المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أولا: اشتباه الراوي بغيره على الناقد - الجرح والتعديل - اللاحم

[إبراهيم اللاحم]

فهرس الكتاب

- ‌ ماذا يمكن أن يستفيده الباحث المتخصص من هذه السلسلة

- ‌الأول: فهم كلام الأئمة

- ‌الثاني: تفهم كلام الأئمة

- ‌الثالث: إتقان عرض التخريج والدراسة

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأول: الحكم على الراوي

- ‌ مدخل:

- ‌المبحث الأول: وسائل الحكم على الراوي

- ‌أولا: التأمل في أفعال الراوي وتصرفاته، والنظر في سيرته

- ‌ثانيا: إلقاء الأسئلة على الراوي

- ‌ثالثًا: اختبار الراوي وامتحانه:

- ‌الأولى: تلقين الراوي

- ‌الثانية: المذاكرة:

- ‌رابعًا: النظر في أصول الرواة وكتبهم:

- ‌خامسًا: النظر في أحاديث الراوي ومروياته:

- ‌1 - اعتداله أو مجازفته في الرواية:

- ‌2 - مشاركته لغيره أو تفرده:

- ‌3 - ثباته أو اضطرابه فيما يرويه:

- ‌4 - موافقته أو مخالفته لغيره:

- ‌المبحث الثاني: اختلاف حال الراوي

- ‌الأولى: توثيق الراوي أو تضعيفه في شيخ معين، أو في شيوخ معينين:

- ‌الثانية: توثيق الراوي في روايته عن أهل بلد معين، وتضعيفه في روايته عن أهل بلد آخر:

- ‌الثالثة: توثيق الراوي أو تضعيفه في رواية أهل بلد معين عنه:

- ‌الرابعة: توثيق الراوي أو تضعيفه في صفة معينة في الرواية:

- ‌الخامسة: تقوية الراوي إذا حدث من كتابه، وتضعيفه إذا حدث من حفظه:

- ‌السادسة: تضعيف الراوي في آخر عمره، وتقويته قبل ذلك:

- ‌المبحث الثالث: مقارنة الراوي بغيره

- ‌القسم الأول: المقارنة المطلقة

- ‌الضرب الأول: أن تكون المقارنة فيه بين راو أو أكثر وبين من سواه بإطلاق

- ‌الضرب الثاني: أن يقيد الناقد من يقارن الراوي بهم بشيء ما، كأن يقيدهم بأهل بلد الراوي، أو بمن رآهم الناقد

- ‌القسم الثاني: المقارنة المقيدة بشيء معين كبلد، أو شيخ:

- ‌المبحث الرابع: عوائق الحكم على الراوي

- ‌أولاً: اشتباه الراوي بغيره على الناقد

- ‌ثانيًا: تعارض وسائل الحكم على الراوي

- ‌ثالثًا: نقد النقد

- ‌رابعًا: انعدام وسائل الحكم على الراوي أو ضعفها

- ‌الفصل الثاني: أحكام النقاد على الرواة ومراتبها

- ‌مدخل:

- ‌المبحث الأول: الأحكام النظرية على الرواة

- ‌القسم الأول: ما وصلنا من أحكام أطلقها الأئمة على الرواة

- ‌القسم الثاني: حركات وإشارات تصدر من النقاد حين يرد ذكر بعض الرواة

- ‌المبحث الثاني: الأحكام العملية على الرواة

- ‌القسم الأول: الانتقاء العام للرواة

- ‌القسم الثاني: الانتقاء الخاص للرواة:

- ‌المبحث الثالث: مراتب أحكام النقاد على الرواة

- ‌الفصل الثالث: ضوابط النظر في أحكام النقاد على الرواة

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: ثبوت النقل عمن نسب إليه

- ‌المبحث الثاني: سلامة النص

- ‌الصورة الأولى: حكاية معنى النص

- ‌الصورة الثانية: بتر النص

- ‌الصورة الثالثة: تحريف النص

- ‌المبحث الثالث: قائل النص

- ‌المبحث الرابع: دلالة النص

- ‌الفصل الرابع: تمييز رواة الإسناد

- ‌مدخل:

- ‌المبحث الأول: كثرة وقوع الاشتباه بين الرواة

- ‌المبحث الثاني: أسباب وقع الخلط بين الرواة

- ‌المبحث الثالث: الوسائل المساعدة على تمييز الرواة

- ‌النوع الأول: الولادة والوفاة:

- ‌النوع الثاني: الشيوخ والتلاميذ:

- ‌النوع الثالث: كتب الأطراف:

- ‌النوع الرابع: طرق الحديث الأخرى:

- ‌القسم الأول: الطرق إلى المؤلفين

- ‌القسم الثاني: الطرق بعد المؤلفين

- ‌النوع الخامس: النظر في متن الحديث وإسناده:

- ‌النوع السادس: ضوابط في تمييز الرواة:

- ‌المصادر والمراجع

الفصل: ‌أولا: اشتباه الراوي بغيره على الناقد

‌المبحث الرابع: عوائق الحكم على الراوي

تقدم في المباحث الثلاثة السابقة عرض الوسائل التي بها يتوصل الأئمة إلى حكم يليق بالراوي، وتفصيل حال الراوي إن كان يحتاج إلى تفصيل، ومقارنته برواة آخرين، ولا شك أن هذا كله يقتضي اطلاعا واسعا، وقدرة على السبر والتتبع والموازنة، اختص بها أئمة نقد الرواة.

وفي أغلب الرواة تسير الأمور دون عوائق، فيصدر الناقد حكمه على الراوي دون عناء، ولكنهم -مع حفظهم، وسعة اطلاعهم، وما لديهم من وسائل كثيرة للحكم على الرواة- تواجههم عوائق في الطريق إلى ذلك، بعضها يمكن تجاوزها ولو بمرور الزمن، والبعض الآخر لا يمكن تجاوزه، فيتوقف الناقد، ولا يصدر حكمه، أو يشير إلى تردده، وقد يصدر حكمه ويتبين تأثير العوائق على هذا الحكم، فهو محل نظر، وهذا أمر ليس بغريب، إذا تأمل الناظر في كثرة الرواة كثرة بالغة، وتفرقهم في الزمان والمكان.

وأهم هذه العوائق:

‌أولاً: اشتباه الراوي بغيره على الناقد

.

ومعناه أن يقع اشتباه في اسم واحد، هل هو لشخص واحد، أو لاثنين اتفقا في الاسم، أو أكثر من اثنين؟ ويقع مثله في الكنى والأنساب.

وسبب الاشتباه أن كثيرًا من الرواة إنما يعرفون وتؤخذ تراجمهم

ص: 187

من أسانيد الأحاديث التي يروونها، فربما يأتي اسم راو في إسناد منسوبا إلى قبيلة، وفي آخر إلى قبيلة أخرى، أو إلى بلد، أو ينسب في إسناد إلى بلد، وفي إسناد إلى بلد آخر، وقد يتباعد البلدان، فيقع الاحتمال أن يكون راويا واحدا، وأن يكون أكثر من راو.

وقد يأتي اسم الراوي في إسناد منسوبا إلى أبيه، ويأتي في آخر منسوبا إلى اسم جده، فيحتمل أن يكون واحدا نسبه بعض الرواة إلى اسم جده، ويحتمل أن يكونا اثنين.

وقد يأتي الراوي في إسناد بذكر اسم أبيه وجده، ويأتي في آخر بإبدال اسم الأب باسم الجد، أو يأتي في إسناد باسم عبد الله - مثلا -، وفي آخر باسم عبيد الله - مصغًا -، فيقع الاحتمال هل هما اثنان، أو واحد أخطأ في اسمه بعض الرواة، أو صحفه؟ .

ويصحب ذلك كله اتحاد الطبقة أو تقاربها.

وفي مقابل ذلك قد توجد أسماء أو كنى متعددة مختلفة، ولكن يوجد رابط من جهة أخرى، كاتفاق الأحاديث التي وردت من طريقها، ثم قد يكون تعدد الأسماء والكنى وقع اتفاقا، وقد يكون وقع قصدا من بعض الرواة الذين عرفوا بتغيير الأسماء والكنى للشخص الواحد، وهو ما يعرف عند العلماء بتدليس الشيوخ، فيترجح أن تكون هذه الأسماء أو الكنى -وإن تعددت- لشخص واحد.

