الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حَزْم: "ومَنْ باع سلعةً بثمن مُسمًّى حالة أو إلى أجل مُسَمّى، قريبًا أم بعيدًا، فله أن يبتاعَ تلك السِّلْعةَ من الذي باعها منه بثمنٍ مثل الذي باعها منه، وبأكثر منه، وبأقلّ حالًا، وإلى أجل مسمًّى، أقرب من الذي باعها منه إليه، أو أبعد،
ومثله، كلُّ ذلك حلال لا كراهية في شيء منه ما لم يكن ذلك عن شرط مذكور في نفس العقد، فإن كان عن شرط، فهو حرام مفسوخ أبدًا" (1).
المسألة الرابعة: الأدلة، والترجيح:
بعد ذِكْر مواقف العلماءِ من بَيْع العِيْنَة والتأمُّل فيها، نستطيعُ القولَ بأن العلماءَ في بيع العِيْنَة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: المنعُ: وهو رأيُ بعضِ الصَّحابة كعائشةَ، وابنِ عباس، وبعض التابعين كابن سيرين، وهو مذهبُ جمهور العلماء من الحنفية، والمالكية، والحنابلة، واختيار شيخِ الإسلام ابن تيمية.
القول الثاني: الجوازُ: وهو مذهبُ الشافعي، وجُمْهور أصحابه، وبه قال ابنُ حَزْم، ورُوي الجوازُ عن أبي يوسف صاحبِ أبي حنيفة، ولكنه يحملُ على عدم عود السِّلْعة إلى بائعها الأول، كما أسلفت.
القول الثالث: يُكْرَهُ كراهةً تنزيهيةً، وبه قال المتأخرون من الشَّافعية كالأنصاري، والرَّملي.
الفرع الأول: الأدلة
أدلة القائلين بتحريم بيع العِيْنَة:
الدليل الأول: عن ابنِ عُمر رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِذا
ضَنَّ النَّاسُ بالدّينارِ والدّرهمِ، وتَبايَعوا بالعِيْنَة، واتَّبعوا أذْنابَ البقر، وتَرَكوا
(1) المحلى (9/ 47).
الجهادَ في سبيل الله أنزلَ اللهُ بهم بلاءً، فلم يرفعْه عنهم حتى يُراجعوا دينهم" [رواه أحمد]. وروى نحوه أبو داود من رواية نافع عن ابن عمر (1).
وَجْهُ الاستدلالِ من الحديث:
أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ الوقوعَ في هذه الأفعال بمثابةِ الخروجِ من الدِّين، فلا يخفى على مَنْ تأمل عباراتِ الحديث ذلك الزَّجر البالغ، والتقريع الشديد (2)، الذي يدل على حُرمة فعلها، فإن قوله:"حتى يراجِعوا دينهم" كأنه صلى الله عليه وسلم قد حَكَمَ عليهم بالخُروجِ من الدِّين، وأنه لا سبيلَ للرُّجوعِ إلى الدِّين إلا بترْكِ تلك الأشياء.
وقد نُوقِشَ الاستدلالُ بهذا الحديثِ من جهتين:
1) نُوقش من جهة السَّند: أنَّ هذا الحديثَ جاء من رواية أبي عبد الرحمن الخُراساني، وهو ضعيف، يقول الزَّيْلَعِيُّ ذاكرًا قولَ ابن القطَّان:"فالحديثُ من أجله لا يصحُّ"(3)، وقال فيه ابنُ أبي حاتم:"شيخٌ ليس بالمشهور، ولا يستقلُّ به"(4)، وقال المناويُّ:"فيه أبو عبد الرحمن الخراساني، واسمه إسحاق، عدّ في الميزان من مناكيره"(5).
ويقولُ الصَّنْعانيُّ شارحًا قولَ ابنِ حَجَر (في إسناده مقالٌ): "لأنَّ في إسناده
(1) انظر: مسند الإمام أحمد (2/ 28) رقم (4825) وانظر: سنن أبي داود: كتاب الإجارة. باب: في النهي عن العينة (3/ 274) رقم (3462) وسنن البيهقي الكبرى: كتاب البيوع. باب: ما ورد في كراهية التبايع بالعينة (5/ 316) رقم (10484).
(2)
انظر: سبل السلام للصنعاني (3/ 81).
(3)
نصب الراية للزيلعي (4/ 16).
(4)
الجرح والتعديل (2/ 213).
(5)
فيض القدير (1/ 314).
