الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيعها، والانتفاع بثمنها في تسديد الدَّيْن الذي عليه، فهو أمر جائز إذا ثبتت حاجة المدين لتلك النقود.
وأما الأمر الثاني، وهو تسديدُ المديُونيَّة عن طريق التَّورُق المصرفي، فإن بعضَ الباحثين الذي أجاز هذا الأمر قد خلط بين الأمرين، فحكم بالجواز؛ لأنَّ هذه العملية -أعني: تسديد الدَّيْن عن طريق التَّورُّق المصرفي- سوف تحرِّره من الدَّيْن، وتخلِّصه من المصارفِ التقليدية، والحقيقة أن الغايةَ إذا كانت مشروعة، فإنها لا تبرر الوسيلة، بمعنى أن التخلصَ من ذل الدَّيْن هو غاية مشروعة، ولكن لا يعني هذا جواز الوسيلة، التي ستقودنا إلى هذه الغاية، فإنَّ عمليات التَّورُّق المصرفي يكتنفها العديدُ من الإشكاليات في إجراءاتها، وفي غاياتها، كما سيأتي بيانه.
فمن يرى جواز عملية سداد الدَّيْن عن طريق التَّورُّق المصرفي، فإنَّه حكم باعتبار مشروعية المآل والغاية لهذه العملية، وغضّ الطرف عن إجراءات العملية نفسها، وإذا تأمَلْنا كلامَ القائلين بالجواز -السابق ذكره في بداية المطلب- فإنَّه علل الجواز بأنه يحقّقُ الهدفَ الأساسَ من هذه العملية، وهو التحرر من ربقة الرِّبا، والديون، والدُّخول في المعاملات الإِسلامية.
ولذلك رأيتُ أنه لابدَّ من التفريق بين الأمرين، فتسديدُ المدْيُونيَّة أمر مشروع إذا كان بالطريق المشروع، وأما تسديدُ المديُونيَّة عن طريق التَّورُّق المصرفي، فهذا فيه نظر لما تحمله عمليةُ التَّورُّق المصرفي من الإشكاليات.
التكييف الفقهي للصورة الثانية:
تسديدُ المديونيات الربوية عن طريق التَّورُّق المصرفي، إذا كان الدَّيْن لنفس البنك الذي يقدمُ التَّورُّق للعميل هو من قبيل [قلب الدَّيْن على المدين] الذي أجمع العلماءُ على تحريمه (1)، وبيان هذا يتَّضح على النحو التالي: أن يكون
(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (29/ 419).
زيدٌ مدينًا للبنك الأهلي مثلًا بخمسين ألفًا، فيقوم زيد بطلبِ التَّمويل عن طريق التَّورُّق من نفس البنك، فيشتري زيد سِّلعة من البنك بسبعين ألفًا مؤجَّلة، ثمَّ يقومُ بتوكيل البنك في بيعها بخمسين ألفًا حالة، فيحصل زيدٌ على خمسين ألفًا في حسابه، وبعد ذلك تقومُ الجهةُ المسؤولة في البنك عن الديون بسحب الخمسين ألفًا، لتسديد الدَّيْن الذي على زيد، فنلاحظ هنا أنَّه قد نشأ دين جديد عن طريق التَّورُّق على زيد أكثر من الدَّيْن السابق، وهذا هو حقيقة [قلب الدَّيْن على المدين] ومعناه: زيادة الدَّيْن في ذمَة المدين بأي طريقة كانت، فالدَّيْنُ الذي كان على زيد، وهو خمسون ألفًا، قد زاد وصار سبعين ألفًا.
يقول شيخُ الإِسلام ابن تيمية عن قلب الدَّيْن: "وأما إذا حلَّ الدَّيْن، وكان الغريم معسرًا لم يجزْ بإجماع المسلمين أن يقلب بالقلب، لا بمعاملة ولا غيرها"(1). وقلب الدَّيْن على المدين قد أجمع العلماءُ على تحريمه؛ لأنه يعدّ نوعًا من أنواع الرِّبا، وهو كما يسمِّيه العلماءُ بربا الجاهلية الواضح في صورته، وذلك بأن يقولَ الدائنُ للمدين: إما أن تقضي وإما أن تربي، فإن وفَّاه وإلا زاد الدائن في الأجل، وزاد المدينُ في المال، غير أن أكلة الرِّبا يبتكرون حيلًا
لقلب الدَّيْنِ على المدين، فيعمدون إلى معاملات ظاهرها الصحة، وهي في الحقيقة من قلب الدَّيْن على المدين، وتسديد المديونيات في هذه الصُّورة من قبيل التحايل لقلب الدَّيْنِ على المدين.