وقد عرف بتدليس الشيوخ بعض المدلسين، كهُشَيْم، ومروان بن معاوية الفَزَاري، والوليد بن مسلم، وبَقِيَّة بن الوليد، ويقع من غيرهم أيضا على سبيل الندرة

(1)

.

(1)

انظر: "العلل ومعرفة الرجال"2: 51، و"المراسيل" ص 147 - 148، فقرة 1523، و"معرفة الرجال"1: 63، و"المجروحين"1: 91، و"الكفاية" ص 365 - 371، و"شرح علل الترمذي"2: 823 - 824، و"تهذيب التهذيب"10:98.

ص: 188

فقد روى هُشَيْم عن أبي إسحاق الكوفي، وعن أبي ليلى، وعن أبي عبد الجليل، وعن أبي جرير، وكلهم شخص واحد، وهو عبد الله بن مَيْسَرة الكوفي

(1)

.

وقال الدوري: "سألت يحيى بن معين عن حديث مروان بن معاوية، عن علي بن أبي الوليد، قال: هذا علي بن غُرَاب، والله ما رأيت أحيل للتدليس منه"

(2)

.

وقال ابن معين: "كان مروان بن معاوية يحدث عن أبي بكر بن عَيَّاش ولا يسميه، يقول: حدث أبو بكر، عن أبي صالح، ويدع الكلبي، يوهم أنه أبو بكر آخر"

(3)

.

وقال ابن معين أيضا: "كان مروان يغير الأسماء، يُعَمِّي على الناس، كان يحدثنا عن الحكم بن أبي خالد، وإنما هو الحكم بن ظُهَيْر"

(4)

.

كما تفنن أهل الشام في تغيير اسم محمد بن سعيد المصلوب، حتى قيل إنهم قلبوا اسمه إلى مائة اسم

(5)

.

(1)

"سؤالات أبي داود" ص 178، و"تاريخ الدوري عن ابن معين"2: 333، و"الكامل"4: 1488، و"تهذيب التهذيب" 6:48.

(2)

"تاريخ الدوري عن ابن معين"2: 557، و"تهذيب التهذيب"10:97.

(3)

"تاريخ الدوري عن ابن معين"2: 556، ومعنى قوله:"ويدع الكلبي": أي يسقط الكلبي من الإسناد، بين أبي بكر بن عياش، وبين أبي صالح، ولكي لا يعرف أنه أسقطه لا يسمي أبا بكر بن عياش، يعني لا يذكر نسبته وأنه ابن عياش، لأنه لو سماه لعرف أن بينه وبين أبي صالح راو، وهو الكلبي.

(4)

"تهذيب التهذيب"10: 98.

(5)

جمعها الحافظ أبو طالب البغدادي في كتاب، انظر:"الموضوعات" لابن الجوزي 1: 280 (فضائل النبي صلى الله عليه وسلم)(باب ذكر أنه لا نبي بعده).

ص: 189

وغير خاف أن اشتباه الراوي بغيره يمثل عائقا للحكم عليه، حتى مع تجاوز ذلك من قبل الناقد، إذ يقتضي منه أن ينظر أولا في هذا الاشتباه، قبل أن يحكم على الراوي.

وقد بذلك أئمة النقد جهودا كبيرة جدا في تمييز الرواة، وجمعهم أو تفريقهم، يلاحظ ذلك بوضوح في كتب السؤالات، وكتب العلل، فمن ذلك قول أبي داود:"قلت لأحمد: عثمان بن أبي زرعة؟ قال: هو عثمان الأعشى، وعثمان بن المغيرة، وعثمان الثقفي، يقال له: أبو المغيرة"

(1)

.

وقال أحمد أيضا: "حفص بن عبيد الله الذي روى عنه ابن إسحاق، ويحيى بن أبي كثير، ليس هو الذي يحدث عنه خلف بن خليفة، الذي يحدث عنه خلف ما أعلم أحدا حدث عنه غيره"

(2)

.

