الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: كثرة وقوع الاشتباه بين الرواة
المتتبع لرواية المأثور ونقده على مر العصور يلاحظ بسهولة وقوع الاشتباه والخلط بين الرواة، وأن ذلك يأخذ خطا تصاعديا في الكثرة كلما تأخر الزمن عن عصر الرواية، حتى استفحل ذلك في الدراسات النقدية المعاصرة.
ويقع مثله أو أكثر منه في التعريف بالأعلام والأشخاص، وإن لم يكن في مجال دراسة نقدية، مثل تحقيق كتب التراث، وفهرستها، وكتابة الرسائل العلمية في التخصصات المختلفة.
ولا شك أن الذي يعنينا هنا في المقام الأول هو ما يتعلق بالدراسة النقدية للمرويات، فقد ينبني على هذا الخلط تصحيح إسناد ضعيف، أو تضعيف إسناد صحيح، ولكن مع ذلك فإن التعرض لوقوع هذا الخلط في غير مجال الدراسة النقدية لا يخلو من فائدة، ولاسيما أن الفصل بين الدراسة النقدية وغيرها -كتحقيق كتاب من كتب أئمة الحديثة- أمر فيه صعوبة.
وفي هذا المبحث أسوق نماذج مما وقفت عليه من الخلط الكلي أو الجزئي بين الرواة والأعلام، وتأتي في المبحثين التاليين نماذج أخرى، وأما استقصاء ذلك فأمر غير ممكن، فلا أبالغ إذا قلت إنه يحتاج إلى مؤلف خاص.
فمن ذلك ما رواه الرامَهُرْمُزي، عن محمد بن جعفر الشَّعِيْري قال: "اطلعت في كتاب رجل ممن زعم أنه جمع حديث يونس بن عبيد، فإذا
قد صدر بما روى يونس، عن الزهري، فقلت: إن يونس لم يرو عن الزهري شيئا، وإذا هو قد غلط بيونس بن يزيد، وظن أنه يونس بن عبيد"
(1)
.
وقال الرامَهُرْمُزي: "كان أبو محمد بن صاعد -مع محله من الحديث وضبطه- جمع حديث عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، فأورد فيه حديثا رواه هاني بن يحيى، عن شعبة، عن عبد الله بن عثمان، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: "كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله ولإحرامه"، ويذكرون أن هذا ليس بابن خُثَيْم، وإنما هو شيخ بصري، يقال له: عبد الله بن عثمان، روى عنه يحيى بن سعيد القطان"
(2)
.
وذكر عبد الغني المقدسي في "الكمال" في ترجمة (عبد الله بن نافع الصائغ) أنه يروي عن هشام بن عروة، ويروي عنه عبد الوهاب بن بُخْت، فتعقبه المُزِّي بقوله:"ذكر في مشايخه هشام بن عروة، ولم يدركه، إنما يروي عن أسامة، عنه"
(3)
.
ونقل عنه ابن حجر قوله: "وذكر صاحب "الكمال" في شيوخه هشام بن عروة، ولم يدركه، وفي الرواة عنه عبد الوهاب بن بُخْت، وفي ذلك - بل في إدراك الصائغ لزمانه - نظر
…
"
(4)
.
وأوضح أن حجر أن أصل الوهم في ذلك من ابن عدي، وتبعه
(1)
"المحدث الفاصل" ص 306، 348.
(2)
"المحدث الفاصل" ص 449، وانظر:"سؤالات السلمي للدارقطني" ص 210، و"تهذيب التهذيب"5:317.
(3)
"تهذيب الكمال"16: 209 حاشية (1).
(4)
"تهذيب التهذيب"6: 51.
عبد الغني، فقد ساق ابن عدي في ترجمة (الصائغ) حديثا يرويه عبد الوهاب بن بخت، عن عبد الله بن نافع، عن هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة، وقال بعده: "وإذا روى عنه مثل عبد الوهاب بن بخت هذا الحديث يكون ذلك دليلا على عدالته
…
، وهذا من رواية الكبار عن الصغار"
(1)
، قال ابن حجر:"وعبد الله بن نافع المذكور ليس هو الصائغ، بل هو عبد الله بن نافع مولى ابن عمر، والله أعلم"
(2)
.
وأخرج الدارقطني من طريق حفص بن عبد الله، عن إبراهيم بن طهمان، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب دُبِغ فقد طهر"، ثم قال:"إسناد حسن"
(3)
.
وقال ابن حجر عن هذا الحديث: "رواه الدارقطني بإسناد على شرط الصحة، وقال إنه حسن"
(4)
.
وكذا ذكر كلام الدارقطني ابن الجوزي، وابن عبد الهادي، والذهبي، فلم يعترضوه بشيء
(5)
، إلا أن الذهبي ذكر هذا الحديث في ترجمة حفص بن عبد الله، وذكر أنه تفرد به عن إبراهيم بن طَهْمان
(6)
.