أبا عبد الرحمن الخُراساني، اسمه إسحاق، عن عطاء الخُراساني، قال الذهبي في الميزان: هذا من مناكيره" (1).
الجوابُ عن هذه المناقشة:
عندما نرجعُ إلى كتب الحديث نجدُ أنَّ أبا عبد الرحمن الخُراساني هذا، إنما وَرَدَ في سند الحديث الذي رواه أبو داود، وأما الحديثُ الذي رواه أحمد فليس في سَنَده أبو عبد الرحمن الخُراساني، وإنما جاء سَنَدُ أحمد على النحو التالي:"حدثنا الأسودُ بن عامر، أخبرنا أبو بكر، عن الأعمش، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا ضَنَّ الناسُ. . ." الحديث.
والحديثُ الذي رواه أحمد قد صحَّحه العلماءُ، يقولُ الزَّيْلَعيُّ ذاكرًا قولَ ابن القطَّان في الحديث الذي رواه أحمد:"وهذا حديثٌ صحيحٌ، ورجالُه ثقات"(2).
ويقول ابنُ حَجَر فيما رواه أحمد: "رجالُه ثقاتٌ، وصححه ابنُ القطان"(3).
ويقول أبو البركات ابن تيمية: "روي الحديثُ من طرق عدة، منها:
1 -
ما رواه أحمد عن أسود بن عامر، حدثنا أبو بكر، عن الأعمش، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر، قال: سمعتُ. . . الحديث.
2 -
ورواه أبو داود بإسنادٍ صحيحٍ إلى حيوة بن شريح المصري، عن إسحاق أبي عبد الله الخراساني، أن عطاء الخُراساني حدَّثه أن نافعًا حدَّثه عن ابن عمر، قال: سمعتُ. . . الحديث.
يقول رحمه الله: "فهذان إسنادان حَسَنان يشدُّ أحدُهما الآخر، فأما رجالُ الأول
(1) سبل السلام (3/ 80).
(2)
نصب الراية (4/ 16).
(3)
بلوغ المرام لابن حجر (152).
فأئمةٌ مشاهير. . . فالإسناذ الثاني يبينُ أن للحديث أصلًا محفوظًا عن ابن عمر، فإنَّ عطاء الخراساني ثقةٌ مشهورٌ، وحيوة كذلك" (1)
2) وقد نُوقش من جهة المتن (2) بأمرين:
الأمر الأول: أنَّ الحديثَ ليس فيه دلالةٌ صريحةٌ على التحريم؛ لأن العِيْنَة جاءتْ في الحديث مقرونةً باتباع أذناب البقر، والاشتغال بالزَّرع، وهذا غيرُ مُحَرَّم.
والجوابُ عن المناقشة:
أنَّ التَّحريمَ محمولٌ على مَنْ ألهتْه أمورُ الدنيا عن فِعْل الواجب، ولا ينطبقُ التحريمُ على مَنِ اشْتغلَ بالزَّرْعِ مطلقًا، يقول الشَّوكاني:"وقد حُمِل هذا على الاشتغالِ بالزَّرع في زمنٍ يتعيَّن فيه الجهاد"(3).
الأمر الثاني: جاء في بعض روايات الحديث: "سَلَّطَ اللهُ عليكُم ذُلًّا"، والوعيدُ بالذُّلِّ ليس فيه دلالةٌ على التحريم.
والجوابُ عن المناقشة:
يقولُ الشَّوكاني: "لا نُسلِّم أنَّ التَّوعُّدَ بالذل لا يدلُّ على التَّحريمِ؛ لأن طَلَبَ أسبابِ العِزَّةِ الدينيةِ، وتَجَنُّب أسبابِ الذِّلة المنافية للدِّين واجبان على كُلِّ مؤمن، وقد توعَّد على ذلك بإنزالِ البلاء، وهو لا يكونُ إلا لذنبٍ شديدٍ، وجعل الفاعل لذلك بمنزلةِ الخارجِ من الدِّين، المرتدِّ على عَقِبه"(4).
الدليلُ الثاني: عن أبي إسحاق السّبيعي عن امرأته: أنها دخلتْ على عائشة
(1) المنتقى من أخبار المصطفى (2/ 348).
(2)
انظر: المناقشة والجواب في نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار (5/ 318 - 320).
(3)
المرجع السابق (5/ 319).
(4)
المرجع السابق (5/ 320).