وقال عبد الله بن أحمد: "سألت أبي عن أبي رافع مولى عمر بن الخطاب، فقال: قد روى عنه الحسن، وبكر المزني، وخِلَاس بن عمرو، وثابت البناني، ومروان الأصفر

، روى عنه الصغار والكبار، قلت لأبي: في حديث بكر، عن أبي رافع: حلفت مولاتي ليلى بنت العجماء، فتر ى أن أبا رافع هذا غير أبي رافع مولى عمر، فقال: أحسب أن ليلى بنت العجماء بينها وبين عمر سبب، وهو عندي واحد إن شاء الله"

(3)

.

وقال عبد الله بن أحمد أيضا: "سألته عن حديث عن أبي النَّضْر،

(1)

"سؤالات أبي داود" ص 182.

(2)

"سؤالات أبي داود" ص 191.

(3)

"العلل ومعرفة الرجال"2: 40.

ص: 190

قال: سمعت حَمَلة بن عبد الرحمن، قال: ليس هذا أبو النَّضْر الذي يحدث عنه مالك، وابن عُيَيْنة، هذا رجل شامي من عك"

(1)

.

وقال ابن معين: "قد روى أبو عَوَانة، وشعبة، ومِسْعَر، عن أبي العَنْبَس، وليس هو من أبوي العَنْبَس الصغيرين في شيء، أحد ذينك يقال له: عمرو بن مروان، يروي عنه وكيع، والآخر سعيد بن كَثِير، يروي عنه حفص بن غياث، وثلاثتهم كوفيون، وأبو العَنْبَس الذي يحدث عنه يعلي بن عبيد هو سعيد بن كَثِير"

(2)

.

وقال ابن مُحْرِز: "سمعت يحيى بن معين وقيل له: مِسْعَر بن كِدَام سمع من إياس بن سلمة بن الأكوع شيئا؟ فقال: لا، لم يسمع مِسْعَر في غير الكوفة شيئا قط، إنما سمع ممن قدم عليهم الكوفة، هذا رجل آخر يقال له: ابن الأكوع، وليس هو إياس بن سلمة"

(3)

.

وقال أبو حاتم: "لأهل الشام عُرْسان، عُرْس بن عَمِيْرة، وله صحبة، وعُرْس بن قيس ليس له صحبة"

(4)

.

وفي هذا السياق أولى الأئمة اهتماما كبيرا لكني الرواة، وتمييز أصحابها، وإرجاع الكنية إلى اسم صاحبها إن كان معروف الاسم، لئلا يظن أنه شخص آخر.

(1)

"العلل ومعرفة الرجال"2: 169.

وانظر أيضا أمثلة أخرى عن أحمد في: 2: 32 فقرة 1460، 36 فقرة 1475، 49 فقرة 1516، 52 فقرة 1524، 63 فقرة 1557، 157 فقرة 1861، 159، 165 فقرة 1882، 166 فقرة 1886، 171، فقرة 1900، 178 فقرة 1922.

(2)

"تاريخ الدوري عن ابن معين"2: 718.

(3)

"معرفة الرجال"1: 127.

(4)

"المراسيل" ص 162.

ص: 191

ثم لما جاءت النوبة إلى من ألف منهم كتبا خاصة بالرواة ساروا على نهج من سبقهم في الاجتهاد في الجمع والتفريق، كالبخاري، ومسلم، والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن حبان، كما أولوا الكنى عناية خاصة، إما مع كتبهم في أسماء الرواة بتخصيص جزء خاص بالكنى، كما فعل البخاري، وابن أبي حاتم، وغيرهما، أو بتخصيص كتب مفردة للكنى، كما فعل مسلم، والنسائي، والدولابي، وأبو أحمد الحاكم، وغيرهم.

كما تصدى بعض الأئمة للتأليف في موضوعات تعين على تمييز الرواة، فمنهم من كتب في (المؤتلف والمختلف)، وهو ما يتفق في الخط، ويختلف في الضبط أو الشكل، وكان التأليف فيه مبكرا، لكنه كان في أول الأمر على نطاق ضيق، ثم اتسع، وكثرت المؤلفات فيه جدا، ومن أشهر من ألف في هذا: عبد الغني بن سعيد الأزدي، والدارقطني، والخطيب البغدادي، وابن ماكولا

(1)

.

