الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: سلامة النص
قد يعتري النص خلال مسيرته منذ صدوره عن قائله إلى أن يصل إلينا شيء من التغيير، إما بقصد أو بغير قصد، وهذا التغيير قد يبعد النص عن المعنى الذي أراده منه قائله، وقد يكون تأثيره محدودا، كأن يطلقه وهو مقيد، أو يقيده وهو مطلق.
ومن دقة الباحث أن يكون شديد الملاحظة، بحيث يراعي أي تغيير وقع لنص أمامه.
وقد تأملت ما يقع من تصرف في النصوص فوجدته يرجع إلى خمس صور:
الصورة الأولى: حكاية معنى النص
، أي أن الناقل للنص يعبر بعبارة من عنده عما فهمه من الناقد، إما بغرض الاختصار للقارئ، أو لسبب آخر، وأكثر ما يقع ذلك من تلامذة النقاد، كأحمد، وابن معين، وابن المديني، وعمرو بن علي الفلاس، فيما ينقلونه عن يحيى القطان، أو عبد الرحمن بن مهدي، وكأبي داود، وعبد الله بن أحمد، والمروذي، وإسحاق بن هانئ، فيما ينقلونه عن أحمد، وكعباس الدُّوري، وعثمان الدارمي، وابن الجُنَيْد، فيما ينقلونه عن ابن معين، فهؤلاء وأمثالهم ربما عبروا عما فهمومه من جواب الناقد بعبارة من عندهم، وقد يقع هذا من مؤلفي الكتب وغيرهم، كالذهبي، وابن عبد الهادي.
وفي الأغلب الأعم يستخدمون عبارات مشهورة متداولة، كأن يقول
التلميذ في حكاية الجرح: سألت عنه فلانا فلينه، أو ضعفه، أو فكأنه ضعفه، أو مرض فيه القول، أو أغلظ فيه القول، أو وهاه، أو ذمه، أو جرحه، أو غمزه، أو كان فلان يستضعفه، أو لم يره شيئا، أو يسيء الرأي فيه، أو يحمل عليه، ونحو ذلك، وفي حكاية التعديل: سألته عنه فقواه، أو رفع من شأنه، أو أثنى عليه، أو مدحه، أو رأيته يُحَسِّن أمره، أو يرفعه، أو يوثقه، أو يقويه، أو يمدحه، أو يُطْرِيه، ونحو ذلك، وكأن يقول الذهبي مثلا: لينه أحمد، أو أبو حاتم، أو ضعفه ابن معين، أو حط عليه، أو قواه أحمد، أو مشَّاه ابن معين، ونحو ذلك.
وربما استخدموا عبارات قليلة التداول، نادرة الاستعمال، مثل ما نقله النَّضْر بن شُمَيْل، عن ابن عون، في شَهْر بن حَوْشَب:"إن شَهْرا نزكوه، إن شَهْرا نزكوه"، قال النَّضْر في بعض الروايات عنه مفسرا ذلك:"نزكوه، أي طعنوا فيه" وقال أحمد مفسرا له أيضا: "يعني بذلك: رموه بشيء، وضعفوه"
(1)
.
وفي رواية أخرى عن ابن عَوْن قال: "إن شعبة نزك شهرا"
(2)
.
ومثله قول وكيع: "ذكر شعبة داود بن فَراهِيْج فَقَصَبَه -يعني تكلم فيه-"
(3)
.
(1)
"العلل ومعرفة الرجال"3: 134، و"صحيح مسلم"1: 17، و"أحوال الرجال" ص 156، و"المعرفة والتاريخ"2: 97، و"غريب الحديث" لابن قتيبة 2: 279، و"الضعفاء الكبير"2: 191، و"المجروحين"2: 361، و"الكامل"4: 1355، وقد تصحفت كلمة "نزكوه" في بعض هذه المصادر إلى:"تركوه".
(2)
"الكامل"4: 1355، و"تهذيب الكمال"12: 582، وقال المزي معلقا على الخبر:"النيازك: الرماح"، وقد تحرف النص في المصدر الأول إلى:"ترك شهرا".