وظاهر من صنيع هؤلاء الأئمة أنهم ذهبوا إلى أن الذي في الإسناد هو أيوب السَّخْتِيَاني، فهو المشهور بالرواية عن نافع، لكن تكلم أبو
(1)
"الكامل"4: 1556.
(2)
"تهذيب التهذيب"6: 52.
(3)
"سنن الدارقطني"1: 48.
(4)
"التخليص الحبير"1: 58.
(5)
"التحقيق في أحاديث التعليق"1: 88، و"تنقيح التحقيق" للذهبي الورقة 6، ولابن عبد الهادي 1:288.
(6)
"الميزان"3: 649.
حاتم على هذا الحديث بكلام قوي، ذكر فيه أنه حديث باطل، وأنه يشبه أن يكون أيوب الذي في الإسناد أيوب بن خُوْط، وهو متروك الحديث، وهو يروي عن نافع، ويروي عنه إبراهيم بن طهمان
(1)
.
وقال ابن حجر في ترجمة إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان، أبي شيبة الكوفي، ولد أبي بكر بن أبي شيبة صاحب "المصنف": "وأغرب ابن القطان فزعم أنه ضعيف، وكأنه اشتبه عليه بِجَدِّه
…
، وذكر البيهقي في "السنن" حديثا من طريقه، وقال: الحمل فيه على أبي شيبة فيما أظن، ووهم في ذلك، وكأنه ظنه جده إبراهيم بن عثمان فهو المعروف بأبي شيبة أكثر مما يعرف بها هذا، وهو المضعف كما سيأتي"
(2)
.
وروى الدارقطني من طريق عبد الله بن حماد الآمُلي، عن عبد الملك بن سلمة، عن المغيرة بن عبد الرحمن، عن موسى بن عُقْبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقرأ الجنب شيئا من القرآن"
(3)
، فذكر أبو القاسم بن عساكر في "الأطراف" هذا الإسناد هكذا: "رواه عبد الله بن حماد الآمُلي، عن القعنبي، عن المغيرة بن عبد الرحمن
…
"
(4)
.
ففسر عبد الملك بن سلمة الذي في الإسناد بالقَعْنَبي، وهو ثقة معروف، والصواب أنه عبد الملك بن سلمة المصري، وهو منكر
(1)
"علل ابن أبي حاتم"2: 19، وانظر ما يأتي في المبحث الثالث عن هذا الإسناد.
(2)
"تهذيب التهذيب"1: 136، و"سنن البيهقي"1: 306، و"بيان الوهم والإيهام"3:212.
(3)
"سنن الدارقطني"1: 117.
(4)
"تحفة الأشراف"6: 240.
الحديث، وقد تعقب ابنَ عساكر، ابنُ عبد الهادي وابنُ حجر في ذلك، وذكر ابن عبد الهادي أن الضياء المقدسي قال في كلامه على الطريق المشهور لهذا الحديث -وهو طريق إسماعيل بن عَيَّاش، عن موسى بن عُقْبة، عن نافع، عن ابن عمر
(1)
-: "إسماعيل بن عَيَّاش تكلم فيه غير واحد من أهل العلم، غير أن بعض الحفاظ قال: قد روي من غير حديثه، بإسناد لا بأس به"، قال ابن عبد الهادي:"وكأنه أشار إلى ما ذكره الحافظ أبو القاسم"
(2)
.
وذكر ابن حجر أن ابن سيد الناس صحح هذا الإسناد، وكأنه تبع ابن عساكر أيضا
(3)
.
وأخرج ابن ماجه من طريق عبد الله بن موسى، عن أسامة بن زيد، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبيه مرفوعا:"صائم السفر كالمفطر في الحضر"
(4)
، ففسر ابن عساكر عبد الله بن موسى بأنه عبد الله بن موسى بن شيبة الأنصاري، وإنما هو عبد الله بن موسى التيمي، هكذا جاء منسوبا في عدة أصول من "السنن"
(5)
.
وتكلم على هذا الإسناد أيضا البوصيري، فقال: "هذا إسناد ضعيف منقطع، رواه أسامة بن زيد -هو ابن أسلم- ضعيف، وأبو سلمة لم يسمع من أبيه شيئا
…
"
(6)
، ونقل السندي عبارة البوصيري
(1)
أخرجه من هذا الطريق الترمذي حديث 131، وابن ماجه حديث 595.
(2)
"تنقيح التحقيق"1: 136.
(3)
"التلخيص الحبير"1: 146، وانظر:"النكت الظراف"6: 239.
(4)
"سنن ابن ماجه" حديث 1666.
(5)
"تحفة الأشراف"7: 215 - 216، و"تهذيب الكمال"16:185.
(6)
"مصباح الزجاجة"2: 8.
بلفظ: "في إسناده انقطاع، أسامة بن زيد متفق على تضعيفه، وأبو سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه شيئا
…
"
(1)
.
وتابع البوصيري في تفسيره أسامة بن زيد الذي في الإسناد بأسامة بن زيد بن أسلم أحد المشايخ المعاصرين، في تعليق له على أحد كتب علوم الحديث، والصواب أن الذي في الإسناد أسامة بن زيد الليثي، وهو المعروف بالرواية عن الزهري، ولم يتفق على تضعيفه فقد اختلفوا فيه
(2)
.
