الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هؤلاء النقاد عنهما، ويضم إليهما في أحيان كثيرة: وكيع بن الجراح، وأبو نُعَيْم الفضل بن دُكَيْن، الكوفيان، وهُشَيْم بن بَشِيْر الواسطي، فهؤلاء أيضا من الحفاظ الكبار الذين تتلمذ عليهم هؤلاء الأئمة.
القسم الثاني: المقارنة المقيدة بشيء معين كبلد، أو شيخ:
وهذا القسم تتم المقارنة فيه بين رواة بأعيانهم، لكن مع تقييد ذلك ببلد، أو شيخ معين.
فأما التقييد بالبلد فمن أمثلته قول أحمد: "الثوري أعلم بحديث الكوفيين ومشايخهم من الأعمش"
(1)
.
وأما التقييد بشيخ معين فأمثلته كثيرة جدا، فقد اعتنى الأئمة بالمقارنة بين أصحاب الرواة، لا سيما المشهورين منهم بكثرة التلاميذ، وكثرة الحديث، كأبي هريرة، وعائشة، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، ثم من بعدهم كابن سيرين، وأبي صالح السَّمَّان، والحسن البصري، والشعبي، ونافع مولى ابن عمر، وثابت البناني، وقتادة، والزهري، وأبي إسحاق السبيعي، ويحيى بن أبي كثير، وعمرو بن دينار، ثم من بعدهم كأيوب السَّخْتِيَاني، وعبيد الله العُمَري، والأعمش، والثوري، ومالك، وشعبة، وهشام، الدَّسْتُوائي، ومعمر، وسفيان بن عُيَيْنة.
وعرف هذا الموضوع باسم (طبقات الأصحاب)، وقد أفرد له عثمان بن سعيد الدارمي فصلا خاصا في صدر كتابه "تاريخه عن ابن معين"
(2)
.
كما خصه النسائي بجزء صغير جدا، ذكره فيه طبقات أصحاب نافع،
(1)
"مسائل إسحاق بن هانئ"2: 213.
(2)
"تاريخ الدارمي عن ابن معين" ص 41 - 65.
وأصحاب الأعمش، وأثبت أصحاب الأوزاعي، وأيوب، وحماد بن سلمة، وسعيد بن أبي عَرُوبة
(1)
.
وفي "سؤالات ابن بُكَيْر للدارقطني" فصل قيم في الموضوع
(2)
.
ثم خصص له ابن رجب في كتابه الجليل "شرح علل الترمذي" فصلا طويلا نافعا، بدأه بأصحاب عبد الله بن عمر، وختمه بأصحاب يزيد بن أبي حبيب
(3)
.
وفي كتب الأئمة النقاد شيء كثير لم يذكره ابن رجب.
وفي رأيي أن (علم طبقات الأصحاب) لا يزال بكرا بالنسبة للباحثين المعاصرين، فهو بحاجة إلى من يوجه إليه عناية خاصة، ويمكن للباحث أن يختار راويا ممن له أصحاب كثيرون، اشتغل الأئمة بتصنيفهم وبيان درجاتهم فيه، ويجمع أقوال الأئمة، ويوازن بينها، ويعتمد فيما يعتمد عليه على دراسة أحاديثهم أو بعضها عن ذلك الراوي.
وأهم ما ينبغي الانتباه له في موضوع المقارنة بين الرواة بقسميه -المطلق والمقيد- أمران:
الأمر الأول: أن الأئمة النقاد استخدموا في المقارنة بين الرواة ما تقدم في المبحث الذي قبل هذا، وهو تفصيل حال الراوي، أي أن الناقد يقدم أحدهما مثلا إذا حدث من كتابه، أو قبل تغيره، أو في غير روايته عن شيخ معين، أو أهل بلد معين، ونحو ذلك، وكل هذا
(1)
طبع ملحقا بـ"الضعفاء والمتروكين" ص 130 - 131.
(2)
"سؤالات ابن بكير للدارقطني" ص 41 - 57.
(3)
"شرح علل الترمذي"2: 665 - 732.
يكشف بوضوح دقة هؤلاء الأئمة وسلامة منهجهم.
