الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني دخولُ التَّوَرُّق في العِيْنَة
المسألة الأولى: شمولُ العِينَة لمعنى التَّوَرُّق:
الحقيقةُ أن التَّوَرُّقَ يدخلُ تحت معنى العِيْنَة، وإن كان ثمةَ اختلافٍ بينهما في الحُكْم إلا أن العِيْنَة شاملة لمعنى التَّوَرُّق، وبيان هذا يتَّضحُ بأمرين:
الأمر الأول: دلالةُ اللغة، فالمعنى اللغويُّ للعينة يدلُّ على أن المقصودَ من العِيْنَة هو حصولُ العين، وهو النقدُ الحاضرُ، وهذا المعنى موجودٌ في التَّوَرُّق، جاء في معجم (مقاييس اللغة):"ومن الباب العين، وهو المالُ العتيدُ الحاضرُ، يقال: هو عينٌ غيرُ دين، أي: هو مالٌ حاضرٌ تراه العيون"(1) ويقولُ ابنُ القيّم: "العِيْنَة فعلة من العين: النقد" ثم نقل عن الجوزجانيِّ أنه قال: "أظنُّ أن العِيْنَة إنما اشْتُقَّتْ من حاجةِ الرَّجُلِ إلى العين من الذهب والوَرِقِ، فيشتري السِّلْعَة، ويبيعها بالعين التي احتاج إليها، وليست به إلى السِّلْعة حاجة"(2) وجاء في (نيل الأوطار): "سُمِّيَتْ هذه المبايعةُ عينة لحصولِ النقدِ لصاحبِ العِيْنَة؛ لأنَّ العينَ هو المالُ الحاضر، والمشتري إنَّما يشتريها ليبيعها بعينٍ حاضرةٍ تصلُ إليه من فوره، ليصلَ إلى مقصوده"(3).
والمعنى اللغويُّ يدلُّ على أنَّ القصدَ من العِيْنَة هو حصولُ العين، الذي هو النقدُ الحاضر، وهذا المعنى موجودٌ في التَّوَرُّق، فدلالةُ العِيْنَة اللغويةِ تشملُ التَّوَرُّقَ، إذ المقصودُ من التَّوَرُّق هو السَّعي للحصولِ على العين، الذي هو النقدُ الحاضر.
(1) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس (4/ 203).
(2)
تهذيب السنن (5/ 108).
(3)
نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، للشوكاني (5/ 319).
الأمر الثاني: دلالةُ نصوصِ الفقهاء، فبعضُهم يفسِّر العِيْنَة بما يشملُ صورةَ التَّوَرُّق كما عند الحنفية، فبعضُهم فسَّر العِيْنَة بتفسيرٍ هو عينُ التَّوَرُّق الجائز عند الجُمْهورِ، فقالوا:"أن يأتي الرجلُ المُحتاجُ إلى آخر، ويستقرضُه عشرة دراهم، ولا يرغبُ المقرضُ في الإقراض. . . فيقول: لا أقرضك، ولكن أبيعك هذا الثوبَ إن شئت باثني عشر درهمًا، وقيمته في السُّوق بعشرةٍ ليبيعه في السُّوق بعشرةٍ، فيرضى به المستقرضُ، فيبيعه كذلك، فيحصل لربِّ الثوبِ درهمان، وللمشتري قرض عشرة"(1).
وقول أبي يوسف رحمه الله: "العِيْنَة جائزةٌ مأجورٌ مَنْ عَمِلَ بها"(2).
وسبق أن بينتُ أن قولَ أبي يوسف يحملُ على عدمِ عودِ السِّلْعةِ إلى بائعها الأول.