وذكر ابن الجوزي حديثا في (غسل الأناء من ولوغ الكلب والهر) في إسناده سَوَّار بن عبد الله بن سَوَّار بن عبد الله البصري القاضي، وضعف إسناده بسَوَّار هذا، وأن سفيان الثوري قال فيه:"ليس بشيء"
(3)
، وتعقبه ابن دقيق العيد، وابن عبد الهادي، بأنه وهم فاحش، فإن الثوري إنما قال هذا في سَوَّار بن عبد الله الجد
(4)
، وهو كما قالا، فإن الحفيد ولد بعد موت الثوري بسنوات
(5)
.
وتكلم ابن الجوزي أيضا على حديثين ساقهما في (نقض الوضوء بمس الذكر)، وضعفهما بأن في إسنادهما إسحاق الفَرَوي، وقد قال فيه النسائي:"ليس بثقة"
(6)
، وتعقبه ابن عبد الهادي بما حاصله أن إسحاق الفَرَوي اثنان، أحدهما: إسحاق بن محمد بن إسماعيل الفَرَوي،
(1)
"سنن ابن ماجه"1: 532.
(2)
"تهذيب الكمال"2: 334، 347.
(3)
"التحقيق في أحاديث التعليق"1: 80 - 81.
(4)
"تنقيح التحقيق"1: 273، و"نصب الراية"1:135.
(5)
"تهذيب التهذيب"4: 114، 269.
(6)
"التحقيق"1: 178، 180 - 182.
والثاني إسحاق بن عبد الله بن عبد الرحمن الفَرَوي، وكلمة النسائي في الأول منهما، لكنه في أحد الإسنادين فقط، وأما الإسناد الثاني ففيه إسحاق بن عبد الله الفَرَوي، وهو أسوأ حالا من الأول، فهو متروك الحديث متهم، وأما الأول فهو مختلف فيه
(1)
.
وساق ابن الجوزي حديثا في (عدم نقض الضحك للوضوء) في إسناده أبو شيبة، فقال في الكلام عليه: "ثم إن أبا شيبة -واسمه عبد الرحمن بن إسحاق- ضعيف
…
"
(2)
، فتعقبه ابن عبد الهادي بأن أبا شيبة الذي في الإسناد إنما هو إبراهيم بن عثمان جد أبي بكر بن أبي شيبة، وأخيه عثمان، وهو أيضا ضعيف
(3)
.
وابن الجوزي رحمه الله كثير الوقوع في الخلط بين الرواة في كتابه "التحقيق في أحاديث التعليق"، فإنه شحنه بالكلام في رواة الأحاديث، ووقع في أوهام كثيرة، نبه على بعضها ابن عبد الهادي في "التنقيح"، وترك البعض الآخر، واعتذر عن ذلك في نهاية كلامه على (أحاديث الجهر بالبسملة) بقوله: "وقد حصل للمؤلف فيما ذكره هنا من الكلام على تضعيف الأحاديث أوهام عديدة، وتقصير كثير، فإنه ضعف غير واحد من الصادقين، وترك الكلام على غير واحد من الضعفاء والمجهولين، كتضعيفه إسماعيل بن أَبَان، وظنه أنه الغَنَوي الكذاب، وإنما هو الورَّاق الثقة
…
، وكظنه أن عطاء الخراساني هو والد يعقوب، وإنما هو والد عثمان، ويعقوب هو ابن عطاء بن أبي
(1)
"تنقيح التحقيق"1: 458.
(2)
"التحقيق"1: 193.
(3)
"تنقيح التحقيق"1: 486.
رباح، ولو تتبعنا ما قصر فيه أو وهم- لطال الكلام، والله الموفق للصواب"
(1)
.
وذكر الذهبي حديثا في (النهي عن اغتسال الرجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرجل) يرويه زهير، عن داود بن عبد الله الأَوْدي، عن حميد الحِمْيري، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
، ثم تكلم عليه بقوله:"منكر، وزهير -هو ابن محمد- فيه شيء"
(3)
، يعني زهير بن محمد الخراساني، وقد جاء على حاشية النسخة في تعقب الذهبي ما نصه:"لا، بل زهير هو ابن معاوية، أحد الثقات الأثبات"، وهو كذلك.
وتكلم ابن عدي على ما رواه ثابت بن موسى الزاهد، عن شَرِيْك، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر مرفوعا: "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار
(4)
، وذكر أن ثابتا تفرد به عن شَرِيْك، وهو حديث منكر، غلط فيه ثابت في قصة وقعت له مع شَرِيْك، وقد سرقه منه جماعة من الضعفاء فرووه عن شَرِيْك، منهم عبد الحميد بن بَحْر، وعبد الله بن شُبْرُمَة الشريكي وغيرهم
(5)
، ونقل كلام ابن عدي هذا العراقي في تعليقه على كتاب ابن الصلاح في علوم الحديث
(6)
، فاعترض على العراقي بعض المعاصرين لابن حجر بأن أبا نُعَيْم أخرجه
(1)
"تنقيح التحقيق"2: 831.