فمن ذلك قول يحيى بن سعيد القطان: "أبو عَوَانة من كتابه أحب إلي من شعبة من حفظه"
(1)
.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: "أبو عَوَانة، وهُشَيْم، كسعيد بن أبي عَرُوبة، وهمام، إذا كان الكتاب فكتاب أبي عَوَانة صحيح، وإذا كان الحفظ فحفظ هُشَيْم، وإذا كان الكتاب فكتاب همام، وإذا كان الحفظ فحفظ سعيد"
(2)
، وفي رواية عنه:"كتاب أبي عَوَانة أحب إلي من حفظ هُشَيْم، وحفظ هُشَيْم أحب إلي من حفظ أبي عَوَانة"
(3)
.
وقال أحمد: "أبو عَوَانة أكثر رواية عن أبي بشر من شعبة، وهُشَيْم، في جميع الحديث، وأبو عَوَانة كتابه صحيح، وأخبار يجيء بها، وطول الحديث بطوله، وهُشَيْم أحفظ، وإنما يختصر الحديث، وأبو عَوَانة يطوله، ففي جميع حاله أصح حديثا عندنا من هُشَيْم، إلا أنه بأَخَرة كان يقرأ من كتب الناس فيقرأ الخطأ، فأما إذا كان من كتابه فهو ثبت"
(4)
.
وسئل: جرير الرازي، وأبو عَوَانة- أيهما أحب إليك؟ فقال:"أبو عَوَانة من كتابه أحب إلي"
(5)
.
وسئل: أبو عَوَانة أثبت أو شَرِيْك؟ فقال: "إذا حدث أبو عَوَانة من
(1)
"تاريخ بغداد"13: 462.
(2)
"تاريخ بغداد"13: 462، و"تهذيب التهذيب"11:119.
(3)
"تاريخ بغداد"13: 462، 14:91.
(4)
"المعرفة والتاريخ 2: 169، و"تاريخ بغداد"13: 463.
(5)
"مسائل إسحاق"2: 208، و"المعرفة والتاريخ"2: 167، وانظر:"معرفة الرجال"1: 114.
كتابه فهو أثبت، وإذا حدث من غير كتابه ربما وهم، قال عفان: كان أبو عَوَانة صحيح الكتاب، كثير العَجْم والنّقْط، كان ثبتا"
(1)
.
وكذا قال ابن معين حين سئل عنهما أيهما أثبت: "أبو عَوَانة أصح كتابا"
(2)
.
وسئل أبو حاتم عن همام بن يحيى، وأَبَان بن يزيد: من تقدم منهما؟ فقال: "همام أحب إلي ما حدث من كتابه، وإذا حدث من حفظه فهما متقاربان في الحفظ والغلط"
(3)
.
وقال أبو حاتم أيضا في زهير بن معاوية: "
…
هو أحفظ من أبي عَوَانة، وهما يوازيان إذا حدثا من كتابهما، لم أبال بأيهما بَطَشْت، وإذا حدثا من حفظهما فزهير أحب إلي
…
"
(4)
.
وقال أبو داود: "قلت لأحمد: مغيرة أحب إليك في إبراهيم، أو حماد؟ قال: أما فيما روى سفيان، وشعبة، عن حماد - فحماد أحب إلي، لأن في حديث الآخرين عنه تخليطا"
(5)
.
الأمر الثاني: أن الأئمة النقاد فاضلوا ووازنوا بين الرواة من جهات عديدة، فلم تقتصر المفاضلة على الأثبت في الرواية، فهناك في القسم الأول: كثرة الرواية وقلتها، الفضل والصلاح، الفقه، العلم بنقد السنة: رجالها، وأحاديثها، قدم السماع، الشهرة، السنة واتباعها،
(1)
"المعرفة والتاريخ"2: 168.
(2)
"معرفة الرجال"1: 118.
(3)
"الجرح والتعديل"9: 109.
(4)
"الجرح والتعديل"3: 589.
(5)
"سؤالات أبي داود" ص 290.
وغير ذلك.
ويشترك القسم الثاني معه في بعض ما تقدم، ويزيد عليه: العلم بأحوال الشيخ، وحديثه، ورأيه.
وسأذكر الآن نماذج من القسمين، يتضح منها بجلاء تعدد جهات المفاضلة بين الرواة.
فمن ذلك قول أحمد: "كان يحيى بن سعيد لا يعدل بسفيان أحدا، يقدمه، وقال يحيى: ما رأيت أحدا خيرا من شعبة"
(1)
.
وروى علي بن المديني عن يحيى قوله: "ليس أحد أحب إلي من شعبة، ولا يعدله أحد عندي، وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان"
(2)
.