- رضي الله عنها فدخلتْ معها أم ولد زيد بن أرقم الأنصاري، وامرأة أخرى، فقالت أمُّ ولد زيد بن أرقم: يا أمَّ المؤمنين، إني بِعْتُ غُلامًا من زيد بن أرقم بثمانمئة درهم نسيئةً، وإنِّي ابتعتُه منه بستمئة نقدًا. فقالت لها عائشةُ: بئسَ ما اشتريتِ، وبئس ما شريت، إنَّ جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطلَ إلا أن يتوبَ" (1).
وجهُ الاستدلال من الحديث:
أنَّ الحديثَ فيه زَجْرٌ شديدٌ، ووعيدٌ بإبطال الأعمالِ الصَّالحة لمن كان يعاملُ الناسَ بالعِيْنَة، وهذا يدل على التحريم، ولو لم يكن عند عائشة عِلْمٌ بذلك لما قالته برأيها، فالحديثُ له حُكْمُ الرَّفع؛ لأنه لا مجالَ للرَّأي فيه.
نُوقش الاستدلالُ بهذا الحديث من جهتين:
1 -
نُوقش من جهة الثُّبوت: فثبوتُه فيه نَظَرٌ؛ لأنَّ امرأة أبي إسحاق السّبيعي هي العاليةُ بنت أيفع، وهي مجهولةٌ، يقولُ ابنُ حَزْم:"فأما خبر أبي إسحاق ففاسدٌ لوجوه: -وذكر منها- أنَّ امرأةَ أبي إسحاق مجهولةُ الحال، لم يَرْوِ عنها أحدٌ غير زوجها وولدها يونس، على أن يونس قد ضعَّفه شُعْبة بأقبح التَّضعيف"(2).
الجوابُ عن المناقشة:
يقولُ ابنُ القيم في الرَّدِّ على المناقشة: "وأيضًا فهذه امرأةُ أبي إسحاق السّبيعي -وهو أحدُ أئمة الإسلامِ الكبار-وهو أعلمُ بامرأته، وبعدالتها، فلم يكنْ يروي عنها سُنة يحرمُ بها على الأمة، وهي عنده غير ثقة، ولا يتكلَّم فيها بكلمة، بل يُحابيها في دِيْن الله، هذا لا يظنُّ بمن هو دون أبي إسحاق، وأيضًا
(1) سنن الدارقطني كتاب البيوع (3/ 52) رقم (219) وانظر: سنن البيهقي الكبرى، كتاب البيوع، باب: المرابحة (5/ 330) رقم (10580) ومصنف عبد الرزاق، كتاب بيوع باب: الرجل يبيع السلعة ثم يريد اشتراءها بنقد (8/ 185).
(2)
المحلى (9/ 49).
فإن هذه امرأة من التابعين قد دخلتْ على عائشة، وسمعتْ منها، وروتْ عنها، ولا يعرفُ أحدٌ قدحًا فيها بكلمة، وأيضًا فإنَّ الكذبَ والفِسْقَ لم يكنْ ظاهرًا في التابعين، بحيث تردّ به روايتهم. . . وأيضًا فلم يعرفْ أحدٌ قطُّ من التابعين أنكر على العالية هذا الحديث، ولا قَدَحَ فيها من أجله، ويستحيلُ في العادة أن ترويَ حديثًا باطلًا، ويشتهرَ في الأمة، ولا ينكر عليها مُنْكِر" (1).
2 -
قد نُوقش من جهة المتن: أن الإنكارَ في الحديث جاء بسبب أنَّ البيعَ كان إلى العطاء، كما جاء في بعضِ رواياتِ الحديث، وهو أجلٌ غيرُ معلوم.
والجوابُ عن المناقشة:
أنَّ عائشةَ رضي الله عنها كانت تجيزُ البيعَ إلى العطاء، فقد روى ابنُ أبي شيبة:"أنَّ أمهات المؤمنين كُنَّ يشترين إلى العطاء"(2).
الدليلُ الثالث: أنَّ بيعَ العِيْنَة وسيلةٌ، وحيلةٌ تؤدي إلى الرِّبا (3)، وما كان وسيلةً إلى الحرام فهو حرامٌ، وكونها وسيلة في غايةِ الظُّهور، فإنَّ حقيقةَ المعاملة مبادلةُ دراهم بدراهم أكثر منها، والسِّلْعَةُ لغوٌ لا عبرةَ بها، بدليل أنها تعودُ على البائع.