(2)
"سنن أبي داود" حديث 81، و"مسند أحمد"4:110.
(3)
"تنقيح التحقيق" الورقة 3.
(4)
"سنن ابن ماجه" حديث 1333.
(5)
"الكامل"2: 525.
(6)
"التقييد والإيضاح" ص 130.
في "تاريخه" عن أبي عمرو عثمان بن محمد، حدثنا محمد بن عبد السلام، حدثنا عبد الله بن شُبْرُمَة الكوفي، قال: حدثنا شَرِيْك به
(1)
، قال المعترض:"عبد الله بن شُبْرُمَة هو الفقيه الكوفي أحد الأعلام، احتج به مسلم".
وتعقبه ابن حجر بعد أن نقل اعتراضه بقوله: "وأخطأ هذا المتأخر خطأ فاحشا لا مستند له فيه ولا عذر، لأن عبد الله بن شُبْرُمَة هو الشريكي، وهو كوفي أيضا، وأما الفقيه فإنه قديم على هذه الطبقة، ولا يمكن أن يكون بين أبي نُعَيْم وبينه أقل من ثلاثة رجال، وقد وقع بينه وبين الشريكي هنا رجلان فقط، مع التصريح بالتحديث
…
"
(2)
.
ومن العجيب أن أحد المشايخ المعاصرين ذكر كلام ابن حجر في التفريق بين عبد الله بن شُبْرُمَة الشريكي، وعبد الله بن شُبْرُمَة الفقيه، وتخطئه من جمع بينهما، وفي ضمنه نقل ابن حجر عن ابن عدي أن جماعة من الضعفاء سرقوا الحديث من ثابت بن موسى، منهم عبد الحميد بن بحر، وعبد الله بن شُبْرُمَة الشريكي، فعلق الشيخ مفسرا عبد الله بن شُبْرُمَة الشريكي بقوله: "عبد الله بن شُبْرُمَة الكوفي، أحد الفقهاء الأعلام، قد وثقه أحمد، وأبو حاتم
…
"، فذهب جهد ابن حجر سدى.
وذكر العراقي في "ذيل الميزان" ترجمة (السَّرِي بن سهل الجُنْدَيْسَابُوري) وفيها: "عن عبد الله بن رُشَيَد، وعنه عبد الصمد بن علي بن مُكْرَم، لا يحتج به ولا بشيخه، قاله البيهقي"
(3)
، فذكر ابن حجر
(1)
"ذكر أخبار أصبهان"1: 358.
(2)
"النكت على كتاب ابن الصلاح"2: 861.
(3)
"ذيل الميزان" ص 263.
هذه الترجمة في "اللسان"، دون نسبته (الجُنْدَيْسَابُوري)، ثم عقبها بقوله:"قلت: ولعله السَّرِي بن عاصم"
(1)
.
والسَّرِي بن عاصم هو ابن عاصم بن سهل، أبو عاصم الهَمْداني، قد ينسب إلى جده، متهم بوضع الحديث، وهو غير السَّرِي بن سهل الجُنْدَيْسابُوري، فإن هذا يروي عنه عبد الصمد بن علي الطَّسْتي، وعبد الباقي بن قانع، والطبراني، وكل هؤلاء لم يدركوا السَّرِي بن عاصم، فإنه مات سنة 258 هـ
(2)
.
وأخرج أحد الأئمة عن محمد بن يحيى الذُّهْلي، عن الحجاج، عن حماد، عن حماد، عن رِبْعِي بن حِرَاش، أن شَبَث بن رِبْعِي بَزَق في قبلته، فقال حذيفة: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا قام أحدكم -أو قال: الرجل- في صلاته، يقبل الله عليه بوجهه
…
" الحديث، فتكلم أحد المشايخ المعاصرين على هذا الإسناد بقوله: "إسناده صحيح، رجاله ثقات، رجال الشيخين، وحماد الأول هو ابن زيد، وحماد الراوي عنه هو ابن أسامة أبو أسامة الكوفي".
ونقل محقق الكتاب الذي أخرج صاحبه هذا الحديث الكلام السابق مسلما به، كما نقله باحث آخر، لكنه زاد الأمر إيهاما حيث قال: أخرج
…
عن محمد بن يحيى الذُّهْلي، عن الحجاج، عن حماد بن أسامة، عن حماد بن زيد، عن رِبْعي، عن حذيفة
…
فذكره، فأوهم أن التفسير موجود في المصدر المخرج.
(1)
"لسان الميزان"3: 12.
(2)
"المعجم الصغير" حديث 494، و"المعجم الكبير" حديث 988، و"سنن الدارقطني"1: 76، و"سنن البيهقي"6: 108، و"تاريخ بغداد"9:192.
