الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث حاجةُ الحياة الاقتصادية للسُّيولة النقدية
ينظرُ الإسلامُ للمال على أنه قوامُ الحياة، به تنتظمُ معايشُ الناس، وبه يستطيعُ الإنسانُ تلبيةَ حاجاته، وحُبُّ المال فطرةٌ أودعها الله سبحانه في هذا الإنسانِ العجيب، فهي فطرةٌ تُولَد مع الإنسانِ، وتنمو معه.
قال تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (1) وقال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (2).
والإنسانُ مدنيٌّ بالطبع، يُولَد في المجتمع، ولا يعيشُ إلا فيه، ولو تصوَّر شخصٌ ما أن الإنسانَ قد يعيشُ خارجَ مجتمعه، فإنَ هذا ضَرْبٌ من ضُروبِ الوهم والخيال، وهذا العيشُ المشتركُ بين أبناءِ جنسه يُولِّد معاملاتٍ وتبادلاتٍ
بينهم تتطلَّب وجودَ وسيطٍ تتمُّ من خلاله عملياتُ التبادل، ولذلك كانت السيولةُ النقديةُ في غايةِ الأهميَّة، فالحياةُ الاقتصاديةُ قديمًا وحاضرًا تقتضي الحصولَ على السُّيولة الكافيةِ لمتطلبات السُّوق، والعمل، والبيع، والشراء، والشَّرعُ
المطهَّر لم يهدرْ قيمةَ السُّيولة، ولم ينكرْ أهميَّتها في الوسط الاقتصاديِّ، والدليلُ على ذلك: أن الإسلامَ شَرَعَ عُقُودًا تهدفُ إلى توفير السُّيولة للمحتاج مع ما تحقِّقه تلك العقودُ من فوائدَ اقتصاديةٍ، ومن ذلك:
(1) سورة العاديات آية (8).
(2)
سورة الفجر آية (20).
1 -
مشروعيةُ عَقْدِ السّلم: فبيعُ السّلم يحقِّقُ السّيولة للبائع، الذي يكونُ في غايةِ الحاجة لها، ليستطيعُ بتلك السُّيولة تلبيةَ حاجاتِ المشتري.
2 -
مشروعيةُ عَقْد الاستصناع: فصاحبُ العمل يفتقرُ للسُّيولة النقدية لشراءِ المواد الأولية، والتي من خلالها يستطيعُ أن يقوم بالعَمَلِيَّةِ الإنتاجيةِ المطلوبةِ منه.
3 -
مشروعيةُ التَّوَرُّقِ الفردي: فإن الْمُتَوَرِّقَ حين يشتري السِّلْعة، فإنه يشتريها ليس لغرضِ إلاستهلاك، ولا لغرضِ المتاجرةِ والرِّبحِ، وإنما يفعلُ ذلك لتحصيل السُّيولةِ النقديةِ، التي بها قوامُ الحياة.
4 -
مشروعيةُ المضاربة: فعقدُ المضاربة يدلُّ على أنَّ الشَّرعَ المطهَّر لم يغفلْ جانبَ السُّيولة، ولم يهدرْ قيمتها، فقد يملكُ فردٌ المالَ، ولا يملكُ الخبرةَ، وقد يملكُ آخر الخبرةَ ولا يملكُ المال، وبعقدِ المضاربةِ يعطي صاحبُ المالِ السيولةَ لذي الخبرةِ، فتستغلّ استغلالًا يعودُ على الحياة الاقتصادية بالمنافع، والخيرات (1)
وحين ننظرُ إلى الأمم والشُّعوب اليوم نجدُ أن الاقتصادَ وشؤونَ الرزق، والمعاش، والسيولة النقدية يستحوذُ على كلِّ اهتمامهم وعنايتهم، بدليل أن الدولَ العظمى وما دُونها تهتمُّ بأمورِ المعاش والاقتصاد، إلى درجةِ شنِّ الحروب، والحصارات الاقتصادية لتحقيق أهدافِهم المنشودةِ، التي يُعَدُّ الهدفُ الاقتصاديّ من أكبرها (2)، ولا يخفى أن السيولةَ النقديةَ تفتقرُ إليها الحياةُ الاقتصاديةُ المعاصرة، بدليل أن الحاجةَ إلى السُّيولة دعتْ إلى إيجادِ مؤسَّساتٍ ماليةٍ يكونُ نشاطُها الأساسيُّ توفيرَ السُّيولة لمريديها بأي صيغةٍ من صيغِ
(1) انظر: الاقتصاد الإسلامي. حسن سري (249).
(2)
الإسلام ومعضلات الاقتصاد. أبو الأعلى المودودي (5).
التعامل، فنشأتْ تلك المؤسساتُ، وقامت بإيجادِ صيغٍ للتمويل، تكون كفيلةً بتغطية الحاجة إلى السُّيولة (1).
ولا يخفى أن متطلباتِ السُّوق، والعمل، والإنتاج تفتقرُ إلى السُّيولة النقدية، "فمستودعاتُ السِّلع مثلًا حلقةٌ مهمَّةٌ في عملياتِ إنتاج وتسويق السِّلع في الدُّول الغربية، وهي تنهضُ بدور مهمٍّ في توفير السُّيولة للمنتجين، ومعلومٌ أن الدورةَ الإنتاجيةَ لجميع السِّلع في القطاعاتِ الزِّراعية والصِّناعية تبدأ بوجودِ المال المخصَّص لشراءِ المواد الأولية، وتغطية النفقات الأساسية للعَمَلِيَّةِ الإنتاجية، ثُمَّ بعد عَمَلِيَّةِ الإنتاج يكونُ لدى المزارع، أو صاحب المصنع سِلَعًا يمكنه بيعُها في السُّوق، واستخدام ثمنها في شراء المواد الأولية، وبدء دورة جديدة للإنتاج، وهكذا، إلا أنَّ الأمورَ لا تسيرُ دائمًا بهذه الطريقة، إذ يقعُ في أكثر الأحيان أن المنتجَ لا يستطيع تصريفَ إنتاجه بمجرد الإنتاج، فتبقى في مستودعاته لفترةٍ من الزمن تطولُ أو تقصرُ. . . وفي هذه الحالة يحتاجُ ذلك المنتجُ إلى ما يُسمَّى (تمويل المخزون) فيقترضُ من البنك، لكي يقومَ بدورة في إنتاجيةٍ جديدة"(2).
وغالبُ المنتجين في العصرِ الحديثِ يقومُون بالاقتراض من البنوك، لكي لا تتوقَّفَ عجلةُ الانتاج والتسويق، ولولا السيولةُ النقدية لعجزتِ القطاعاتُ الزراعيةُ والصناعيةُ عن دورتها الإنتاجية. وحين التأمل إلى حركة الصِّناعة والتِّجارة نعرفُ "أن المشروعات الصناعية والتجارية، بحاجة إلى مقادير متزايدةٍ من السُّيولة لضمانِ نموها، وارتقائها فضلًا عن اسْتِمرارها"(3). وبهذا يتَّضحُ أن
(1) انظر: حكم التَّوَرُّق كما تجريه المصارف. عبد الله المنيع (16).
(2)
التَّوَرُّق كما تجريه المصارف دراسة فقهية اقتصادية. محمد العلي القريّ (22).
(3)
مبادئ النظام الاقتصادي الإسلامي وبعض تطبيقاته. د: سعاد إبراهيم صالح (171).
السيولةَ تلعبُ دورًا كبيرًا لإنعاشِ الحياةِ الاقتصاديةِ واستمرارها، وتقضي على الرُّكود والكسادِ، الذي قد يعتري الحركةَ التجاريةَ.