المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: مراتب أحكام النقاد على الرواة - الجرح والتعديل - اللاحم

[إبراهيم اللاحم]

فهرس الكتاب

- ‌ ماذا يمكن أن يستفيده الباحث المتخصص من هذه السلسلة

- ‌الأول: فهم كلام الأئمة

- ‌الثاني: تفهم كلام الأئمة

- ‌الثالث: إتقان عرض التخريج والدراسة

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأول: الحكم على الراوي

- ‌ مدخل:

- ‌المبحث الأول: وسائل الحكم على الراوي

- ‌أولا: التأمل في أفعال الراوي وتصرفاته، والنظر في سيرته

- ‌ثانيا: إلقاء الأسئلة على الراوي

- ‌ثالثًا: اختبار الراوي وامتحانه:

- ‌الأولى: تلقين الراوي

- ‌الثانية: المذاكرة:

- ‌رابعًا: النظر في أصول الرواة وكتبهم:

- ‌خامسًا: النظر في أحاديث الراوي ومروياته:

- ‌1 - اعتداله أو مجازفته في الرواية:

- ‌2 - مشاركته لغيره أو تفرده:

- ‌3 - ثباته أو اضطرابه فيما يرويه:

- ‌4 - موافقته أو مخالفته لغيره:

- ‌المبحث الثاني: اختلاف حال الراوي

- ‌الأولى: توثيق الراوي أو تضعيفه في شيخ معين، أو في شيوخ معينين:

- ‌الثانية: توثيق الراوي في روايته عن أهل بلد معين، وتضعيفه في روايته عن أهل بلد آخر:

- ‌الثالثة: توثيق الراوي أو تضعيفه في رواية أهل بلد معين عنه:

- ‌الرابعة: توثيق الراوي أو تضعيفه في صفة معينة في الرواية:

- ‌الخامسة: تقوية الراوي إذا حدث من كتابه، وتضعيفه إذا حدث من حفظه:

- ‌السادسة: تضعيف الراوي في آخر عمره، وتقويته قبل ذلك:

- ‌المبحث الثالث: مقارنة الراوي بغيره

- ‌القسم الأول: المقارنة المطلقة

- ‌الضرب الأول: أن تكون المقارنة فيه بين راو أو أكثر وبين من سواه بإطلاق

- ‌الضرب الثاني: أن يقيد الناقد من يقارن الراوي بهم بشيء ما، كأن يقيدهم بأهل بلد الراوي، أو بمن رآهم الناقد

- ‌القسم الثاني: المقارنة المقيدة بشيء معين كبلد، أو شيخ:

- ‌المبحث الرابع: عوائق الحكم على الراوي

- ‌أولاً: اشتباه الراوي بغيره على الناقد

- ‌ثانيًا: تعارض وسائل الحكم على الراوي

- ‌ثالثًا: نقد النقد

- ‌رابعًا: انعدام وسائل الحكم على الراوي أو ضعفها

- ‌الفصل الثاني: أحكام النقاد على الرواة ومراتبها

- ‌مدخل:

- ‌المبحث الأول: الأحكام النظرية على الرواة

- ‌القسم الأول: ما وصلنا من أحكام أطلقها الأئمة على الرواة

- ‌القسم الثاني: حركات وإشارات تصدر من النقاد حين يرد ذكر بعض الرواة

- ‌المبحث الثاني: الأحكام العملية على الرواة

- ‌القسم الأول: الانتقاء العام للرواة

- ‌القسم الثاني: الانتقاء الخاص للرواة:

- ‌المبحث الثالث: مراتب أحكام النقاد على الرواة

- ‌الفصل الثالث: ضوابط النظر في أحكام النقاد على الرواة

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: ثبوت النقل عمن نسب إليه

- ‌المبحث الثاني: سلامة النص

- ‌الصورة الأولى: حكاية معنى النص

- ‌الصورة الثانية: بتر النص

- ‌الصورة الثالثة: تحريف النص

- ‌المبحث الثالث: قائل النص

- ‌المبحث الرابع: دلالة النص

- ‌الفصل الرابع: تمييز رواة الإسناد

- ‌مدخل:

- ‌المبحث الأول: كثرة وقوع الاشتباه بين الرواة

- ‌المبحث الثاني: أسباب وقع الخلط بين الرواة

- ‌المبحث الثالث: الوسائل المساعدة على تمييز الرواة

- ‌النوع الأول: الولادة والوفاة:

- ‌النوع الثاني: الشيوخ والتلاميذ:

- ‌النوع الثالث: كتب الأطراف:

- ‌النوع الرابع: طرق الحديث الأخرى:

- ‌القسم الأول: الطرق إلى المؤلفين

- ‌القسم الثاني: الطرق بعد المؤلفين

- ‌النوع الخامس: النظر في متن الحديث وإسناده:

- ‌النوع السادس: ضوابط في تمييز الرواة:

- ‌المصادر والمراجع

الفصل: ‌المبحث الثالث: مراتب أحكام النقاد على الرواة

‌المبحث الثالث: مراتب أحكام النقاد على الرواة

عرفت هذه المراتب بـ "مراتب الجرح والتعديل"، أو "مراتب ألفاظ الجرح والتعديل"، على اعتبار أن أحكام النقاد اللفظية هي التي يسهل تصنيفها ووضع مراتب لها، ويلحق بها ما هو من أحكامهم العملية.

كما اشتهر أيضا أن ابن أبي حاتم المتوفى سنة 328 هـ هو أول من ذكر مراتب للجرح والتعديل

(1)

، وهو كلام حق من جهة أن ابن أبي حاتم ذكرها مجتمعة مرتبة، ولكن إذا عرفنا أن هذه المراتب خلاصة موضوع الجرح والتعديل كله، إذ هي تقسيم للرواة بحسب أحكام النقاد عليهم، ثم الموقف من أصحاب كل مرتبة قبولا لحديثه أو ردا، ودرجة هذا القبول والرد، وعرفنا أن أحكام النقاد على أحاديث هؤلاء الرواة بناء على مرابتهم متقدمة على عصر ابن أبي حاتم بكثير- أدركنا بسهولة أن هذه المراتب كانت موجودة في عصر النقاد الأوائل، أما تطبيقا وعملا فلا إشكال في ذلك، وأما من أقوالهم وعباراتهم فإن المتأمل فيما نقل عنهم، الجامع بين أطراف كلامهم، سيجد أصل هذا التقسيم لمراتب الرواة موجودا في كلام النقاد الأولين.

فالناظر في العبارات نفسها يجدها متفاوتة، سواء في الجرح أو في التعديل، إما من جهة دلالتها اللغوية، أو من جهة تكرارها وعدمه، أو من قرائن أخرى تحيط بعبارة الناقد.

ثم إننا نجد في كلام النقاد عبارات في التقسيم نفسه، فقد تقدم في

(1)

انظر: "مقدمة ابن الصلاح" ص 237، و"فتح المغيث"2:108.

ص: 290

المبحث الذي قبل هذا قول شعبة: "لو لم أحدثكم إلا عن ثقة لم أحدثكم إلا عن ثلاثة"، وأن مراده بذلك من هم في الذروة من الثقة والضبط، وتقدم كذلك عن غيره من الأئمة ما يوضح كلامه، فالرواة الثقات إذن على مراتب.

وقد استدل ابن أبي حاتم على وضع مراتب لألفاظ الجرح والتعديل بما تقدم عن عبد الرحمن بن مهدي وقد قيل له: أبو خلدة ثقة؟ فقال: "كان صدوقا، وكان مأمونا، الثقة: سفيان وشعبة"، قال ابن أبي حاتم:"فقد أخبر أن الناقلة للآثار والمقبولين على منازل، وأن أهل المنزلة الأعلى: الثقات، وأن أهل المنزلة الثانية: أهل الصدق"

(1)

.

وتقدم أيضا في المبحث الثالث من الفصل الأول كلام كثير للنقاد حول المقارنة بين بعض الرواة، الثقات منهم والضعفاء، وهو يدل أيضا على أنهم على مراتب متفاوتة.

وفي موضوع انتقاء بعضهم لشيوخهم ولمن يروون له تبين أن من الرواة من هو متروك الحديث لا يكتب حديثه، أو لا يُحَدَّث عنه، وأن منهم من يكتب حديثه ويُحَدَّث عنه، وقد تقدم شرح هذا في المبحث السابق، فهذا أيضا تقسيم إجمالي للرواة المتكلم فيهم.

وأول من وقفت على كلام له في تصنيف الرواة على مراتب عبد الرحمن بن مهدي، قال محمد بن المثنى: قال لي عبد الرحمن بن مهدي: "احفظ عني: الناس ثلاثة: رجل حافظ متقن، فهذا لا يختلف

(1)

"الجرح والتعديل"2: 37.

ص: 291

فيه، وآخر يهم والغالب على حديثه الصحة، فهذا لا يترك، ولو ترك حديث مثل هذا لذهب حديث الناس، وآخر الغالب على حديثه الوهم، فهذا يترك حديثه".

(1)

وبنحو تصنيف ابن مهدي لمراتب الرواة وأحكام هذه المراتب صنفهم أيضا مسلم بن الحجاج، والترمذي.

فأما مسلم ففي مقدمة "صحيحه"، فذكر لهم ثلاث مراتب، الأولى للثقات الذين لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد، ولا تخليط فاحش، والثانية لمن دون أولئك ممن يشملهم اسم الستر والصدق، ولم يوصفوا بالحفظ والإتقان، والثالثة لقوم هم عند أهل الحديث متهمون، أو عند الأكثر منهم، وكذلك من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط، وشرح هذه المراتب، وضرب أمثلة لها من الرواة، مقارنا بينهم

(2)

.

وأما الترمذي ففي "العلل الصغير"، وأفاض في الحديث عن هذه المراتب، وعن أحكام أصحابها، وذكر في المرتبة الثانية خلافا بين أهل العلم في الرواية عنهم، فعن يحيى بن سعيد القطان أنه ترك الرواية عنهم، وعن الجمهور خلافه، وأشار في نهاية كلامه إلى أن ما ذكره هو كلام مجمل يمكن تفصيله، فقال:"والكلام في هذا والرواية عن أهل العلم تكثر، وإنما بينا منه شيئا على الاختصار، ليستدل به على منازل أهل العلم، وتفاضل بعضهم على بعض في الحفظ والإتقان، ومن تكلم فيه من أهل العلم لأي شيء تكلم فيه"

(3)

.

(1)

"التمييز" ص 179، و"الكامل"1: 166، و"الجرح والتعديل"2:38.

(2)

"صحيح مسلم"1: 5 - 7.

(3)

"سنن الترمذي"5: 740 - 751، وانظر:"شرح علل الترمذي"1: 370 - 499.

ص: 292

وفي رأيي أن ما ذكره ابن مهدي، ومسلم، والترمذي، هو الأساس الأول لوضع مراتب للرواة، وإعطاء كل مرتبة حكمها اللائق بها، وأن من جاء بعدهم إنما اشتغل بتفصيل المراتب الثلاث.

وممن فعل ذلك ابن أبي حاتم، في كتابه "الجرح والتعديل"، فقد صنفهم بطريقتين، الأولى مراتب للرواة عامة، قريبة جدا من كلام ابن مهدي ومن معه، وقد فعل ابن أبي حاتم ذلك مرتين، باختلاف يسير، قال ابن أبي حاتم: "فمنهم الثبت، الحافظ، الورع، المتقن، الجهبذ الناقد للحديث، فهذا الذي لا يختلف فيه، ويعتمد على جرحه وتعديله، ويحتج بحديثه، وكلامه في الرجال.

ومنهم العدل في نفسه، الثبت في روايته، الصدوق في نقله، الورع في دينه، الحافظ لحديثه المتقن فيه، فذلك العدل الذي يحتج بحديثه، ويوثق في نفسه.

ومنهم الصدوق، الورع، الثبت، الذي يهم أحيانا، وقد قبله الجهابذة النقاد، فهذا يحتج بحديثه.

ومنهم الصدوق، الورع، المغفل، الغالب عليه الوهم والخطأ والغلط والسهو، فهذا يكتب من حديثه الترغيب والترهيب، والزهد، والآداب، ولا يحتج بحديثه في الحلال والحرام.

