الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
متروك الحديث
(1)
.
وهو مستمسك صحيح فإن المتن فيه نكارة، لكن عارض هذا التفسير ما هو أقوى منه، ذلك أنه وإن كان ما ورد في بعض الروايات في التصريح بنسبته (الجَزَري) محل نظر- إلا أن عبيد الله بن عمرو الرَّقِّي الجَزَري معروف بالرواية عن عبد الكريم الجَزَري، وهو من أخص أصحابه، ولا تعرف له رواية عن عبد الكريم بن أبي المُخَارِق
(2)
.
النوع السادس: ضوابط في تمييز الرواة:
اهتم الأئمة بموضوع الاشتباه بين الرواة، فعالجوا ما قابلهم من ذلك في كل حديث بعينه، كما تقدمت أمثلته في الأنواع السابقة، كما قاموا بجهد آخر يوازي ذلك، الغرض منه إفادة الآخرين حين يواجهون اشتباها في الإسناد بين راويين أو أكثر، فدونوا ضوابط بها يستطيع من جاء بعدهم تمييز الراوي الذي في إسناده.
ولا يتوقف الأمر على ما نقل إلينا من هذه القواعد، فبإمكان الباحث الآن تسجيل ما يتوصل إليه باستقرائه.
وليس معنى هذا أن أنواع الوسائل السابقة يستغنى عنها، بل أهميتها للباحث باقية، ولا غناء له عنها، إذ المنقول من هذه الضوابط
(1)
"الموضوعات"3: 55.
(2)
"سنن أبي داود" طبعة عبيد الدعاس حديث 4212، وطبعة محمد عوامة حديث، و"سنن النسائي" حديث 5090، و"مسند أحمد"1: 273، و"مسند أبي يعلي" حديث 2403، و"المعجم الكبير" حديث 12254، و"سنن البيهقي"7: 311، و"شرح السنة" حديث 3180، و"مختصر سنن أبي داود"6: 708، و"تحفة الأشراف"4: 424، و"تهذيب الكمال"19: 137، و"عون المعبود"11:266.
إنما يشمل عددا محدودا من الرواة، وبعضها أغلبي، يحتاج الباحث معه إلى التأكد بوسيلة أخرى، خشية أن يكون ما أمامه من غير الغالب، وأيضا فالباحث يوصى دائما بإعمال الفكر، وإجالة النظر، والبعد عن التقليد المحض.
وأقوى الضوابط ما كان منصوصا عن الراوي عن المشتبه به، كما في قول عفان:"إذا قلت لكم: أخبرنا حماد -ولم أنسبه- فهو ابن سلمة"
(1)
.
ويلي ذلك ما كان من كلام أحد الأئمة، وقد يكون بناه على نص عن الراوي لم يصل إلينا، أو على استقرائه هو، ومن أقدم ما وقفت عليه من ذلك ما رواه أحمد، عن أبي داود الطيالسي، عن شعبة، عن عمرو بن مرة قال:"كان سعيد بن جبير إذا قال: قال عبد الله، فهو ابن عباس، وإذا قال: ابن عمر، فهو ابن عمر"
(2)
.
وقال سلمة بن سليمان المَرْوَزي في قصة: "إذا قيل بمكة: عبد الله، فهو ابن الزبير، وإذا قيل بالمدينة: عبد الله، فهو ابن عمر، وإذا قيل بالكوفة: عبد الله، فهو ابن مسعود، وإذا قيل بالبصرة: عبد الله، فهو ابن عباس، وإذا قيل بخراسان: عبد الله، فهو ابن المبارك"
(3)
.
كذا قال سلمة في ابن عباس، وابن الزبير، والمشهور ما قاله الخليلي: "إذا قال المصري: عن عبد الله -ولا ينسبه- فهو ابن عمرو -
(1)
"مقدمة ابن الصلاح" ص 619.
(2)
"العلل ومعرفة الرجال"1: 147.
(3)
"مقدمة ابن الصلاح" ص 558.
يعني ابن العاص-، وإذا قال المكي: عن عبد الله -ولا ينسبه- فهو ابن عباس"
(1)
.