(3)
"العلل ومعرفة الرجال"1: 185، 350، و"الكامل"3: 949، وانظر:"من اختلف النقاد فيه" لابن شاهين المطبوع في آخر "تاريخ جرجان" ص 656.
وقول أبي حفص الأَبَّار، في إبراهيم قُعَيْس المدني:"أول ما طلبت الحديث رأيت أهل العلم ينكرون حديثه، وكذلك حماد بن يحيى الأَبَحّ، كنت أرى لهؤلاء من أهل الحديث (كذا) يتقون حديثهما، ويستخفون بحديثهما، وكذلك رأيتهم يستثقلون أبا يحيى الحِمَّاني، ويتحفظون من حديثه"
(1)
.
وكذا استخدم أحمد لفظ (الاستخفاف)، قال عبد الله بن أحمد:"سألت أبي عن أيوب أبي العلاء، فقال: ليس به بأس، وكان يزيد بن هارون لا يَسْتَخِفُّه، أظنه قال: كان لا يحفظ الإسناد"
(2)
.
واستخدم أحمد أيضا لفظ (الاستمراء)، فقال في عمر بن عامر:"كان يحيى بن سعيد لا يستمريه"
(3)
.
وقال أبو حاتم في عمر بن هارون البلخي: "ضعيف الحديث، نَخَسَه ابن المبارك نَخْسَة، فقال: إن عمر بن هارون يروي عن جعفر بن محمد، وقد قدمت قبل قدومه، وكان قد توفي جعفر بن محمد"
(4)
.
وقال أبو حاتم أيضا: "سئل يحيى بن معين، عن سعيد بن عبد الجبار الحمصي، فَضَجَّع فيه"، يعني وَهَّنه وضعفه
(5)
.
(1)
"المعرفة والتاريخ"3: 82، ومعنى الاستخفاف هنا: التقليل من شأن حديثهما، وأنه لا يعتمد عليه.
(2)
"العلل ومعرفة الرجال"2: 35، وانظر أيضا: 2: 38، والمراد بكونه لا يستخفه أي لا يراه خفيفا على النفس لكثرة خطئه.
(3)
"العلل ومعرفة الرجال"2: 50.
(4)
"الجرح والتعديل"6: 141، و"تهذيب الكمال"21: 526، و"سير أعلام النبلاء"9: 270، وتصحفت العبارة فيه إلى:"بخسه بخسة".
(5)
"الجرح والتعديل"4: 44.
وحكاية آراء النقاد من قبل تلامذتهم أو من جاء بعدهم من القضايا المهمة في باب الجرح والتعديل، ولم تتناول بدراسة خاصة مستفيضة، وسمعت أخانا وشيخنا فضيلة الدكتور عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف رحمه الله أكثر من مرة يتمنى أن يتصدى لها باحث، يجمع شتاتها، ويدرس ألفاظها.
والذي أريد أن قوله هنا -وقد اجترأت عليه، فلا أعزوه لأحد قبلي- أن حكاية رأي الناقد تأتي في مرتبة ثانية بعد نقل نص قوله، فكل ما يتعرض له نقل النص من ردٍّ أو تأويل عند الحاجة لذلك فحكاية رأيه من باب أولى، وكذا إذا تعارض نقل النص مع حكاية الرأي قُدِّم الأول.
وإنما قلت ذلك لسببين، السبب الأول: أنه قد قيل مثله في حكاية الصحابي لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه يأتي في المرتبة الثانية، بعد نقل النص النبوي، فموضوعنا هنا من باب أولى، قال ابن العربي عند كلامه على حديث ابن عمر:"أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته": "قد بينا أن قول الصحابة: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كذا، أو أمر بكذا- في الدرجة الثانية من الخبر، إذ لم يذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصه، وإنما نقل معناه، وهو مقبول إجماعا"
(1)
.
والسبب الثاني: الوقوف على شيء من تفسير بعض تلاميذ النقاد لكلام شيوخهم ويكون في هذا التفسير نظر راجح، أو محتمل، فيفيدنا هذا أن فهم التلميذ أو من جاء بعده لكلام الناقد قد يخالف فيه، وقد يكون الصواب مع غيره، وحينئذ فنقله للنص أقوى من حكايته لرأي الناقد.