وهذا التفسير مخطئ، فإن حمادا الأول هو ابن أبي سليمان، والراوي عنه حماد بن سلمة
(1)
، ولو صح التفسير الذي ذكره الشيخ ومن تابعه -ولا يصح- فالإسناد منقطع، فإن حماد بن زيد لم يدرك رِبْعِي بن حِرَاش كما هو ظاهر من ترجمتيهما
(2)
.
وتصدى أحد الباحثين لتحقيق أحد كتب أئمة النقد في الجرح والتعديل وعلل الأحاديث، وهو كتاب في غاية الأهمية، أجاد الباحث في جوانب من عمله، وأخفق في جوانب أخرى، المهم منها هنا أخطاؤه في تفسير الرواة، سواء في التعليق على الكتاب، أو في فهرسته، فقد جاء عنده هذا الإسناد: "
…
حدثنا هُشَيْم، قال: أخبرنا حجاج، وابن أبي ليلى، عن عطاء
…
"، ففسر ابن أبي ليلى بعبد الرحمن تابعي كبير، وهو ثقة، وهُشَيْم لم يدركه، والصواب أنه ولده محمد بن عبد الرحمن الفقيه المشهور، وهو ضعيف في الحديث
(3)
.
وجاء عنده قول المؤلف لما سئل عن أحاديث الأعمش، عن مجاهد، عمن هي؟ قال: "قال أبو بكر بن عَيَّاش: قال رجل للأعمش: ممن سمعته -شيء رواه عن مجاهد-؟ قال
…
حدثنيه ليث، عن مجاهد"، ففسر ليثا بأنه الليث بن سعد الإمام المعروف، وإنما هو ليث بن أبي سُلَيْم، وهو في الحديث ضعيف جدا"
(4)
.
(1)
انظر: ما يأتي في المبحث الثالث (الوسائل المساعدة على تمييز الرواة)، (الطرق الأخرى للحديث).
(2)
"تهذيب التهذيب"3: 11، 237.
(3)
"تهذيب التهذيب"6: 260، 9: 301، 11:59.
(4)
"تهذيب التهذيب"8: 465.
وقال المؤلف: "سمعت عبد الرحمن بن مهدي يحدِّث يحيى بن سعيد، عن حماد بن سلمة، عن حجاج، عن الرُّكَيْن بن الربيع، عن حنظلة بن نُعَيْم: "أن المغيرة أجَّل العِنِّيْن من يوم رافعته"، قال يحيى بن سعيد: رواه سفيان، وشعبة، لم يقولا هكذا، كأن يحيى حمل على حجاج".
فعلق عليه بقوله: "حجاج -وإن اختلط- لكن حمادا سمعه قبل اختلاطه، إلا أن هذا الإسناد معلول بما قال يحيى بن سعيد".
هكذا عبارته، وظاهر أنه ظن أن حجاجا المذكور هو حجاج بن محمد المصيصي، فهو الذي اختلط، وهو تفسير عجيب، فإن حجاج بن محمد مات بعد حماد بن سلمة بنحو من أربعين سنة، ولم يدرك الرُّكُيْن بن الربيع، والصواب أن حجاجا هو ابن أرطاة النخعي
(1)
.
وساق المؤلف بإسناده عن سفيان الثوري، عن جابر الجعفي، عن حماد، أثرا من قوله، ففسر حمادا بأنه ابن زيد، وإنما هو حماد بن أبي سليمان الفقيه المشهور.
وذكر المؤلف قصة كتابة وكيع إلى هُشَيْم: "بلغني أنك تفسد أحاديثك بهذا الذي تدلسها"، فكتب هُشَيْم إليه:"بسم الله الرحمن الرحيم، كان أستاذاك يفعلانه: الأعمش، وسفيان"، فعلق عليه المحقق بقوله:"يعني به سفيان بن عُيَيْنة، وقد مضى أنه كان يدلس"، وهو تفسير مخطئ، فالمقصود سفيان الثوري.
ونقل المؤلف عن سفيان قوله في آدم بن علي: "قد رأيته ولم
(1)
انظر: "سنن البيهقي"7: 226.
أسمع منه"، فاعترض المحقق على ذلك بقوله: "ولكن قال في التاريخ الكبير 1/ 2: 37، والجرح 1/ 1: 267: روى عنه الثوري"، وصاحب القول إنما هو سفيان بن عُيَيْنة، فالاعتراض غير وجيه.
وأخرج المؤلف قال: حدثنا سفيان، قال: حدثوني عن إبراهيم بن مُهَاجِر فلم أسمعه حتى مات، سمعه من زياد بن حُدَيْر:"أنا أول من عَشَّر، وما عَشَّرت مسلما ولا معاهدا"، فعلق عليه المحقق معترضا بقوله:"ولكن أخرجه يحيى بن آدم في الخراج 65 رقم 204، وأبو عبيد في الأموال 709، عن سفيان بن سعيد نفسه، عن إبراهيم بن مُهَاجِر قال: "سمعت زياد بن حُدَيْر يقول: "أنا أول من عَشَّر في الإسلام" قال: وحدثني رجل عنه أنه كان يأخذ من بني تغلب نصف العشر
…
".
