الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعًا: النظر في أصول الرواة وكتبهم:
فتش الأئمة النقاد عن أصول الرواة وكتبهم، ونظروا فيها، وتأكدوا من صحتها، وسلامتها من التغيير والزيادة، وإذا كان فيها تغيير فقد يكون من الراوي نفسه، وقد يكون من قبل غيره، وهو نوع من التلقين، كما تأكدوا من صدق الراوي إذا حدث بأحاديث هل له فيها أصل أو لا؟ ولاسيما إذا ارتابوا في الراوي، أو كان الراوي يخطئ في حديثه، فيتأكد هل هذا الخطأ في أصوله، أو هو يخطئ إذا حدث من حفظه؟ وقد يكون الراوي يحتفظ بأصول وكتب شيخه، فينظر الناقد فيها هل حفظها أو غير فيها؟ وأظهر النقاد براعة فائقة، ودقة متناهية في هذا الجانب، يعجز عنها الوصف.
وأمكن بهذه الوسيلة تمييز المتقن الصادق الحافظ لكتابه أو كتاب شيخه من المتلاعب أو المغفل، وكشف تساهل بعض الرواة بأصولهم وكتبهم، وكذب بعضهم بتصرفه المتعمد بأصوله وكتبه.
كما أمكن بهذه الوسيلة أيضًا إجراء المقارنة بين ما في كتب الرواة وبين ما يحدثون به من حفظهم، لمعرفة صدقهم، وضبطهم لما يحدثون به.
قال عبد الرحمن بن مهدي مبينا أهمية النظر في كتب الرواة: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لكتبت تفسير كل حديث إلى جنبه، ولأتيت المدينة حتى أنظر في كتب قوم قد سمعت منهم"
(1)
.
ومن النصوص في ذلك قول أبي نُعَيْم الفضل بن دُكَيْن: "نظر ابن
(1)
"الجرح والتعديل"1: 262.
المبارك في كتبي، فقال: ما رأيت أصح من كتبك"
(1)
.
وقال عبد الرحمن بن مهدي في محمد بن مسلم الطائفي: "كتب محمد صحاح"
(2)
.
وقال يحيى بن سعيد القطان: "نظرت في أصول شَرِيْك فإذا الخطأ في أصوله"
(3)
.
وقال ابن نُمَيْر في قيس بن الربيع: "كان له ابن هو آفته، نظر أصحاب الحديث في كتبه فأنكروا حديثه، وظنوا أن ابنه قد غَيَّرها"
(4)
.
وكذا قال فيه أبو داود الطيالسي: "إنما أُتي قيس من قبل ابنه، كان ابنه يأخذ حديث الناس فيدخلها في فُرُج كتاب قيس، ولا يعرف الشيخ ذلك"
(5)
.
ووافقهما أحمد بن حنبل فقال: "كان له ابن يأخذ حديث مِسْعَر، وسفيان، والمتقدمين، فيدخلها في حديث أبيه وهو لا يعلم"
(6)
.
وقال أحمد: "كان أبو أسامة ثبتا صحيح الكتاب"
(7)
.
وقال أحمد أيضا: "ما كان بمحمد بن يزيد الواسطي بأس، كتبه
(1)
"تاريخ بغداد"12: 348.
(2)
"التاريخ الكبير"1: 224.
(3)
"الضعفاء الكبير"2: 195.
(4)
"المجروحين"1: 78، و"تاريخ بغداد"12:460.
(5)
"التاريخ الصغير"2: 172، و"تهذيب الكمال"24:34.
(6)
"الكامل"6: 2063.
وقد ذكر عبد الرحمن بن مهدي حديثا مما أدخل على قيس بن الربيع، انظر:"تاريخ بغداد"12: 459.
(7)
"العلل ومعرفة الرجال"1: 390، و"الجرح والتعديل"3:132.
صحاح"
(1)
.
وقال فيه أيضًا: "كان ثبتا في الحديث، وكان يزيد -يعني ابن هارون- إذا قيل له في الحديث: هو في كتاب محمد بن يزيد كذا، كأنه يخاف، يتوقاه"
(2)
.
وسئل أحمد عن محمد بن جابر اليمامي فقال: "أحاديثه عن حماد مضطربة، في كتبه لُحُوق"
(3)
، وكذا قال فيه أبو حاتم:"رأوا في كتبه لَحَقا"
(4)
.
