المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الإسرائيليات التي وردت في قصة لوط عليه السلام - الدخيل في التفسير - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 التعريف بالدخيل في التفسير وأنواعه - الإسرائيليات (1)

- ‌تمهيد

- ‌تعريف الدخيل والأصيل

- ‌أنواع الدخيل، وفائدته

- ‌كيف نشأ الدخيل

- ‌معنى الإسرائيليات، والعلاقة بين الدخيل والإسرائيليات

- ‌الدرس: 2 الإسرائيليات (2)

- ‌أقسام الإسرائيليات:

- ‌أسباب تفشي الإسرائيليات، وخطورتها على أمة الإسلام

- ‌أقطاب الرواية الإسرائيلية:

- ‌الدرس: 3 الإسرائيليات (2) - نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (1)

- ‌تابع أقطاب الرواية الإسرائيلية

- ‌نماذج من الإسرائيليات

- ‌الدرس: 4 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (2)

- ‌تسلل الإسرائيليات إلى كتب التفسير

- ‌حكم رواية الإسرائيليات

- ‌قصة موسى عليه السلام مع بنات شعيب، وما ورد في تعيين أسمائهم

- ‌الدرس: 5 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (3)

- ‌قصة عصا موسى عليه السلام، وقضية الأجلين

- ‌بعض مواقف موسى عليه السلام مع فرعون

- ‌قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش

- ‌قصة "إرم ذات العماد

- ‌فتنة سليمان عليه السلام

- ‌الدرس: 6 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (4)

- ‌المسوخ من المخلوقات في روايات بني إسرائيل

- ‌ما ورد في بناء الكعبة المشرفة

- ‌الإسرائيليات في قصة التابوت

- ‌شجرة طوبَى

- ‌الدرس: 7 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (5)

- ‌قصة ذي القرنين:

- ‌قصة يأجوج ومأجوج

- ‌قصة الذبيح ابن إبراهيم عليه السلام

- ‌الدرس: 8 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (6)

- ‌قصة سليمان عليه السلام

- ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة أيوب عليه السلام

- ‌الدرس: 9 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (7)

- ‌تعقيب على قصة "إرم ذات العماد

- ‌الإسرائيليات التي وردت في سؤال موسى ربه الرؤية

- ‌موقف موسى من ألواح التوراة، وغضبه عند إلقائها

- ‌الدرس: 10 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (8)

- ‌الإسرائيليات التي وردت في تفسير آية: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}

- ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة أصحاب الكهف

- ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة يوسف عليه السلام

- ‌الدرس: 11 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (9)

- ‌تابع الإسرائيليات التي وردت في قصة يوسف عليه السلام

- ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة المائدة

- ‌الدرس: 12 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (10)

- ‌تابع الإسرائيليات التي وردت في قصة المائدة

- ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة "بلقيس"، وما حدث لنبي الله سليمان عليه السلام

- ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة آدم عليه السلام

- ‌الدرس: 13 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (11)

- ‌تابع الإسرائيليات التي وردت في قصة آدم عليه السلام

- ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة نوح عليه السلام

- ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة داود عليه السلام

- ‌الدرس: 14 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (12)

- ‌تابع الإسرائيليات التي وردت في قصة داود عليه السلام

- ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة موسى عليه السلام

- ‌الدرس: 15 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (13)

- ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة إدريس عليه السلام

- ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة إلياس عليه السلام

- ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة إبراهيم عليه السلام

- ‌الدرس: 16 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (14)

- ‌تابع الإسرائيليات التي وردت في قصة إبراهيم عليه السلام

- ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة لوط عليه السلام

- ‌الدرس: 17 الدخيل في المنقول عن طريق الأحاديث الموضوعة (1)

- ‌تعريف الحديث الموضوع

- ‌علامات الحديث الموضوع

- ‌الدرس: 18 الدخيل في المنقول عن طريق الأحاديث الموضوعة (2) - نماذج من الأحاديث الموضوعة في التفسير (1)