فمراد يحيى تقديم شعبة في نقده للسنة، وحرصه على انتقاء الرواة، والتفتيش عن سماعهم، وتتلمذه عليه في ذلك، وأما في الحفظ والتثبت فيقدم سفيان
(3)
.
ويقرب منه قول أحمد في يحيى بن سعيد، قال عبد الله:"قلت لأبي: من رأيت في هذا الشأن -أعني الحديث-؟ قال: ما رأيت مثل يحيى بن سعيد: قلت: فهُشَيْم؟ قال: هُشَيْم شيخ، ما رأيت مثل يحيى -وكان أبي يعظم أمره جدا في الحديث والعلم-، قلت له: كان فقيها؟ قال: صالح الفقه، قلت: فعبد الرحمن؟ قال: لم نر مثل يحيى -يعني في كل أحواله-"
(4)
.
(1)
"العلل ومعرفة الرجال"1: 505.
(2)
"الجرح والتعديل"1: 63، 4: 224، وانظر:"تاريخ بغداد"9: 165 - 166.
(3)
انظر: "الجرح والتعديل"4: 369، و"تاريخ بغداد"9: 165 - 166.
(4)
"العلل ومعرفة الرجال"1: 505.
وقال إسحاق بن هانئ: "سمعته يقول: ما في أصحاب شعبة أقل خطأ من محمد بن جعفر، قيل له: ولا وكيع؟ قال: وكيع كان أروع القوم، قلت أنا: ولا يحيى بن سعيد؟ قال: لا يقاس بيحيى بن سعيد في العلم أحد، وما رأيت أحدا أحفظ من وكيع"
(1)
.
وقال أبو داود: "قلت لأحمد: أيوب بن موسى؟ قال: ليس به بأس، إلا أن إسماعيل بن أمية أكبر منه في الحديث، وكان بينهما قرابة، وكان أيوب يكتب الشروط ويتفقه"
(2)
.
وعبر أحمد في نص آخر عن أيوب وتفقهه وكتابته للشروط بأنه أنفع للناس من إسماعيل، وإن كان إسماعيل أوثق منه وأثبت
(3)
.
وقال أبو داود أيضا: "قلت لأحمد: أبو مَعْشَر أحب إليك أو حماد (يعني ابن أبي سليمان)؟ قال: زعموا أن أبا مَعْشَر كان يأخذ عن حماد، إلا أن أبا مَعْشَر عند أصحاب الحديث- يريد: كان أكبر- لأن حمادا كان يرى الإرجاء"
(4)
.
وقد سئل أحمد أيما أصح حديثا حماد أو أبو مَعْشَر؟ قال: "حماد أصح حديثا من أبي مَعْشَر"
(5)
.
وقال أبو داود: "قلت لأحمد: أصحاب نافع؟ قال: أعلم الناس بنافع: عبيد الله، وأرواهم، قلت: فبعده مالك؟ قال: أيوب أقدِّم،
(1)
"مسائل إسحاق"2: 232.
(2)
"سؤالات أبي داود" ص 232.
(3)
"علل المروذي" ص 172.
(4)
"سؤالات أبي داود" ص 290.
(5)
"تهذيب الكمال"8: 273.
قلت: تقدم أيوب على مالك؟ قال: نعم"
(1)
.
وقال عبد الله بن أحمد: "سألته: أيما أحب إليك هُشَيْم، أو خالد (يعني الطحان)؟ فقال: هو عندي أصلح في بدنه -يعني خالدا-، خالد لم يتلبس بالسلطان"
(2)
.
وسأله إسحاق بن هانئ: أيما أكبر أبو حصين، أو الأعمش؟ فقال:"أبو حصين أكبر من الأعمش، والأعمش أحب إلي، الأعمش أعلم بالعلم والقرآن من أبي حصين"
(3)
.
وقال إسحاق بن هانئ: "قلت: أيما أثبت عندك في سفيان الثوري أبو نُعَيْم، أو وكيع؟ قال: لا يقاس بوكيع، قلت أنا له: في الصلاح لا يقاس به، فأيما أصح حديثا؟ قال: أبو نُعَيْم أصح حديثا، ثم ابتدأ فذكر الفِرْيابي فقال: ما رأيت أكثر خطأ في الثوري من الفِرْيابي"
(4)
.