وهذا الاعتراض غير وجيه، فسفيان شيخ المؤلف إنما هو سفيان بن عُيَيْنة، والمؤلف لم يلحق الثوري.
ووقع عنده في فهرسة الكتاب تداخل بين أخبار الرواة، مثل حماد بن أبي سليمان، مع حماد بن زيد، وسفيان الثوري، مع سفيان بن عُيَيْنة.
كما تصدى أستاذ فاضل لتحقيق كتاب آخر من كتب الأئمة في الجرح والتعديل، وعلل الأحاديث، وهو كتاب كبير جدا، وقع المحقق فيه في أغلاط في قراءة النص، وهو معذور فيها لكونه غير متخصص، وقد روى المؤلف فيه عن محمد بن فضيل أبي عبد الله البزاز، وأكثر عنه، لكن المحقق عرف به على أنه محمد بن فضيل بن غَزْوان أبو عبد الرحمن الكوفي، والمؤلف لم يدركه، وقد جعلهما المحقق في
الفهرس أيضا شخصا واحدا، وهو ابن غَزْوان، فلا ذكر للآخر عنده.
وجاء في الكتاب قول إسماعيل بن عُلَيَّة: "كنا نرى أن يونس سمعها من أشعث، وأشعث من حفص"، فعلق المحقق بقوله:"أحسبه حفص بن غياث"، كذا قال، والصواب أنه حفص بن سليمان المنقري، وأما حفص بن غياث فهو من تلاميذ أشعث بن عبد الملك لا من شيوخه
(1)
.
واشتغل أحد الباحثين بكتاب مهم لأحد الأئمة، وموضوعه (علل الأحاديث)، ونال بعمله درجة علمية، فأساء إلى الكتاب جدا من جوانب كثيرة، سواء في تحقيق النص، أو في التعليق عليه، ومن ذلك وقوعه في الأخطاء في تفسير الرواة.
فجاء في الكتاب قول أحد الأئمة: "ما أرى يونس بن عبيد سمع من نافع، وروى يونس بن عبيد، عن ابن نافع، عن أبيه حديثا"، وظاهر جدا من النص أن ابن نافع هو ابن نافع مولى ابن عمر، لكن المحقق فسره بقوله:"هو عبد الله بن نافع بن أبي نافع الصائغ"، وهو وهم فاحش، فإن عبد الله بن نافع الصائغ لم يدرك يونس بن عبيد، كما يظهر من ترجمتيهما، فضلا عن أن يروي عنه يونس بن عبيد
(2)
.
وأثبت المحقق نصا في الكتاب هكذا: "سألت
…
عن خليفة بن خياط الذي روى عن عمرو بن شعيب، فقال: هو مقارب الحديث، وهو حديث (كذا) شبابة (كذا) العُصْفُري"، فعرف المحقق بخليفة بن خياط بقوله: "خليفة بن خياط بن خليفة بن خياط العُصْفُري
…
، لقبه
(1)
انظر: "طبقات ابن سعد"7: 276، و"تهذيب الكمال"3: 277، 282.
(2)
"تهذيب التهذيب"6: 51، 11:442.
شَبَاب
…
"، كذا صنع، والمسئول عنه إنما هو خليفة بن خياط جَدُّ هذا، وفي النص ما يوضح ذلك، وهو قوله: "وهو جَدُّ شَبَاب العُصْفُري"، لكن المحقق أثبت العبارة خطأ هكذا: "وهو حديث شبابة العُصْفُري".
وتصدى أحد الباحثين لتحقيق أسئلة لأحد النقاد، فأكثر فيه جدا من الوقوع في الخلط بين الرواة، ثم رأيته في كتبه الأخرى يقع منه ذلك، ومن طريف ما وقع له أنه ذكر في رسالة له في الجرح والتعديل في ترجمة رِشْدِين بن سعد، عن محمد بن أحمد بن الجُنَيْد، عن ابن معين قوله فيه:"ليس من جِمَال المَحَامِل"
(1)
.
ثم عرف الباحث بابن الجُنَيْد هذا بقوله: "أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن الجُنَيْد الخُتُّلي، قال الخطيب: عنده عن يحيى بن معين سؤالات كثيرة تدل على فهمه، توفي في حدود 260 هـ".
وسئل أحد الأئمة عن عبد الله بن نافع مولى ابن عمر، فقال:"ما أقربه من العمري الصغير"، ففسر أحد الباحثين العمري الصغير بقوله: "هو عاصم بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب
…
"، كذا قال، والصواب أنه أخوه عبد الله بن عمر بن حفص، فهو الذي يعرف بالصغير
(2)
، وهم أربعة إخوة في قول أكثر أهل العلم: عبيد الله، وعبد الله، وعاصم، وأبو بكر
(3)
، المشهور منهم اثنان: عبيد الله،
(1)
هذه الرواية أخرجها العقيلي في "الضعفاء"2: 67.