وذكر محمد بن يحيى الذهلي، ثم الرامَهُرْمُزي، والمِزِّي، والذهبي، أن موسى بن إسماعيل التَّبُوذكي، وحجاج بن منهال -زاد المِزِّي، والذهبي: وهُدْبة بن خالد- إذا روى أحدهم عن حماد، ولم ينسبه، فهو ابن سلمة، وأن محمد بن الفضل المعروف بعَارِم، وسليمان بن حرب، إذا روى أحدهما عن حماد، ولم ينسبه، فهو ابن زيد
(2)
.
ومثل هذا وقع في سفيان الثوري، وابن عُيَيْنة، قال الذهبي بعد أن أشار إلى تقدم سفيان الثوري في الطبقة:"فمتى رأيت القديم قد روى فقال: حدثنا سفيان -وأبهم- فهو الثوري، وهم: كوكيع، وابن مهدي، والفِرْيابي، وأبي نُعَيْم، فإن روى واحد منهم عن ابن عُيَيْنة بَيَّنه"
(3)
.
وذكر الحاكم مجموعة من الضوابط في تمييز بعض الرواة الذين يشتد الاشتباه بينهم
(4)
، لولا خشية الإطالة لنقلت كلامه.
ويعكر على الاستفادة مما يقرره الأئمة وغيرهم من ضوابط أن يكون الضابط لم يتحرر جيدا، فقد ذكر ابن حجر أن البخاري إذا روى عن محمد بن يوسف وأطلق فهو الفِرْيابي، وليس البِيْكَندي
(5)
، والموجود في "صحيح البخاري" لا يتفق مع هذا الضابط، فقد روى
(1)
"مقدمة ابن الصلاح" ص 558.
(2)
"المحدث الفاصل" ص 284، و"مقدمة ابن الصلاح" ص 619، و"تهذيب الكمال"7: 269، و"سير أعلام النبلاء"7:465.
(3)
"سير أعلام النبلاء"7: 466، وانظر:"فتح الباري"1: 162.
(4)
"معرفة علوم الحديث" ص 230 - 231.
(5)
"فتح الباري"1: 162.
البخاري، في موضعين عن محمد بن يوسف وأطلق، وهو البِيْكَندي، أمكن تمييزه عن الفِرْيابي عن طريق شيوخه، وفي موضعين آخرين بقي الأمر مشتبها، ولم يأت مفسرا بالبِيْكَندي إلا في موضع واحد، اختلفت فيه الروايات عن البخاري، ففي بعضها:"حدثنا محمد بن يوسف -هو البِيْكَندي-"، وفي بعضها:"حدثنا محمد بن سلام"، وفي أكثرها:"حدثنا محمد" غير منسوب
(1)
، فلم يمكن الاستفادة من الضابط الذي ذكره ابن حجر في "الصحيح" على أقل الأحوال.
وذكر أحد الباحثين ضابطا في رواية أحمد عن سفيان فقال: "إذا قال: عن سفيان، عن الزهري، فالمراد سفيان بن عُيَيْنة، لا سفيان بن وكيع، لأن من عادته رحمه الله أنه إذا روى عن سفيان بن وكيع نسبه إلى أبيه".
كذا قال الباحث، والظاهر أنه ذهب إلى أن القائل في "المسند": حدثنا سفيان بن وكيع هو أحمد، يشير إليه قوله:"لأن من عادته"، لكن الأمر ليس كذلك، فالقائل عبد الله بن أحمد، فهو من الزوائد
(2)
، ومثله في "فضائل الصحابة"
(3)
، وإنما روى أحمد في "المسند" عن سفيان بن وكيع كلمة لوالده وكيع بن الجراح، في عبد الرزاق، وأنه يشبه رجال أهل العراق
(4)
، ثم إن سفيان بن وكيع لم يلحق الزهري أصلا، فلو سُلِّم ما قاله الباحث لم نحتج إلى ضابط.
(1)
"صحيح البخاري" حديث 77، 2385، 3235، 3615، 6784، و"فتح الباري"1: 172، 5: 53، 6: 316، 623، 11:84.
(2)
"مسند أحمد"1: 75، 129، 132، 135، 140، 160.