- ‌تابع علامات الحديث الموضوع

- ‌حكم رواية الحديث الموضوع

- ‌الأحاديث الموضوعة في فضائل سور القرآن

- ‌ما جاء في فضل يونس عليه السلام، وما ورد في إهلاك قوم لوط

- ‌ما قيل عن عقوق الوالدين

- ‌الدرس: 19 نماذج من الأحاديث الموضوعة في التفسير (2)

- ‌تابع ما قيل عن عقوق الوالدين

- ‌الآثار والأحاديث الموضوعة والضعيفة في أسباب نزول الآيات

- ‌الدرس: 20 نماذج من الأحاديث الموضوعة في التفسير (3) - والدخيل في التفسير بالرأي

- ‌تابع الآثار والأحاديث الموضوعة والضعيفة في أسباب نزول الآيات

- ‌بعض القراءات الموضوعة

- ‌التفسير بالرأي

- ‌الدرس: 21 أنواع الدخيل في الرأي (1)

- ‌معنى الدخيل في الرأي

- ‌الدخيل عن طريق الفرق المبتدعة

- ‌الدرس: 22 أنواع الدخيل في الرأي (2)

- ‌تابع الدخيل عن طريق الفرق المبتدعة

- ‌الدخيل عن طريق الإلحاد

- ‌الدخيل عن طريق التفسير الصوفي

- ‌الدخيل عن طريق التفسير العلمي

الفصل: ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة لوط عليه السلام

القرآن الكريم؛ فما أجمله نقف عند إجماله، ولا نخوض أو نتطفل في التفاصيل؛ فالدخول في التفاصيل لم يرد بها قرآن، ولا نقل صحيح عن رسول صلى الله عليه وسلم.

‌الإسرائيليات التي وردت في قصة لوط عليه السلام

-

ننتقل إلى سيدنا لوط عليه السلام وبداية نبدأ بذكر نسبه عليه الصلاة والسلام فهو: لوط بن هاران - أخي إبراهيم - بن تارخ. آمن بإبراهيم واهتدى بهديه كما قال سبحانه: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} (العنكبوت: 26) وتبع لوط عليه السلام عمه إبراهيم في رحلاته فكان معه بمصر وأغدق عليه ملك مصر، كما أغدق على إبراهيم؛ فكثر ماله ومواشيه، ثم افترق من إبراهيم عن تراضٍ؛ لأن الأرض لم تتسع لمواشيهما -كلام موجود- ونزل إلى سدوم بلد في دائرة الأردن.

كان أهل هذا البلد -أهل سدوم- ذوي أخلاق سيئة رديئة، لا يستحيون من منكر يفعلونه، ولا يتعففون عن معصية يأتونها على رءوس الأشهاد، كما قال على لسان لوط عليه السلام وهو يعظهم وينهاهم {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} (العنكبوت: 29)؛ أي: كانوا يجاهرون بالمعاصي والأخطاء التي لا يُستحي امنها.

كان أهل هذه البلد يتربصون لكل داخل لمدينتهم من التجار، يجتمعون عليه من كل صوب، ويمدون أيديهم إلى بضاعتهم يأخذ كل واحد منها شيئًا قليلًا؛ حتى لا يبقى في يده؛ فإذا جلس، جلس حزينًا وجأر بالشكوى يأتي الواحد منهم ويقول: كل هذا لأني أخذت منك الشيء اليسير دونكه - يعني خذه - فيقول: ما عسى أن ينفعني ما جئت به بعد أن ذهبت بضاعتي، اذهب عني بهذا الذي جئت به؛ فإذا انصرف جاء آخر بشيء تافه يريد رده عليه، فيتركه الرجل لزهادة ما أتى

ص: 313

به وينصرف، وهكذا يخسر الرجل بضاعته؛ لتفرقها في الأيدي الكثيرة -يعني كانوا سرقة- وكانوا أصحاب منكرات وفواحش، فهم كما قال الله تعالى عنهم:{وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} (العنكبوت: 29) إلى آخر الآيات.

