الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم رواية الإسرائيليات
هل يجوز رواية الإسرائيليات؟
نحن قسمناها إلى ثلاثة أقسام، باستعراض النصوص الشرعية الخاصة بالتحديث عن بني إسرائيل نجد أن هناك نصوصًا في القرآن والسنة تدل على المنع من الأخذ عن أهل الكتاب، كما أن هناك نصوصًا تدل على الجواز والإباحة.
نستعرض النصوص التي دلت على المنع، ثم نستعرض النصوص التي تدل على الإباحة، ثم نجمع بين الروايات، ونوفق ونستخرج من هداياتها الرأي الصحيح.
النصوص التي دلت على المنع كثيرة، منها: الآيات التي تدل على تحريفهم لكتبهم، وأفقدتنا الثقة فيها:{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة: 75) وقوله سبحانه: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (النساء: 46) وقوله سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} (الأنعام: 91).
وعن النصارى وحدهم قال -جل وعلا-: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 14) وعن النصارى واليهود عنهما معًا جاءت آيات، منها قوله سبحانه:{يَا أَهْل الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (المائدة: 15) آيات كثيرة في هذا المعنى.
ومن الأحاديث: ما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه والذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده قال: أتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه، فغضب النبي، وقال:((أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقيةً، لا تسألوهم عن شيء يخبرونكم بحق فتكذبوا أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني)) وأحاديث كثيرة في البخاري وغيره، ها هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:"كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، ويقرءونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا})) ".
ومنها أيضًا: ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث؟ تقرءونه محضًا -أي: خالصًا- لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، لا والله ما رأينا منهم رجلًا يسألكم عن الذي أنزل عليكم". والحديث العام الذي رواه ابن مسعود أيضًا، وذكره ابن حجر أنه قال:"لا تسألوا أهل الكتاب، فإنهم لن يهدوكم وقد أضلوا أنفسهم، فتكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل".
أحاديث صحيحة، وآيات صريحة، كلها تدل على المنع من الأخذ عن بني إسرائيل.
أما الطائفة الثانية، وهي النصوص الدالة على الجواز والإباحة بالأخذ من بني إسرائيل، فهي كثيرة أيضًا، منها قول الله سبحانه:{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} (البقرة: 211) وقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} (يونس: 94) ومن الآيات أيضًا قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران: 93) آيات صريحة.
ومن الأحاديث أيضًا أحاديث كثيرة، تلك الأحاديث التي تدل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام كانت تستدعيه بعض المواقف، فيستمع لما عند اليهود، جاء في (مسند أحمد) الحديث: حدثنا إسماعيل، عن أبي صخر العقيلي، حدثنا رجل من الأعراب قال:"جاءت جلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغت من بيعتي قلت: لألقين هذا الرجل، فلأسمعن منه، قال: فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون، فتبعتهم في أثنائهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشرًا التوراة يقرأها يعزي بها نفسه على ابن له في الموت، كان له ولد يعاني سكرات الموت، فكان الولد جميلًا كأحسن الفتيان وأجملهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهودي: ((أنشدك بالله الذي أنزل التوراة، هل تجد في كتابك ذا صفتي ومخرجي)) فقال: -أي: اليهودي- برأسه هكذا -أي: لا- فقال ابنه، الذي يعاني سكرات الموت، أنطقه الله نطق فقال: إي، والذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك، ومخرجك يا رسول الله، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((أقيموا اليهودي عن أخيكم))، ثم ولي الرسول كفنه والصلاة عليه".
قال العلامة ابن كثير: هذا حديث جيد قوي، له شاهد في الصحيح عن أنس. ومن أحاديث الجواز الحديث المشهور قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل، ولا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)) حديث في البخاري في كتاب الأنبياء.
وإذا ما تصفحنا الأحاديث، نراها كثيرة، فثبت عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب؛ يعني: مجموعة من كتبهم، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث الذي أباح التحديث عنهم، كتب ذلك صاحب (مقدمة في أصول التفسير) ابن تيمية، كل هذا يدل على الجواز، فقد أباح الله لنبيه أن يسأل أهل الكتاب، وكذا أباح لأمته أن يسألوا عما
هو مقرر شرعًا، وانظر قوله تعالى:{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (الرعد: 43) والمراد بـ {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} هم علماء أهل الكتاب الذين أسلموا، كما قال أكثر المفسرين.