(1)
"عارضة الأحوذي"8: 284.
فمن ذلك ما رواه ابن الجُنَيْد قال: سمعت يحيى يقول -وسئل عن سَلْم العلوي- فقال: لا بأس به، فقال أحمد بن عبد السلام: أليس هو الذي يقول شعبة: ذاك الذي يرى الهلال؟ فقال: ليس به بأس، كان يرى الهلال قبل الناس، كان حَدِيد البصر"
(1)
.
كذا جاءت هذه الرواية عن ابن معين، وقد جاءت عنه روايات أخرى، منها ما يوافق هذه الرواية في تقويته، ومنها ما يخالفها
(2)
، والشاهد هنا هو أن المشهور في مراد شعبة -وكذا غير شعبة-غير ما ذكره ابن معين، فمرادهم رميه بالتغفيل، وأنه يتوهم رؤيته للهلال، فيزعم أنه رآه، وذلك قبل أن يراه الناس بليلة أو ليلتين، وقد قيل إن أشفار عينيه قد ابيضتا، وكان ينظر فيراها فيظن أنه الهلال
(3)
.
وذكر ابن حجر، عن عثمان بن أبي شيبة، عن عبد الرحمن بن مهدي، قوله في إسرائيل بن يونس:"إسرائيل لِصّ، يسرق الحديث"
(4)
.
وروى النص عبد الله بن أحمد، قال:"حدثني أبو بكر بن أبي شيبة (أخو عثمان) قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: كان إسرائيل في الحديث لِصَّا، قال ابن أبي شيبة: لم يرد أن يذمَّه"، وعقَّب عليه عبد الله بن أحمد بقوله: "كان الثوري يحدث عن الرجل عشرة أو
(1)
"تاريخ ابن الهيثم عن ابن معين" ص 88.
(2)
"تاريخ ابن الهيثم عن ابن معين" ص 36، و"الجرح والتعديل"4: 263، و"الكامل"3: 1176
(3)
"العلل ومعرفة الرجال"2: 436، 3: 494، و"علل المروذي" ص 234، و"الجرح والتعديل"4: 263، و"الضعفاء الكبير"2: 164 - 165، و"الكامل 3": 1175 - 1176.
(4)
"تهذيب التهذيب"1: 263.
نحوها، ويحدث عنه إسرائيل عشرين، ثلاثين، وكان إسرائيل صاحب كتاب، والثوري يحفظ"
(1)
.
وروى ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن أحمد كلمة ابن مهدي، وفسرها بقوله:"يعني أنه يتلقف العلم تلقفا"
(2)
.
فكلمة ابن مهدي هذه إذن ثناء على إسرائيل، لا جرح له كما فسرها عثمان بن أبي شيبة
(3)
.
ويشبه هذا وصف الراوي بأنه شيطان، قد يكون مدحا له، كما تقدم في (المبحث الأول) من (الفصل الأول) في الكلام على المذاكرة، في وصف سفيان الثوري ليحيى القطان، وكذا فعل شعبة مع أَوْس ابن ضَمْعَج، قال:"والله ما أُراه كان إلا شيطانا -يعني لجودة حديثه-"
(4)
.
وذكر الميموني قال: "تذاكرنا يوما شيئا اختلفوا فيه، فقال رجل: ابن أبي شيبة يقول: عن عفان، قال أبو عبد الله، دع ابن أبي شيبة في ذا، انظر إيشْ يقول غيره -يريد أبو عبد الله: كثرة خطئه-"
(5)
.
وروى الخطيب هذا النص بإسناده ثم علق عليه بقوله: "أرى أن أبا عبد الله لم يرد ما ذكره الميموني من أن أبا بكر كثير الخطأ، وأظن حديث عفان الذي ذكر له عن أبي بكر قد كان عنده، فأراد غيره ليعتبر
(1)
"العلل ومعرفة الرجال"3: 366.
(2)
"الجرح والتعديل"2: 330.
(3)
انظر: تعليق الشيخ عبد الرحمن المعلمي على "الجرح والتعديل"2: 330.