• أدلةُ القائلين بجواز بيع العِيْنَة:
الدليلُ الأول: قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (4)، ويقول سبحانه:{قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (5).
(1) إعلام الموقعين (3/ 167).
(2)
مصنف ابن أبي شيبة من رخص في الشراء إلى العطاء (4/ 290) رقم (20257).
(3)
انظر: إعلام الموقعين، لابن القيم (3/ 323).
(4)
سورة البقرة آية (275).
(5)
سورة الأنعام (119).
وجهُ الاستدلال من الآيتين:
أنَّ العِيْنَة في الحقيقة بيعان، فهما حلالان بنصِّ القرآن، ولو نَظَرنا إلى الكِتاب والسُّنَّة فلن نجدَ تفصيلًا يُحرّم العِيْنَة، فيدلُّ ذلك على الجواز (1).
نُوقش الاستدلالُ بالآيتين:
أن السُّنة جاءتْ بتحريم العِيْنَة، كما في حديث ابن عمر، وخبر عائشة، وقد صحَّحهما العلماءُ كما سبق ذِكْرُه، ثم إنَّ العِيْنَة تُخالِفُ قواعدَ الشَّرع من جهة كونها حيلة تمنعُ من تحقيق منفعة التَّبادلِ الحقيقي، بل إنَّ نتيجتها دينًا في
الذمَّة أكثر من النقد المقبوضِ، وهذه حقيقةُ الرِّبا (2).
الدليلُ الثّاني: عن أبي سعيد الخُدْري، وأبي هريرةَ رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استعمل رَجُلًا على خيبر، فجاءه بتمرٍ جَنِيْبٍ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أكُلُّ تمرِ خيبرَ هَكَذا"؟ قال: لا والله يا رسولَ الله، إنَّا لنأخذُ الصَّاع من هذا بالصَّاعين، والصَّاعين بالثلاثة. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لا تفعلْ، بع الجَمْعَ بِالدّراهمِ، ثم ابتعْ بِالدّراهمِ جَنِيبًا"(3)[متفق عليه].
وجه الاستدلال من الحديث:
أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَ ببيع الجمع، ويشتروا بثمنه جَنِيبًا من غير تفريقٍ بين أن يشتريَ من المشتري، أو من غيره، فدلَّ هذا على أنه لا فَرْقَ بين الأمرين، إذ لو كان هناك فرقٌ لبيَّنه صلى الله عليه وسلم (4).
(1) انظر: المحلى لابن حزم (9/ 47).
(2)
انظر: التكافؤ الاقتصادي بين الربا والتَّوَرُّق. سامي السويلم (12).
(3)
انظر: صحيح البخاري: كتاب البيوع، باب: إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه (2/ 767) رقم (2089) وصحيح مسلم: كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلًا بمثل (3/ 1215) رقم (1593).
(4)
شرح النووي على صحيح مسلم (11/ 21) وانظر: فتح الباري، لابن حجر (4/ 401).
وقد نُوقش الاستدلالُ بهذا الحديث:
أنَّ عُمومَ الحديثِ قد خُصَّ بأن السُّنة، وقواعد الشريعة قد دلَّت على مَنْعِ الإنسان من شراء ما باع بأقلّ ممَّا باع ممن اشترى منه، قبل نقد الثَّمن (1).
الدليلُ الثالث: أنه لما جاز بيعُ السِّلعة التي اشتراها ممَّن اشتراها منه بعد قبض الثمن، فليكنِ الأمرُ كذلك قبلَ القبضِ، حيثُ لا فَرْقَ بينهما.
ونُوقش الدليل:
أنَّ النصَّ وَرَدَ بتحريم العِيْنَة، فلا عبرةَ بقياس يقابله، ثم إنَّه قياسٌ مع الفارق؛ لأنَّ المنعَ من الشِّراء قبل القبض كان بسببِ وجودِ شبهة إرادة الرِّبا، وأما بعد القبض فتنعدمُ هذه الشُّبهة.
وأما القائلون بكراهةِ العِيْنَة، فلعلَّهم يرون أدلةَ المنع لم تنهضْ للدَّلالةِ على التَّحريم.