وسئل عن جرير الرازي، وأبي هلال الراسبي، فقال:"جرير أحسن حديثا، وأحب إلي، وأوسع في العلم، وأقرب إلى السنة، من أبي هلال، وأما أبو هلال فقال: لا يحفظ -ولين حديثه-"
(5)
.
وقال المروذي: "قلت: (يعني لأحمد) فإذا اختلف سالم ونافع لمن تحكم؟ قال: نافع قد قدم سالمًا على نفسه، وقد روى عنه وكان مُشَمِّرا، قلت: لم أرد الفضل، إنما أردت الحديث، إذا اختلفا فقلبك
(1)
"سؤالات أبي داود" ص 213.
(2)
"العلل ومعرفة الرجال"2: 33.
(3)
"مسائل إسحاق بن هانئ"2: 213، وانظر:"تهذيب الكمال"19: 403.
(4)
"مسائل إسحاق بن هانئ"2: 239.
(5)
"مسائل إسحاق بن هانئ"2: 208، وانظر:"المعرفة والتاريخ"2: 167.
إلى أيهما أميل؟ قال: جميعا عندي ثبت، وذهب إلى أن لا يقضي لأحد"
(1)
.
وقال الفضل بن زياد: "سمعت أبا عبد الله وسأله أبو جعفر: مبارك (يعني ابن فَضَالة) أحب إليك أم الربيع (يعني ابن صُبَيْح)؟ قال: ربيع، وأما عفان وهؤلاء فيقدمون مباركا عليه، ولكن الربيع صاحب غزو وفضل"
(2)
.
وقال ابن معين: "الحارث بن مسكين خير من أَصْبَغ بن الفرج وأفضل، وأفضل من عبد الله بن صالح كاتب الليث، وكان أَصْبَغ من أعلم خلق الله كلهم برأي مالك، يعرفها مسألة مسألة، متى قالها مالك، ومن خالفه فيها"
(3)
.
وسأله ابن الجُنَيْد: أيما أثبت شَرِيْك أو إسرائيل؟ قال: "إسرائيل أقرب حديثا، وشَرِيْك أحفظ"
(4)
.
والظاهر أنه يعني أن شَرِيْكا أقوى حافظة، أو أكثر محفوظا، لكن إسرائيل أصح حديثا منه، وسبب ذلك أنه اعتمد على كتابه فضبط
(5)
.
وقال ابن المديني: "أصحاب قتادة ثلاثة: سعيد -يعني ابن أبي عَرُوبة-، وهشام -يعني الدَّسْتُوائي-، وشعبة، فأما سعيد فأتقنهم،
(1)
"علل المروذي" ص 43.
(2)
"المعرفة والتاريخ"2: 135.
(3)
"تاريخ بغداد"8: 217.
(4)
"سؤالات ابن الجنيد" ص 78.
(5)
انظر: ما يأتي قريبا عن ابن المديني، وانظر أيضا:"تاريخ الدوري عن ابن معين"2: 29، و"سؤالات أبي داود" ص 311، و"المعرفة والتاريخ"2: 168، 174، و"الجرح والتعديل"2:331.
وأما هشام فأكثرهم، وأما شعبة فأعلمهم بما سمع، ليس بعد هؤلاء أحد مثل همام من كتابه"
(1)
، وفي رواية أخرى عنه:"وهمام أسندهم إذا حدث من كتابه، هم هؤلاء أربعة أصحاب قتادة"
(2)
.
وقال أيضا: "لم يكن في القوم أعلم من حماد بن زيد بأيوب، ولم يكن في القوم أثبت فيما روى من إسماعيل، ووُهَيْب، وعبد الوارث"
(3)
.
وقال أيضا في محمد بن عيسى بن الطَّباَّع: "سمعت عبد الرحمن ويحيى يسألانه عن حديث هُشَيْم، وما أعلم أحدا أعلم به منه"
(4)
.
وقال أيضأ: " شَرِيْك أعلم من إسرائيل، وإسرائيل أقل خطأ منه"
(5)
.
وقال أيضا في كلامه على أصحاب إبراهيم النخعي: "لا أعلم أحدا يروي في المسند عن إبراهيم ما روى الأعمش، ومغيرة بن مقسم كان أعلم الناس بإبراهيم، ما سمع منه وما لم يسمع، لم يكن أحد أعلم به منه، حمل عنه وعن أصحابه، ثم كان أبو مَعْشَر، وحماد، وحماد فوق أبي مَعْشَر"
(6)
.