بعد هذا نصوص منعت، ونصوص وافقت وأباحت، هل هناك توفيق بين النصوص؟
نعم، إن أمامنا الآن نصوص أجازت الأخذ عن بني إسرائيل، تقابلها نصوص منعت الأخذ عن بني إسرائيل بأنهم حرفوا كلام الله من بعد ما عقلوه، وأخفوا منه الكثير، ونسوا حظًّا مما ذكروا به، نصوص هذه في جهة، وتلك في جهة أخرى.
وللتوفيق بين هذه النصوص نقول:
إن ما جاء منها موافقًا لشريعتنا، فإنه مقبول، وتجوز روايته، وعليه تحمل النصوص القرآنية التي تحمل في طياتها جواز الرجوع إليهم، وكذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:((بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل، ولا حرج)) وسائر النصوص الأخرى في هذا المعنى. أما ما جاء مخالفًا لشريعتنا، فلا يُعقل أن تحمل عليه النصوص الشرعية الدالة على الرجوع إليهم والتحديث عنهم؛ لأن ما ينقل عنهم كذب، ورواية المكذوب غير جائزة إلا إذا كانت الرواية مقترنة ببيان كذب ما فيها، وعلى هذا تحمل الأحاديث والآيات التي تدل على المنع من الأخذ عن أهل الكتاب، كالآيات التي تحدثنا عنها، والأحاديث كذلك.
أما ما سكتت عنه شريعتنا، فلا وسيلة لنا للجزم بتصديقه، ولا بتكذيبه أيضًا، وعليه فلا يسعنا إلا التوقف في أمره، وعليه ينطبق حديث:((لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم)).
بعد هذا نستطيع أن نقول: مع التوقف عن التصديق وعن التكذيب، الصنف الثالث الذي لا نؤيده، ولا نعارضه، المسكوت عنه، هل تجوز روايته؟ الإسرائيليات التي سكتت عنها شريعتنا، هل يجوز روايتها؟
نقول:
اختلف العلماء في ذلك، فبعض العلماء أجاز روايةَ هذا النوع من الإسرائيليات، ومن العلماء الذين أجازوا ذلك الإمام ابن تيمية، وأيضًا وافقه الأستاذ الدكتور الذهبي -عليه رحمة الله- حيث يقول الشيخ الذهبي: وما سكت عنه شرعنا توقفنا فيه، فلا نحكم عليه بصدق، ولا بكذب، وتجوز روايته؛ لأن غالب ما يروى من ذلك راجع إلى القصص والأخبار لا إلى العقائد والأحكام، وروايته ليست إلا مجرد حكاية له، كما هو في كتبهم، أو كما يحدثون به بصرف النظر عن كونه حقًّا أو غير حق.
لكن بعض العلماء الآخرين قالوا: لا يجوز رواية هذا النوع من الإسرائيليات، من هؤلاء الدكتور عبد الوهاب فايد، وآخرون سأذكرهم الآن؛ حيث يقول: ولكنني أرى هذا القسم المسكوت عنه، وهو الذي لا نعلم صدقه، ولا كذبه، لا تجوز روايته، بل يجب أن نتوقف في روايته، كما توقفنا في قبوله؛ لأن روايته توهم قبوله والتصديق به، وما دمنا قد توقفنا في قبوله، فمن الأحوط أن نتوقف كذلك في روايته، إذًا فالمقياس في القبول والرواية واحد، وهو ما ورد من نصوص في القرآن أو السنة، فما كان من الإسرائيليات موافقًا لذلك قبلناه وأجزنا روايته، وما كان منها مخالفًا لذلك رددناه أخذًا، وأبطلنا روايته، وما كان مسكوتًا عنه في ديننا؛ بحيث لا يكون في نصوص القرآن أو السنة ما يوافقه، ولا ما يخالفه توقفنا في قبوله؛ عملًا بالحديث الشريف، وأرى كذلك أن نتوقف في روايته قياسًا على توقفنا في قبوله وسدًّا للذريعة.
