الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني التكييف الفقهي لهذه المعاملة
بعد النظر في الآلية التي تقومُ عليها عمليةُ التَّورُّق في مرابحات السِّلع الدولية مع المؤسَّسات المالية، يمكن القَولُ بأن هذه المعاملة تقوم على أربعة عقود، وهي على النحو التالي:
1 -
عقد وكالة: فيقوم المصرفُ بتوكيل المؤسَّسة المالية، لتقومَ المؤسَّسة بعملية البيع والشراء نيابة عن المصرف.
2 -
عقد بيع: فتقوم المؤسَّسةُ باعتبارها وكيلًا عن المصرف، بشراء سلعة من مالكها بثمن نقديّ حاضر.
3 -
عقد بيع ثانٍ: فتقوم المؤسَّسةُ باعتبارها وكيلًا عن المصرف ببيع السِّلعة مرابحة، إما على نفسها، أو تبيعها على طرف آخر.
4 -
عقد بيع ثالث: في حالة بيع المؤسَّسة السِّلعة على نفسها، وتصبح السِّلعة ملكًا لها، تقومُ ببيع السِّلعة تورقًا للحصولِ على الثمن.
وبعد بيان تلك العُقُود التي تقومُ عليها مرابحات السِّلع الدولية، يمكن القَولُ بأن تلك العملية:"عبارة عن شراء المصرف الإسلامي لسلع موصوفة نقدًا بواسطة وكيل معين، وإعادة بيعها بالأجل إلى الوكيل نفسه، أو إلى طرف ثالث، ثم يقوم الوكيلُ، أوالطرف المشتري لتلك السِّلع بإعادة بيعها نقدًا للحصول على السُّيُولة"(1).
وبعض الباحثين ذَكَرَ هذه المعاملة، وحكم بأنها مجرَّد بيع يصحُّ إذا توافرت فيه الشروط والأركان، يقول الشّيخُ عبد الله المنيع: "هذا النوعُ من التَّورُّق
(1) المرجع السابق (10). وانظر: العِيْنَة والتَّورُّق والتَّورُّق المصرفي. علي السالوس (43).
لا يظهر فيه مانع من اعتباره، وجوازه، سواء أكان على مستوى فردي، أم على مستوى محلي أو دولي، وسواء أكان ذلك بين الأفراد أم كان بين المؤسَّسات المالية إذا كان البيع، مما توافرت فيه أسباب اعتباره من أركان البيع، وشروطه، وانتفاء أسباب بطلانه، أو فساده" (1).
وذكر الدكتور موسى آدم أن المصارف الإسلامية حتى تؤكّد أن تلك العمليات، التي تجريها في مرابحات السِّلع الدولية حقيقية، وليست صورية، فإنها توقع مع الوكلاء خمسة شروط مهمة، وهي على النحو التالي:
1 -
إقرار الوكيل بأن عمليات البيع والشراء حقيقية، وليست عمليات صورية.
2 -
أن يقوم المصرف بنفسه بتسديد الثمن للبائع، للتأكد من أن هناك عملية بيع حقيقية.
3 -
أن يقبض الوكيل مستندات شراء السِّلع، قبل إجراء عملية إعادة بيع السِّلعة.
4 -
أن يحفظ الوكيل جميع المستندات المؤكدة لعملية البيع والشراء، لتقديمها إلى المصرف، لإجراء عمليات التدقيق الشرعي.
5 -
أن لا يتعامل الوكيل بالفائدة الربوية (2).
ويقول الدكتور بعد ذكر هذه الشروط: "وفي ضوء هذه المعطيات يمكن القَولُ بأن مرابحات السِّلع الدولية في حال استيفائها الشروط المذكورة، وتمامها عبر وكلاء موثوق بهم، فمانها تكون صحيحة شرعًا لاستكمالها
(1) حكم التَّورُّق كما تجريه المصارف الإسلامية في الوقت الحاضر. عبد الله المنيع (21).
(2)
انطر تطبيقات التَّورُّق واستخداماته في العمل المصرفي الإسلامي. موسى آدم عيسى (11).
للجوانب الشكلية للعقود، ولعدم تعارضها مع الأصول الشرعية" (1).
ويقول الدكتور علي السَّالوس في هذه المعاملة: "لا تدخل ضمن التَّورُّق، فالمصارف الإسلامية تشتري نقدًا، وتبيعُ بالأجل مع زيادة البيع الآجل عن بيع الحال، والمشتري من المصرف مؤسَّسة مالية تجارية، تريدُ من الشراء ربح
التاجر، لا خسارة المُتَوَرِّق، أو تريد السِّلعة إن كانت من مستهلكيها، وهذا بعيد عن التَّورُّق. . . ومن خبرتي مدة خمس عشرة سنة في أعمال المصارف الإسلامية، ومراجعتي لعمليات السِّلع والمعادن في أماكن تنفيذها في أوروبة
خلال تلك السنوات، اكتشفت أن كثيرًا من هذه العمليات تستوفي الشكل الظاهري فقط للضوابط الشرعية، وتكون في حقيقتها قروضًا ربوية، وليست تَّورُّقًا، ولا بيعًا، ولا شراءً" (2).
