الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وليس العكس، بأن تكون عملية البيع والشراء خادمة للتمويل، وإذا كان التَّمويلُ خادمًا وتابعًا للمبادلات الاقتصادية، فسيكون نافعًا للنشاط الاقتصادي.
وبناء على ما سبق، فإن الأمر إذا انعكس وصارتِ المبادلاتُ الاقتصادية كالبيع والشراء متابعة للتمويل، وخادمة له، فقد انعكست فلسفة التَّمويل في الإسلام، ليكونَ التَّمويلُ بهذا الانعكاس وسيلةً لتدمير النشاط الاقتصادي.
وحينما نتأمل عملية التَّورُّق المصرفي نجد أن عملية البيع والشراء في العملية جاءت لتكون خادمة للتمويل، بمعنى أن العميلَ محتاجٌ لسيولة نقدية،-أي: لتمويل- فيذهب إلى البنك، ليدخل مع البنك في عملية شراء وبيع وتوكيل، ليحصل على التَّمويل، فالعميلُ حين ذهابه إلى البنك لا يريد السِّلعة، ولا يقصد الشراء ولا البيع، بل مراده الحصول على التَّمويل، ولكي يحصل على التَّمويل لا بُدَّ أن يدخل في عملية تورق مع البنك، وبهذا نعرف: أن البيع والشراء في عملية التَّورُّق المصرفي صار خادمًا وتابعًا للتمويل، بمعنى أن البيعَ والشراء صار وسيلةً لتحقيق التَّمويل، وإذا كان البيعُ والشراء خادمًا للتمويل، فإن التَّمويلَ حينئذ يكون أداة لتدمير النشاط الاقتصادي.
فالشرع المطهَّر جعل التَّمويل خادمًا وتابعًا للمبادلات الاقتصادية، وبالتَّورُّق المصرفي يكون التَّمويلُ مخدومًا بدل أن يكون خادمًا، ومتبوعًا بدل أن يكون تابعًا.
المسألة الثانية: الإشكالات المتعلقة بإجراءات عملية التَّورُّق المصرفي:
بعضُ الباحثين حَكَمَ بجواز التَّورُّق المصرفي لسلامة العُقُود التي يقوم عليها، ولاستيفائها الشروط والأركان، فالبعضُ قصر نظره على الصُّورة فقط، ولم ينظر إلى الحقيقة، فحكم بالجواز، والحقيقةُ أن إجراءات عملية التَّورُّق
المصرفي يكتنفها بعض الغموض والإشكالات، التي تكون كفيلة لمنع هذه العملية، ولو فرضنا أن حقيقة العملية، وغايتها مشروعة، فإن الإشكالات الموجودة في إجراءاتها تقتضي منع العملية، وهذه الإشكالات هي على النحو التالي:
1 -
إشكال يتعلق بالسِّلعة وقبضها:
من المعلوم أن أغلبَ عمليات التَّورُّق المصرفي تتمُّ عبر البورصات العالمية، والحقيقة أن السِّلعَ التي تجري عليها عملياتُ التَّورُّق لا وجودَ لها في الواقع العملي؛ لأنَّ الذي يُتداول في البورصات العالمية هو ما يُعرَف بإيصالات المخازن، فالبضائعُ التي يُراد بيعها عن طريق البورصات تُرسَل أولًا إلى أحد المخازن -مثل مخزن روتردام الأكثر شهرة- وبعد التفريغ، واتخاذ الإجراءات اللازمة تبدأ عملية الوزن لوحدات متساوية، وكل وحدة تزن (25) طنًا، وبعد الوزن تكتب البيانات الكاملة المتصلة بهذه الوحدة، فيكتب الجنس، والصفات. . . إلخ. وهذه الورقةُ المكتوبة هي إيصالُ المخازن، وهي التي تتداول في البورصات، ولا يوجد مصرف من المصارف الإسلامية تسلَّم سلعة من السِّلع، أو تسلم الإيصالات الأصلية.
