الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: وسائل الحكم على الراوي
من المهم جدا بالنسبة للباحث أن يكون على معرفة بالوسائل التي استخدمها أئمة الجرح والتعديل لإصدار أحكامهم على الرواة، في عدالتهم وضبطهم، أولا ليدرك قدر الجهد الذي بذله هؤلاء الأئمة، ودقة المعايير التي استخدموها لتحقيق ذلك، فيزداد ثقة بأقوالهم وأحكامهم، وثانيا ليعرف القدر الذي يمكن أن يشارك الأئمة فيه، فقد يحتاج إلى ذلك في موازنته بين أقوال النقاد، وقد يحتاج إليه في رواة لم يصلنا كلام النقاد فيهم.
فمن الطرق التي سلكها الأئمة:
أولا: التأمل في أفعال الراوي وتصرفاته، والنظر في سيرته
، فيستدل بذلك على ما وراءها، من صدق أو كذب.
فقد أولى الأمة سير الرواة قدرا كبيرا من الاهتمام، فوصفوا رواة بالعبادة، والزهد، والورع، والتحري في الرواية، بما يخدم جانب الوثوق برواياتهم وصدقهم، وعدم تعمدهم للكذب، وشحنت كتب الجرح والتعديل بهذه الأخبار، فالغرض منها إذن غير دخيل على (علم الجرح والتعديل)، بل هو من صميمه، فقراءة سيرة مثل عروة بن الزبير، ومحمد بن سيرين، والأعمش، ومالك، وشعبة، وسفيان الثوري، ويحيى القطان، ووكيع، وأحمد، وابن معين، ونحوهم من الأئمة المشهورين، والاطلاع على أحوالهم- هي التي أورثت طمأنينة القلب إلى صدقهم، وتحريهم في الرواية، وهذا أمر ظاهر لا خفاء فيه.
وكذلك الأمر في غيرهم من الرواة، فقول يحيى بن معين عن شيخه عبدة بن سليمان: "كان عبدة بن سليمان صبورا، على ما كان فيه من الجَهْد، ولقد رأيت عليه جُبَّة فَرْو ليس عليه قميص
…
، وقد اشترى جزرًا، وقد حمله في طرف ردائه، ثم جاء فرآنا ونحن قعود على الباب، فقال: كلو رحمكم الله، كلوا عافاكم الله، فكان ذاك الجزر يقوته"
(1)
- إنما قصد به يحيى تعظيم شأن عبدة، وبيان ورعه وصبره على الفقر والحاجة، وكرمه.
وقال عمرو بن علي الفلاس: "جاءني عفان في نصف النهار فقال لي: عندك شيء نأكله؟ فما وجدت في منزلي خبزا ولا دقيقا، ولا شيئا يُشُتَرى به، فقلت: إن عندي سَوِيْق شعير، فقال لي: أخرجه، فأخرجت له من ذلك السَوِيْق، فأكل أكلا جيدا، فقال: ألا أخبرك بأعجوبة؟ شهد فلان وفلان عند القاضي -والقاضي يومئذ معاذ بن معاذ العنبري- بأربعة آلاف دينار على رجل، فأمرني أن أسأل عنهما، فجاءني صاحب الدنانير فقال لي: لك من هذا المال الذي لي على هذا الرجل نصفه -وهو ألفا دينار- وتعدل شاهِدَيَّ، فقلت: استحييت لك -وشهوده عندنا غير مستورين-، قال: وكان عفان على مسألة معاذ بن معاذ"
(2)
.
وقريب من هذه الحكاية ما رواه العجلي قال: "عفان بن مسلم الصَّفَّار، يُكْنَى أبا عثمان، ثقة ثبت، صاحب سنة، كان على مسائل معاذ بن معاذ القاضي، فَجُعِل له عشرة آلاف دينار على أن يقف عن تعديل رجل، فلا يقول: عدلا، ولا غير عدل، قالوا له: قف عنه، لا تقل فيه شيئا، فأبى
(1)
"معرفة الرجال"2: 31.
(2)
"تاريخ بغداد"12: 270، و"تهذيب الكمال"، و"سير أعلام النبلاء"10:243.