والذي يبدو لي -والله أعلم- أن التَّورُّق في مرابحات السِّلع الدولية مع المؤسَّسات المالية، هو من قبيل (ربح ما لم يضمنْ) فالأطراف المشتركة في هذه المعاملة يقعون في هذا المحظور، وبيان ذلك يتَّضح في الآتي:
1 -
أن هذه المعاملة تتمُّ في بورصات السِّلع العالمية، وهذه البورصات تجري فيها بيوعٌ كثيرة، ليست حقيقية، بمعنى أن السِّلع لا تسلم إلى المشتري، وإنما تعقد بيوع كثيرة متتالية على الحاسب الآلي، وتبدأ هذه المعاملة وتنتهي بتبادل الأوراق، ولا تراعى فيها الشروط الشرعية من تعيُّن المبيع وإفرازه عن غير المبيع، ومن كون المبيع في ملك البائع وحوزته، ثم إن هذه الأوراقَ التي يحملها صاحِبُها إنما تمثل حقّ الحامل في تسلُّم كمية من السِّلعة، والكمية المكتوبة في الأوراق غير متميزة عن الكمية الباقية، فلا تأتي الكميةُ المشتراةُ في
(1) المرجع السابق.
(2)
العِيْنَة والتوق والتَّورُّق المصرفي. علي السالوس (48).
ضمان المشتري (المصرف)، ويبيعها المشتري بالمرابحة قبل أن تتميز، وتضمن من قِبل المشتري الذي هو المصرف، فيقع في هذه المعاملة محظور (ربح ما لم يضمنْ)(1)، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يحلّ سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن"(2).
فالمعاملاتُ التي تجري في بورصات السِّلع العالمية هي بيوعٌ صورية ليست حقيقية، ولذلك نجد أن المصارفَ قد اشترطتِ الشروط الخمسة المذكورة سابقًا، لتكون تلك المعاملات عمليات حقيقية، وليست عمليات صورية، والحقيقةُ أن تلك الشروط لا يتمُّ تفعيلها في الواقع العملي، وحتى لو تمَّ تفعيلها في الميدان، فإننا لن نسلم من وقوعنا في ربح ما لم يضمن.
2 -
وعلى فرض أن السِّلعةَ قد عُينت، وحُدِّدت، والقَولُ بـ (القبض الحكمي) الذي يحكم بانتقال الضمان بمجرد العقد إذا تعينت السِّلعة، فإننا نقعُ في إشكالية أخرى، وهي: أن القبضَ الحكميَّ كما يكون طريقًا للتيسير، فإنه يكون طريقًا للاحتيال والتلاعب، فعمليةُ التَّورُّق في مرابحات السِّلع الدولية مع المؤسَّسات المالية "تتمُّ برأس مال كبير، وسرعة فائقة، فاحتمال التلاعب فيها وارد، وبخاصة أن التَّعامُلَ في أصله مع جهات أجنبية تجهل الدِّيْن، وأحكامه، بل لا تدينُ به، وقد يكون الطرف الآخر ممن لا يأنفُ الرِّبا أيضًا، وهذا لا يناسبه الاعتبار بالقبض الحكمي"(3).
(1) انظر: أحكام التَّورُّق وتطبيقاته المصرفية. محمد تقي العثماني (24).
(2)
سنن أبي داود كتاب الإجارة باب: في الرجل يبيع ما ليس عنده (3/ 283) رقم (3504) وسنن الترمذي. كتاب البيوع باب: ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك (3/ 534) رقم (1234) وسنن النسائي كتاب البيوع باب: سلف وبيع (7/ 295) رقم (4629) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهو حديث صحيح". انظر: الفتاوى الكبرى (6/ 177).
(3)
التَّورُّق كما تجريه المصارف في الوقت الحاضر. عبد الله السعيدي (35).
وإذا نظرنا إلى هذه المعاملة من جهة مآلها، فإنه يبدو -والله أعلم- أنها من قبيل (القَرْض الرَّبوي) فإن المصارفَ تهتم كثيرًا بالشكل الظاهري لعملياتها التَّمويلية، وتحاول بقدر الإمكانِ أن تجعلَ الإجراءات لتلك العمليات خاضعة للضوابط الشرعية، ومع اهتمامهم بالشكل الظَّاهري، غير أنهم يغفلُون عن المآل والمقصد من تلك العمليات، وعملية التَّورُّق في مرابحات السِّلع الدولية مع المؤسَّسات المالية هي في حقيقتها قرض ربوي، فالمُتَوَرِّق -سواء كان هو وكيلَ المصرف (المؤسَّسة المالية) أو طرفًا آخرَ غير الوكيل- يحصل على سيولة نقدية مقابل زيادة في ذمته، واتخذت صورة البيع والشراء، والوكالة ستارًا لذلك.