ولذلك فإن المصارف الإسلامية يعرضُ عليها ثمن شرائها الحال، وبيعها الآجل في وقت واحد، فالبنك الأهلي -مثلًا- لا يشتري ويتسلم إيصالات المخازن، التي تثبت الملكية، ثم يبيع، ويسلم هذه الإيصالات للمشترين المُتَوَرِّقين، وإنما تمَّ الاتفاق بينه وبين من يقوم بدور البائع، ومن يقوم بدور المشتري من الشركات العالمية، فالذي يثبتُ الملكية هو ورقة من الشركة، التي تقومُ بدور البائع، وليس إيصالات مخازن، والمعروف عند بعض البنوك، والشركات العالمية، أن عدمَ وجود إيصالات مخازن أصلية يعني عدم وجود
سلع، وبهذا نعرف أن الأمرَ لا يعدو أن يكون قيودًا لا يقابلها شيء في الواقع العملي، وقَولُ ابن عباس:(دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة)(1) لا ينطبق على التَّورُّق المصرفي، فحتى هذه الحريرة غير موجودة، وإنما دراهم بدراهم، ليس بينهما شيء إلا ورقة مكتوبة (2).
وعلى فرض وجود سلعة، فإن هناك إشكالًا آخر يتمثل في القبض، فالبورصات العالمية تجري فيها بيوع كثيرة في لحظات بسرعة فائقة، ونتيجة السرعة فإنه "لا تُراعى فيها الشروط الشرعية من تعيُّن المبيع، وإفرازه عن غير المبيع، ومن كون المبيع. في ملك البائع وحَوْزته، وإنما تقع البيوع المتعددة بتبادل الأوراق، وهي في كثير من الأحيان لا تمثل بضاعة معينة، وإنما تمثل حقّ الحامل في تسلم كمية من المخازن التي تودع فيها آلاف الأطنان من نفس السِّلعة، والكمية التي تمثله هذه الأوراق غير متميزة عن الكمية الباقية، فلا تأتي الكميةُ المشتراةُ في ضمان المشتري، ويبيعها المشتري إلى آخر قبل أن تتميزُ وتضمن من قبل المشتري، فيقع فيها محظور ربح ما لم يضمن"(3) فالبنكُ إذا اشترى السِّلعة من الشركة البائعة بقصد بيعها على المُتَوَرِّقين بربح، فإنَّه يقعُ في محظور ربح ما لم يضمن، وذلك لأنَّ البنك يشتري السِّلعة، ولا يقبضها، فيبيعها على المُتَوَرِّق بربح، وقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لا يحلّ سلف، وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن"(4)، وعلى فرض أن السِّلعة قد
(1) مصنف ابن أبي شيبة. كتاب البيوع: من كره العِيْنَة (4/ 282) رقم (20157).
(2)
انظر: العِيْنَة والتَّورُّق والتَّورُّق المصرفي. علي السالوس (58 - 60).
(3)
أحكام التَّورُّق وتطبيقاته المصرفية. محمَّد تقي العثماني (24).
(4)
سنن أبي داود. كتاب الإجارة، باب: في الرجل يبيع ما ليس عنده (3/ 283) رقم (3504). وسنن الترمذي كتاب البيوع، باب: ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك (3/ 534) رقم (1234) وسنن النسائي. كتاب البيوع باب: سلف وبيع. (7/ 295) رقم (4629).
عُينت، وحُدِّدت، والقول بـ (القبض الحكمي) الذي يحكم بانتقال الضَّمان بمجرد العقد إذا تعينت السِّلعة، فإننا نقعُ في إشكالية أخرى، وهي: أن القبضَ الحكمي كما يكونُ طريقًا للتيسير، فإنَّه يكونُ طريقًا للاحتيال والتلاعب، فعمليةُ التَّورُّق المصرفي "تتمّ برأس مال كبير، وسرعة فائقة، فاحتمالُ التلاعب فيها وارد، وبخاصة أن التَّعامُل في أصله مع جهات أجنبية تجهل الدِّيْن وأحكامه، بل لا تدين به، وقد يكون الطرفُ الآخر ممن لا يأنف الرِّبا أيضًا، وهذا لا يناسبه الاعتبار بالقبض الحكمي"(1).
والذي يؤيد أن القبض الحكمي صار طريقًا للتلاعب والاحتيال في البنوك: أن السِّلعة لا تبرحُ مكانها، مع أنَّه يجري على تلك السِّلعة العشرات من العُقُود، ومن اطلع على بيانات بعض العُقُود يجد أن رقم السِّلعة، التي هي محلّ العملية، يتكرر دائمًا في عمليات كثيرة، مما يدلُّ على أن السِّلعة جامدة في مكانها.