أهل هذا البلد كانوا ظلمة؛ ومن دلائل ظلمهم واستغراقهم فيه أن سارة زوجة إبراهيم أرسلت لعازر كبير عبيد إبراهيم؛ ليأتيها بسلامة لوط؛ فلما دخل مدينة سدوم لقيه رجل من أهلها؛ فعمد لعازر بحجر ضربه به في رأسه؛ فأسال منه دمًا كثيرًا، ثم تعلق به قائلًا: إن هذا الدم لو بقي لأضر بك، فأعطني أجري ثم آل الأمر بينهم إلى الترافع إلى قاضي سدوم، فلما سمع الخصمين حكم لعازر بأن ي ُ عطي للسدومي أجر ما ضربه بالحجر وأسال دمه؛ فلما رأى لعازر الجور من القاضي والخصم في أمره؛ عمد إلى حجر ضرب به رأس القاضي؛ فأسال دمه وقال: له الأجر الذي وجب لي عليك بإسالة دمه، عليك أن تعطيه لضاربي السدومي جزاء ضربه إياي وإسالة دمي. هذه الحكاية مع احتمال وضعها تفيدنا معرفة الفكر العام في أحوال هؤلاء الناس، وأنهم من الشرّ بحيثُ يصلحون أن تسند إليهم أمثالها؛ فهم يحرفون الكلام، ويغيرون

إلى آخره.

هيا بنا ننتقل إلى إبراهيم عليه السلام مع لوط عليهما السلام؛ إن الملائكة أخبرت إبراهيم أنهم ذاهبون للانتقام من قوم لوط الذين هم أهل هذا البلد؛ أهل سدوم وعامورة؛ فخاف إبراهيم أن يُمسّ لوط بأذى؛ فأخبروه بأنه ناج هو ومن آمن معه، ثم أخبروه -أي: الملائكة- بأن وقوع العذاب بالقوم أمر حتمي لا تقبل فيه شفاعة، ولا يغني جدال؛ الآيات:{يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُود} (هود: 76).

ص: 314

ولنبدأ قصة لوط كما ذكرت في القرآن؛ ذ ُ ك ِ ر َ ت قصة لوط في القرآن بتمامها في عدة سور يكمل بعضها بعضًا، وتتلخص في أن قوم لوط كانوا من الشر بمكان، وأنهم كانوا يقطعون الطريق على السابلة؛ أي: على الناس الذين يمرون، وقد ذهب الحياء من وجوههم؛ فلا يستقبحون قبيحًا، ولا يرغبون في حسن كما قال الله تعالى حكاية عنهم:{وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَر} .

وكانوا قد ابتدعوا من المنكرات ما لم يسبقهم إليه أحد من خلق الله؛ وذلك أنهم كانوا يأتون الذكران من العالمين شهوة من دون النساء، ويستعلنون بذلك ولا يستترون -معاذ الله- ولا يرون في ذلك سوءًا أو قبيحًا، وأنّ لوطًا قد وعظهم ونصحهم ونهاهم وخوفهم بأس الله تعالى؛ فلم يأبهوا له ولم يرتدعوا، فلما ألح عليهم بالعظات والأنذار هددوه تارة بالرجم، وتارة بالإخراج من بينهم، إلى أن جاء إلى لوط الملائكة؛ وقد جاءوا إليه بهيئة غلمانٍ مُرد حسان الوجوه؛ فجاء أهل القرية إلى لوط طالبين ضيوفه؛ ليفعلوا فيهم الفاحشة، وقد جهد لوط في ردّهم وبالغ في ذلك؛ حتى طلب إليهم أن يأخذوا بناته فلم يصغوا إليه حينئذٍ؛ يعني: طلب منهم أن يتزوجوا بناته فلم يصغوا إليه، حينئذٍ التفت لوط إلى الملائكة وقال: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد؛ لجاهدتهم بكم وأوقعت بهم ما يستحقون، وكان لا يعلم أنهم ملائكة إلى ذلك الحين، وحينئذٍ أعلمه الملائكة بحقيقة أمرهم، وأنهم جاءوا للتنكيل بأولئك القوم، ولما حاول أهل القرية أخذ أولئك الغلمان المردان بالقوة، وهجموا على بيت لوط؛ طمس الله أعينهم فلم يبصروا، ولم يهتدوا إلى مكان يقتحمون منه عليه وعلى من معه.