وخامس قد ألصق نفسه بهم، ودلسها بينهم، ممن ليس من أهل الصدق والأمانة، ومن قد ظهر للنقاد العلماء بالرجال أولي المعرفة منهم: الكذبُ، فهذا يترك حديثه، وتطرح روايته"

(1)

.

(1)

"الجرح والتعديل"1: 10، وانظر: 1: 6.

ص: 293

فزاد ابن أبي حاتم على من سبقه المرتبة الأولى، وهي مرتبة النقاد، ويظهر أن ابن أبي حاتم إنما ذكرها ليبين منزلتهم في النقد، وقبول كلامهم في الرجال، وفي الأحاديث، وأما من جهة الرواية والتقديم فيها فقد جعلهم بمنزلة المرتبة الثانية.

وكذلك فَصَّل ابن أبي حاتم في المرتبة الثالثة عند من سبقه، فجعلها مرتبتين هما الرابعة والخامسة، لأنه أراد أن يبين أن هناك فرقا دقيقا بين من الغالب على حديثه الوهم والغلط، لكنه عن غفلة وسوء حفظ، وبين الكذاب، أو المتهم بالكذب، والفارق بينهما -حسب ما ذكره- أن الأول يجوز أن يكتب من حديثه الترغيب والترهيب، والزهد، والآداب، ولعله أراد ما لم يصل إلى حد أن يحكم عليه بأنه متروك الحديث، فسيأتي قريبا في كلامه أن متروك الحديث لا يكتب حديثه مطلقا.

هذا بالنسبة لمراتب الرواة عند ابن أبي حاتم، ثم إنه خطا خطوة مهمة جدا لابد منها للاستفادة من مراتب الرواة السابقة وتطبيق أحكامها -وفي كلام الأئمة الذين ألفوا في المصطلح ما يشير إلى أنه غير مسبوق بهذه الخطوة

(1)

- وهي وضع مراتب لألفاظ الأئمة في أحكامهم على الرواة، فبها يعرف أين يوضع الراوي في مراتب الرواة، ويأخذ حكمه اللائق به.

وابن أبي حاتم كان أكثر تفصيلا في مراتب ألفاظ الجرح والتعديل، فقد جعل لكل واحد منهما أربع مراتب، قال ابن أبي حاتم: "وجدت

(1)

انظر: "مقدمة ابن الصلاح" ص 237، و"فتح المغيث"2:108.

ص: 294

الألفاظ في الجرح والتعديل على مراتب شتى، فإذا قيل للواحد: إنه ثقة، أو متقن ثبت، فهو ممن يحتج بحديثه.

وإذا قيل له: إنه صدوق، أو محله الصدق، أو لا بأس به، فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه، وهي المنزلة الثانية.

وإذا قيل: شيخ، فهو بالمنزلة الثالثة، يكتب حديثه وينظر فيه، إلا أنه دون الثانية.

وإذا قيل: صالح الحديث، فإنه يكتب حديثه للاعتبار.

وإذا أجابوا في الرجل بلين الحديث، فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه اعتبارا.

وإذا قالوا: ليس بقوي، فهو بمنزلة الأولى في كتب حديثه، إلا أنه دونه.

وإذا قالوا: ضعيف الحديث، فهو دون الثاني، لا يطرح حديثه، بل يعتبر به.

وإذا قالوا: متروك الحديث، أو ذاهب الحديث، أو كذاب، فهو ساقط الحديث، لا يكتب حديثه، وهي المنزلة الرابعة"

(1)

.

ثم تتابع الأئمة بعد ابن أبي حاتم على تتميم عمله، تفصيلا، ومراجعة، وشرحا، وممن قام بذلك: ابن الصلاح، والذهبي،

(1)

"الجرح والتعديل"2: 37، و"الكفاية" ص 23، و"مقدمة ابن الصلاح" ص 237 - 239، والعبارة في المصدرين الأخيرين فيما يتعلق بالمرتبة الأولى من مراتب التعديل هكذا:"إذا قيل للواحد: إنه ثقة، أو متقن، فهو ممن يحتج بحديثه"، ليس فيهما "ثبت"، فيحتمل أن يكون صواب العبارة في "الجرح والتعديل":"ثقة، أو متقن، أو ثبت".