(2)
"مسائل إسحاق"2: 216، و"تاريخ الدوري عن ابن معين"2: 322، و"الكامل"1: 370، و"شرح علل الترمذي"2: 632، 656.
(3)
"طبقات ابن سعد"(القسم المتمم لتابعي أهل المدينة ومن بعدهم) ص 365 - 368، و"طبقات خليفة" ص 268، 269، 271، و"تاريخ بغداد"10: 20، و"سير أعلام النبلاء"7: 340، و"تهيب التهذيب"5: 51 - 52، ويرى ابن عدي أنهم ثلاثة، وأبو بكر كنية عاصم، بينما يرى ابن معين في رواية عنه أنهما اثنان: عبيد الله، وعبد الله، وليس لهما أخ ثالث يروى عنه الحديث، وعاصم ابن عم لهما، وليس أخا لهما، انظر:"تاريخ الدوري عن ابن معين"2: 384، و"الكامل"5:1869.
وعبد الله، والأول أكبرهما فيقال له: الكبير، ويقال لأخيه: الصغير، تفريقا بينهما، لتقارب كتابة اسميهما، واشتراكهما في كثير من الشيوخ والتلاميذ، وعبيد الله ثقة ثبت، وأما عبد الله فضعيف، مع صلاحه وعبادته
(1)
، وربما جرى التفريق بينهما بطريقة أخرى، فيقال لعبد الله: المكبر، ويقال لعبيد الله: المصغر، بالنظر إلى اسميهما
(2)
.
وجاء في كتاب من كتب الرجال المشهورة هذا النص: "وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني أبو عبد الله البصري
…
"، وذكر محققه أن المؤلف عرف بأبي عبد الله البصري في الحاشية بقوله: "أبو عبد الله البصري هذا سَوَّار بن عبد الله العنبري القاضي"، فزاده المحقق تعريفا بقوله: "قلت: كان من نبلاء القضاة، روى عنه إسماعيل بن عُلَيَّة، وبشر بن المَفَضَّل، وغيرهما، وكان ورعا، ولكن قال الثوري: ليس بشيء، توفي سنة 156 هـ".
ولو تركه دون زيادة تعريف لكان أولى، فالوصف الذي زاده المحقق أفسد تعريف المؤلف، إذ هو لجد سَوَّار الذي في الإسناد، وهو سَوَّار بن عبد الله أيضا، والمحقق قد ذكر وفاته سنة 156 هـ، والراوي عنه هنا أبو بكر بن أبي الدنيا، فلم يلحقه إذن، إذ ولادته
(1)
"تهذيب التهذيب"5: 326، 7:38.
(2)
"تحفة المحتاج"1: 386، "والتلخيص الحبير"2: 286، و"الدراية"1: 270، و"فتح الباري"11: 531، و"الإصابة"13: 264، و"تنوير الحوالك"2:318.
كانت سنة 208 هـ
(1)
.
وفي تحقيق لأحد أمهات كتب السنة اشترك فيه عدد من الباحثين قالوا في تخريج حديث أخرجه المؤلف من طريق يعلى بن عبيد، عن فِطْر بن خليفة، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو: "أخرجه البخاري .... وأبو داود
…
، والبيهقي .. ، من طريق سفيان بن عُيَيْنة، عن فِطْر بن خليفة، والحسن بن عمرو الفُقَيْمي، والأعمش، عن مجاهد
…
".
والصواب أنهم أخرجوه من طريق سفيان الثوري، وليس ابن عُيَيْنة.
وروى زهير بن معاوية، وشَرِيْك، عن أبي إسحاق، عن الضَّحَّاك بن مُزاحِم، عن ابن عباس حديثا في تلبية النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
، فسئل عنه أبو حاتم فقال:"رواه سفيان، وأبو الأحوص، وإسرائيل، وغيرهم- فلم يرفعوه"، قيل له: أيهما أصح؟ فقال: "سفيان، وإسرائيل، أتقن، وزهير متقن، غير أنه تأخر سماعه من أبي إسحاق"
(3)
.
فذكر أحد الباحثين في كتاب جمع فيه بعض أقوال أبي حاتم وأبي زرعة في الرواة، أن أبا حاتم يعني سفيان بن عُيَيْنة، والصواب أنه يعني الثوري، ولا ذكر لابن عُيَيْنة أصلا في المفاضلة بين أصحاب أبي إسحاق
(4)
.
وساق أحد الباحثين أثرا رواه البيهقي من طريق نافع بن يزيد، عن
(1)
"تاريخ بغداد"10: 91.
(2)
"مسند أحمد"1: 267، 302.
(3)
"علل ابن أبي حاتم"1: 283.
(4)
"الجرح والتعديل"4: 222 - 227، و"شرح علل الترمذي"2: 709 - 712.
يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيَّب
(1)
، ثم فسر الباحث يحيى بن سعيد بقوله: "يحيى بن سعيد بن فروخ التميمي، أبو سعيد القطان البصري
…
"، كذا صنع، والذي في الإسناد إنما هو يحيى بن سعيد الأنصاري قاضي المدينة، والباحث نقل تصحيح الإسناد عن النووي، وعلى تفسير الباحث ليحيى بن سعيد لا يكون كذلك، فإن يحيى القطان ولد بعد وفاة سعيد بن المسيب بأكثر من عشرين سنة
(2)
.