ثم أخرج الملائكة لوطًا وابنتيه وزوجه من القرية، وأمروهم أن لا يلتفت منهم أحد، وأن يحضروا حيث يؤمرون؛ فصدعوا بالأمر إلا امرأته؛ فالتفت إلى القرية لترى ما يحل بها، وكان هواها في أهل القرية دون لوط؛ فحل بها من السخط

ص: 315

والعذاب ما حل بهم، وكانت كافرة غير مؤمنة؛ فأمطر الله عليهم حجارة من سجيل، وقلبت ديار القوم، وجعل عاليها سافلها.

ونعتقد أن البحر الميت المعروف الآن ببحر لوط وبحيرة لوط لم يكن موجودًا قبل هذا الحادث، وإنما حدث من الزلزال الذي جعل عالي البلاد سافلها، وصارت أخفض من س طح هذا المكان بنحو أربعة مائة متر، وقد اكتشفوا آثار قوم لوط على حافة البحر الميت، كما ذكر أصحاب قصص الأنبياء.

القول الصحيح في عرض لوط عليه السلام بناته على هؤلاء الفسقة:

قال تعالى في هذه القصة: {قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي} (الحجر: 68) الكلام على لسان سيدنا لوط: {قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُون * وَاتَّقُوا اللهَ وَلَا تُخْزُون * قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِين * قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِين} (الحجر: 68 - 71).

القول الصحيح: إن لوطًا عرض على هؤلاء الفسقة بناته عرضًا سابريًّا؛ أي: عرضًا غير مؤكد، السابري هو نوع من أنواع الب ز النسج فيه متلاحم، وبائعه لا يلح في عرضه، ولا يزينه، كأنه عرض عرضًا غير مؤكد، ويعني كان عرض بناته على ما يوافق الشرع، إذا تريدوا الشهوة تزوجوا البنات، وإن كان البعض ذكر أنه عرضهم عليهم من باب ذر الرماد في العيون؛ ولكنه عرض بناته عليهم على أمل أنهم يستحيون منه، ويبتعدون ويخجلون؛ لينكفوا عن خزايته في ضيفه، بعض المفسرين يقول: كما تقول لرجل يضرب آخر وأنت تحجزه عنه، تقول له: دعه واضربني أنا؛ لأنك تقول هذا القول وأنت واثق أنه لن يضربك، هذا كلام على كل حال موجود في كتب التفاسير.

ص: 316

ولكننا نربأ بسيدنا لوط أن يعرض بناته على قومه الفسقة الفجرة عرض شهوة، كما كانوا يقعون في الفواحش، لعله قال: هؤلاء بناتي تزوجوهم، وتقضى الشهوات في الحلال، ولكنهم قوم ألفوا الفسق والفجور؛ إلى آخر الكلام، وهذا القول أورده كثير من المفسرين.

هناك أقوال باطلة حول هذه الآيات {قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِين} منها أن لوطًا لم يعرض عليهم بناته الصلبيات؛ وإنما عرض عليهم بنات القرية، وهـ ن أزواجهم؛ لأن كل نبي أرسل إلى قوم فأولادهم أبنا ؤ هـ ونساؤهم بناته مجازًا؛ إذ كيف يكون لوط أبًا لهؤلاء الكافرات غير المؤمنات، وكيف يعبر عنهن ببناتي وهنّ يأبون أبوته، ويكفُرنه ويجحدون نبوته ورسالته؟! هذا قول من الأباطيل والدخيل.