ومما يؤيدُ هذا أننا لو وضعنا هذه المعاملة، وقاعدة [المدخلات والمخرجات](1) في ميزان المقارنة، لوجدنا أن محصلة التَّعامُل بين الأطراف المشتركة في هذه المعاملة هي نقد حاضر بزيادة في الذمة، وهذه هي حقيقة الرِّبا.
ولو قيل: لو وضعنا التَّورُّق الفردي المعروف عند الفقهاء، وقاعدة [المدخلات والمخرجات] في ميزان المقارنة، لوجدنا أن المحصلة النهائية للتَّورُّق الفردي هي نفسها المحصلة النهائية لعملية التَّورُّق في مرابحات السِّلع الدولية، مع المؤسَّسات المالية!!.
والجواب عن هذا الاعتراض يتَّضح في أمرين:
1 -
لو تأملنا إجراءات عملية التَّورُّق في مرابحات السِّلع الدولية مع
(1) معنى هذه القاعدة: أن تقويم التعامل بين طرفي الصفقة يتم من خلال النظر في مدخلاتها ومخرجاتها ككل، دون النظر إلى تفاصيل ما يدور بين طرفيها، فينظر للمحصلة النهائية، ولا عبرة بما توسط ذلك من عقود. انظر: الفروق للقرافي (3/ 1057)، وانظر: التَّورُّق والتَّورُّق المنظم. سامي السويلم (66).
المؤسَّسات المالية، فإنها ليست على بساطة التَّورُّق المعروف عند الفقهاء، وإذا كان التَّورُّق الفردي فيه خلاف بين الفقهاء وهو على صورته البسيطة، فما بالك بإجراءات هذه المعاملة البالغة التعقيد والصعوبة، والتي تقوم على أربعة عقود اتخذت ستارًا للتحايل على الرِّبا، إضافة إلى علم كل الأطراف المشتركة في هذه المعاملة، بما تؤول إليه هذه المعاملة، في حين أن كل طرف من الأطراف المشتركة في التَّورُّق الفردي لا يعلمُ بمراد الآخر في الغالب.
2 -
أن تقويم عملية التَّورُّق في مرابحات السِّلع الدولية مع المؤسَّسات المالية من الناحية الاقتصادية، يعكس لنا الفرق الشاسع بين هذه المعاملة وعملية التَّورُّق الفردي، فعمليات التَّورُّق في مرابحاتِ السِّلع الدولية مع المؤسَّسات المالية لا تفيدُ في تنشيط الحركة الاقتصادية؛ لأن السِّلع التي هي محلّ المعاملة تكاد تكون جامدة في مخازنها، فلا تنتقلُ من مكانها مع أنه يجري على تلك السِّلع العشرات من العُقُود، ومن اطلع على بيانات بعض العُقُود يجد أن رقمَ السِّلعة التي هي محلّ العملية يتكرر دائمًا، وهذا يدل على أن السِّلعة جامدةٌ في مكانها، فلا تفيدُ هذه المعاملة في تنشيط الحركة الاقتصادية، بينما نجد التَّورُّق الفردي يفيدُ في تنشيط الحركة الاقتصادية نوعًا ما، فالمُتَوَرِّق يشتري السِّلعة بثمن مؤجَّل، ثم يقوم ببيعها على طرف آخر بنقد، فتنتقلُ السِّلعة، ولا تبقى جامدة، وانتقال السِّلع من مكان إلى آخر يدلّ على وجود الحركة في السُّوق، وهذا بدوره يفيد في تنشيط الحركة الاقتصادية.
ومما سبق يمكن القَولُ بأن التكييف الفقهي لهذه المعاملة يكون من جهتين:
1 -
من جهة الإجراءات الشكلية للمعاملة: فإنها تكون من قبيل (ربح ما لم يضمن) لأن المصرفَ يبيع السِّلعة مرابحة قبل أن تكون في ضمانه، والنبي عليه
الصلاة والسلام نهى عن ربح ما لم يضمن (1) وعلى فرض كون السِّلعة في ضَمانه بتعيين السِّلعة، فإن طبيعةَ المعاملات في البورصات قائمة على التلاعب، والاحتيال، الذي يؤدي إلى التهاون في مسألة القبض.
2 -
من جهة المقصد والمآل لهذه المعاملة: فإنها تكونُ من قبيل (القَرْض الربوي) لأن المُتَوَرِّق يحصلُ على سيولة نقدية مقابل زيادة في الذمة، دون أي فائدةٍ تعودُ على الحركة الاقتصادية، والمعاملة بالنظر إلى مآلها يترتب عليها نفس الآثار المترتبة على الرِّبا.
(1) سنن أبي داود. كتاب. الإجارة. باب: في الرجل يبيع ما ليس عنده (3/ 283) رقم (3504) وسنن الترمذي. كتاب. البيوع. باب: ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك (3/ 534) رقم (1234) وسنن النسائي. كتاب البيوع. باب: سلف وبيع (7/ 295) رقم (4629). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهو حديث صحيح". انظر: الفتاوى الكبرى (6/ 177).