فخص الأعمش بكثرة رواية المسند عن إبراهيم، وقدم مغيرة في
(1)
"المغرفة والتاريخ"2: 140.
(2)
"معرفة الرجال"2: 194، وانظر:"تاريخ المقدمي" ص 202، و"تهذيب الكمال"3:306.
(3)
"المعرفة والتاريخ"2: 130.
(4)
"التاريخ الكبير"1: 203.
(5)
"تاريخ بغداد"9: 283.
(6)
"المعرفة والتاريخ"3: 14.
كثرة الرواية عن إبراهيم، ما كان مسندا، وما كان غير مسند، فيدخل فيه ما يرويه عن إبراهيم من قوله، وأما في التثبت فقد سئل أي أصحاب إبراهيم أعجب إليك؟ قال:"إذا حدثك عن منصور ثقة فقد ملأت يديك، ولا تريد غيره"
(1)
.
وقال ابن مُحْرِز: "سمعت أبا بكر بن أبي شيبة وذكروا عنده زيد بن حُبَاب، فقال: كان والله خيرًا من أبي نُعَيْم، أَعَفُّ عِفَّة، وأكثر صوما وأكثر صلاة، وأكثر صدقة"
(2)
.
وسئل أبو داود: أيما أحفظ وكيع، أو عبد الرحمن؟ فقال:"وكيع أحفظ من عبد الرحمن بن مهدي، وكان عبد الرحمن أقل وهما، وكان أتقن"
(3)
.
وإنما أطلت في سرد هذه النصوص لتأكيد عناية الأئمة النقاد بأمور مختلفة عند المفاضلة.
ولا شك أن الذي يهم الباحث في دراسة الإسناد ما يتعلق بالتقديم في التثبت، وقد يقف على ذلك صريحا كما تقدم في بعض النصوص السابقة، وغيرها كثير، فهذه بغيته، وقد لا يقف على ذلك صريحا، لكن في كلام الإمام ما يشير إلى أن مراده التقديم من هذه الجهة، كما في قول أبي داود: "قلت لأحمد: يزيد -يعني ابن أبي زياد- أحب إليك عن مُقْسِم، أو الحكم؟ قال: الحكم في كل شيء، قلت لأحمد: ذكرت أن الحكم في مُقْسِم أحب إليك منه -أعني من يزيد-، والحكم
(1)
"سير أعلام النبلاء"5: 412.
(2)
"معرفة الرجال"2: 214.
(3)
"سؤالات الآجري لأبي داود"1: 159.
سمع من مُقْسِم أحاديث؟ قال: أربعة سمع منه، قلت وكيف تختار الحكم عليه؟ فقال: الحكم لا يقاس إليه، يزيد يختلف عنه جدا"
(1)
.
وقال عبد الله بن أحمد: "قلت لأبي: أيهما أعجب إليك إسماعيل بن أبي خالد، أو داود - يعني ابن أبي هند-؟ فقال: إسماعيل أحفظ عندي منه، قال: قلَّ ما اختلف عن إسماعيل، وداود يختلف عنه"
(2)
.
وسئل أحمد عن عُقَيْل ويونس الأيليين، فقال:"عقيل، وذاك أن يونس ربما رفع الشيء من رأي الزهري، يُصَيِّره عن ابن المسيب، قد روى يونس، عن عُقَيْل"
(3)
.
ففي هذه النصوص الثلاثة أشار أحمد إلى سبب التقديم، وبه عرف أن مراده في التثبت والضبط.
ومثله ما إذا ذكر الإمام حديثا اختلف فيه اثنان، فرجح قول أحدهما، وعلل ذلك بأنه أحفظ، كما في قول أبي حاتم في حديث ذكره لسلمة بن كُهَيْل، وحصين بن عبد الرحمن السلمي:"سلمة أحفظ من حصين"
(4)
.
وفي حيث آخر لسفيان بن عُيَيْنة، وحسين بن واقد المروذي، يرويانه عن عمرو بن دينار:"ابن عُيَيْنة أحفظ وأعلم بعمرو منه"
(5)
.
فيعلم هنا أن المراد بالحفظ: الضبط والتثبت، لا كثرة المحفوظ مثلا.
(1)
"مسائل أبي داود" ص 446.
(2)
"العلل ومعرفة الرجال"1: 328.
(3)
"علل المروذي" ص 56.
(4)
"علل ابن أبي حاتم"1: 24.