والغريبُ أن بعضَ الباحثين أقرَّ بأن هذه المعاملة من قبيل قلب الدَّيْن على المديون، غير أنَّه يرى جوازها بالنظر إلى أنَّ المعاملة تخلصه من البنوك الربوية، والبعض يرى جوازها؛ لأنَّ منع قلب الدَيْن على المدين خاص بالمعسر، وإليك بعض كلامهم:
(1) المرجع السابق.
1 -
يقول الشّيخُ عبد الله المنيع: "الذي يظهرُ لي أن هذا التَّورُّق من صور قلب الدَّيْن. . . وأنه لا يجوزُ إذا كان المدين معسرًا، ولكن نظرًا إلى أن القصدَ من ذلك هوالتحول من التَّعامُل مع البنوك الربوية إلى البنوك الإِسلامية، وأن في الأخذ بالتَّورُّق طريقًا للتخلُّص من هذه البنوك الربوية ومديونياتها، فقد لا يظهر لي مانعٌ من الأخذ بالتَّورُّق للتخلص من هذه الديون الربوية، والتمكُّن من الانتقال عنها إلى المؤسَّسات الإِسلامية، وقد يكون من تبرير ذلك الأخذ بقاعدة: ارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت أعلاهما"(1).
2 -
ويقول الدكتور موسى آدم: "في حال كون تلك المديونيات هي للمصرف، الذي يقدِّم التَّمويل للعميل، ففي هذه الحالة فإن المصرف سيقومُ بقلب الدَّيْن الذي على العميل من قرضٍ ربوي إلى دين آخر ينشأ عن طريق
التَّورُّق، وهذه الصُّورة هي التي يسمِّيها الفقهاء بـ[قلب الدَّيْن على المدين] وهي غير جائزة. . . بيد أن عِلَّةَ النهي المشار إليها أعلاه قد لا تتحقّق في الحالات، التي تكون فيها رغبة العميل هي التخلص من دَيْن ربوي. . . وهذا ما أفتتْ به الهيئةُ الشرعية بإدارة الخدمات المصرفية الإِسلامية بالبنك الأهلي التجاري" (2).
3 -
ويقول الدكتور محمَّد العلي القريّ: "إلا أن صفةَ قلب الدَّيْن الممنوعة، إنما هي متعلِّقةٌ بالمعسر الذي أمرنا بإنظاره إلى الميسرة، أما الموسر القادر على الوفاء فالدُّخول معه في معاملات جديدة يترتب عليها دين ليس من
قلب الدَّيْن الممنوع" (3).
(1) حكم التَّورُّق كما تجريه المصارف الإِسلامية في الوقت الحاضر. عبد الله المنيع (21).
(2)
تطبيقات التَّورُّق واستخداماته في العمل المصرفي. موسى آدم عيسى (18).
(3)
التَّورُّق كما تجريه المصارف. محمَّد العلي القريّ (19).
وحيث إنَّ هذه المعاملة محلّ نظر واجتهاد، فإنَّه يمكن الجوابُ عن كلام القائلين بجواز الدُّخول في عملية التَّورُّق المصرفي مع البنك الدَّائن لسداد الدَّيْن، بالأمور التالية:
1 -
الحقيقةُ أنَّه مهما كانت المبررات، فإنها لا تقوى على تحليل ما أجمعت الأمة على تحريمه، فالحاجة الماسة إلى النقود لا تبيحُ الدخولَ في الرِّبا، والفاقة الشديدة لا تبيحُ لصاحبها السَّرقة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى من يريد سداد دَيْنه، والتخلص من البنوك الربوية، فإنَّه لا يحلُّ له الدخول في عملية التَّورُّق المصرفي مع البنك الدائن، وكما ذكرت سابقًا أن الغاية وإن كانت مشروعة، فإنها لا تبرر الوسيلة، فالتخلصُ من رقِّ الدَّيْن والبنوك الربوية غاية مشروعة، إلا أن الوسيلةَ التي هي عملية التَّورُّق المصرفي مع البنك الدَّائن لا تصحُّ لسببين:
أ- أن هذه الوسيلةَ من قبيل [قلب الدَّيْن على المدين] الذي يُعَدُّ نوعًا من أنواع الرِّبا المجمع على تحريمه.
ب- أن عمليةَ التَّورُّق التي تجريها المصارف تشوبها الإشكالياتُ في الإجراءات، والغايات، كما سيأتي بيانه.
2 -
وأما القاعدة الفقهية [ارتكاب أدنى المفسدتين لتفويتِ أعلاهما] فلا تكون مبررًا لجواز هذه المعاملة؛ لأنَّ شرط العمل بالقاعدة، وهو تعيُّن وقوع إحدى المفسدتين معدوم، إذ يستطيع المدينُ أن يحصلَ على تمويل بطريقة
أخرى، ويتخلَّص من كلتا المفسدتين، أو نقول بعبارةٍ أخرى: إن المدين أمام مفسدتين:
المفسدة الأولى: الاستمرار في التَّعامُل مع البنوك التقليدية بالقروض الربوية.
