الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما القائلون بالكراهة: فلعلَّ أدلة المانعين لم تنهضْ للدلالة على التَّحريم والمنع، فحكموا بالكراهة.
المسألة الثانية: الترجيح:
بعد النظر والتأمل في أدلَّة الأقوال والمناقشات، فإنه يبدو لي -والله أعلم- القَولُ بكراهة التَّورُّق كراهة تنزيهية للأسباب التالية:
1 -
أن التَّورُّق فيه حَمْلُ المحتاجِ على شراء السِّلعة بأكثر من سعر يومها.
2 -
أن بعض المعاني التي لأجلها حرم الرِّبا موجودةٌ في التَّورُّق، حيث إن المُتَوَرِّق يتحملُ كثيرًا في ذمته ليحصلَ على نقد أقل منه، وهو بهذا يشابه الرِّبا، وقد سبق أن السلف كانوا يكرهون مشابهة صورة التعاقد المحرم، حيث كرهوا (ده دوازده) أي: أبيعك العشرة باثني عشر؛ لأنه يشابه الرِّبا، والسبب الذي جعلهم يكرهون هذه المشابهةَ هو أنها قد تؤولُ إلى مشابهةٍ حقيقية.
3 -
أن المُتَوَرِّق ينشأ عليه دين جَرَّاء عملية التَّورُّق، ومن مقاصد التَّشْريع في المعاملات المالية كراهة المدْيُونية، وشغل الذمة، حيث إن الدَّيْنَ تقييدٌ لحرية الإنسان في تصرفاته، ولذلك قيل:(رقّ الحرّ الدَّيْن) وعملية التَّورُّق تنشئ الدَّيْن على المحتاج، فيكره التَّورُّق من هذا الباب.
وقد يجوزُ بلا كراهة، ولكنه جواز يخضعُ لضوابط لا بُدَّ من وجودها حين التَّورُّق، وحين عدم وجود تلك الضَّوابط، فإنا نحكم بالكراهة، وقد تزدادُ الكراهة إلى حدِّ التَّحريم، وأما بيان تلك الضَّوابط فهي كالتالي:
1 -
أن يكون المُتَوَرِّق محتاجًا للنقود، وبناء على هذا يكونُ التَّورُّقُ جائزًا كحالة استثنائية، فالمُحتاجُ لا يلجأ إلى التَّورُّق إلا حين عدم وجود من يقرضه، أو أنه يوجد ولكن يقرضه بالفائدة، ولذلك استدلَّ القائلون بالجواز بالحاجة الماسَّة إلى التَّورُّق؛ لأن الحاجةَ المعتبرةَ شرعًا تزيلُ الكراهةَ للشيء، فتجعله
مباحًا حينئذٍ في حقّ المحتاج، وقد جاءت الشَّريعةُ الإسلاميةُ برفع الحرج. يقول تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1). فيكون جوازُ التَّورُّق للحاجة إليه حالةً استثنائية، وعندما تنعدمُ الحاجةُ يكون مكروهًا.
2 -
ومن الضَّوابط لجواز التَّورُّق: انعدام الاستغلال، فإذا وجد الاستغلال من البائع، كأن يزيد عليه الثمن أكثر ممَّا اعتاد عليه الناس، فبيع التَّورُّق يكون مكروهًا، وتزدادُ الكراهةُ، وتصلُ إلى التَّحريم حينما يشتد الاستغلال.
3 -
أن المحتاج إذا أمكنه الحصولُ على السُّيُولة من الطرق التَّمويلية المشروعة كالقرض، أو السلم، أو الاستصناع، فيكره له الدخولُ في التَّورُّق لوجود البديل الأسلم والأنفع للحركة الاقتصادية، وإذا لم يجدْ ذلك فحينئذ يجوزُ له التَّورُّق.
ومما ينبغي التنبيه عليه: أن حُكْم التَّورُّق قد يختلف في حقّ المتعاقدين، فقد يحرمُ على هذا، ويجوز لذاك، والعكس صحيح، فقد يحرم في حقّ بائع السِّلعة؛ لأنه مثلًا استغلَّ حاجة المُتَوَرِّق، فرفع ثمن السِّلعة أكثر ممَّا هو معتاد، بينما يكونُ جائزًا في حقّ المُتَوَرِّق لحاجته الشديدة إلى النقود، ولو فرضنا عدم الحاجة كان مُحَرّمًا في حقّ البائع، والمُتَوَرِّق.
وكذلك العكس فقد يجوزُ التَّورُّق لبائع السِّلعة دون المُتَوَرِّق، فالبائع مثلًا يبيع بالآجل، كما هي عادته، دون أن يعلمَ بمراد المُتَوَرِّق، وليس للمتَّورُّق حاجةٌ في التَّورُّق، فهنا يجوزُ للبائع بيع سلعته بالآجل؛ لأن البيعَ بالآجل جائزٌ في حَدِّ ذاته، بينما لا يجوزُ التَّورُّق للمتَّورُّق لعدم حاجته.
(1) سورة الحج. آية (78).