ثانيًا: نقول: إن الملائكة الذين طمع فيهم هؤلاء الفجرة، كانوا ثلاثة؛ ولا يُعقل أن يكون كل واحد من أهل القرية الذين جاءوا إليه يزفون، يأمل أن ينال حاجته منهم، وأهل القرية آلاف أو يزيدون، ولكن المعقول أنه كان هناك رئيسان مطاعان أو ثلاثة في القوم، وهم الذين يطلبون الملائكة، وإنما عبر بأهل القرية لمظاهرتهم لهم حتى يتم مرادهم؛ فعرض لوط على القوم لبناته أو لبنتيه الصلبيتين؛ ليأخذوهما بطريق التزوج لا على سبيل الفاحشة أو المنكرات.

ثالثًا: نقول: ما مرجع كاف الخطاب: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيد} (هود: 80) إنّ مرجع الكاف إلى قومه؛ الذين جاءوا يهرعون إليه، والمعنى لو أجد قوة تمكنني من صدكم، وإحلال النكال بكم؛ لفعلت.

2 -

لو أن مرجع الخطاب هم الملائكة؛ وعلى ذلك فإن لوطًا تمنى لو كان عدد ضيوفه كثير؛ ليجد بهم قوة على مجاهدة قومه، وكفهم والإيقاع بهم، هذا كلام موجود على كل حال.

ص: 317

نعود فنبين كرم أصل سيدنا لوط ور عايته للجار، ومجادلة إبراهيم عن قوم لوط:

دلت الآيات في قصة لوط عليه السلام على أنه كريم، وأنه يرعى حق الجار؛ لمّا أراد قومه سوءًا بضيوفه قام يدفع عنهم، ويدافع أهل بلده دونهم؛ فقال أبو سعود في هذه الآيات: إنه إذا أخذ ضيف الرجل أو جاره؛ فقد خزي الرجل، ولذلك من عراقة الكرم وأصالة المروءة وظلم الجار إذلال المجير.

تدل أيضًا القصة على أن لوطًا كان عظيم الإيمان، مطمئن القلب؛ حتى إنه لم يحتج من عمه إلى ال معالجة، وأنه في سبيل الإيمان بالله رضي بأن يهاجر من وطنه، وينتقل عنهم.

نعود إلى المجادلة لإبراهيم عن قوم لوط:

كان إبراهيم عليه السلام رجلًا رقيق القلب؛ فلما علم أن قوم لوط هالكون، وأنّ العذاب نازلٌ بهم، وأن الملائكة قادمون لإنفاذ الأمر فيهم، أخذته شفقة عليهم؛ فأخذ يجادل في شأن قوم لوط، ويطلب الرحمة ويرجو أن ينظر الله إليهم نظر رحمة، قال تعالى:{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوط * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيب} (هود: 74، 75) هذه المجادلة عنهم لم تفصل في القرآن الكريم، وقال تعالى:{وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيب} (هود: 77) وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُود * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيد} (هود: 82، 83).

عند تفسير الآية الأولى؛ ذكر أبو السعود وغيره عن مجادلة إبراهيم للملائكة؛ فقال: ومجادلته إياهم هو أنه قال لهم حين قالوا له: إنا مهلكو أهل هذه القرية،

ص: 318

قال: أرأيتم لو كان فيها خمسين رجلًا من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا: لا، قال: فأربعون قالوا: لا، قال: فثلاثون، قالوا: لا حتى بلغ العشرة، ف قالوا: لا، قال: أرأيتم إن كان فيها رجلًا مُسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا، فعند ذلك قال: إن فيها لوطًا؛ قالوا: نحن أعلم بمن فيها؛ لننجينه وأهله.