الفرعُ الثّاني: موقفُ الشَّافعي مِن الأحاديثِ الدّالةِ على تحريمِ العِيْنَة:
تطرَّقتُ فيما سبق عن موقف الشَّافعية من بيع العِيْنَة، وأن الشَّافعي رحمه الله قد صرَّح بجواز العِيْنَة في كتابه (الأم) مخالفًا بذلك جُمْهُور العلماء، ولم تكنْ مخالفته عن جهل، أو هوى، وإنَّما أجاز بيع العِيْنَة جَرْيًا على ظاهر العقود، وسلامتها من المَكْر والخِداع، ومن المعروفِ أن الجمهورَ استدلُّوا بحديثِ ابنِ عمرَ، وخبر عائشة رضي الله عنهما على تحريمِ العِيْنَة (2).
ويُلاحَظُ من كلام الشَّافعي في (الأم) أنه لم يتطرَّق لحديث ابن عمر لا من
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر (4/ 401).
(2)
راجع ص (60) و (63).
قريبٍ ولا من بعيد، ولعلَّ الحديثَ لم يبلغه، إذ لو بلغه لحسم النِّزاع، وقال بالتحريم كالجُمْهورِ جَرْيًا على قاعدته الذهبية:[إذا صحَّ الحديثُ فهو مَذهبي]، وقد جاء في (فيض القدير):"أوصانا الشَّافعي باتِّباعِ الدليلِ إذا صَحَّ بخلافِ مذهبه"(1)، فحديثُ ابن عمر لو بلغ الشَّافعي لما خالف الجمهور، ولقال مثل قولهم بتحريم العِيْنَة.
وأما خَبَرُ عائشةَ رضي الله عنها فقد وقف الشَّافعيُّ في الرَّدِّ على هذا الخبر طويلًا، وفي رَدِّه ذِكر ثلاثة أمور:
1 -
عدم ثبوت الخبر عنده، فقال رحمه الله:"قد تكون عائشةُ لو كان هذا ثابتًا عنها. . ."(2)، وقال أيضًا:"وجملة هذا أنّا لا نثبتُ مثله على عائشة"(3)، وقد سبق بيانُ ثبوتِ الخبر، وصحته (4).
2 -
أنَّ إنكارَ عائشة رضي الله عنها بسبب أن البيعَ كان إلى العطاء، وهو أجلٌ غيرُ معلوم، يقول رحمه الله:"قد تكون عائشةُ لو كان هذا ثابتًا عنها عابتْ عليها بيعًا إلى العطاء؛ لأنه أجلٌ غير معلوم، وهذا ممَّا لا نجيزُه لا أنها عابتْ عليها ما اشترتْ منه بنقد، وقد باعته إلى أجلٍ"(5)، وقد بينت سابقًا أن عائشةَ تجيزُ البيعَ إلى
العطاء (6).
3 -
عند وُقُوع الخِلافِ بين الصَّحابة يكونُ الأخذُ بقول الذي معه القياس، والذي معه القياس هو زيدُ بنُ أرقم يقول رحمه الله: "ولو اختلف بعضُ أصحابِ
(1) فيض القدير، للمناوي (1/ 314).
(2)
الأم (3/ 78).
(3)
المرجع السابق (3/ 78).
(4)
راجع ص (64).
(5)
الأم (3/ 78).
(6)
راجع ص (65).
النبيِّ صلى الله عليه وسلم في شيء، فقال بعضُهم فيه شيئًا، وقال بعضُهم بخلافه كان أصل ما نذهبُ إليه أنّا نأخذُ بقولِ الذي معه القياس، والذي معه القياس زيد بن أرقم. . . فإنْ قالَ قائلٌ: فمن أين القياس مع قول زيد؟ قلت: أرأيت البيعة الأولى، أليس قد ثبتَ بها عليه الثمن تامًا؟! فإنْ قال: بلى، قيل: أفرأيت البيعة الثانية أهي الأولى؟ فإنْ قال: لا، قيل: أفحرامٌ عليه أن يبيعَ ماله بنقد، وإن كان اشتراه إلى أجل؟ فإنْ قال: لا إذا باعه من غيره، قيل: فمن حرمه منه؟ فإنْ قال: كأنها رجعتْ إليه السِّلْعة، أو اشترى شيئًا دينًا بأقلّ منه نقدًا، قيل: إذا قلت كان لما ليس هو بكائن لم ينبغ لأحد أن يقبلَه منك، أرأيت لو كانت الْمَسْأَلَةُ بحالها، فكان باعها بمئة دينار دينًا، واشتراها بمئة أو بمئتين نقدًا، فإن قال: جائز، قيل: فلا بُدَّ أن تكونَ أخطأت كان، ثم أو ها هنا؛ لأنه لا يجوزُ له أن يشتريَ منه مئة دينار دينًا بمئتي دينار نقدًا، فإن قلت: إنما اشتريت منه السلعة، قيل: فهكذا كان ينبغي أن تقولَ أولا، ولا تقول كان لما ليس هو بكائن، أرأيت البيعة الآخرة بالنقد لو انتقضت، أليس تردُّ السِّلْعَة، ويكونُ الدَّين ثابتًا كما هو، فتعلم أن هذه بيعة غير تلك البيعة، فإن قلتَ: إنَّما اتهمته، قلنا: هو أقلُّ تهمة على ماله منك، فلا تركنْ عليه إن كان خطأ، ثم تحرم عليه ما أحلَّ الله له؛ لأن الله عز وجل أحلَّ البيع وحرَّم الرِّبا، وهذا بيعٌ وليس بربا" (1).