ص: 295

والعراقي، والسخاوي

(1)

.

فاتفق الثلاثة الأخيرون على تفصيل المراتب التي ذكرها ابن أبي حاتم، فالمرتبة الأولى من مراتب التعديل جعلها الذهبي، والعراقي -تبعا له-، مرتبتين، وجعلها السخاوي أربع مراتب، واتفق الثلاثة على ضم المرتبتين الأخيرتين من مراتب التعديل في مرتبة واحدة، فقولهم: شيخ، جعلوها كقولهم: صالح الحديث، ونقلوا إلى هذه المرتبة أيضا قولهم: محله الصدق، وابن أبي حاتم جعلها مع قولهم: صدوق، ولا بأس به، فتحصل أن مراتب التعديل عند الذهبي، والعراقي، بقيت كما هي في العدة: أربع مراتب، وعند السخاوي صارت ست مراتب.

وأما مراتب الجرح فكان تفصيلهم في المرتبة الأخيرة عند ابن أبي حاتم، فجعلها الذهبي، والعراقي-تبعا له- ثلاث مراتب، وجعلها السخاوي -وقد نَقَل هذا أيضا عن الذهبي- أربع مراتب، واتفق الثلاثة على ضم المرتبتين: الثانية والثالثة عند ابن أبي حاتم في مرتبة واحدة، هي الثانية عندهم، فجعلوا قولهم: ضعيف الحديث في المرتبة الثانية أيضا؛ فصارت مراتب الجرح عند الذهبي، والعراقي: خمس مراتب، وعند السخاوي -وقد نَقَله عن الذهبي أيضا- ست مراتب

(2)

.

(1)

"مقدمة ابن الصلاح" ص 237 - 240، و"الميزان" 1: 4، و"لسان الميزان" 1: 8، و"شرح العراقي لألفيته" 2: 3 - 13، و"فتح المغيث"2: 108 - 130، و"ضوابط في الجرح والتعديل" ص 158 - 172.

(2)

عبارة الذهبي في الميزان" 1: 4، -وهي في "اللسان"1: 8 أيضا -فيها مراتب الجرح خمس مراتب، والعراقي صرح بأنه ينقل من "الميزان"، وقد نقل السخاوي في "فتح المغيث"2: 127، عن الذهبي نحو هذه العبارة فذكرها ست مراتب، وأرجح أن هذا هو الصواب، فالعبارة في "الميزان" يظهر من سياقها أن فيها سقطا، وقد وقع هذا أيضا جزما في عبارته في مراتب التعديل.

ص: 296

فتحصل مما تقدم أن مراتب الجرح والتعديل مجتمعة عند الذهبي تسع مراتب، أو عشر مراتب، وعند العراقي تسع مراتب، وعند السخاوي اثنتا عشرة مرتبة.

وبالإضافة إلى ما تقدم فقد زاد هؤلاء الأئمة -ابتداء من ابن الصلاح- كثيرا من ألفاظ الجرح والتعديل مما لم يذكره ابن أبي حاتم، وألحقوها بالمراتب اللائقة بها، فعلوا ذلك من غير استقصاء، مع تمنيهم لذلك، كما قال السخاوي:"من نظر في كتب الرجال .... ظفر بألفاظ كثيرة، ولو اعتنى بارع بتتبعها، ووضع كل لفظة بالمرتبة المشابهة لها، مع شرح معانيها لغة واصطلاحا- لكان حسنًا، وقد كان شيخنا (يعني ابن حجر) يلهج بذكر ذلك، فما تيسر، والواقف على عبارات القوم يفهم مقاصدهم بما عرف من عباراتهم، في غالب الأحوال، وبقرائن ترشد إلى ذلك"

(1)

.