وقال أحمد في عبد الله بن زياد بن سَمْعان مشيرا إلى كذبه: "زعموا: أخرج كتابه فإذا فيه: ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، فقال: حدثنا جابر بن زيد"
(5)
.
وقال ابن مُحْرِز: "سمعت يحيى بن معين يقول: كنت عند خلف البزار، فقلت له: هات كتبك، فَجَبُن، فقلت: هات رحمك الله، فجاء بها، فنظرت فيها، فرأيت أحاديث مستقيمة صحاحا، قيل له: فكتبت عنه منها شيئا؟ قال: نعم، كتبت عنه أحد عشر حديثا، كنت عند سَعْدُوْيَه، فلما رجعت دخلنا إليه"
(6)
.
وروى ابن مُحْرِز أنه ذُكِر نَصْر بن باب عند يحيى بن معين فقال:
(1)
"العلل ومعرفة الرجال"2: 34.
(2)
"تاريخ بغداد"3: 372، و"تهذيب الكمال"27:32.
(3)
"مسائل إسحاق"2: 230، وانظر:"العلل ومعرفة الرجال"2: 370.
(4)
الجرح والتعديل"7: 219، وانظر في محمد أيضا: "المجروحين"2: 270، و"تهذيب التهذيب"9: 90.
(5)
"سؤالات أبي داود" ص 363.
(6)
"معرفة الرجال"2: 161.
"كذاب خبيث، عدو لله، ذهبت إليه أنا وابن الحجاج بن أرطاة، فأخرج إلينا كتبا، كان فيها كتاب عوف، فجعل يحدثنا، فطوى رأس الكتاب، فاستربت منه، فقلت: ناولني الكتاب -وظننت أنه قد خَنَسَ عنا بعض الأحاديث-، فأبى أن يعطيني، فوثبت عليه، فأخذت الكتاب منه، فنظرت فيه -وكان يحدث عن عوف- فإذا أوله: بسم الله الرحمن الرحيم: حدثني نوح بن أبي مريم أبو عِصْمة الخراساني، عن عوف، فطرحت الكتاب من يدي، وقمت وتركناه، فقلت له: كيف هذا؟ فقال: هاه، كتبتها عن أبي عِصْمة، ثم سمعتها بعد، فقمنا وتركناه"
(1)
.
وقال أبو زرعة في سُوَيْد بن سعيد: "أما كتبه فصحاح، وكنت أتتبع أصوله وأكتب منها، فأما إذا حدث من حفظه فلا"
(2)
.
وقال أبو زرعة: "كنت بالرَّمْلة فرأيت شيخا جالسا بحذائي إذا نظرت إليه سَبَّح، وإذا لم أنظر إليه سكت، فقلت في نفسي: هذا شيخ هو ذا يَتَصَنَّع لي، فسألت عنه، فقالوا: هذا محمد بن أيوب بن سُوَيْد، فقلت لبعض أصحابنا: اذهب بنا إليه، فأتيناه، فأخرج إلينا كتب أبيه أبوابا مصنفة، بخط أيوب بن سُوَيْد، وقد بَيَّض أبوه كل باب، وقد زيد في البياض أحاديث بغير الخط الأول، فنظرت فيها فإذا الذي بالخط الأول أحاديث صحاح، وإذا الزيادات أحاديث موضوعة، وليست من حديث أيوب بن سُوَيْد، فقلت: هذا الخط الأول خط من هو؟ فقال: خط أبي، فقلت: هذه الزيادات خط من؟ قال: خطي، قلت: فهذه الأحاديث من أين جئت بها؟ قال: أخرجتها من كتب أبي، قلت: لا
(1)
"معرفة الرجال"1: 56.
(2)
"أسئلة البرذعي لأبي زرعة" ص 409.
ضَيْر، أخرج إلي كتب أبيك التي أخرجت هذه الأحاديث منها، قال: فاصْفارَّ لونه، وبَقِي، وقال: الكتب ببيت المقدس، فقلت: لا ضَيْر، أنا أكتري فيجاء بها إليّ، فَأَوَجِّه إلى بيت المقدس، وأَكْتُب إلى من كتبك معه حتى يوجهها، فَبَقِي ولم يكن له جواب
…
"
(1)
.
