الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَنْحَصرُ في الإِيراقِ والاسْتيراقِ، فَيُقالُ: أَوْرَقَ الرَّجُلُ، إِذا كَثُرَ مالُهُ، ويُقالُ: المسْتَورِقُ، لِلَّذي يَطْلبُ الوَرِقَ، وورَّقتِ الشَّجرةُ تَورِيقًا، وَأَوْرَقَتْ إِيْراقًا، إذا أخرجتْ وَرَقَها (1)، ولم يَذكُروا مُصْطَلَحَ التَّوَرُّقِ، وَلَعلَّ الفُقهاءَ وَضَعوا اصْطِلاحَ التَّوَرُّقِ في كتُبهِم لِمَنْ يَتَكلَّفُ الحصولَ على الوَرق، فالتَّوَرُّقُ بِصُورتِهِ التي ذَكروها في كُتُبِهم فيها تَكَلُّفٌ وجهْدٌ للحصولِ على الورق، فأصْلُ التَّوَرُّقِ إذًا طَلَبُ النُّقودِ مِن الفضَّةِ، ثمّ تحوَّلَ المفهومُ إلى طَلَبِ النَّقْدِ عمومًا، سواء أكانَ النَّقدُ فِضةً، أمْ ذَهبًا، أم أوراقًا نقدية، وبذلك نعرفُ أنَّ مدلولَ لَفظِ التَّوَرُّقِ قد توسَّعَ بناءً على التَّوسُّعِ في مفهوم النَّقْدِ (2).
* * *
المطلب الثاني: تعريفُ التَّوَرُّقِ اصطلاحًا
الْمَسْأَلَةُ الأولى: التَّحقيقُ في استعمالِ مصطلحِ التَّوَرُّقِ عند الفقهاء:
الجديرُ بالذِّكْرِ أنَّ مصْطلحَ التَوَرُّقِ لم يرِدْ بهذهِ التَّسْميةِ في كتبِ الفُقهاءِ إلا عندَ بَعضِ فقهاءِ الحَنابلةِ، يقولُ شمسُ الدِّينِ بنُ مُفْلِح رحمه الله:"وَلَوِ احْتاجَ إلى نَقْدِ ما يُساوي مِئَة بِمئَتَيْن فلا بَأْس، نصَّ علَيه، وهو التَوَرُّقُ"(3). وقال
البهوتيُّ رحمه الله: "ولو احتاجَ إنسانٌ إلى نَقْدٍ فاشتَرى ما يساوي مِئَة بمِئة وخمسين مثلًا، فلا بأسَ بذلك، وهي مسألةُ التَّوَرُّقِ"(4) وكذلك المرداويُّ ذَكَرَ التَّوَرُّقَ في كتابه (5).
(1) لسان العرب، لابن منظور (10/ 375).
(2)
انظر: حكم التَّوَرُّق كما تجريه المصارف الإسلامية، عبد الله المنيع (5).
(3)
الفروع (4/ 126).
(4)
كشاف القناع (3/ 186).
(5)
الإنصاف (4/ 337).
وَلَعلَّ أَوَّلَ مَن تَحَدَّثَ عن حُكمِ التَّوَرُّقِ بِشَكلٍ مُفَصَّلٍ هو شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيمية رحمه الله، فقد تحدَّثَ عَن حُكْمِه في مجموع الفتاوى (1)، وكذلك ابنُ القَيِّمِ في (إعلامِ الموقعين)(2)، غير أنه قد وَرَدَ ما يدلُّ على أَنَّ هذا المصطلحَ معروفٌ عندَ السَّلَفِ، فقدْ نَقَلَ شيخُ الإسلامِ عن عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ رضي الله عنه قوله:(التَّوَرُّقُ آخيةُ الرِّبا)(3). ويقول ابنُ القيِّمِ: "وقدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ في كَراهيتِها -أَي: صورة التَّوَرُّقِ- فكانَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العزيزِ يَكْرهُها، وكان يقول: التَّوَرُّقُ آخيةُ الرِّبا، ورخَّص فيها إياسُ بنُ معاوية"(4). وهذا فيه دلالةٌ على أنَّ مُصْطَلَحَ التَّوَرُّقِ مَعروفٌ عندَ السَّلَفِ.
وممَّا سبقَ يَتَّضِحُ أنَّ ابْنَ تيميةَ، وابنَ القيِّمِ، وشمسَ الدِّينِ بن مُفْلِح، والبهوتي، والمرداوي، هم الذين ذكروا مصطلحَ التَّوَرُّقِ في كتبِهم، ولم يذكرْهُ الباقونَ مِن فُقهاءِ الحنابِلَةِ.