المفسدة الثانية: الدخول في التَّورُّق المصرفي مع البنك الدائن، وهذا يعني الدخولَ في معاملة [قلب الدَّيْن على المدين]، فالشّيخُ عبد الله المنيع رأى جوازَ الدخول في عملية التَّورُّق المصرفي مع البنك الدائن لسداد المديُونيَّة، التي تُعَدُّ من قلب الدَّيْن على المدين احتجاجًا بهذه القاعدة الفقهية؛ لأنه يرى أن مفسدةَ الدخولِ في التَّورُّق المصرفي مع البنك الدائن أخف من مفسدة الاستمرار في التَّعامُل مع البنوك الربوية، وهذا أمرٌ صحيحٌ، أعني: أن مفسدةَ الدخولِ في التَّورُّق المصرفي أخفّ من مفسدة الاستمرار في التَّعامُل مع البنوك التقليدية بالقروض الربوية، ولكنَّ الاحتجاجَ بالقاعدة، وجَعْلها مبررًا للجواز لا يستقيم هنا؛ لأنه لا يعملُ بالقاعدة إلا إذا تعينت إحدى المفسدتين، بحيث لا يستطيعُ الشخص التخلص من المفسدنين إلا بارتكاب إحداهما، فلا مفرَّ ولا مناصَ إلا
بارتكاب إحداهما، يقول الزركشيُّ عن قاعدة تعارض المفسدتين:"من القواعد الكلية أن تدرا أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما، إذا تعين وقوعُ إحداهما"(1).
وبالنظر إلى حال المدين أمام تلك المفسدتين، فإنَّه يستطيعُ التخلص من كلتا المفسدتين، حيث يمكنه أن يطلبَ التَّمويلَ لسداد دينه بطريقة أخرى من طرق التَّمويل المشروعة كالاقتراض، أو بالتَّورُّق الفردي، أو بصيغة المرابحة
للآمر بالشراء، ولا يصحُّ أن نزعمَ أن المدين لا يستطيع التخلص من تلك المفسدتين، ولذلك لا يصحُّ الاحتجاج بالقاعدة، وجعلها مبررًا للجواز.
3 -
وأما ما ذكره الدكتور محمَّد القريّ فإنَّه يلاحظ أنَّه فَهِمَ من تقييد العلماء المنع بالمعسر، أن ذلك يجوزُ في حقّ الموسر، وهذا ليس بصحيح؛ لأن الموسرَ يجبُ عليه الوفاء، فليست هناك حاجة تدعو إلى قلب الدَّيْن، يقول شيخُ
(1) المنثور للزركشي (1/ 348).
الإِسلام: "وإن كان موسرًا كان عليه الوفاء، فلا حاجةَ إلى القلب لا مع يساره، ولا مع إعساره"(1).
وهذا يدلُّ على أن تقييدَ العلماء المنع بالمعسر لا مفهومَ له، بمعنى أن العلماء قيدوا منع قلب الدَّيْن بالمدين المعسر؛ لأنَّ غالبَ القلب في العادة لا يكون إلا على معسر، والموسر يجب عليه الوفاء، فلا حاجةَ إلى قلبه،
ويمكن أن نقول: إن تقييد المنع بالإعسار لا مفهوم له؛ لأنَّ صفة الإعسار خرجتْ مخرج الغالب، فلا يعتبر مفهومها، يقول القرافيُّ:"إنما قال العلماءُ أن مفهومَ الصفة إذا خرجت مخرج الغالب لا يكون حُجَّة ولا دالًا على انتفاء الحكم عن المسكوت عنه، بسبب أن الصفة الغالبة على الحقيقة تكون لازمة لها في الذهن بسبب الغلبة، فإذا استحضرها المتكلمُ ليحكم عليها حضرت معها تلك الصفة، فنطق بها المتكلم لحضورها في الذهن مع المحكوم عليه، لا أنه استحضرها ليفيد بها انتفاء الحكم عن المسكوت عنه"(2).
وبذلك نعرف أن الدكتور محمَّد القريّ أجاز للمدين الموسر الدخول في عملية التَّورُّق المصرفي مع البنك الدائن، والتي تُعَدُّ من قبيل قلب الدَّيْن، بناءً على مفهوم المخالفة، الذي فهمه من نصوص العلماء، حينما قيدوا منع قلب الدَّيْن بالإعسار، وهذا المفهومُ كما ذكرت لا عبرة له؛ لأن صفة الإعسار خرجتْ مخرج الغالب، فلا مفهومَ لها.
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (19/ 419).
(2)
شرح تنقيح الفصول للقرافي (272).