وقال ابن حبان بعد أن ساق عددا من الأحاديث الموضوعة والمقلوبة في ترجمة أحمد بن محمد بن مصعب أبي بشر المَرْوَزي: "حدثنا أبو بشر بهذه الأحاديث من كتب له عملت أخيرا مصنفة، إذا تأملها الإنسان توهَّم أنها عُتُق، فتأملت يوما من الأيام جزءا منها نابي الأطراف، أصفر الجسم، فمحوته بأصبعي فخرج من تحته أبيض، فعملت أنه دَخَّنها، والخط خطه
…
"
(2)
.
ومن دقائق هذا الباب -النظر في أصول الرواة وكتبهم- أنها عندهم على قسمين، أحدهما: أصول الراوي القديمة التي سمع بواسطتها من شيخه أثناء الطلب، وربما أطلقوا عليها: الأصول العتيقة، والثاني: ما ينقله الراوي من هذه الأصول إلى كتب له، إما لأجل أن يروي منها محتفظا بالأصل العتيق، أو لكونه تصدى للتأليف، فينقل من أصوله إلى مؤلفاته.
والاعتماد في ضبط الحديث على الأصول القديمة، وذلك حين
(1)
"اسئلة البرذعي لأبي زرعة" ص 390.
(2)
"المجروحين"1: 161.
وانظر نصوصا أخرى في تتبع الأئمة لأصول الرواة كتبهم: "علل المروذي" ص 127، و"معرفة الرجال"1: 61 فقرة 90، 64 فقرة 117 - 118، و"أسئلة البرذعي لأبي زرعة" ص 475، 732 - 735، 746، و"المجروحين"1: 72، 77، 163 - 165، "وتاريخ بغداد"2: 220، 7:259.
يقع اختلاف بينها وبين كتب الراوي التي نقل إليها، وهي المرجع حين يشك الراوي في شيء من حديثه، أو يرتاب الناقد في أمر الراوي فيطالبه بإحضار أصوله.
وكثيرا ما يردد البخاري في كتبه رجوعه إلى أصوله فيقول: "كذا في العتيق"، أو "ليس في العتيق"، ونحو ذلك
(1)
.
ومن النصوص في تمييزهم بين النوعين -وهي نصوص تبرز بوضوح دقتهم المتناهية في النقد والتمحيص- قول عبد الله بن أحمد: "سئل أبي عن بَقِيَّة، وإسماعيل بن عَيَّاش، فقال: بَقِيَّة أحب إلي، نظرت في كتابه عن يحيى بن سعيد أحاديث صحاح، وفي "المصنف" أحاديث مضطربة، وإذا حدث بَقِيَّة عن قوم ليس بمعروفين فلا -يعني تقبلون-"
(2)
.
وقال ابن معين: "من سمع من حماد بن سلمة الأصناف ففيها اختلاف، ومن سمع من حماد بن سلمة نسخا فهو صحيح"
(3)
.
وقال الحسين بن حِبَّان: "قلت ليحيى بن معين: ما تقول في رجل حدث بأحاديث منكرة، فردها عليه أصحاب الحديث، إن هو رجع عنها وقال: ظننتها، فأما إذا أنكرتموها ورددتموها علي فقد رجعت عنها؟ فال: لا يكون صدوقا أبدا، إنما ذلك الرجل يشتبه له الحديث الشاذ، والشيء، فيرجع عنه، فأما الأحاديث المنكرة التي لا تشتبه على أحد
(1)
"صحيح البخاري" حديث 4142، و"التاريخ الكبير"2: 95، 169، 204، 3: 50، 181، 338، 353، 450، 475، 4: 15، 5: 328، 6: 128، 159، 165، 194.
(2)
"العلل ومعرفة الرجال"3: 53.
(3)
"شرح علل الترمذي"2: 784.
فلا، فقلت ليحيى: ما يبرئه؟ قال: يخرج كتابا عتيقا فيه هذه الأحاديث، فإذا أخرجها في كتاب عتيق فهو صدوق، فيكون شُبِّه له وأخطأ كما يخطئ الناس، فيرجع عنها، قلت: فإن قال: قد ذهب الأصل، وهي في النسخ؟ قال: لا يقبل ذلك منه، قلت: فإن قال: هي عندي في نسخة عتيقة وليس أجدها؟ فقال: هو كذاب أبدا حتى يجيء بكتابه العتيق، ثم قال: هذا دين، لا يحل فيه غير هذا"
(1)
.