والغريب الذي يثيرُ الإعجابَ أن الإجراءات العملية للتورق المصرفي تؤكد بشدة وجود القبض في العملية، حتى تكون صورة عقد التَّورُّق المصرفي صحيحة، فهم يؤكدون أن العميل (المُتَوَرِّق) سيقبض السِّلعة حكميًا، والبنك بتأكيده وجود القبض في العملية إنما يريدُ أن يثبت أن عملية التَّورُّق المصرفي مستوفية الشروط والأركان، وعلى فرض وجود القبض في العملية، فإنَّه لا يشترطُ -هنا- في حقّ المُتَوَرِّق؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن، والمُتَوَرِّق لا يربح أصلًا، بل إنه يخسرُ بدليل أنه يبيع السِّلعة بثمن أقل من الثمن المؤجَّل، وبما أن المُتَوَرِّق لا يربحُ، فلا يشترط القبض في حقّ المُتَوَرِّق، وأما في حقّ البنك فالقبضُ مشروطٌ؛ لأنَّ البنك يربحُ في السلعة دون قبض، فيقع في نهي النبي صلى الله عليه وسلم (ولا ربح ما لم يضمن).
(1) التَّورُّق كما تجريه المصارف في الوقت الحاضر. عبد الله السعيدي (35).
2 -
إشكال يتعلق بالوكالة:
باستقراء أحكام الوكالة عند العلماء، نجدُ أن الوكيلَ مطالب بالعمل لتحقيق مصلحة موكله، فإذا عمل بما يضرُّه فعلى الوكيل الضمان، يقول ابن قُدامة: "وإن باع بأقل من ثمن المثل. . . أو باع بدون ما قدره له، فحكمه حكم من لم
يؤذن له في البيع والشراء. . . وعن أحمد: أن البيع جائز، ويضمن الوكيل النقص" (1).
ويقول البهوتيُّ: "وإن باع هو أي وكيل ومضارب بدون ثمن المثل. . . أو باع بأنقص مما قدّره له الموكل، أو ربّ المال، صحَّ البيع. . . وضمنا"(2). ومن يطلع على أحكام الوكالة يجد الكثير من الأحكام التي تفيد أن مقصود عقد الوكالة هو العمل لمصلحة الموكل، ولذلك منع الفقهاء الوكالة إذا كانت التهمةُ تلحق الوكيل كأن يبيعَ الوكيل لنفسه، أو لولده (3).
والمُتَوَرِّق في عملية التَّورُّق المصرفي بعد شرائه السِّلعة، يقومُ بتوكيل البنك في بيعها بأقل من الثمن الذي اشتراها به، وفي هذا خسارة على المُتَوَرِّق، فالبنك هنا يعمل لتحقيق مصلحة نفسه، ولا يعملُ لتحقيق مصلحة موكله؛ لأنه
يبيع السِّلعة ابتداءً على العميل بربح، ثم يكون وكيلًا عن المُتَوَرِّق ليبيع السِّلعة بخسارة، وهذا أمرٌ معروفٌ لا بُدَّ منه في عمليات التَّورُّق المصرفي، فصار بهذا العرف كأنه مشروط، بمعنى أن البنك كأنه يشترطُ على العميل بأن يبيعه السِّلعة بربح، ثمَّ يكون وكيلًا ليبيع السِّلعة بخسارة، وهذا إشكال قويٌّ في عقد الوكالة، الذي يكون في عمليات التَّورُّق المصرفي.
(1) المغني (5/ 78).
(2)
كشاف القناع (3/ 473).
(3)
انظر: المرجع السابق (3/ 473).
3 -
إشكال يتعلق بخيار العميل في توكيل المصرف وعدمه:
تنصُّ الإجراءاتُ العملية لعمليات التَّورُّق المصرفي على أن العميل (المُتَوَرِّق) له الخيار في توكيل البنك لبيع السِّلعة وعدمه، فعلى سبيل المثال: جاء في المنشورة التعريفية لبرنامج (تيسير الأهلي) قولهم: "للعميل الحقّ في أن يتسلَّم سلعته في مكان تسليمها إذا رغب في ذلك، أو أن يوكل البنك في بيعها نيابة عنه"(1).