وهذا القياسُ الذي ذكره الشَّافعي لا يصحُّ الأخذ به؛ لأن النَّصَّ قد وَرَدَ بتحريم العِيْنَة كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه، فلا عبرةَ بالقياس مع وُجُودِ النَّصِّ، والشَّافعيُّ رحمه الله لجأ إلى بيانِ كون القياس مع زيد لعدم ثبوتِ النَّصِّ عنده، ولو ثبت خبرُ عائشةَ عنده، أو بلغه حديث ابن عمر لجزم بتحريمِ العِيْنَة.
والجديرُ بالذِّكْر أن بعضَ العوامِّ حينما يعلمُ برأي الشَّافعي رحمه الله في بيع
(1) الأم (3/ 78).
العِيْنَة قد يتَّهمه بالسَّماحة المفرطة، التي تُؤدي بصاحبها إلى تحليلِ ما حرَّم الله بِحُجَّة التَّخفيف، والتيسير على النَّاس، وقد جرى هذا معي حينما أخبرتُ شَخْصًا عن موقف العلماءِ من بيع العِيْنَة، ولا يصحُّ أن ينسبَ للشّافعيّ رحمه الله ولا لغيره من الأئمة شيء من هذا، يقول ابنُ القيِّم: "والمتأخِّرون أحدثوا حِيَلًا لم يصحَّ القولُ بها عن أحد من الأئمة، ونَسَبوها إلى الأئمة وهم مُخْطئون في نِسْبتِها إليهم، ولهم مع الأئمة موقفٌ بين يدي الله عز وجل، ومن عرف سيرةَ الشافعي وفَضْله، ومكانه من الإسلام، عَلِم أنه لم يكنْ معروفًا بفعل الحِيَل، ولا بالدَّلالة
عليها، ولا كان يُشير على مسلم بها. . . وهكذا في مسألة العِيْنَة، إنما جَوَّزَ الشَّافعيُّ أن يبيعَ السِّلْعَةَ ممن اشتراها منه جَرْيًا على ظاهر عقود المسلمين، وسلامتها من المكر والخِداع، ولو قيل للشَّافعي: إنَّ المتعاقدين قد تواطآ على ألفٍ بألف ومئتين، وتراوضا على ذلك، وجعلا السِّلعة محلّلًا للربا، لم يجز ذلك، ولأنكره غاية الإنكار" (1).
وممَّا سبقَ يتبينُ أنَ الشَّافعيَّ رحمه الله لا يقول بجواز الحِيَل المذمومة المناقضة لنصوصِ الشَّريعة وقواعدها، ولا يأمرُ الناس بالكذب والخداع، وإنما قال بجواز العِيْنَة للأسباب التالية:
1 -
أن حديثَ ابن عمر رضي الله عنه لم يبلغه، ولو بلغه لَحَسَمَ النِّزاع، وحَكَم بتحريم العِيْنَة كالجُمْهُور، جَرْيًا على قاعدته الذهبية:[إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي].
2 -
أنه لا يرى ثبوتَ خَبَرِ عائشةَ رضي الله عنها، ولو ثبت عنده فلا يرى فيه دلالة تحريمِ العِيْنَة، كما سبقَ بيانه.
3 -
أن الإمامَ الشَّافعيَّ بيَّن موقفه من العقودِ عامة، فالعبرةُ في العقودِ عنده
(1) إعلام الموقعين (3/ 281).