ومنهم من ألف في (المتفق والمفترق)، ومعناه اتفاق اثنين أو أكثر في الاسم واسم الأب، فيجري التمييز بينهم، وقد يكون الاتفاق في أشياء أخرى أيضا كالنسبة أو الكنية، وممن ألف في ذلك الخطيب البغدادي فله كتاب باسم:"المتفق والمفترق"

(2)

.

ومنهم من ألف فيمن يرد بأسماء أو نعوت مختلفة وهو شخص واحد، وقد ألف فيه عبد الغني بن سعيد الأزدي

(3)

، وخصص الخطيب البغدادي لذلك جزءا من كتابه "موضح أوهام الجمع

(1)

وانظر: ما كتبه الشيخ عبد الرحمن المعلمي عن تاريخ التأليف في هذا النوع في مقدمته لكتاب "الإكمال" لابن ماكولا 1 - 14.

(2)

حققه محمد الحامدي، وطبعه في ثلاث مجلدات.

(3)

"مقدمة ابن الصلاح" ص 498.

ص: 192

والتفريق"

(1)

.

في أشياء كثيرة تعين على تمييز الرواة وتفريقهم أو جمعهم، وقد اعتنت كتب المصطلح بشرح ذلك

(2)

.

وهذا الضرب من الاشتباه بين الرواة والكلام في جمعهم أو تفريقهم هو من موضوعات نقد السنة التي يتبلد فيها حمار الباحث المتأخر كثيرا، إذ الاعتماد فيه أولا وآخرا على كلام أئمة النقد، فهو يحتاج إلى حفظ واسع، ومعرفة وفهم بأحوال الرواة المشتبه بهم، ومن يروي عنهم، ومن يروون عنه.

ومع ذلك فإن بإمكان الباحث أن يشارك أئمة النقد في حالتين:

الحالة الأولى: أن يقع اختلاف في الجمع والتفريق، فقد وقع ذلك كثيرا؛ إذ هو مبني على الاجتهاد، والنظر في القرائن، كغيره من قضايا هذا الفن، مثال ذلك أن إبراهيم بن محمد بن المنتشر،

(1)

خصص القسم الأول من الكتاب لأشياء جمعها رأى أن من قبله من الأئمة الذين ألفوا في الرواة وقعوا فيها في أوهام، من عد الواحد اثنين أو أكثر، أو عد الاثنين واحدًا، وأكثرها مما وقع للبخاري في "تاريخه الكبير"، وخصص القسم الثاني لمن يرد في الروايات بأسماء أو كنى أو نسب متعددة وهو شخص واحد، وقد حقق الكتاب وطبعه في مجلدين الشيخ عبد الرحمن المعلمي، وكتب له مقدمة بين فيها أن ما ذكره الخطيب من أوهام للبخاري -وعددها ثمانون- لا يلزم البخاري منها إلا الشيء اليسير، فمنها ما هو محل للاجتهاد، ومنها ما وقع الخطأ فيه بسبب نسخة الخطيب من "التاريخ"، ومنها ما غفل فيه الخطيب عن اصطلاح البخاري أو إشارته.

وبكل حال فقراءة هذا الكتاب ومقدمته مفيدة جدًا في الاطلاع على جهود الأئمة، والتمرن على معالجة هذا النوع من الاشتباه.

(2)

انظر مثلاً: "معرفة علوم الحديث" ص 221 - 238، و"مقدمة ابن الصلاح" ص 498 - 565.

ص: 193

روى عن أبيه، عن عَبَاية بن رَدَّاد، سمع عمر يقول:"لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب".

فذهب أحمد، والبخاري، والبيهقي إلى أن عَبَاية بن رَدَّاد التيمي هذا هو عَبَاية بن رِبْعي الأسدي الكوفي، يروى عن علي، وأبي أيوب، وابن عباس، وروى عنه خَيْثَمة بن عبد الرحمن، وسلمة بن كُهَيْل وموسى بن طَرِيف، وغيرهم.