ولما أراد بعضُ الحنفية تعريفَ العِيْنَة، عرَّفه بتعريفٍ غير مانع من دخول معنى التَّوَرُّق فيه، فها هو السَّرخسي يقول عندما أراد تعريفَ العِيْنَة:"أن يبيعه ما يساوي عشرة بخمسةَ عشرَ ليبيعه المستقرض بعشرة"(3)، وهذا التعريفُ في
الحقيقة شاملٌ لمعنى التَّوَرُّق، والسبب الذي جَعَلَ السَّرخسي يقول بهذا: أنَّ الحنفيةَ يدرجُون التَّوَرُّقَ ضمن صُور العِيْنَة، ويجعلُونها صورةً مستثناةً من حُكْم التحريم، فهم لم يذكروا التَّوَرُّقَ كمسألةٍ مستقلةٍ، وإنما يذكرونه تحت صُور العِيْنَة، وهذا يدلُّ على دُخُولِ التَّوَرُّق في العِيْنَة؛ لاسيما وأن بينهما أوجهَ شبهٍ قوية، كما سيأتي.
وكذلك الأمرُ بالنِّسبة إلى المالكية، فالعِيْنَة عندهم تشملُ التَّوَرُّق؛ لأنهم لما
(1) حاشية ابن عابدين (5/ 273).
(2)
المرجع السابق (5/ 273).
(3)
المبسوط للسرخسي (14/ 36).
كرهوا العِيْنَة اشترطوا لكراهتها أن تباعَ السِّلْعةُ إلى البائعِ الأولِ (1)، فيخرج من ذلك التَّوَرُّق، يقول ابنُ رُشْد:"وسُئِلَ مالك عن رجلٍ يبيعُ السِّلْعةَ من الرجل بثمنٍ إلى أجلٍ، فإذا قبضها منه، ابتاعها منه رجلٌ حاضرٌ كان قاعدًا معهما، فباعها منه، ثم إن الذي باعها الأول اشتراها منه بعد، وذلك في موضعٍ واحدٍ قال: لا خيرَ في هذا، ورآه كأنه محللٌ فيما بينهما"(2) فالإمامُ مالك إنما منع هذه الصُّورةَ لوجودِ الرجل الثالث، الذي يُعَدُّ مُحللًا للعينة، ولولا وجودُه لجاز ذلك عنده إذا بيعتِ السِّلْعةُ لغير بائعها الأول، ولذلك فإن الباحثَ عن حُكْم التَّوَرُّقِ عند المالكية، فسيجده كصورةٍ من صُورِ العِيْنَة التي ذكروها تحت بُيوعِ الآجالِ.
وإذا نَظَرْنا إلى الشَّافعيةِ فالتَّوَرُّق كذلك يدخلُ في العِيْنَة عندهم، حيثُ إنَّهم يرون جَوازَ العِيْنَة، فيكون التَّوَرّق أولى بالجوازِ من العِيْنَة، ولذا فإنَّ الباحثَ عن حُكْم التَّوَرُّق عند الشَّافعية لن يجده صريحًا في كتبهم، وإنما يُخرَّج من كلامِهم في العِيْنَة.
وأما الحنابلةُ فهم الذين ذَكَروا التَّوَرُّقَ كمسألة مستقلة، ويخصُّونه باسم التَّوَرُّق، حيث لم يردْ بهذه التَّسْميةِ في كتب الفقهاء إلا عند بعضِ فقهاءِ الحنابلة (3) غير أنهم لا يذكرونَ التَّوَرُّق إلا حين تذكر العِيْنَة لوجود التشابه بينهما، يقول ابنُ القيم:"إن أعاد السِّلْعة إلى بائعها، فهي العِيْنَة وإن باعها لغيره فهي تورق"(4).
وبهذا يتبينُ أن جمهورَ الفقهاء يدرجُون التَّوَرُّق ضمن صُور العِيْنَة كالحنفية، والمالكية، أو أنه يُخرَّج من كلامهم عن العِيْنَة كالشَّافعية، أو أنه يذكرُ حيث تذكرُ العِيْنَة كما عند الحنابلةِ.
(1) انظر: حاشية الدسوقي (3/ 77).
(2)
البيان والتحصيل، لابن رشد القرطبي (7/ 89).
(3)
راجع ص (12).
(4)
إعلام الموقعين (3/ 170).