(3)
"فضائل الصحابة"1: 543، 2: 681، 713، 930، 932، 965.
(4)
"المسند"3: 297.
كما يعكر على الاستفادة أيضا ما يتطرق إلى الضوابط في هذه القضية وغيرها من احتمال كونها أغلبية، إذ قد يتبين بعد بحث أن الضابط أغلبي، وليس مطردا، وحينئذ فيعمل بالضابط ما لم يعارضه ما هو أقوى منه.
مثال ذلك ما تقدم آنفا أن الكوفي إذا قال: عن عبد الله، فهو ابن مسعود، وقد أخرج الرامَهُرْمُزي من طريق مُسَدَّد، عن يحيى بن سعيد القطان، ومن طريق إسماعيل بن عمر الواسطي، كلاهما عن سفيان الثوري، عن عاصم بن أبي النَّجُود، عن زِرِّ بن حُبَيْش، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يقال لصاحب القرآن: اقرأ، وارْق، ورَتِّل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك آخر آية تقرؤها"
(1)
.
فالناظر في الإسناد لأول وهلة لا يخالجه شك أن عبد الله هو ابن مسعود، بناء على الضابط السابق، لكن عارض ذلك ما هو أقوى منه، إذ رواه أبو داود عن مُسَدَّد بهذا الإسناد، فصرح بعبد الله، وأنه عبد الله بن عمرو، وهكذا جاء من طرق أخرى عن سفيان، وعاصم بن أبي النَّجُود
(2)
، وعبد الله بن عمرو بن العاص قدم الكوفة مع معاوية فسمع منه أهلها.
وذكر ابن حجر بعض الضوابط في تفسير رواة مهملين في "صحيح البخاري" نقلا عن الفِرَبْري راوي "الصحيح" عن البخاري، ثم قال ابن
(1)
"المحدث الفاصل" ص 329 - 330.
(2)
"سنن أبي داود" حديث 1464، و"سنن الترمذي" حديث 2914، و"مسند أحمد" 2: 192، و"مصنف ابن أبي شيبة"10: 498، و"فضائل القرآن" لابن الضريس حديث 111 - 114.
حجر: "وقد يرد على بعض ما قاله ما يخالفه"
(1)
.
وبعد، فهذه ستة أنواع من وسائل تمييز رواة الإسناد حين الاشتباه، يجيل الباحث نظره فيها، فربما اجتمع له أكثر من وسيلة، وربما اضطر إلى الاكتفاء بوسيلة واحدة، وربما تعارضت الوسائل فيلزم الباحث أن يلجأ إلى الموازنة والترجيح.
فإذا عجز عن التمييز، وبقي الأمر مشتبها بين اثنين أو أكثر، نص على هذا، فقال: إما أنه فلان، أو فلان، فقد كان الأئمة يفعلون هذا، قال أحمد:"قال وكيع في حديث سفيان، عن الحسن، عن إبراهيم: "كره أن يقول: أوجز الصلاة"-: إما أن يكون الحسن بن عبيد الله، وإما الحسن بن عمرو"
(2)
.
أما الحكم على الإسناد فهو مثل ما إذا تردد الراوي نفسه فقال: عن فلان أو فلان، فإن كانت درجتهما واحدة فالأمر ظاهر، وكأن الأمر ليس فيه اشتباه.
أما إذا اختلفت درجتهما كأن يكون أحدهما في الذروة العليا من الضبط والتثبت، والآخر يشمله مطلق الثقة، وهو في أدناها، أو كان أحدهما ثقة، والآخر ضعيفا، فالحكم للأدنى منهما دائما، ففي الصورة الأولى تكون درجة الإسناد كما لو عرفنا شخص الراوي وكان ممن يشمله مطلق الثقة، لكن في أدناها، وهذا يستفاد منه حين التعارض، واختلاف الروايات، وحاجة الباحث إلى النظر والموازنة، وفي الصورة الثانية تكون درجة الإسناد كما لو حددنا شخص الراوي وكان ضعيفا،
(1)
"هدي الساري" ص 222.
(2)
"العلل ومعرفة الرجال"1: 341، وانظر أيضا: 2: 379 فقرة 2694.
