الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان من أجل حديثه فهو عندهم متروك الحديث، لا ينبغي أن يروى له.
القسم الثاني: الانتقاء الخاص للرواة:
والمقصود بهذا القسم أن جمعا من النقاد تصدى لتأليف كتاب بشرط خاص، ينتقي فيه الرواة -سواء كانوا من شيوخه، أو ممن يروي عنه بواسطة- انتقاء خاصا، يزيد على درجة الانتقاء العام الماضي في القسم الأول.
ولأيضاح ذلك سأضرب مثلا مختصرا وهو الإمام البخاري في "صحيحه"، فالبخاري أحد من ينتقي الرواة الانتقاء العام، وقد عبر عن ذلك بقاعدة ذكرها، فقال في زَمْعَة بن صالح:"ذاهب الحديث، لا يدري صحيح حديثه من سقيمه، أنا لا أروي عنه، وكل من كان مثل هذا فأنا لا أروي عنه"
(1)
.
لكن البخاري في "صحيحه" ينتقي الرواة انتقاء خاصا يزيد على ما ذكره في هذه القاعدة، ولهذا أعرض عن حديث جماعة من المتوسطين، كسِمَاك بن حرب، ومحمد بن عجلان، ومحمد بن إسحاق، وربما أعرض عن حديث بعض الثقات الذين يخطئون أحيانا، كحماد بن سلمة.
وهو في كتبه الأخرى مثل كتابه: "الأدب المفرد" يخرج لهؤلاء، بل يخرج لمن دونهم ممن لا يدخل تحت قاعدته السابقة، فلم يصل إلى حد الترك عنده، وشرح هذا يطول.
(1)
"العلل الكبير"2: 967، وانظر: 1: 120، 2: 973، 978.
وهذه الكتب التي انتقى أصحابها أحاديثها عرفت بالكتب الصحاح، مثل "صحيح البخاري"، و"صحيح مسلم"، و"صحيح ابن خزيمة"، و"صحيح ابن حبان"، ويلتحق بها الكتب المستخرجة على "الصحيحين" أو أحدهما، مثل "مستخرج أبي عوانة على صحيح مسلم"، وربما أطلق عليه اسم الصحيح
(1)
، و"مستخرج الإسماعيلي على صحيح البخاري"، سمي بالصحيح أيضا
(2)
، و"مستخرج البَرْقاني على الصحيحين".
ويلتحق بها أيضا مثل كتاب "المنتقى" لابن الجارود، قال فيه الذهبي:"مجلد واحد في الأحكام، لا ينزل فيه عن رتبة الحسن أبدا، إلا في النادر في أحاديث يختلف فيها اجتهاد النقاد"
(3)
.
ولا يختلف اثنان من المنتسبين لهذا العلم على أن أعلى هذه الكتب، وأحسنها انتقاء: كتابا البخاري ومسلم، سواء من جهة الأحاديث المنتقاة، أو من جهة رواة هذه الأحاديث، وهو ما نحن بصدده الآن.
ولهذا السبب اعتنى الأئمة برواتهما، وتتبعوهم واحدا واحدا، وفي ذلك مؤلفات عديدة، كما يذكرون في سياق تعديل الرواي أنه من رجال الشيخين، أو من رجال البخاري، أو من رجال مسلم، واشتهرت بينهم كلمة أبي الحسن المقدسي التي نقلها عنه ابن دقيق العيد، في حق من أخرج له في الصحيح، قال ابن دقيق العيد: "وكان شيخ شيوخنا
(1)
"سير أعلام النبلاء"14: 417.
(2)
"سير أعلام النبلاء"16: 293، 17: 467، و"تذكرة الحفاظ"3:949.
(3)
"سير أعلام النبلاء"14: 239.
الحافظ أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل يُخَرج عنه في الصحيح: هذا جاز القنطرة، يعني بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه، وهكذا نعتقد، وبه نقول، ولا نخرج عنه إلا ببيان شاف وحجة ظاهرة
…
"
(1)
.
والباحث الآن يوصى بذلك أيضا، فيوضح في سياقه لترجمة الراوي -ولا سيما إن كان فيه جرح وتعديل- أنه قد أخرج له في الكتابين أو أحدهما، ويوصى كذلك بتتبع كيفية إخراجهما له، وهو أمر بالغ الأهمية، فإن بعض الرواة في "صحيح البخاري" إنما أخرج لهم البخاري تعليقا فقط، وهم الذين يعبر عنهم بعض الأئمة بأن البخاري أخرج لهم اعتبارا
(2)
، وبعضهم يعبر عن ذلك بأن البخاري روى لهم استشهادا، أو يقولون: استشهد به البخاري
(3)
، وربما بينوا ذلك، فيقولون:"استشهد به البخاري، ولم يرو له"
(4)
، أو "استشهد به البخاري تعليقا"
(5)
، وكأنهم فعلوا ذلك خوف الاشتباه بالتخريج للراوي موصولا في الشواهد أيضا، وربما التبس هذا على بعض الباحثين فلم يميز
(6)
.
ثم الرواة الذين أخرجا لهم موصولا ليسوا على درجة واحدة،
(1)
"الاقتراح" ص 127، وانظر:"هدي الساري" ص 384، و"فتح المغيث"2:19.