وأمّا بقيَّةُ المذاهبِ الأُخرى فَلَمْ يَذْكُروا التَّوَرُّقَ بهذا الاسمِ، وإنَّما يتعرَّضونَ لِحُكْمه عندَ حديثِهِمْ عَنِ العِيْنَة، فالحنفية، لم يذكروا مصطلحَ التَّوَرُّقِ، وإنْ كانتْ صورةُ التَّوَرُّقِ موجودةً عندهم، ويذكرونها كَصُورةٍ جائزةٍ مِن صُوَرِ العِيْنَة، فقد ذكر بعضُهم تفسيرَ العِيْنَة، التي وَرَدَ النَّهْيُ عنها بتفسيرٍ هو عَيْنُ
(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (29/ 302 - 303).
(2)
إعلام الموقعين (3/ 170).
(3)
في الحقيقة أني لم أجد هذا اللفظ في كتب الآثار، ولم يذكره سوى ابن تيمية في مجموع الفتاوى (29/ 303) وابن القيم في تهذيب السنن (5/ 108) وإعلام الموقعين (3/ 170) والذي وجدته في مصنف ابن أبي شيبة أن عمر بن عبد العزيز عبَّر بالعينة ولم يذكر التَّورُّق، فقد جاء في المصنف: جاء كتابُ عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد: إنه من قبلك عن العينة فإنها أخت الربا. انظر: مصنف ابن أبي شيبة: من كَره العينة (4/ 282).
(4)
تهذيب السنن (5/ 108).
التَّوَرُّقِ، فقالوا:"أن يأتيَ الرجلُ المحتاجُ إلى آخر، ويَسْتَقْرِضُه عشرةَ دراهم، ولا يرغبُ المقرضُ في الإقراض. . . فيقول: لا أقرضك، ولكن أبيعكَ هذا الثوبَ إن شئتَ باثني عشر درهمًا، وقيمتُه في السُّوقِ بعشرة، ليبيعه في السُّوق بعشرة، فيرضى به المستقرضُ فيبيعه كذلك، فيحصلُ لِرَبِّ الثَّوبِ درهمان، وللمشتري قَرْضُ عشرة"(1).
وقال أَبو يوسف: "العِيْنَة جائزةٌ، مأجورٌ مَنْ عَمِلَ بها"(2)، وَيُحْمَلُ قَولُه على عَدَمِ عَوْدِ السِّلْعَةِ إلى بائعها الأول، كما سيأتي بيانه.
وأمّا المالِكيةُ فلا يوجَدُ عندَهم ذِكْرٌ لمصْطَلحِ التَّوَرُّقِ صراحة، غيرَ أنَّهمُ اشْترَطوا لِكَراهةِ العِيْنَة أَنْ تُباعَ السِّلْعَةُ إلى البائعِ الأوَّلِ فَخَرَجَ مِن ذلكَ التَّوَرُّق (3)، إِضافةً إلى أَنَّ البعضَ مِنْهم ذَكَرَ صُورًا للتَّوَرُّقِ مِن غَيرِ أنْ يُطْلِقَ مُصطلحَ التَوَرُّقِ على تِلكَ الصُّوَرِ (4).
وفُقَهاءُ المالِكيَّةِ يَذكُرونَ بيْعَ العِيْنَة تحتَ بُيُوعِ الآجالِ التي ظاهِرُها الجَوازُ، غيرَ أنَّها تؤدِّي إلى الممْنوعِ (5)، وَلذلكَ فإنَّ الباحِثَ عن حُكْمِ التَّوَرُّقِ عندَ المالكيةِ، يَجدُهُ تحت كِتاب بُيُوعِ الآجالِ، ولا يجدُهُ صريحًا بِلَفْظِ التَوَرُّقِ،
(1) حاشية ابن عابدين (5/ 273).
(2)
المرجع السابق (5/ 273).
(3)
انظر: حاشية الدسوقي (3/ 77).
(4)
انظر: البيان والتحصيل، لابن رشد (7/ 86، 90) الخرشي على مختصر خليل (5/ 106) المقدمات والممهدات، لابن رشد (2/ 524، 528) عقد الجواهر الثمينة، لابن شاس (2/ 689).
(5)
انظر: التاج والإكليل، لابن أبي القاسم العبدري (4/ 303 - 308) والشرح الكبير، لأحمد الدردير (3/ 76).