وربما عبر بعض الأئمة عن الصورة الثانية بالتوقف، والتوقف في دراسة الأسانيد بمعنى الرد والتضعيف.
قال الخطيب البغدادي: "
…
مثال ما ذكرناه أن إسماعيل بن أَبَان الغَنَوي -شيخ كان بالكوفة غير ثقة-، وإسماعيل بن أَبَان الوراق - كان بها أيضا ثابت العدالة-، وعصرهما متقارب .. ، وكان يعقوب بن شيبة بن الصَّلْت قد كتب عنهما جميعا، فلو ورد حديث ليعقوب، عن إسماعيل بن أَبَان، لم يبين في الرواية أي الرجلين هو، ولا عرف السامع ما تمييز ذلك من جهة العلم بشيوخهما، والاستدلال بروايتهما - وجب التوقف فيه، وترك العمل به، لأنه لا يؤمن أن يكون رواية الغنوي الذي ثبت جرحه
…
ومما يضاهي أمر إسماعيل بن أَبَان أن في رواة الحديث اثنين يقال لكل واحد منهما: إسماعيل بن مسلم، وهما بصريان في طبقة واحدة، وحدثا جميعا عن الحسن البصري، نزل أحدهما مكة فنسب إليها، وكنيته أبو ربيعة، وكان متروك الحديث، والآخر يكنى أبا محمد، وهو ثقة
…
، ويميز بينهما بأن المتروك يعرف بالمكي، والآخر يعرف بالبصري والعبدي، وبأن الضعيف يروي عنه سفيان الثوري، ويزيد بن هارون، وأبو عاصم النَّبِيْل، والثقة يروي عنه يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ووكيع، وأبو نُعَيْم، فمن أشكل عليه أمرهما في حديث، وروي له عن أحدهما، فليميزه ببعض ما ذكرنا، وإلا وجب عليه التوف عن العمل بذلك الخبر حتى يتضح له"
(1)
.
ومثل من ذكرهم الخطيب: أبو صالح ذَكْوان السَّمَّان، ثقة ثبت،
(1)
"الكفاية" ص 371، وانظر: ص 375 - 377.
وأبو صالح مولى ضباعة، وهو شبه المجهول، كلاهما يروي عن أبي هريرة، وقد روى عنهما كامل بن العلاء أبو العلاء، ويروي عنهما من غير بيان، فيقع الاشتباه بينهما، وعدم التمييز.
وكذلك عبد الكريم بن مالك الجَزَري، وهو ثقة ثبت أيضا، وعبد الكريم بن أبي المُخَارِق البصري، وهو متروك الحديث، وقد اشتركا في بعض الشيوخ والتلاميذ، ويشتد الاشتباه بينهما أحيانا.
وخلاصة هذا الفصل أن على الباحث الاعتناء بتمييز رواة الإسناد، وأن لا يستروح إلى تقرير غيره حتى يتأكد بنفسه، إذ من المحتمل -إذا لم يفعل ذلك- أن يذهب جهده في دراسة الراوي، والنظر في أحكام النقاد عليه أدراج الرياح.
ومن المهم أيضا أن يدرك الباحث شدة الارتباط بين موضوعات نقد السنة، فما هو مقبل عليه لتحقيق باقي شروط الحديث الصحيح -وهي اتصال الإسناد، وانتفاء الشذوذ والعلل- له ارتباط وثيق بما قام به في دراسة الرواة، وتمييزهم؛ إذ من المحتمل أيضا أن يتغير حكمه على الراوي بعد دراسته لاتصال الإسناد وانقطاعه، أو قيامه بجمع الطرق والمقارنة بينها، وقد يحدث ذلك أيضا في تمييز رواة الإسناد، فقد تظهر دلائل وقرائن على أن الراوي الذي في الإسناد ليس هو الذي قام الباحث بدراسته، أو بترجيح أنه هو الذي في الإسناد.
وإذا أدرك الباحث ما تقدم -وهو المؤمل فيه- صار يبحث في اتصال الإسناد -وهو موضوع القسم الثاني من هذه السلسلة- وعين له على ما مضى، والأخرى على ما هو فيه، فإلى مباحث اتصال الإسناد، والله الموفق والمعين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.