وما أشار إليه السخاوي حق، فما ذكروه من ألفاظ الجرح والتعديل هو الذي يتكرر على ألسنة النقاد، وما لم يذكروه -وهو كثير جدا- أكثره من عباراتهم القليلة الاستعمال، ومما هو حكاية عن أقوالهم من قبل تلاميذهم أو من بعدهم، وهذه يمكن إلحاقها بالمرتبة اللائقة بها حين يقوم الباحث بدراسة راو معين، بمساعدة قرائن الأحوال، كأقوال الإمام الأخرى، وأقوال النقاد الآخرين، ونحو ذلك.

وقد تصدى لجمع ألفاظ الجرح والتعديل وإلحاق ما لم يذكروه بمرتبته الشيخ أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل من المعاصرين في

(1)

"فتح المغيث"2: 109.

ص: 297

كتابه: "شفاء العليل بألفاظ وقواعد الجرح والتعديل"، بذل فيه جهدا مشكورا.

ومما يلاحظ في صنيع الأئمة الذين نظروا في كلام ابن أبي حاتم أنهم وإن خالفه أكثرهم في تفصيل بعض مراتبه، وضم مراتب أخرى، إلا أنهم كلهم وافقوه في الأمر المهم هنا، وهو أحكام مراتب الجرح والتعديل، فالمرتبة الأولى من مراتب التعديل، وهي التي فصلها الذهبي والعراقي إلى مرتبتين، وفصلها السخاوي إلى أربع مراتب- بقي حكم أهلها، وأنهم يحتج بهم، غاية ما فعلوه إذن أنهم جعلوا الثقات على مراتب، دفعهم لذلك الحاجة إلى الموازنة بين الثقات حين الاختلاف، -كما سيأتي في الباب الثالث-، وابن أبي حاتم نظر إلى اتفاقهم في الحكم، وهو الاحتجاج بحديثهم كلهم.

والمراتب الثلاث الأخيرة من مراتب التعديل عند ابن أبي حاتم جعلها الذهبي، والعراقي، والسخاوي، مرتبتين فقط، وكذا الثلاث الأولى من مراتب الجرح، جعلوها مرتبتين فقط، واتفقوا معه على أن أصحاب هذه المراتب مع تفاوتهم لا يحتج بحديثهم ابتداء، وإنما يكتب وينظر فيه.

والمرتبة الأخيرة من مراتب الجرح عند ابن أبي حاتم جعلها الذهبي، والعراقي، ثلاث مراتب، وجعلها السخاوي -ونقله أيضا عن الذهبي- أربع مراتب، وقصدوا بذلك أن أصحاب هذه المرتبة عند ابن أبي حاتم ليسوا على صفة واحدة، فمنهم من عرف واشتهر بوضع الحديث، ومنهم من رمي به، ومنهم من اتهم بذلك، ومنهم من ألحق بهؤلاء وإن كان يرتكب ما يرتكب عن غير عمد، وإنما يقع منه بسبب

ص: 298

غفلته، مع اتفاق هؤلاء الأئمة مع ابن أبي حاتم في الحكم، وهو أن حديث هؤلاء كلهم متروك، لا يكتب، ولا يعتبر به، ولا يلتفت إليه.

ويبقى هنا قضيتان لابد من التعرض لهما، إحداهما: أن ابن الصلاح شرح قول ابن أبي حاتم في المرتبة الثانية من مراتب التعديل: "إذا قيل إنه صدوق، أو محله الصدق، أو لا بأس به، فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه"، بقوله: "هذا كما قال، لأن هذه العبارات لا تشعر بشريطة الضبط، فينظر في حديثه ويختبر، حتى يعرف ضبطه، وقد تقدم بيان طريقه في أول هذا النوع، وإن لم نستوف النظر المعرف لكون ذلك المحدث في نفسه ضابطا مطلقا، واحتجنا إلى حديث من حديثه- اعتبرنا ذلك الحديث، ونظرنا هل له أصل من رواية غيره

"

(1)

.

وكأن ابن الصلاح أراد أن يفرق بين كتابة حديث الراوي والنظر فيه الذي ذكره ابن أبي حاتم في هذه المرتبة، وفي التي تليها أيضا، وبين كتابة حديثه اعتبارا الذي ذكره ابن أبي حاتم في المرتبة الرابعة من مراتب التعديل، وفي المراتب الثلاث الأولى من مراتب الجرح.