والحقيقة أن النفس تميل إلى عدم رواية الإسرائيليات فعلًا، أميل إلى رأي أستاذنا الدكتور عبد الوهاب فايد؛ لأن الروايات التي سكتت عنها شريعتنا، فالأولى أن نسكت عنها كذلك، فلا نؤيد ما يفعله كثير من المفسرين يأتون بالإسرائيليات المسكوت عنها، ويفسرون بها النص القرآني، فإن ذلك يوهم أو يعني تفصيلًا لما أجمل أو تبيينًا لما أبهم، وهذا يتنافى مع الحديث أيضًا:((لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم)).
نقول أيضًا: لا منافاة بين كون الرواية الإسرائيلية صحيحة السند أو حسنة أو ثابتة، وبين كونها من إسرائيليات بني إسرائيل وخرافاتهم، فهي صحيحة السند إلى ابن عباس أو إلى عبد الله بن عمرو بن العاص، أو إلى مجاهد أو عكرمة أو سعيد بن جبير، لكنها ليست متلقاة من النبي صلى الله عليه وسلم لا بالذات، ولا بالواسطة، إنما هي متلقاة عن أهل الكتاب الذين أسلموا، فثبوتها إلى من رويت عنه شيء، وكونها مكذوبة في نفسها أو باطلة أو خرافة شيء آخر.
بعض الأحاديث التي فيها موافقات وفيها مخالفات فيما مضى:
نقول: إن الحديث الذي أورده جابر فيما مضى، والذي رواه أبو هريرة أنهم كانوا يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها، نريد أن نلقي نظرة عابرة، الحديث الذي رواه جابر، والذي يفيد نهي المسلمين عن سؤال أهل الكتاب، السبب في نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك أن ثقافات أهل الكتاب لا يوثق بها؛ لأنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، وبدلوا الكتب التي أنزلها الله على رسلهم، وفيها اضطرابات وفيها بلبلة، فهذا النهي إنما هو في سؤالهم عما لا نص فيه؛ لأن شرعنا مكتف بنفسه، كامل مهيمن، لا ينقصه شيء، فإذا لم يوجد فيه نص، ففي النظر والاستدلال غنى عن سؤالهم، الذي يدخل فيه البعض.
أما حديث أبي هريرة الذي يفيد أن أهل الكتاب كانوا يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر المسلمين ألا يصدقوهم، ولا يكذبوهم، فيراد منه التوقف فيما يحدث به أهل الكتاب مما يكون محتملًا للصدق والكذب؛ إذ لا يتيسر لنا أن نميز فيما عندهم بين السالم من التحريف وغيره، ولذلك قال الحافظ ابن حجر: وخصص النهي هذا في هذا الحديث بقوله: ((لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم)) إلى آخره، ولذلك نبه على هذا الإمام الشافعي أيضًا فقال: وعلى هذا نحمل ما جاء عن السلف من ذلك.
أما الحديث الذي أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمرو، والذي يفيد أن النبي أباح للمسلمين أن يحدثوا عن بني إسرائيل، فهذه الإباحة بعد أن أصبح المسلمون لا يُخشى عليهم مما عند أهل الكتاب من أخبارهم، وإباحة التحدث عن بني إسرائيل إنما تنصرف إلى المسكوت عنه في شرعنا، ويحتمل الصدق والكذب، وعلى ذلك يحمل حديث عبد الله بن عمرو من الزاملتين اللتين أصابهما الكتيبين الذين وجدهما يوم اليرموك، أما ما يقطع بصدقه أو كذبه، فلا يحمل عليه هذا الإذن.
وقال الشافعي رحمه الله: من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجيز التحدث بالكذب، فقوله:((حدثوا عن بني إسرائيل)) أي: بما لا تعلمون كذبه، وأما ما تجوزونه، فلا حرج عليكم في التحدث به عنهم، وهو نظير قوله:((إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم)) ولا يرد الإذن ولا المنع من التحدث بما يقطع بصدقه.
مما تقدم نستنج أن الحكم تدرج من المنع إلى التوقف، ثم إلى الإذن بالحديث عنهم فيما لا يعلم صدقه أو كذبه، وكل مرحلة من هذه المراحل كان لها ما يدعو إليها، قال العلامة ابن حجر، يوفق بين تلك المراحل الثلاث: وكأن النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية والقواعد الدينية؛ خشيةَ الفتنة، ثم لما زال المحظور وقع الإذن في ذلك لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار.