الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أقطاب الرواية الإسرائيلية:
إن الذين نقل لنا عنهم هذه الإسرائيليات هم عدد ليس قليلًا، إنهم عرفوا بأن بعضهم كان من الصحابة، وبعضهم كان من التابعين، نستطيع أن نقول: إن المشهور من هؤلاء بما نسميهم أقطاب الرواية الإسرائيلية، في مقدمتهم مَن نقل عنهم بعض الإسرائيليات: عبد الله بن عباس، وأيضًا أبو هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأيضًا عبد الله بن سلام الذي كان من أهل الكتاب وأسلم، وأيضًا اشتُهِرَ عن كعب الأحبار، وعن وهب بن منبه.
واشتهر أيضًا من تابعي التابعين: محمد بن السائب الكلبي، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، ومقاتل بن سليمان، ومحمد بن مروان السدي الصغير، هؤلاء جماعة نقل عنهم الكثير والكثير.
أما عبد الله بن عباس، فهو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم حَبر الأمة وبحرها، وهو صاحب الرصيد الأكبر في علم التفسير من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دعا له النبي دعوة خاصة عندما قال:((اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل)).
هل كان ابن عباس يرجع إلى الإسرائيليات، أو يفسر بعض الآيات القرآنية بالإسرائيليات؟
لقد اتهم بأنه كان يفسر بعض الآيات من خلال الإكثار من الأخذ عن أهل الكتاب، وأنه كان يصدقهم فيما يقولون مخالفًا بذلك التعاليم التي وردت عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم. من أبرز من اتهمه بذلك المستشرق الشهير اليهودي "جولد زيهر" وأيضًا تبعه أحمد أمين، ولهؤلاء كلام كثير عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه ونحن عندما ندافع عن عبد الله بن عباسٍ رضي الله عنه وهو حبر الأمة، نقول: إن رجوعه إلى مسلمي أهل الكتاب لم يكن بهذه الكثرة التي يحاول أعداء الإسلام أن يصوروها لنا، بل كان ما نقله ابن عباس قليلًا بل أقل القليل، بل إننا لا نتجاوز الصدق إذا قلنا: إن ما نقله كان قليلًا جدًّا.
ثانيًا: إن هذا النادر الذي حدث فيه رجوع من الصحابة لأهل الكتاب، لم يكن في أمرٍ يتعلق بالعقيدة أو أمور التشريع، وإذا حدث فكان على سبيل الاستشهاد والتقوية لما جاء في بعض الآيات، ولم يكن يتعلق بأصول العقيدة، ولا بأصول التشريع.
ثالثًا: إن الصحابة لم يسألوا أهل الكتاب عن شيء كان للرسول صلى الله عليه وسلم فيه كلام، فالصحابة أجل من أن يقدموا بين يدي الله ورسوله شيئًا، بل كانوا يأخذون على سبيل الاستشهاد فقط.
رابعًا: إن الصحابة -وخاصة ابن عباس- كانوا ينهون عن سؤال أهل الكتاب؛ لأن أهل الكتاب حرفوا وغيروا وبدَّلوا، وزالت الثقة تمامًا عنهم، فلم يبقَ في الدنيا كتاب سماوي صحيح إلا القرآن، وهو المهيمن على ما عداه من الكتب السابقة، وفيه غُنية عما سواه.
أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباسٍ رضي الله عنها قال: "يا معشر المسلمين، تسألون أهل الكتاب؟ وكتابكم الذي أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار بالله
تقرؤونه لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله، وغيروا بأيديهم الكتاب فقالوا: هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم، ولا والله ما رأينا رجلًا منهم قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم".
أما ما يذكره هؤلاء الأفاكون من أن ابن عباس سأل عن معنى البرق الوارد في سورة الرعد، فإن هذا على فرض ثبوته لا يتعلق بالعقيدة أو أصول التشريع، وإذا نظرنا إلى هذا الحديث وجدناه ضعيفًا، ولا يصح.
هذا ما يتعلق بعبد الله بن عباس الصحابي الجليل.
أما أبو هريرة الذي كناه الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الكنية الطيبة، فكانت له حافظة قوية، وكان حفظه الجيد سببًا في طعن الطاعنين عليه، قالوا: إنه كان مكثرًا، وأنه كان وعاء علمٍ لثقافة أهل الكتاب، من هؤلاء الطاعنين عليه: أبو رَية حيث نص صراحةً في كتابه (أضواء على السنة المحمدية) فقال: إن أبا هريرة كان أكثر الصحابة وثوقًا بمسلمي أهل الكتاب، وأخذًا عنهم، وانقيادًا لهم، وإن كعب الأحبار، الذي أظهر الإسلام خداعًا، وطوى قلبه على يهوديته!!. وهذا افتراء من أبي رية على كعب، وعلى أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين-.
الرد على هذا، نستطيع أن نوجز فيما يلي:
إن أبا هريرة لم يكن ساذجًا بالمرة إلى هذا الحد، والدليل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستعمله على حراسة أموال الزكاة، وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد ولاه إمارةَ البحرين، وكان أبو هريرة يتصدى للفتوى، وأخذ كثير من الصحابة
والتابعين العلم عنه. قال الإمام البخاري -فيما ذكر ابن حجر في (الإصابة) -: روى عنه الثمانمائة من أهل العلم، وكان أحفظ مَن روى الحديث في عصره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما ما كان يسمعه أبو هريرة من كعب الأحبار، فإن ذلك لا يطعن في أبي هريرة، ولا يدل على سَذاجته؛ لأن أبا هريرة والصحابة كانت لهم مقاييس خاصة ومعايير صحيحة في كل ما يسمعونه، كما روينا عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم ومن هذا أنهم كانوا يُعْمِلون عقولَهم فيما يسمعون وفيما ينقلون عن غيرهم.