وقد نقل كلام ابن الصلاح جماعة ممن جاء بعده، ولم يعترضوه بشيء

(2)

، وهو مشكل، إذ مؤداه أن الناقد إذا قال في الراوي: صدوق، أو ليس به بأس، أو محله الصدق، أو صالح الحديث-فهو لم يستوف النظر في حديثه لسبب ما، وترك ذلك لمن جاء بعده، وهذا بعيد جدا من مراد ابن أبي حاتم لمن تأمله، فغرضه ذكر مراتب ألفاظ الجرح والتعديل، وحكم أصحابها، بعد استيفاء النقاد للنظر في الراوي،

(1)

"مقدمة ابن الصلاح" ص 238.

(2)

"فتح المغيث"2: 116 - 117.

ص: 299

وإطلاقهم تلك الألفاظ، فالناقد إذا قال: فلان صدوق، أو ليس به بأس، أو محله الصدق، أو صالح الحديث- قد استوفى النظر ولابد، وابن أبي حاتم يبين ما هو الموقف من حديث هؤلاء الذين صدرت في حقهم تلك الألفاظ من قبل النقاد، كما هو الحال بالنسبة لأصحاب المراتب الأخرى، ولا فرق.

وحينئذ ما الفرق بين كتابة حديث الراوي والنظر فيه، وبين كتابة حديثه اعتبارا؟ إن قلنا إنه مجرد اختلاف عبارة، فالجميع لا يحتج بهم إذا انفردوا، وحديثهم جميعا يكتب وينظر فيه للاعتبار والاعتضاد -مع تفاوتهم-، فالأمر لا يحتاج إلى تفريق، ولكن يظهر لي أن ابن أبي حاتم قصد التفريق بينهما، فمن يكتب حديثه وينظر فيه قد يحتج به لوحده بقرائن تحتف بحديثه وروايته المعينة، فيلتحق في ذلك الحديث وتلك الرواية بأدنى أصحاب المرتبة الأولى وهم الثقات، فيصحح حديثه، ويحتج به، وإن كان هو في الجملة دونهم، وأما من يكتب حديثه اعتبارا فلا يحتج به لوحده مطلقا، وإنما قد يعضد حديث غيره، أو يعضده حديث غيره، مع اشتراك الجميع -من يكتب حديثه وينظر فيه، ومن يكتب حديثه اعتبارا- في أن حديثهم ابتداء لا يحكم له بحكم معين، قبل استيفاء النظر في رواية غيرهم.

القضية الثانية: يطلق بعض الأئمة وكثير من الباحثين أوصافا محددة على الأسانيد التي يوجد بها من هو في المراتب الثلاث الأخيرة من مراتب التعديل، والثلاث الأولى من مراتب التجريح عند ابن أبي حاتم، وما يعادلها عند من جاء بعده وتصرف في مراتبه، فإذا وجد في الإسناد من هو من أصحاب المرتبة الثانية أو الثالثة من مراتب التعديل

ص: 300

وصفوه بأنه إسناد حسن، أو جيد، أو لا بأس به، أو قوي، ونحو ذلك، على اختلاف بينهم في التشدد والتسامح، فمنهم من يقصر هذه الأوصاف على المرتبة الثانية فقط.

وإذا وجد فيه من هو من أصحاب المرتبة الرابعة من مراتب التعديل، وكذا الأولى والثانية من مراتب التجريح وصفوا الإسناد بأنه إسناد فيه لين، أو فيه ضعف، أو ليس بالقوي، ونحو ذلك، وإن وجد فيه من هو من أصحاب المرتبة الثالثة من مراتب التجريح وصفوا الإسناد بأنه ضعيف، على اختلاف بينهم أيضا في التشدد والتسامح، فمنهم من يصفه بأنه ضعيف في المراتب الأربع كلها.

وكلام ابن أبي حاتم الذي يحكي فيه صنيع الأئمة يدل على أن أصحاب هذه المراتب كلها لا يحكم لهم بحكم معين حتى ينظر في حديثهم، وما يحتف به من قرائن، ومن أهمها وجود طرق أخرى أو عدمه، وإذا وجدت فما أثرها على الإسناد؟ .