وذهب أبو حاتم إلى التفريق بينهما، فسكت عن عَبَاية بن رَدَّاد، ولم يذكر في الرواة عنه سوى محمد بن المنتشر، وقال في الثاني:"من عتق الشيعة، شيخ"، وكذا فرق بينهما ابن حبان، لكنه زاد فذكر في الرواة عن ابن رَدَّاد: سلمة بن كهيل، وقال في الثاني:"روى عنه أهل الكوفة".

وحجة أبي حاتم وابن حبان ظاهرة، فالاسم مختلف، والطبقة مختلفة، فابن رَدَّاد يروي عن عمر، والآخر تأخر كثيرا، بدليل روايته عن ابن عباس، ولحوق المذكورين له.

وحجة باقي الأئمة أن خَيْثَمة بن عبد الرحمن روى نحو هذا الأثر بعينه عن عَبَاية بن رِبْعي، عن عمر بن الخطاب، فلا يبعد حينئذٍ أن يكون نسب إلى غير أبيه في رواية محمد بن المنتشر، وكونه يروي عن عمر وهو متأخر فإن ذلك يدل على مجازفته، فهو شيعي غال، رماه العقيلي بالإلحاد

(1)

.

(1)

"العلل ومعرفة الرجال"2: 169، و"مصنف ابن أبي شيبة"1: 360، و"التاريخ الكبير"8: 72، و"الضعفاء الكبير"3: 415، و"الجرح والتعديل"7: 28، و"ثقات ابن حبان"5: 281، و"جزء القراءة خلف الإمام" للبيهقي ص 73.

ص: 194

وربما وقع الاختلاف في الحالة المعينة عن الإمام الواحد، فيروى عنه قولان، بل قد يكون جاء عنه اختلاف في رواية واحدة

(1)

.

فإذا واجه الباحث مثل هذا الاختلاف فإن عليه أن ينظر في أقوالهم ما أمكنه ذلك، ويرجح ما يراه راجحا، فقد يكون ترجيحه مبنيا على ضعف الخلاف أصلا، كما إذا ذهب الجمهور إلى قول، وخالفهم إمام واحد.

مثال ذلك أن جماعة من الأئمة منهم أحمد، وابن معين، وابن المديني، والبخاري، وابن حبان، والخطيب، فرقوا بين الحضرمي بن لاحق اليمامي الذي يروي عنه يحيى بن أبي كثير، وعكرمة بن عمار، وبين الحضرمي -غير منسوب- الذي تفرد بالرواية عنه سليمان التيمي، وأما أبو حاتم فجعلهما واحدا، لكنه قال بعد أن جعلهما ترجمة واحدة:"حضرمي اليمامي، وحضرمي بن لاحق هو عندي واحد"، وهو كما قال، لكن الحضرمي الذي يروي عنه التيمي ليس يماميا، وإنما هو بصري فترجح قول الجمهور من هذه الجهة أيضا

(2)

.

(1)

"انظر مثلا: "العلل ومعرفة الرجال"3: 21 - 22، و"تاريخ الدوري عن ابن معين"2: 121، و"موضح أوهام الجمع والتفريق"1: 227، في كلام ابن معين على (الحضرمي بن لاحق)، و"تاريخ الدوري عن ابن معين"2: 719، و"معرفة الرجال"1: 125، و"كنى الدولابي"1: 47، و"الإصابة"11: 278، في كلامه على (أبي الغادية)، و"تاريخ الدوري عن ابن معين"2: 311 - 312، و"موضح أوهام الجمع والتفريق"1: 333، في كلامه على (عبد الله بن سلمة).

(2)

"العلل ومعرفة الرجال"2: 177، 309، 523، 3: 21، 22، و"تاريخ الدوري عن ابن معين"2: 121، و"التاريخ الكبير"3: 125، و"الجرح والتعديل"3: 302، و"ثقات ابن حبان"6: 249، و"موضح أوهام الجمع والتفريق"1: 225، 226، و"تهذيب التهذيب"2:394.

ص: 195

وقد يكون ترجيحه مبنيا على النظر في أدلة كل قول، وهذا أمر شاق، ويحتاج إلى خبرة ومران.