أما الروايات التي تروي أن أبا هريرة، أو تنسب إليه، فإنها تعامل كروايات غيره، توضع على قواعد القبول والرد، فما كان صحيحًا قُبِلَ، وما كان ضعيفًا فلا بأس برده.
عبد الله بن عمرو بن العاص: ذلك الصحابي الجليل، أثنى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال:((نعم أهل البيت: عبد الله، وأبو عبد الله، وأم عبد الله)) هذا وارد في كتاب (تهذيب التهذيب) أسلم قبل أبيه، وكان عالمًا فاضلًا قرأ القرآن والكتب السابقة، واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في أن يكتبَ عنه، فأذن له، فقال:"يا رسول الله: أكتب ما أسمع في الرضا والغضب؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((نعم، فإني لا أقول إلا حقًّا)) ".
كانت لعبد الله بن عمرو هذه المكانة السامية، ولما كانت له هذه المكانة وجدنا كثيرًا من الروايات الإسرائيلية تُنسب إليه؛ حتى تأخذ مكانتها من الذيوع والشهرة، رغم اشتمالها على الغَث والسمين والصحيح والباطل، فوجدنا من يطعن فيه ويعتبره مخدوعًا من مسلمة أهل الكتاب ككعب الأحبار.
يقول أبو رية: في كتابه (أضواء على السنة): إن عبد الله بن عمرو بن العاص خدعه اليهود، ودل على هذا بحديث البشارة بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصف الحديث بأنه خرافة إسرائيلية امتدت وسرت إلى عبد الله بن عمرو بن العاص من أحد تلاميذ كعب الأحبار.
هذا الكلام يمكن رده ودفعه: إن الحديث الذي وصف بأنه خرافة أو أنه من وضع عبد الله بن سلام وكعب الأحبار حديث صحيح، شهد له القرآن الكريم، وجاء في أصح مصادر السنة، وهو (صحيح البخاري) ففي القرآن الكريم يقول الله -تعالى-:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثََ} (الأعراف: 156، 157) إلى آخر الآيات.
أما الحديث في البخاري فقد جاء في كتاب التفسير: باب قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (الأحزاب: 45) جاء الحديث عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أن هذه الآية التي في القرآن:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} قال: في التوراة: يا أيها النبي إن أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وحِرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل
…
". إلى آخر الحديث.
فهل يعقل أن هذا الحديث خرافة، كما يدعي أبو رية وغيره، هذا كلام ليس صحيحًا.
عبد الله بن سلام: ذلك الصحابي الجليل المشهود له بالجنة، وهو من الذين أسلموا من أهل الكتاب، عبد الله بن سلام بن الحارث أبو يوسف، من ذرية يوسف النبي عليه السلام حليف القوافل من الخزرج، وهو إسرائيلي، ثم أنصاري، حبر عظيم من أحبار اليهود، دخل الإسلام عندما قدم رسول الله إلى المدينة -صلوات الله وسلامه عليه- شهد له القرآن بالإيمان والصدق، فقد نزل فيه قول الله:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} (الأحقاف: 10).
وروى الإمام البخاري في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص قال: "ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد إنه يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام. قال: وفيه نزلت هذه الآية: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} ".
وأعرف أنه نزلت فيه آية أخرى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (الرعد: 43).
رغم هذه المكانة العظيمة لابن سلام طعن عليه المغرضون كأبي رية في كتابه (أضواء على السنة المحمدية) بمثل ما طعن في عبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم من الصحابة الأجلاء، ويذكر حديث البشارة بالنبي بأنه خرافة، وسبق أن بينا صحة الحديث وثبوته في (صحيح الإمام البخاري).
تميم بن أوس الداري: هذا الذي قدم المدينة فأسلم سنة تسعٍ، وهذا الصحابي الجليل الذي طعن فيه أبو رية وغيره، قال عنه: إنه لوث الإسلام بالمسيحية. وهذا قول مخالف للحقيقة، فلقد كان تميم صادقًا عَدْلًا، ومن أهل العلم، ووأهل الفن هم علماء الجرح والتعديل، وهم أدرى به حيث وثَّقوه وعدلوه، ورووا له في أصح كتب السنة.
أما ما يروى عنه أو ينسب إليه من رواياتٍ، فشأنها شأن كل المرويات المختلفة تعرض على قواعد القبول والرد، فما كان منها صحيحًا قبل، وما كان ضعيفًا يُرد، ولا وزر ولا ذنب لتميم فيها، إنما الوزر على من نسبها إليه وروجها عنه.
هذا ما اشتهر من أقطاب الرواية الإسرائيلية، ونسب إليهم هذا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما طبقة التابعين، فهم أيضًا عدد لا بأس به، نستطيع أن نوجز القول عن اثنين منهم، ألا وهما كعب الأحبار، وهو كعب بن مانع الحميري، المعروف بكعب الأحبار، ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام، وقال عنه: كان على دين اليهودية فأسلم، قدم المدينة، ثم خرج إلى الشام، فسكن حمص حتى توفي سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان رضي الله عنه.
رماه بعد المعاصرين بالزندقة والنفاق والكذب، كما حدث من أبي رية وأحمد أمين، ومَن سار في فلكهم، والحقيقة: إن هذه الاتهامات مردودة على أصحابها، والرد عليها بشهادة الصحابة له وثنائهم عليه، قال عنه معاوية:"ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء، إن كان عنده لعلم كالثمار، وإن كنا فيه لمفرطين".
وثقه علماء الجرح والتعديل، روى له الأئمة الكبار الذين دونوا السنة، كالإمام مسلم والترمذي وأبي داود والنسائي، وغيرهم كثيرون.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.