الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
تختلفان في مدة الأجل في سداد عملية التَّورُّق: ففي بطاقةِ التيسير (24) شهرًا، وأما في بطاقة الخير (15) شهرًا.
المسألة الرابعة: التكييف الفقهي للتَّورُّق في بطاقتي التيسير والخير:
عرفنا من خلال تصوير عمل البطاقتين، أنهما تتيحان لحاملهما سداد الدَّيْن، الذي وجب بسبب استخدامهما عن طريق إجراء عملية التَّورُّق، والحقيقة أن عمليةَ التَّورُّق باستخدام إحدى البطاقتين، لا تقومُ بتسديد الدَّيْن فحسب، وإنما تنشئ دينًا جديدًا على حامل البطاقةِ يسدِّده خلال فترةٍ محددةٍ، وبهذا نعرفُ أن التَّورُّق في بطاقتي التيسير والخير هو من قبيل [قلب الدَّيْن على المدين] الذي أجمع العلماءُ على تحريمه، وبيان هذا يتَّضحُ على النحو التالي: شخص استخدم إحدى البطاقتين، واستفاد منها إما بالسَّحب من مكائن الصَّرف، أو بالشراء من المحلات التجارية، ثمَّ صدر كَشْف الحساب الذي يبيِّن ما على حامل البطاقة من مستحقّات، ولنفرضْ أن المبلغَ المسجَّل في كشف الحساب هو ستة آلاف، فاعتذر حاملُ البطاقة عن السَّداد، فإنَّ البنكَ في هذه الحالة يدخلُ مع حامل البطاقة في عملية التَّورُّق، فيبيع البنكُ سلعةً مملوكة له على حامل البطاقة بثمانية آلاف مؤجلة تدفعُ في أقساط، ثمَّ يوكلُ حامل البطاقة البنك في بيع السِّلعة لطرف ثالث بثمن نقدي حاضر، فيقوم البنكُ ببيع السِّلعة نيابة عن حامل البطاقة بستة آلاف حالة توضعُ في حساب حامل البطاقة، ثمَّ بعد ذلك تقومُ جهة إصدار البطاقة بسحب الستة آلاف لتسديد الدَّيْن الناشئ عن استخدام البطاقة، فيلاحظ هنا أنَّه قد نشأ دَيْنٌ جديد أكثر من الدَّيْن السابق على حامل البطاقة بسبب الدُّخول في عملية التَّورُّق، وهذا في الحقيقة هو [قَلْبُ الدَّيْن على المدين] أي: زيادة الدَّيْن في ذمة المدين بأي طريقة كانت، فالدَّيْن الذي كان على حامل البطاقةِ هو ستة آلاف قد زاد، وصار ثمانية آلاف.
وقلب الدَّيْن على المدين قد أجمع العلماءُ على تحريمه؛ لأنه يُعَدُّ نوعًا من
أنواع الرِّبا، وهو كما يسميه العلماءُ بربا الجاهلية، فقد كان معروفًا عند الجاهلية بصورته البسيطة الواضحة، وذلك بأن يقولَ الدائن للمدين: إما أن تقضي وإما أن تربي، فإن وفَّاه وإلا زاد الدائن في الأجل، وزاد المدينُ في المال، يقول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1)
يقول قتادة: "إنَّ ربا أهل الجاهلية يبيعُ الرجلُ البيعَ إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل، ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده، وأخر عنه"(2).
وجاء في التفسير: "إنما كان الرِّبا في الجاهلية في التضعيف، وفي السن يكونُ للرجل فَضْل دين، فيأتيه إذا حلَّ الأَجَلُ، فيقول له: تقضيني، أو تزيدني، فإن كان عنده شيء يقضيه قضى، وإلا حوله إلى السّن التي فوق ذلك، إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية، ثمَّ حقّة، ثمَّ جذعة، ثمَّ رباعيًا، ثمَّ هكذا إلى فوق، وفي العين يأتيه؛ فإن لم يكنْ عنده أضعفه في العام القابل، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضًا، فتكون مئة فيجعلها إلى قابل مئتين فإن لم يكن عنده جعلها أربعمئة، يضعفها له كل سنة، أو يقضيه"(3).
والأضعافُ المضاعفةُ التي وردت في الآية هي وصفٌ لواقع، وليست شرطًا يتعلق به الحكم، والآيات التي وردتْ في سورة البقرة قاطعة في حرمة أصل الرِّبا بلا تحديد ولا تقييد {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (4).
أيًا كان، فالأضعافُ المضاعفةُ وصفٌ ملازمٌ للنظام الربوي المقيت أيًا كان سعر الفائدة، والنظام الربوي يعني إقامة دورة المال كلها على هذه القاعدة،
(1) سورة آل عمران آية (130).
(2)
تفسير الطبري (3/ 101).
(3)
المرجع السابق (4/ 90).
(4)
سورة البقرة آية (278).
ومعنى هذا: أن العمليات الربوية ليست عمليات مفردةً، ولا بسيطة، فهي عمليات مكررةٌ من ناحية، ومركبةٌ من ناحية أخرى، فهي تنشئ مع الزمن، والتكرار، والتركيب أضعافًا مضاعفة بلا جدال (1).
غير أن أكلة الرِّبا يبتكرون حيلًا لقلب الدَّيْن على المدين، فيعمدون إلى معاملاتٍ ظاهرها الصِّحَّة، ويحاولون جاهدين أن تكونَ إجراءاتها خاضعةً للضوابط الشرعية، إلا أنها في حقيقة الأمر تكونُ من قلب الدَّيْن على المدين
المعروف بربا الجاهلية.
وحين النظرِ إلى التَّورُّق في بطاقتي التيسير والخير، نجد أنها من قبيل التحايل لقلب الدَّيْن على المدين (حامل البطاقة)، فإذا صدر كَشْفُ الحساب: فحاملُ البطاقة يكون مخيرًا بين الوفاء بالدَّيْن، أو بالدخول في عملية التَّورُّق حين عجزه عن السَّداد، وهذه العملية -أي: التَّورُّق- هي في الحقيقة حيلة لقلب الدَّيْن على حامل البطاقة، بمعنى أن السِّلعة اتخذت ستارًا وحيلةً لقلب الدَّيْن، بدليل أن حامل البطاقة لا يريد السِّلعة، بل إنه قد لا يعرفها أصلًا، والعبرة في العُقُود بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني، والعلماءُ رحمهم الله يرون أن التحايل لاستحلال ما حرَّم الله أشدّ إثمًا من ارتكاب المحرم مباشرة؛ لأنَّ الحيلةَ المحرَّمة -كما ذكرت سابقًا فُي مبدأ الحِيَل- تقتضي رفع التَّحريم مع قيام موجبه، ومقتضيه، ويلزمُ منها فعل المحرم مع ما تتضمَّنه من المكر، والخداع، والتلبيس، إضافةً إلى أن الحيلة قد توجب الكلفة بشراء السِّلعة، وبيعها بخسارة، يقول ابن القيم نقلًا عن شيخ الإسلام:"المعنى الذي لأجله حرّم الرِّبا موجود فيها -يعني: صورة التَّورُّق الفردي- بعينه مع زيادةِ الكلفة بشراء السِّلعة، وبيعها، والخسارة فيها، فالشَّريعةُ لا تحرِّمُ الضَّررَ الأدنى، وتبيح ما هو أعلى منه"(2).
(1) انظر: تفسير آيات الرِّبا. سيد قطب (49).
(2)
إعلام الموقعين (3/ 170).