والمشتغلون بنقد السنة الآن بحاجة ماسة إلى دراسة موسعة يقوم بها بعض الباحثين، تعين الباحث على معرفة القرائن التي يستخدمها الأئمة في الجمع والتفريق، ولعل الله تعالى يهيئ من يتصدى لذلك، فإنني لا أعرف الآن دراسة متكاملة لموضوع تمييز الرواة وجمعهم أو تفريقهم.

ومن أهم ما يتعلق بالاشتباه المذكور بالنسبة للباحث إذا وقف على اختلاف للأئمة أن يدقق حين نقل كلامهم في المشتبه به، فإذا كان أحد الأئمة رأى أنهما اثنان، ووثق أو ضعف أحدهما، ثم تبين للباحث أنهما شخص واحد، فلا يصح أن ينقل كلام هذا الإمام مطلقا دون بيان، إذ إن الإمام إنما وثق أحدهما أو ضعفه لكونه يراه غير ذاك، وإنما يصح نقل كلامه دون بيان إذا فرق بينهما لكن أعطاهما درجة واحدة، كأن يوثقهما أو يضعفهما.

مثال ذلك: عبد الله بن المؤَمَّل بن وهب الله القرشي المخزومي، يروي عن أبي الزبير، وعطاء بن أبي رباح، وغيرهما، وعنه الوليد بن مسلم، والشافعي، وابن المبارك، وغيرهم، وضعفه الجمهور، وذكر المِزِّي أن ابن حبان ذكره في "الثقات"، وقال:"يخطئ"

(1)

، فتعقبه ابن حجر بقوله:"قد ذكره ابن حبان في "الضعفاء"، وقال: لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد، وأما في "الثقات" فلم أر ما نقله المؤلف عنه، بل فيه عبد الله بن المؤَمَّل المخزومي، يروي عن عطاء، وعنه

(1)

"تهذيب الكمال"16: 190.

ص: 196

منصور بن سُقَيْر، وليس هذا بصاحب أبي الزبير الذي روى عنه ابن المبارك، ذاك ضعيف، فهذا ابن حبان إنما وثق هذا لأنه ظنه غيره، والحق أنه هو، ولفظة "يخطئ" لم أرها فيه"

(1)

.

والعكس كذلك، فإذا كان الإمام يراه شخصا واحدا، وتبين للباحث أنهما اثنان، فلا يصح نقل كلام الإمام في ترجمة كل واحد منهما دون بيان رأيه.

وأدق من ذلك أن يختلف النقل في الجمع والتفريق عن الإمام الواحد، كما في المثال السابق، فقد اختلف النقل عن يحيى بن معين في الحضرمي بن لاحق الذي روى عنه يحيى بن أبي كثير، وعكرمة بن عمار، والحضرمي -غير منسوب- الذي روى عنه سليمان التيمي، فجاء عنه من غير وجه أنهما واحد

(2)

، وجاء عنه في رواية أنهما اثنان، وقال فيها عن الذي روى عنه سليمان التيمي حين سأله السائل: هل هو ثقة؟ قال: "ليس به بأس"

(3)

، وحينئذ فلا يصح أن ينقل في الحضرمي بن لاحق أن ابن معين قال فيه ذلك، بناء على ما جاء عنه من غير وجه أنهما واحد، لأنه إنما نقل عنه هذا القول وهو يرى أنهما اثنان.

ومثل ذلك يقال في ذكر الرواة عن المترجم له، ينبغي التدقيق فيه، فقد علق أحد الباحثين على قول أحد الأئمة في الحضرمي الذي روى عنه سليمان التيمي:"لا أعلم روى عنه غير سليمان التيمي" - علق

(1)

"تهذيب التهذيب"6: 46، و"المجروحين"2: 27، و"الثقات"7: 28، وفيه:"عبد الله بن المؤمل بن وهب المخزومي"، وليس فيه قوله:"ذاك ضعيف".

(2)

"تاريخ الدوري عن ابن معين"2: 121، و"موضع أوهام الجمع والتفريق"1:227.

(3)

"العلل ومعرفة الرجال"3: 21 - 22، و"الجرح والتعديل"3:302.