وعند تفسيره للآية الثانية؛ تحدث عن ذهاب الملائكة إلى لوط عليه السلام الآية الثانية أنهم أتوه؛ فقال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: انطلقوا من عند إبراهيم عليه السلام وبين القريتين أربعة فراسخ، ودخلوا عليه في صورة غلمان، أو في صور غلمان مُرد حسانٍ؛ فلذلك سيء بهم، أي: ساءه مجيئهم؛ لظنه أنهم أناس فخاف أن يقصدهم قومه، ويعجز عن مدافعته عنهم، وروي أن الله تعالى قال للملائكة: لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات؛ فلما مشى معهم منطلقًا بهم إلى منزله، قال لهم: أما بلغكم أمر هذه القرية؟ قالوا: وما أمرها؟ قال: أشهد بالله أنها لشر قرية في الأرض عملًا، يقول ذلك أربع مرات فدخلوا معه منزله، ولم يعلم بذلك أحد.

وعند تفسيره للآية الثالثة؛ ذكر أن عدد قرى لوط كانت خمسًا؛ فقال: قرى قوم لوط وهي التي عبر عنها بالمؤتفكات خمس مدائن، فيها أربعمائة ألف ألف، ثم تحدث عن كيفية هلاك قوم لوط، فقال: روي أنه جعل جبريل عليه السلام جناحه في أسفلها ثم رفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة، ثم قلبها عليهم. هذا الكلام موجود في (تفسير أبي السعود) الجزء الرابع في تفسير هذه الآيات، وذكره غيرهم.

وإلى بيان ما في ذلك من دخيل:

ما ذكره أبو السعود بشأن العدد الذي جادل عنه إبراهيم الملائكة لا يُعول عليه؛ لما فيه من التناقض بين مروياته؛ إذ إن رواية أبي سعود التي تذكر أن إبراهيم

ص: 319

جادلهم بعدد أقصاه خمسين، ثم أخذ ينقص منه؛ حتى بلغ عشرة فإنها تختلف مع العدد الذي ذكره ابن جرير الطبري في ت فسيره من رواية السدي؛ حيث ذكر أن إبراهيم جادلهم في مائة من المسلمين، ولم يزل يحطّ حتى بلغ عشرة، وكذا من رواية ابن جرير أنه جادلهم في مائة أيضًا؛ حتى هبط إلى خمسة، بينما نجد الحافظ ابن كثير يذكر في رواية ابن إسحاق وآخرين أن مجادلة أبينا إبراهيم لهم كانت في ثلاثمائة، وما زال يُنقص حتى بلغ معهم إلى مؤمن واحد، ويذكر ابن عباس وغيره أن إبراهيم عليه السلام جادلهم في أربعمائة، وأخذ ينقص منهم حتى بلغ أربعة عشر. انظر (قصص الأنبياء).

وهكذا ن جد تعارضًا وتضاربًا واضحًا في تعيين العدد الذي جادل عنه إبراهيم الملائكةَ مما يدل دلالة واضحة على أن تلك الروايات إنما هي من اجتهاد الرواة، ولذلك قال العلامة الإمام ال ألوسي في التعقيب على ما ذُكر: وروي نحو ذلك عدة روايات الله أعلم بصحتها.

على أن تلك المجادلة التي ذكرها المفسرون؛ لم تفصل في القرآن الكريم، ولا في سنة النبي العظيم محمد -عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم- وإنما فصلت في الكتب المحرفة عند اليهود، جاءت هذه التفاصيل في الإصحاح الثامن عشر من سفر التكوين؛ فمن العبارات هذا نصها: فتقدم إبراهيم وقال: أفتهلك البار مع الأثيم على أن يكون خمسون في المدينة، أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين الذين فيه؟ حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر، أن تميت البار مع الأثيم؛ فيكون البار كالأثيم، حاشا لك، فقال الرب: إن وجدتُ خمسين بارًّا في المدينة؛ فإني أصفح عن المكان كله من أجلهم؛ فأجاب إبراهيم وقال: إني شرعت أكلم المولى، وأنا تراب ورماد ربما نقص الخمسون بارًّا خمسة أتهلك كل