وقال زكريا بن يحيى الحُلْواني: "رأيت أبا داود السِّجِسْتاني صاحب أحمد بن حنبل قد ظاهر بحديث ابن كاسِب، وجعله وقايات على ظهور كتبه، فسألته عنه فقال: رأينا في "مسنده" أحاديث أنكرناها، فطالبناه بالأصول فدافعنا، ثم أخرجها بعد، فوجدنا الأحاديث في الأصول مُغَيَّرة بخط طَرِي، كانت مراسيل فأسندها وزاد فيها"
(2)
.
ونقل يعقوب الفَسَوي عن عبد الرحمن بن إبراهيم المعروف بدُحَيْم قوله: "كان سليمان -يعني ابن عبد الرحمن، ابن بنت شُرَحْبِيْل- صحيح الكتاب، إلا أنه كان يُحَوِّل، فإن وقع فيه شيء فمن النقل"
(3)
.
وكان لسفيان بن وكيع بن الجراح وَرَّاق يدخل عليه ما ليس من حديثه، فنصحه أبو حاتم الرازي في جماعة من أهل الحديث، قال أبو حاتم: "
…
قلت: ترمي بالمخَرَّجات، وتقتصر على الأصول، ولا تقرأ إلا من أصولك، وتنحي هذا الوراق عن نفسك، وتدعو بابن كَرَامة
(1)
"الكفاية" ص 118.
(2)
"الضعفاء الكبير"4: 446.
(3)
"المعرفة والتاريخ"2: 406 ليعقوب الفسوي، و"تهذيب الكمال"12: 30، وهو في الأخير منسوب إلى يعقوب الفسوي نفسه، والأمر محتمل.
وتوليه أصولك، فإنه يوثق به، فقال: مقبول منك، وبلغني أن وراقه كان قد أدخلوه بيتا يتسمع علينا الحديث، فما فعل شيئا مما قاله، فبطل الشيخ، وكان يحدث بتلك الأحاديث التي أدخلت بين حديثه، وقد سرق من حديث المحدثين"
(1)
.
ومن طريف ما يذكر هنا ما رواه الخطيب من طريق أبي بكر بن شاذان قال: "سمعت أبا بكر عبد الله بن سليمان (ولد أبي داود صاحب "السنن") يقول -وكان ربما غلّطه أبو محمد بن صاعد، فيخرج أبو بكر أصله فيطرحه إلى الحاضرين ويقول والأبيات له-:
على الكذاب لعنة من تعالى
…
وخزي دائم أبدا يزيد
فإن قال المزور: ما كذبنا
…
فهات الأصل رمّا لا جديد
ففيه إن أتيت به بيان
…
وإلا أنت كذاب عنيد
وقلت لصاحبي: اهجره مليا
…
فعن رسم ابن حنبل لا محيد
إذا ما كان سلكك حنبليا
…
فبورك نظم سلكك يا سعيد"
(2)
ومن قوله أيضا:
إذا تشاجر أهل العلم في خبر
…
فليطلب البعض من بعض أصولهم
إخراجك الأصل فعل الصادقين فإن
…
لم تخرج الأصل لم تسلك سبيلهم
فاصدع بحق ولا تأبى نصيحتهم
…
واخرج أصولك إن الفرع متهم
(3)
(1)
"الجرح والتعديل"4: 232، وانظر:"أسئلة البرذعي لأبي زرعة" ص 404، 414، و"المجروحين"1: 77، 351، و"الكامل"3:1254.
وانظر نصوصا أخرى في هذا الباب: "الجرح والتعديل"$: 231 - 232، و"اسئلة البرذعي لأبي زرعة" ص 404 - 406، 713، و"تاريخ بغداد"2: 218 - 219، 5: 467، 7: 260 - 261، و"الجامع لأخلاق الراوي"2: 38 - 40.
(2)
"الجامع لأخلاق الراوي"2: 39.
(3)
"الجامع لأخلاق الراوي"2: 39، و"تاريخ بغداد"9:466.