(4)
"الجامع لأخلاق الراوي"2: 101.
(5)
"علل المروذي" ص 239.
به الخلاف، والله أعلم"
(1)
.
وليس المقصود بهذا موافقة الخطيب على اعتراضه، فكلام الميموني محتمل أيضا
(2)
، وإنما المقصود أن اجتهاد حاكي الجرح أو التعديل قد يكون محلا للنظر.
وقال أبو داود: "سمعت أحمد يقول -وكان ذكر من يقدم في سفيان-، فقال: لا أقدم بعد هؤلاء: الأشجعي وأصحابه، على الفِرْيابي -يعني أنه يعد الأشجعي وأصحابه بعد الفِرْيابي، في الطبقة التي تليهم-"
(3)
.
كذا جاء هذا التفسير، فإن لم يكن في العبارة تحريف ويكون صوابها:"يعني أنه يعد الأشجعي وأصحابه، ويعد الفِرْيابي في الطبقة التي تليهم" فهو مقلوب فيما يظهر، فمراد أحمد أن الفِرْيابي يأتي في الطبقة الثانية بعد الأشجعي وأصحابه، ويعني بأصحابه المتقنين من أصحاب سفيان، وهم يحيى القطان، ووكيع، وعبد الرحمن بن مهدي، وكذا قال ابن معين، وابن المديني، وغيرهما
(4)
.
وقال أبو داود أيضا: "قلت لأحمد: عاصم بن ضَمْرة أحب إليك أم الحارث؟ فقال: عاصم، أي شيء لعاصم من المناكير؟ "، قال
(1)
"تاريخ بغداد"10: 68.
(2)
انظر: "الجرح والتعديل"1: 337 - 338.
(3)
"سؤالات أبي داود" ص 252.
(4)
انظر "مسائل إسحاق بن هانئ"2: 239، و"علل المروذي" ص 142، و"معرفة الرجال"1: 115، و"تاريخ الدوري عن ابن معين"2: 212، و"تاريخ الدارمي عن ابن معين" ص 61، و"المعرفة والتاريخ"1: 716 - 717، و"شرح علل الترمذي"2: 722 - 726.
الحسين بن إدريس راوي السؤالات عن أبي داود: "أي ليس له مناكير"
(1)
.
وما ذكره الحسين محتمل، ويحتمل النص معنى آخر، وهو أن لعاصم مناكير لكنها قليلة بالنسبة لما عند الحارث الأعور.
وقد يكون الحاكي اختصر جدا في حكاية قول الإمام، فأورث هذا اضطرابا في فهم مراد الحاكي نفسه، مثال ذلك ما رواه ابن أبي حاتم بإسناده عن علي بن المديني، قال:"سمعت يحيى بن سعيد -وقيل له في سعيد بن عبد الرحمن أخي أبي حرة: إن عبد الرحمن بن مهدي يقول: هو أثبت شيخ بالبصرة، قال يحيى: إيش أقول لك؟ -كأنه يضعفه-"، عقب عليه ابن أبي حاتم بقوله:"يدل قول يحيى على إنكار قول عبد الرحمن بن مهدي: إنه أثبت شيخ بالبصرة، لا أنه يضعفه"
(2)
.
فمراد ابن أبي حاتم أن التضعيف راجع إلى كلام ابن مهدي، وليس إلى سعيد بن عبد الرحمن، وذهب جماعة آخرون إلى أن المقصود بالتضعيف هو سعيد، فقد ترجم له العقيلي، وابن عدي، ولم يذكرا في تضعيفه سوى هذا النص
(3)
، وقال الذهبي:"لينه القطان"
(4)
.
وحينئذٍ فيتوقف في حكاية قول الناقد متى ظهر ما يوجب التوقف، كمعارضة لنص منقول عن الناقد، أو يكون التفسير لا يناسب حال الراوي، ونحو ذلك، ومن تطبيقات هذا أن عبد الله بن علي بن
(1)
"سؤالات أبي داود" ص 287.
(2)
"الجرح والتعديل"4: 40.
(3)
"الضعفاء الكبير"2: 104، و"الكامل"3:1226.
(4)
"الميزان"2: 148.