وروى البيهقي عن الحاكم، عن أبي بكر بن إسحاق الفقيه، كلاما في النظر بين ما روي من أن بلالا يؤذن بليل، وابن أم مكتوم يؤذن بعد ما يطلع الفجر، وبين ما روي بضد ذلك، وأن ابن أم مكتوم هو الذي يؤذن بليل
(3)
، فنقل ذلك أحد الباحثين عن البيهقي، لكنه تبرع بتفسير أبي بكر بن إسحاق الفقيه، فظنه ابن خزيمة صاحب "الصحيح"، فهو محمد بن إسحاق، وكنيته أبو بكر، قال الباحث: "وقد نقل البيهقي
…
هذا الجمع عن ابن خزيمة فقال رحمه الله: وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه
…
" فذكره.
وأبو بكر بن إسحاق هذا ليس هو ابن خزيمة، وإنما هو تلميذه أحمد بن إسحاق بن أيوب، أبو بكر النيسابوري، المعروف بالصِّبْغي، ويعرف أيضا بأبي بكر بن إسحاق، والحاكم لم يدرك ابن خزيمة، فإنه ولد بعد وفاة ابن خزيمة بعشر سنوات، وإنما روى وأكثر عن الصِّبْغي
(4)
.
(1)
"سنن البيهقي"9: 351.
(2)
"تهذيب التهذيب"4: 86، 11:219.
(3)
"سنن البيهقي"1: 382.
(4)
"الأنساب"8: 33، و"سير أعلام النبلاء"14: 377، 378، 379، 380، 381، 15: 483، 17:163.
ونشر أحد الباحثين رسالة في مسألة فقهية، أكثر فيها من الدراسة النقدية للأحاديث والآثار، فوقع في أغلاط عديدة، منها أنه ساق أثرا من طريق عبد الله بن نُمَيْر، وهُشَيْم، كلاهما عن عبد الملك، عن عطاء، عن ابن عباس، ثم قال في نقده: "رجاله ثقات، وفيه عنعنة ابن جريج، وهو مدلس، لكن عنعنته عن عطاء مقبولة، لكونه مكثرا عنه
…
"، كذا صنع الباحث، وعبد الملك المذكور إنما هو عبد الملك بن أبي سليمان العَرْزَمي الكوفي، وليس عبد الملك بن جريج.
هذه بعض النماذج من الأوهام في الخلط بين الرواة وغيرهم من الأعلام، وتركت نماذج أخرى اختصارا، وفي بعضها أوهام فاحشة تعمدت ترك ذكرها حفاظا على ماء وجوهنا نحن الباحثين.
ثم إن غرضي من سرد النماذج السابقة أن يدرك القارئ أمورا ثلاثة:
الأول: أن الوقوع في مثل ذلك أمر معتاد، وقع فيه أئمة كبار، فلا ينبغي أن يستوحش الباحث إذا صدر ذلك منه، وقد رأيت امتعاضا من بعض الباحثين والباحثات حين تنبيههم على ما وقع منهم، وقالت لي إحدى الباحثات بالحرف الواحد:"كيف يليق بمن يعد رسالة دكتوراه أن يخلط بين راو وآخر وهما في الأصل متميزان؟ ".
وكون هذا أمرا معتادا لا عيب فيه مشروط بأن لا يكثر صدوره من الباحث، فإذا كثر منه فهو عيب ولا شك، وكذلك هو عيب -وإن قل- إذا كان الخلط بين رواة أو أعلام متميزين جدا في القضية المعينة التي بين يدي الباحث، فلم يكن هناك سبب يوجب اللبس، ومثله إذا صاحبه عيوب أخرى في البحث والدراسة اجتمعت فأفقدت صاحبها الهيبة
العلمية، وحالت دون الوثوق بما يثبته من معلومات.
الثاني: أننا إذا عرفنا وجود احتمال قوي للوقوع فيه من أي شخص كان، وبلا استثناء، أوجب ذلك على الباحث إذا رأى صدوره من إمام أو باحث آخر أن لا يشنع عليه، ويطلق من العبارات ما يوحي بتهكمه واستغرابه، أو يكثر من وضع علامات التعجب، كما يفعله بعض الباحثين، وليشتغل الباحث بنفسه، فقريبا سيوجد منه ذلك، وربما يكون قد وجد منه في بعض بحوثه وهو لا يشعر.
الثالث: من يطلع على النماذج السابقة وغيرها ينبغي أن يوجد ذلك في نفسه خيفة، وأن يحركها لمزيد الاهتمام بتمييز الرواة، والبعد -ما أمكنه- عن الخلط بينهم، وأن يتعرف على أسباب وقوع الاشتباه بين الرواة، وعلى الوسائل التي تعين على التمييز بينهم، فإلى المبحثين التاليين.