ص: 320

المدينة بالخمسة، فقال: لا أهلك إن وجدت هناك خمسة وأربعين. الكلام الذي نقله المفسرون نقلًا عن التوراة، وهو كلام متناقض؛ خمسين أربعين ثلاثين عشرين؛ إلى أن قال: لا أهلك من أجل العشرين، فقال: لا يسخط المولى؛ فأتكلم هذه المرة، فقال: عسى أن يوجد هناك عشرة؛ فقال: لا أهلك من أجل العشرة.

من هذا يتضح أن هذه المجادلات منقولة نص ًّا عن التوراة، وما أكثر التحريف والتناقض والأباطيل التي فيها.

وحاصل المسألة: أن القرآن الكريم لم يبين ما جادل به إبراهيم والملائكة في قوم لوط، ولكن القرآن أشار إليه في سورة " العنكبوت " بقوله:{قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِين * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَاّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِين} (العنكبوت: 31، 32).

فحاصل جداله لهم: أنه يقول: إن أهلكتم القرية وفيها أحد من المؤمنين أهلكتم ذلك المؤمن بغير ذنب، فأجابوه عن هذا بقولهم:{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا} الآية. ومنه يفهم أن المجادلة كانت تعني شخص نبي الله لوط عليه الصلاة والسلام والله تعالى أعلى وأعلم.

أما ما ذكره أبو السعود: من أن العذاب لم ينزل بهؤلاء القوم حتى شهد عليهم لوطٌ عليه السلام أربع شهادات بأنهم شرُّ قومٍ عملًا؛ فذلك أمر يثير الدهشة والتساؤل، من كان هناك فشاهد هذه الأحداث؛ ليشهد عليها الآن، وهب أن لوطًا عليه السلام لم يدل ِ بشهادته -كما هو الزعم أنه شهد- فهل كان الرسل الذين أرسلهم الله لإهلاك الغابرين يعودون إلى حيث أتوا دون أن يقوموا بما كُلفوا به، وهم الذين قالوا لإبراهيم:{إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِين}

ص: 321

فهل احتاج نزول العذاب بهؤلاء إلى شهادة رُسلهم أمام الملائكة؛ نقول: إن هذا الكلام الذي ذكره أبو السعود والمفسرون؛ وسبقه إليه ابن كثير حيث أورده من رواية قتادة والسدي؛ هذا الظن أنه منقول عن أهل الكتاب.

وكذلك بالنسبة لعدد قرى قوم لوط؛ سواء كانت خمس مدائن، أو أقل أو أكثر؛ هذا كلام يحتاج إلى دليل؛ إذ إ ن ظاهر التنزيل والآيات يدل على أنها كانت قرية واحدة، قال - جلت قدرته -:{إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} وقال - جلت حكمته -: {إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُوا يَفْسُقُون} (العنكبوت: 34) وخير ما يفسر به القرآن هو القرآن.

وما ذكره المفسرون عن كيفية هلاك قوم لوط من أن جبريل جعل جناحه في أسفل القرية ثم رفعها إلى السماء حتى سمع نباح الكلاب وصياح الديكة ثم قلبها عليهم دون أن ينسب هذا القول لقائل هو من رواية السدي؛ كما ذكر ابن كثير وذكر ابن الجوزي أيضًا في تفسيريهما، وهذا يدل على أنه من الإسرائيليات المنقولة عن أهل الكتاب.