(5)
"علل ابن أبي حاتم"1: 284.
فأما إذا لم تكن عبارة الإمام صريحة، وليس في كلامه قرينة على أن مراده التقديم في الثقة والضبط، مثل أن يقول: أعجب إلي، أو أحب إلي، ونحو ذلك، فعلى الباحث حينئذ أن يبحث عن مفسر خارجي، كأن يقف على رواية أخرى للناقد تفسر مراده، أو يقف على كلام ناقد آخر يعين على تفسير المراد.
وإذا لم يقف على شيء من ذلك فالذي يظهر لي أنه لا بأس بأن يحمل الباحث عبارة الناقد على التقديم في الضبط والتثبت، إذ الأصل في السؤال والجواب عن الرواة أن يكون في ضبطهم وتثبتهم، فيبقى في هذا الأصل حتى يدل دليل على أن مراد الناقد خلافه.
ومن جهة ثانية فإن معرفة اهتمام النقاد بجهات مختلفة عند المفاضلة بين الرواة يساعد كثيرا في إزالة التعارض الذي يبدو من الروايات المختلفة عن الناقد، أو عن الناقد مع غيره من النقاد، في الموازنة بين بعض الرواة، فكلامهم متفق في الغالب، وما يبدو من تعارض يمكن حمله في كثير من الأحيان على اختلاف جهات التقديم.
مثال ذلك: قول ابن المبارك: "كان شَرِيْك أحفظ لحديث الكوفيين من سفيان -يعني الثوري"
(1)
، وفي رواية:"أعلم بحديث الكوفة من سفيان"
(2)
.
فهذه العبارة ظاهرها يعارض ما اشتهر عن الأئمة من تقديم الثوري على غيره من الحفاظ الكبار، فضلا عن شَرِيْك ونحوه، كما تقدم في القسم الأول: المقارنة المطلقة بين الرواة، ويمكن تفسيرها بما قاله ابن معين في جوابه على سؤال يزيد بن الهيثم الدقاق، قال يزيد: "قلت
(1)
"تاريخ بغداد"9: 382.
(2)
"تاريخ بغداد"9: 381.
ليحيى بن معين: زعم إسحاق بن أبي إسرائيل أن شَرِيْكا أروى عن الكوفيين من سفيان، وأعرف بحديثهم، فقال: ليس يقاس بسفيان أحد، ولكن شَرِيْكا أروى منه في بعض المشايخ، الركين، والعباس بن ذَرِيح، وبعض المشايخ يعني الكوفيين -يعني أكثر كتابا-"
(1)
.
ومثله عبارة الأوزاعي في قُرَّة بن عبد الرحمن، وروايته عن الزهري، وهو متكلم فيه كثيرا، وغير مكثر عن الزهري
(2)
، قال الأوزاعي فيما رواه عنه يزيد بن السِّمْط:"ما أحد أعلم بالزهري من قُرَّة بن عبد الرحمن".
عقب عليه ابن أبي حاتم بقوله: "لم يكن الأوزاعي وقف على كتاب معمر، عن الزهري، فإنه أكثرهم رواية عنه، ولا وقف على كتاب عُقَيْل، ويونس، وإنما شاهد من قُرَّة ما كان يورده عليه فتصور صورته عنده أنه أعلمهم بالزهري، ويحتمل أنه عنى أنه كان عالمًا بأخلاق الزهري، ولم يرد أنه كان عالمًا بحديث الزهري"
(3)
.
والمعنى الثاني أولى بأن تحمل عليه عبارة الأوزاعي، فإن يزيد بن السِّمْط رواها عن الأوزاعي بعد أن روى عن قُرّة قوله:"لم يكن للزهري كتاب إلا كتاب فيه نسب قومه"
(4)
، قال ابن حجر بعد أن أورد هذا:"فيظهر من هذه القصة أن مراد الأوزاعي أنه أعلم بحال الزهري من غيره، لا فيما يرجع إلى ضبط الحديث وهذا هو اللائق، والله أعلم"
(5)
.
(1)
"من كلام ابن معين-رواية الدقاق" ص 102، و"تاريخ بغداد"9:382.
(2)
انظر: "تهذيب التهذيب"8: 372.
(3)
"الجرح والتعديل"1: 205.
(4)
"الكامل"5: 2076.
(5)
"تهذيب التهذيب"8: 374، وانظر:"ثقات ابن حبان"7: 342.