بالظَّاهر، ولا تؤثر في العقود نية المتعاقدين، ولا يعني هذا أنه يجيزُ إضمارَ نية المحرم، فهو يفرقُ بين صحَّة العقد ونية العاقد، فإن نوى ما هو محرم، فإنه يأثمُ، ولا يستلزمُ هذا بطلانَ العقد عنده، يقول رحمه الله:"أصلُ ما أذهب إليه أنّ كلَّ عقدٍ كان صحيحًا في الظّاهر، لم أبطله بتهمةٍ، ولا بعادة بين المتبايعين، وأجزته بصحَّةِ الظاهر، وأكره لهما النية إذا كانت النيةُ لو أظهرت كانت تفسدُ البيع"(1).
الفرع الثالث: الترجيح
بعد النَّظَرِ والتأملِ في أدلَّة الأقوال والمناقشات، فإنه يبدو -والله أعلم- رجحان القول بتحريم العِيْنَة للأسباب التالية:
1) دلالة حديث ابن عمر رضي الله عنهما وصحته، وصراحته بتحريم العِيْنَة.
2) ثبوت خبر عائشة رضي الله عنها، ودلالته على التحريم.
3) ضَعْف استدلال القائلين بجواز العِيْنَة، حيث نوقشتْ كما سبق بما يضعفها، أضفْ إلى ذلك مناقشة كلام الشَّافعي رحمه الله عن موقفه من خبر عائشة.
4) أن تحريمَ العِيْنَة يوافقُ العملَ بقاعدة: [سدّ الذَّرائع]، فالعِيْنَة ذريعةٌ ظاهرةٌ تؤدي إلى الرِّبا، فإنه لا يختلفُ عاقلان في أن من باع سلعة بثمنٍ مؤجَّل، ثم اشتراها ممَّن باعها عليه قبل نقد الثَّمن بأقل منه، آيل فِعْله إلى الرِّبا، وجيء بالسِّلْعة كحيلة لاستحلال الرِّبا.
5) أنَّ العِيْنَة حيلةٌ من الحِيَل المذمومة، التي ابتكرها أكَّالة الرِّبا، وهي تنافي قواعدَ الشَّريعةِ الإسلاميةِ، جاء في الموافقاتِ عن الحِيَل: "فإن حقيقتها
(1) الأم (3/ 74).
المشهورةَ تقديمُ عملٍ ظاهرِ الجوازِ، لإبطالِ حُكْمِ شرعيِّ، وتحويله في الظَّاهر إلى حُكْم آخر، فمآلُ العملِ فيها خَرْمٌ لقواعد الشريعة في الواقع" (1).
6) أن الحُكْمَ الشَّرعيَّ إنما جاء ليحققَ مصالحَ الناس في شتى مجالات حياتهم الاجتماعية، والاقتصادية، والسِّياسية، والمصلحةُ الاقتصاديةُ تقتضي منع العِيْنَة، فإنَّ تقويمَ هذه المعاملة من الناحية الاقتصادية يعكسُ لنا صورةً من أضرارها الاقتصادية على المجتمع، فالعِيْنَة لا تفيدُ الحياةَ الاقتصاديةَ بقدر ما تضرُّها، حتى لو كانتْ طريقًا للحصولِ على السُّيولة، فإنَّ الرِّبا يحققُ السُّيولةَ للمقترض، ولم يعنِ هذا جوازه، فالمنافعُ الاقتصاديةُ التي يحققها البيعُ والشِّراءُ معدومةً في بيع العِيْنَة والربا، وبيان هذا يتَّضح في الآتى:
"أن البيعَ مبادلةٌ لشيئين مختلفين، واختلاف البدلين هو الذي يسمحُ أن تكونَ المبادلةُ نافعة للبائع والمشتري"(2) فكل طرفٍ في المبادلة يبذلُ ليأخذَ ما يحتاجُ إليه، وعَمَلِيَّةُ التَّبادلِ التي تتمُّ بواسطة البائع والمشتري، هي بدورها تقومُ بتنشيطِ الحركةِ الاقتصادية؛ فالبائعُ يأخذُ الثمن ليستفيدَ منه في قضاءِ حاجاته، والمشتري يأخذُ السِّلْعةَ ليستفيدَ منها إما بالاستهلاك، أو بالاستثمار، وهكذا لتبقى الحياةُ الاقتصاديةُ نشيطةً دون فتورٍ، أو كسادٍ.