وه ذ اهو صاحب (فتح القدير) الإمام الشوكاني يُبَيّن لنا أن ما ذكره المفسرون من ال روايات ليس في ذكره فائدة؛ وغالبه مأخوذ عن أهل الكتاب، وقد ذكر المفسرون -هذا قوله- روايات وقصصًا في كيفية هلاك قوم لوط طويلة متخالفة، وليس في ذكرها فائدة؛ لا سيما وبين من قال بشيء من ذلك وبين هلاك قوم لوط دهرٌ طويل لا يتيسر له في مثله إسنادٌ صحيح، وأكثره مأخوذ عن أهل الكتاب، وقد أُمرنا بألا نصدقهم، ولا نكذبهم؛ فاعرف هذا أخا الإسلام؛ فهي روايات من قصص الأنبياء؛ ليس لها مصدر ولا توثيق.

ص: 322

يقول صاحب (تفسير المنار) الشيخ محمد رشيد رضا: وفي خرافات المفسرين المروية عن الإسرائيليات: أن جبريل عليه السلام قلعها من تخوم الأرض بجناحه، وصعد بها إلى عنان السماء حتى سمع أهل السماء أصوات الكلاب والدجاج فيها، ثم قلبها قلبًا مستويًا؛ فجعل عاليها سافلها، وهذا تصورٌ مبني على اعتقاد متصوره: أن الأجرام السماوية المأهولة بالسكان مما يمكن أن يقرب سكان الأرض وما فيها من الحيوان، ويبقون أحياء.

وقد ثبت بالمشاهدة والاختبار الفعلي أن الطيارات والمناضيد التي تحلق في الجو؛ تصل إلى حيث يخف ضغط الهواء ويستحيل حياة الناس فيها، وهم يصنعون أنواعًا منها يضعون فيها من الأكسجين وكذا وكذا، وقد أشير في الكتاب العزيز إلى ما يكون للتصعيد في جو السماء من التأثير في ضيق الصدر بقوله:{فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} (الأنعام: 125).

فإن قيل: إن هذا الفعل المروي عن جبريل عليه السلام من الممكنات العقلية، وكان وقوعه من خوارق العادات؛ فلا يصح أن يجعل تصديقه موقوفًا على ما عرف من سنن الكائنات. قال، أي صاحب (المنار): نعم؛ ولكن الشرط الأول لقبول الرواية في أمرٍ جاء على غير السنن والنواميس التي أقام الله بها نظام العالم من عمران وخراب أن تكون الرواية عن وحي إلهي نقل بالتواتر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم أو بسند صحيح متصل الإسناد لا شذوذ فيه ولا علة على الأقل، ولم يذكر في كتاب الله تعالى شيء من هذا، ولم يرد فيه حديث مرفوع إلى نبيه -صلوات الله وسلامه عليه- ولا تظهر حكمة الله فيه، وإنما روي عن بعض التابعين دون الصحابة، ولا شك أنه من الإسرائيليات.

ص: 323

ومما قالوه فيها: إن عدد أهلها كان أربعة ملايين، وبلاد فلسطين كلها لا تتسع لهذا العدد؛ فأين كان هؤلاء الملايين يسكنون من تلك القرى الأربع. والله تعالى أعلم بهذا الكلام. انتهى كلام الشيخ محمد رشيد رضا (تفسير المنار) الجزء الثاني عشر.

ونخلص إلى أن ما ذكره القرآن الكريم موجز، وإشارات ليس فيها توسع ولا تفصيل لما نقل من الإسرائيليات، وتأمل أخا الإسلام؛ جبريل أتى ليزيل القرية معه قرار الإزالة والدمار، ورغم ذلك تجرأ أهل القرية وتمادوا في باطلهم وفي منكراتهم وفي فواحشهم؛ ألا يستحقون هذا العقاب الأليم، أن الله جعل عاليها سافلها، وأمطر عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد، وهكذا من ينكر شرائع الله ومن يكذبها ومن يتمرد على طاعة الله يستحق هذا العقاب الأليم.

وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والله أعلم.

ص: 324