(2)
"ذكر أسماء التابعين ومن بعدهم ممن صحت روايته عن الثقات، عند البخاري ومسلم" للدارقطني 2: 435.
(3)
"تهذيب الكمال"2: 11، 224، 350، 493، 514، و"الموقظة" ص 79.
(4)
"سير أعلام النبلاء"4: 531.
(5)
"هدي الساري" ص 599.
(6)
انظر: حاشية "تهذيب الكمال"2: 351، وحاشية "الموقظة" ص 79.
فمنهم من أخرجا له في الأصول، أي أنهما اعتمدا عليه وحده، ولو في بعض حديثه، ومنهم من أخرجا له في المتابعات، والشواهد، أو مقرونا بغيره، بل ربما جرى ذكر بعض الرواة في أسانيد عند الشيخين ولم يقصدا التخريج لهم
(1)
.
فالراوي متى أخرجا له في الأصول فهو توثيق له عندهما، وإذا أخرج له واحد منهما فهو توثيق منه له كذلك، وعليه فكل من أخرجا له أو أحدهما بهذه الصفة فهو ثقة عند من أخرج له، فإن كان فيه توثيق صريح ضم إليه، وإن لم يكن فصنيعهما توثيق له، فليس فيمن أخرجا له أو أحدهما على هذا الوصف من هو مجهول الحال
(2)
، ولا ريب أن ارتضاءهما للراوي قد يكون أقوى من توثيق مجرد منقول عن أحد النقاد.
هذا هو الأصل، لا يخرج عنه إلا بدليل ظاهر قوي، وسأضرب لذلك مثالا واحدا، فقد أخرج البخاري ومسلم لعُتْبَة بن مسلم المدني، وقد روى عنه جماعة من أهل المدينة، ولم ينص أحد على توثيقه، وأخرج له البخاري حديث أبي هريرة في (الذباب إذا وقع في الإناء)، عن عُبيد بن حُنَيْن، عن أبي هريرة
(3)
، وهذا الطريق أقوى طرق هذا الحديث، وما عداه فلا يسلم من كلام، فاعتماد البخاري عليه في هذا الحديث توثيق له بلا ريب.
(1)
سيأتي شرح هذا مفصلا في الكلام على مصطلح "شرط الشيخين"، في نهاية القسم الثاني (الاتصال والانقطاع).
(2)
انظر: "الموقظة" ص 80، و"هدي الساري" ص 384.
(3)
"صحيح البخاري" حديث 3320، 5782.
وأما غير هذين الكتابين من الكتب التي تقدمت الإشارة إليها آنفا فإننا نجد في تراجم بعض الرواة الإشارة إلى أن ابن خزيمة يصحح له، أو ابن حبان، أو أبا عوانة، ولا شك أن هذا عمل سائغ، ولكن يبقى النظر في درجة انتقاء هؤلاء الأئمة لرواتهم المعروفين، ولا يخفى أنهم جميعا لا يدانون عمل البخاري ومسلم، وقد ذكر ابن حجر أن ابن خزيمة، وابن حبان، يحتجان بأحاديث أهل الطبقة الثانية الذين يخرج لهم مسلم أحاديث في المتابعات، كابن إسحاق، وأسامة بن زيد الليثي، ومحمد بن عجلان، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وغير هؤلاء
(1)
.
وما قاله ابن حجر أمر ظاهر، ولهذا نص هو وغيره على أن كثيرا من أحاديث الكتابين هي في عداد الحسن، وأن هذا اصطلاح لهما يدرجانه في الصحيح
(2)
.
فإذا ضم إلى ذلك جانب آخر -سيأتي الحديث عنه مفصلا- وهو جانب علل الأحاديث فإنني أقول إن منزلة الكتابين لا تعدو بحال "سنن أبي داود"، و"سنن النسائي"، بل إن الأخير فوقهما.
ويضاف إلى ذلك أن ابن خزيمة قد شحن "صحيحه" بأحاديث لا يرى صحتها، ويذكرها للنقد، فيتنبه لذلك.
وإذا كان هذا حال الكتابين -مع شهرتهما- فإن غيرهما من باب أولى، ولهذا فلا أجد غضاضة في القول بأن انتقاء الرواة فيما عدا
(1)
"النكتب على كتاب ابن الصلاح"1: 291.
(2)
"النكت على كتاب ابن الصلاح"1: 290، 291، و"فتح المغيث"17:43.
"الصحيحين" غايته أن يندرج تحت الانتقاء العام الماضي في القسم الأول، والله أعلم.
ولابد من كلمة هنا عن "مستدرك الحاكم"، فلم يتقدم له ذكر، مع أنهم يوردونه في الكتب التي يؤخذ منها الحديث الصحيح مما ليس في "الصحيحين"، فإن غرضه من كتابه الاستدراك عليهما، غير أن الحاكم قصر جدا في تطبيق شروطهما، فملأ كتابه بالأحاديث الضعيفة، وكثر فيه أيضا ما هو في عداد الأحاديث الموضوعة، فإذا أخرج لراو لم ينفعه ذلك شيئا، والله أعلم.