وأما العِيْنَة فهي في حقيقة الأمرِ مبادلةٌ بين متماثلين، كالقرضِ باشتراطِ الفائدةِ، فهي في الحقيقةِ تحصيلُ نقدٍ مقابل زِيادة في الذِّمَّة، واتخذ البيع سِتارًا لذلك، فعَمَلِيَّةُ التبادلِ في العِيْنَة معدومةُ النفع بِحُكْمِ أنَّ العَمَلِيَّةَ كانتْ بين بدلين متماثلين، وعَمَلِيَّةُ التبادل لا تجدي، ولا تنفع الحركة الاقتصادية إلا إذا كان
(1) الموافقات، للشاطبي (4/ 201).
(2)
التكافؤ الاقتصادي بين الربا والتَّوَرُّق، سامي السويلم (11).
البدلان مُخْتَلفَين، كما يجري في البيع والشِّراء، ولذلك فإنَّ المجتمعَ إذا فَشَتْ فيه بيوعُ العِيْنَة، فإنه حتمًا سينعدمُ النشاطُ الاقتصاديُّ المنتج، وتعمُّ المديونية، ويزدادُ الغنيُّ غنى، والفقير فقرًا، تمامًا كالأضرارِ الناجمةِ عن الرِّبا.
ومَنْ تأمَّلَ حديثَ تَمْرِ خَيبرَ، والذي قال فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"بعِ الجمعَ بالدراهم، ثم ابتعْ بالدراهم جَنِيبًا" فإنه شاهد على أنَّ عَمَلِيَّةَ التبادلِ، لا تكونُ مجديةً إلا عند اختلافِ البدلين، فالرجلُ لما أخبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأنهم يأخُذون الصَّاعَ بالصَّاعين، والصَّاعين بالثلاثة أنكرَ عليه رسول الله، ونهاه عن هذا الفعلِ؛ لأنَّ عَمَلِيَّةَ التبادلِ كانت قائمةً على متماثلين في الجنس، فأمره رسولُ الله باتخاذ أسلوبٍ صحيحٍ يحققُ المنفعةَ الاقتصاديةَ بأن يبيعَ الجمْعَ بالدَّراهم، ثم يشتري بالدَّراهم جَنِيبًا، ونلاحظُ أنَّ في هذا التوجيه النبوي تنشيطًا للحركةِ الاقتصادية، التي لا يكونُ من ورائها إلا كل نفعٍ وخيرٍ، والتي تُعَدُّ مقصدًا من مقاصدِ الشريعة.
ولذلك فإننا ندركُ الآن الحكمةَ والفائدةَ الاقتصادية من تحريمِ بيعِ جنسٍ بجنس مثله، فعلى سبيلِ المثالِ بيع تمرٍ بتمرٍ لا يحققُ المنافعَ المرجوَّةَ من عَمَلِيَّة التبادلِ لتماثل البدلين، وإنما تتحققُ منفعةُ التبادلِ عند اختلاف البدلين، لذلك أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ببيع التَّمر الرديء، ثم يشتري بثمنه تمرًا جيِّدًا، فإن قيل: وما هي منفعةُ التبادلِ التي تتحققُ عند اختلاف البدلين؟ قلت: منفعةُ التبادلِ تكمنُ في تنشيطِ الحركةِ الاقتصاديةِ، التي يستفيدُ منها كلُّ أفرادِ المجتمع، فصاحبُ التَّمر الرَّديء يبيعُه على شخص، وهذا الشخصُ يقومُ بالانتفاع به إما بالاستهلاكِ أو بالبيع، وإذا باعه فيبيعُه على آخر، وهذا الآخرُ قد يبيعه على آخر. . . وهكذا، وكذلك إذا باع صاحبُ التَّمرِ الرَّديء تمره، فإنه يقومُ بشراءِ تمرٍ جيد، لينتفعَ به، إما بالاستهلاك، أو بالبيع، وإذا باعه فيبيعه على شَخْصٍ آخر، وهذا الشَّخْصُ قد
يبيعُه على آخر، وهكذا حتى لا يكون المالُ دولة بين الأغنياء، بل يكونُ في أيدي النَّاسِ جميعهم، ليستفيدَ كلُّ فرد من أفرادِ المجتمع من هذه الأموال، ومنفعةُ التبادلِ هذه تنعدمُ حين تنتشرُ العِيْنَة، إذ العِيْنَة في حقيقتها عَمَلِيَّةُ مبادلةٍ
بين متماثلين كالرِّبا تمامًا، فتنشغل الذِّممُ بالدُّيونِ، ويكون المالُ دولةً بين الأغنياء.