورة الخامسة ص (83).
زيادة في الذمَّة، فتلك القرائن كتعجيل بعض الثمن، وتأخير بعضه، وكالمراوضة توحي بأن الهدف والغاية من عملية التَّورُّق هي تحصيلُ نقد حاضر مقابل زيادة في ذِمَّة المُتَوَرِّق، واتخذ البيع ستارًا لذلك.
ومن يطَّلع على كتاب (بيوع الآجال) في كتب المالكية يجد أن هذا الباب قد بُنِي على قاعدة من قواعد المذهب المالكي، وهي [سدّ الذرائع]. يقول ابنُ رشد:"أصل ما بُني عليه هذا الكتاب، الحكم بالذرائع، ومذهب مالك رحمه الله القضاء بها، والمنع منها"(1).
ولعل المالكية كرهوا التَّورُّق من هذا الباب، بمعنى أنهم كرهوه سدًّا للذريعة.
ولعلَّه يقال: إن بيعَ التَّورُّق مكروه أيضًا عند المالكية، بناءً على قاعدة [المدخلات والمخرجات] التي نصَّ عليها فقهاء المالكية. جاء في الفروق:"والأصل أن ينظرَ ما خرج من اليد، وما خرج إليها، فإن جاز التَّعامُل به صحّ وإلا فلا، ولا تعتبر أقوالهما، بل بأفعالهما فقط"(2).
ومعنى هذه القاعدة: أن تقويم التَّعامُل بين طرفي الصَّفقة يتم من خلال النظر في مدخلاتها ومخرجاتها ككل، دون النظر إلى تفاصيل ما يدور بين طرفيها، فحقيقتها عدم اعتبار ما كان لغوًا من تصرفات العاقدين، بل الاعتبار مرتبط بالمحصّلة النهائية، فإذا كانت المحصلة النهائية نقدًا حاضرًا بزيادة في الذمَّة، فهي ربا، ولا عبرة بما توسَّط ذلك من عقود (3).
ومما سبق يتَّضح أن التَّورُّق ممنوعٌ عند المالكية للأسباب التالية:
1 -
نصوص فقهاء المالكية تدلُّ على الكراهة.
(1) المقدمات الممهدات لابن رشد (2/ 524).
(2)
الفروق للقرافي (3/ 1057).
(3)
انظر إلى شرح القاعدة في: التَّورُّق والتَّورُّق المنظم. سامي السويلم (66).