فقال: لا أبطل حقا من الحقوق"
(1)
.
والناظر في كتب الجرح والتعديل الأولى -كتب السؤالات والتواريخ- يجدها مليئة بمثل هذه الأخبار، والغرض منها ما أسلفته: إضفاء مزيد من الثقة على الراوي، وصدقه في روايته.
ومن جانب آخر رصدوا ما يصدر من الرواة من أفعال وتصرفات قد تُخِلُّ بالعدالة والمروءة أو بأحدهما، مما يثير شبهة في النفس أن يكون جريئا على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك ما رواه أبو حاتم في أنس بن عبد الحميد الضَّبِّي أخي جرير بن عبد الحميد، قال:"سمعت يحيى بن المغيرة قال: سألت جريرا عن أخيه أنس، فقال: لا يكتب عنه، فإنه يكذب في كلام الناس، وقد سمع من هشام بن عروة، وعبيد الله بن عمر، ولكن يكذب في حديث الناس، فلا يكتب عنه"
(2)
.
وقال المرْوَذي: "سألت أبا عبد الله (يعني أحمد) عن عمرو بن عبد الله الذي روى عن عكرمة، فقال: هذا يقال له: عمرو بَرْق، كان عكرمة نزل على أبيه، وكان سمع منه كتابا، وكان أهل اليمن لا يرضونه، وأشار أبو عبد الله بيده -أي كان يشرب-، وتبسم
…
"
(3)
.
وقال ابن مُحْرِز: "سمعت يحيى (يعني ابن معين) وذكر حسين بن الخياط قال: أخذ حجة من آل المطلب بن عبد الله بن مالك، على أن يحج بها، فذهب إلى الأهواز فقعد بها، فقال له أبو خَيْثَمة: يا أبا زكريا
(1)
"الثقات"2: 140.
(2)
"الجرح والتعديل"2: 289، وانظر:"أسئلة البرذعي لأبي زرعة" ص 564.
(3)
"علل المروذي"3: 259، و"الكامل"5: 1794، و"تهذيب التهذيب"8:61.
إنه يحدث، فقال: ما يكتب عنه إلا من لعنه الله وغضب عليه"
(1)
.
وقال ابن مُحْرِز أيضا: "سمعت يحيى يقول: عبد الحكيم بن منصور الخزاعي ليس بشيء، سرق حانوتا بواسط، فقيل له: يا أبا زكريا كيف سرقه؟ قال: كان إلى جنب منزله حانوت لرجل، فنقب إليه بابا من داره من الليل، وسَدَّ بابه من ناحية الطريق، وأدخله في داره"
(2)
.
وقال ابن معين أيضا: "يحيى بن عقبة بن أبي العَيْزار كذاب، خبيث، عدو لله، كان يُسْخَر به، ليس ممن يكتب حديثه"
(3)
.
وقال عباس الدوري: "ذكرت له شيخا كان يلزم ابن عُيَيْنة يقال له: ابن مُنَاذِر، فقال: أعرفه، كان صاحب شعر، ولم يكن من أصحاب الحديث، وكان يرسل العقارب في المسجد الحرام حتى تَلْسَع الناس، وكان يصب المِدَاد في المواضع التي يتوضى منها حتى تُسَوِّد وجوه الناس، ليس يروي عنه رجل فيه خير"
(4)
.
وقال ابن الجُنَيْد: "سئل يحيى بن معين وأنا أسمع عن جابر بن نوح الحِمَّاني فضعفه، وقال: رأيت حفص بن غياث يضحك منه يهزأ به، ثم قال يحيى: ليس بشيء"
(5)
.
(1)
"معرفة الرجال"1: 66.
(2)
"معرفة الرجال"1: 66.
(3)
"معرفة الرجال"1: 61.
(4)
"تاريخ الدوري عن ابن معين" 2: 540، و"الكامل"6: 2271، و"الكفاية" ص 157، والرواية عندهما من طريق الدوري أيضا، وفيها زيادة تدل على شدة مجون وخلاعة، وانظر أيضا:"سؤالات ابن الجنيد" ص 304، و"أسئلة البرذعي لأبي زرعة" ص 420.
(5)
"سؤالات ابن الجنيد" ص 298.