ص: 197

بقوله: "ذكروا من الرواة عنه: يحيى بن أبي كثير، وعكرمة بن عمار أيضا" ثم أحال إلى بعض كتب الرجال.

وظاهر جدا أن هذا غير دقيق، وينبغي تقييده بأن من ذكر في الرواة عنه هذين من يرى أنه هو الحضرمي بن لاحق، وجمهور الأئمة على خلاف هذا كما سبق آنفا، فلم يرو عنه عندهم غير سليمان التيمي.

وروى أبو إسحاق السَّبِيعي، عن عبد الله بن سلمة الكوفي أبي العالية

(1)

، وروى عمرو بن مُرَّة، عن عبد الله بن سلمة الكوفي أبي العالية، وقد قيل إنه روى عنه أيضا أبو الزبير، فذهب أحمد، وابن معين -في أحد قوليه وقيل إنه رجع عنه- إلى أنهما واحد، وهو ظاهر صنيع ابن أبي حاتم، وذهب محمد بن عبد الله بن نمير، وابن معين في قوله الآخر، والبخاري، والدارقطني، وغيرهم، إلى أنهما اثنان، أحدهما جملي مرادي من رهط عمرو بن مُرَّة، والآخر همذاني، كأبي إسحاق، وقال بعضهم: إن أبا العالية كنية الهمذاني فقط

(2)

.

فإذا أراد الباحث أن يترجم لعبد الله بن سلمة الذي روى عنه عمرو بن مرة، أو الذي روى عنه أبو إسحاق، عليه أن ينظر أولا هل هما واحد أو اثنان؟ فإذا رجح أنهما اثنان كما هو قول الجمهور فلا يصح حينئذ أن يذكر في الأول أنه روى عنه أبو إسحاق، ولا أن يذكر في

(1)

لم يرو عنه شيئا مسندا، وإنما روى عنه من قوله، انظر:"موضح أوهام الجمع والتفريق"1: 333، و"تهذيب التهذيب"5:242.

(2)

"العلل ومعرفة الرجال"1: 315 - 316، 482، 2: 178، 367، و"تاريخ الدوري عن ابن معين"2: 311 - 312، و"التاريخ الكبير"5: 99، و"الجرح والتعديل"5: 73، و"موضح أوهام الجمع والتفريق"1: 330، و"تاريخ بغداد"9: 460، وتهذيب التهذيب"5:241.

ص: 198

الثاني أنه روى عنه عمرو بن مرة، وإنما يفعل ذلك إذا رجح قول أحمد ومن معه.

وسيأتي لذلك زيادة بيان في (الفصل الثالث: ضوابط النظر في كلام النقاد في الرواة).

الحالة الثانية: أن يقع هذا النوع من الاشتباه للباحث ابتداء، فلا يقف على صنيع للأئمة المتقدمين في التفريق أو الجمع بينهما، فيلزمه الاجتهاد كذلك، كما يفعل الأئمة المتأخرون، ومن أمثلته عبد الله بن واقد، الذي يروي عن محمد بن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، في (النهي عن الاحتباء يوم الجمعة والإمام يخطب)

(1)

، فذكر المِزِّي أن عبد الله بن واقد هذا يحتمل أن يكون الهروي، أو أبو قتادة الحَرَّاني، أو آخر ثالث

(2)

، وعقبه ابن حجر بقوله:"أما الحَرَّاني فيصغر عن إدراك محمد بن عجلان، فبقي الهروي على الاحتمال"

(3)

.

ومن أمثلته أيضا عبد الله بن هارون الحجازي، فقد روى عنه صفوان بن عيسى، عن زياد بن سعد، عن أبي نَهِيْك، عن ابن عباس:"من السنة إذا جلس الرجل أن يخلع نعليه فيضعهما بجنبه"

(4)

، قال ابن حجر:"ذكر ابن عدي في "الكامل": عبد الله بن هارون البَجَلي الكوفي، روى عن ليث بن أبي سُلَيْم، وزياد بن سعد، وأَبَان بن أبي

(1)

"سنن ابن ماجه" حديث 1134.

(2)

"تهذيب الكمال"30: 258.

(3)

"تهذيب التهذيب"6: 66.

(4)

"سنن أبي داود" حديث 4138.

ص: 199