والحقيقة أن وجودَ هذا الخيار كعدمه؛ لأنَّ العميلَ لم يأتِ إلى البنك إلا رغبة منه في الحصول على السُّيُولة النَّقْديّة، وهو يعلمُ أنَّه لا سبيل لتحصيلها إلا بالتوكيل، فلولا الوكالة لما أتى العميل للبنك، فتكون الوكالة كأنها أمرٌ مشروطٌ في العملية؛ لأنَّ المعروفَ عرفًا كالمشروط شرطًا، والمعروف أن عمليات التَّورُّق المصرفي لا تقومُ إلا على التوكيل، بدليل أنَّه لا توجد عملية تورق في البنوك خالية من التوكيل، وبهذا نعرف أن هذا الخيارَ لا وجودَ له في الواقع العملي.
"وإنما العبرةُ هل يملك المصرف الخيار في قبول التوكيل وعدمه؟ والجواب: أن المصرفَ لا يملكُ هذا الخيار؛ لأنه التزم مسبقًا مع المشتري النهائي، وإذا كان كذلك كانت المعاملة عينةً ثنائية؛ لأنَّ المصرف ضامنٌ للثمن النَّقْديّ، ولا فَرْقَ في هذه الحالة بين أن يشتريها هو أو غيره؛ لأنَّ العبرةَ بالضَّمان، وهو حاصلٌ على كل تقدير"(2).
4 -
إشكال يتعلق بالاتفاقات السابقة على عقد البيع:
عرفنا فيما سبق -في تصوير التَّورُّق المصرفي- أن البنك يعقدُ اتفاقات مع
(1) انظر المنشورة التعريفية التي تحمل عنوان (تيسير الأهلي) والتي تصدرها جميع فروع البنك الأهلي التجاري.
(2)
التكافؤ الاقتصادي بين الرِّبا والتَّورُّق. سامي السويلم (21).
شركة بائعة تبيع على البنك السِّلع، التي هي محلّ عملية التَّورُّق، وكذلك تعقد مع شركة باعتبارها مشتريًا نهائيًا في عملية التَّورُّق المصرفي، وهذه الشركةُ المشترية تلتزم بموجب الاتفاقية بالشراء النهائي للسلع التي يبيعها البنك وكالة عن العميل "وهذا الالتزام ضمان للسعر المباع به أن لا يتجاوز حدودًا معينة حماية من تقلب الأسعار، علمًا أن السعر المتفق عليه يتضمَّن عمولةً للمشتري النهائي مقابل الضمان، ويقابل هذا الضمان التزام المصرف بالبيع عليه، بمعنى أنَّه لا يحقّ للمصرف أن يبيعَ السِّلع في السُّوق حتى لو ارتفع سِعْرُها عن السعر المتفق عليه مع المشتري النهائي، وبذلك يكون هذا الضمانُ من الطرفين: المصرف بأن يبيع على المشتري النهائي، والمشتري النهائي بالشراء بالثمن المحدد"(1).
والإشكال هنا من وجهين:
أ- أن هذا الالتزامَ يصدرُ قبل توكيل العميل، بل قبل مجيء العميل للبنك، فيكون الالتزامُ في غير محلّه؛ لأنَّ البنكَ لا يملكُ التصرف في مال غيره قبل الإذن، ثمَّ إن هذا الالتزام قد يخالفُ مصلحة العميل إذا ارتفع سعر السُّوق عن
السعر الملتزم به، فالبنك يبيعُ بالسعر المتفق عليه.
ب- أن عملية التَّورُّق المصرفي بهذا الالتزام يكون حاصلها التزام البنك بتوفير النَّقْد مقابل دين له في ذِمَّةِ العميل، فالبنكُ يلتزمُ ببيع السِّلعة بالثمن المحدد لتوفير النَّقْد للعميل، وهذا هو دورُ البائع في العِيْنَة، فإنَّه يلتزم بتوفير النَّقْد للعميل (2).
5 -
التعسف الموجود في عملية التَّورُّق المصرفي:
لا تخلو عملية التَّورُّق المصرفي من بعض التعسفات، التي تؤكِّد الحكم
(1) التَّورُّق والتَّورُّق المنظم. سامي السويلم (75).
(2)
انظر: المرجع السابق (76) والتكافؤ الاقتصادي بين الرِّبا والتَّورُّق. سامي السويلم (20)