وقد يقول قائل: لكنهم يفعلون هذا أيضا في أصحاب المرتبة الأولى من مراتب التعديل عند ابن أبي حاتم التي فصلها من جاء بعده، يبحثون عن أسانيد أخرى، ثم إن وجدوها نظروا في أثرها عليه.

والجواب أن هذا صحيح لا إشكال فيه، لكن هؤلاء غالب رواياتهم صحيحة، ولهذا وصفوا بأنهم ثقات، وأما أصحاب المراتب بعدهم فإنما نزلوا عن درجة الثقة لما في رواياتهم من أخطاء، وكثرة التفرد عندهم، فلهذا فرق ابن أبي حاتم بين أصحاب المرتبة الأولى، وبين أصحاب المراتب بعدها، ثم فرق بين أصحاب المرتبتين الثانية والثالثة من مراتب التعديل، وبين أصحاب المرتبة الرابعة من مراتب

ص: 301

التعديل، والثلاث الأولى من مراتب التجريح، كما تقدم شرحه آنفا، وإن كان الكل -بلا استثناء- لا يحكم لإسناد هو فيه إلا بعد النظر في الطرق الأخرى.

وسيأتي لهذا الموضوع زيادة بيان في بحث مستقل في آخر الباب الثاني (الاتصال والانقطاع)، وإنما أشرت إليه هنا لارتباطه الوثيق بمراتب الجرح والتعديل.

والخلاصة أن ابن أبي حاتم قد قدم خدمة جليلة للمشتغل بنقد السنة بوضعه مراتب لألفاظ النقاد في الجرح والتعديل، وبيانه لأحكام أصحاب تلك المراتب، وتمم عمله من جاء بعده من المشتغلين بالنظر في قواعد أولئك النقاد، إما بزيادة تفصيل للمراتب التي ذكرها، أو بضم بعضها إلى بعض، أو بزيادة ألفاظ في كل مرتبة.

ولا شك أن هذا قد سهل جدا من ممارسة نقد السنة على أهل الاختصاص، سواء في نقد الأسانيد مفردة، أو في المقارنة بينها، غير أنه من جهة أخرى أدى إلى وضع لم يقصده هؤلاء، ولا يُسألون عنه، ذلك هو اعتقاد كثير من المتصدين لنقد السنة أن الأمر سهل جدا، فما هو إلا النظر في رواة الإسناد، ثم الحكم عليه، ولست أعني هنا إهمالهم النظر في الشروط الأخرى لصعوبة البحث فيها، فهذا شأن آخر سيأتي الكلام عليه في الموضع الذي أشرت إليه آنفا، وإنما أعني هنا ضعف نظرهم في مرتبة الراوي، والباحث المتأخر بعد عصر النقد ليس المطلوب منه أن يحكم على الراوي بنفسه، فهذا أمر لا يستطيعه في غالب الأحوال، والمطلوب منه فقط النظر في كلام أئمة النقد، وموقفهم من حديث الراوي، ثم وضع الراوي في مرتبته اللائقة به،

ص: 302

ومع هذا فليس الأمر بالهين، فالنقاد كثيرون، وليسوا بمنزلة واحدة، ثم المنقول عنهم في غالب الرواة كثير أيضا، وبعضه مما لم يذكره الأئمة الذين وضعوا مراتب لألفاظ الجرح والتعديل في تلك المراتب، لقلة تداوله أو لسبب آخر، فيحتاج وضعه في مرتبته إلى البحث في القرائن، وقد يتعارض المنقول عن النقاد في الراوي، وهذا كثير أيضا، بل قد يتعارض المنقول عن الناقد الواحد، وقد تختلف حال الراوي الواحد، إما بالنسبة للوقت، أو للبلد، أو للشيوخ.

فإذا ضممنا إلى ذلك أحكامهم العملية التطبيقية على الرواة- أدركنا أن وضع الراوي في مرتبته اللائقة به يحتاج إلى ما يمكن أن نسميه (فقه الجرح والتعديل)، وأعني به ضروروة الأخذ بعين الاعتبار النظرة الشمولية لما يحكم هذا الأمر من ضوابط، وهي موضع الحديث في الفصل التالي.

ص: 303