الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مما يدل دلالة قاطعة على أن مفسر القرآن في غنية عن الإسرائيليات التي شوهت جمال القرآن الكريم.
الإسرائيليات التي وردت في قصة "بلقيس"، وما حدث لنبي الله سليمان عليه السلام
-
ننتقل بعد ذلك إلى ما نقل في قصة ملكة سبأ وما حدث لنبي الله سليمان عليه السلام استكمالًا لما قد مضى في شأن سليمان والهدهد وما جرى، والآيات لسليمان ذكرت في أكثر من موضع، وفي كل موضع ذكر المفسرون بعض الإسرائيليات، وها نحن الآن أمام قول الله -جل وعلا- في قصة بلقيس ملكة سبأ في الآيات؛ وهي قوله:{قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} (النمل: 44).
ذكر ابن جرير والثعلبي والبغوي والخازن وغيرهم أن سليمان أراد أن يتزوجها، فقيل له: إن رجليها كحافر الحمار، وهي شعراء الساقين، فأمرهم فبنوا له هذا القصر على هذه الصفة؛ فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها لتخوضه؛ فنظر سليمان فإذا هي أحسن الناس قدمًا وساقًا إلا أنها كانت شعراء الساقين؛ فكره ذلك؛ فسأل الإنس: ما يذهب هذا؟ قالوا: الموسى - أي: الآلة الصغيرة التي تزيل الشعر، فقالت بلقيس: لم تمسني حديدة قط، وكره سليمان ذلك خشية أن تقطع ساقيها، فسأل الجن؛ فقالوا: لا ندري، ثم سأل الشياطين؛ فقالوا: إنا نحتال لك حتى تكون كالفضة البيضاء؛ فاتخذوا لها النورة - مادة يزال بها الشعر - والحمام؛ فكانت النورة والحمام من يومئذٍ.
وقد روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنه ا - ومجاهد وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي والسدي وابن جريج وغيرهم، وروى أيضًا أنها سألت سيدنا سليمان عن أمرين، قالت له: أريد ماء ليس من أرض ولا من سماء؛ فسأل سليمان الإنس ثم الجن ثم الشياطين؛ فقالت الشياطين: هذا هين أجري الخيل ثم خذ عرقها ثم املأ منه الآنية؛ فأمر بالخيل فأجريت، ثم أخذ العرق، فملأ منه الآنية، فسألته عن لون الله عز وجل فوثب سليمان عن سريره وفزع من السؤال، وقال: لقد سألتني يا رب عن أمرٍ إنه ليتعاظم في قلبي أن أذكره لك، ولكن الله أنساه وأنساهم ما سألته عنه، وأن الشياطين خافوا لو تزوجها سليمان وجاءت بولد أن يبقوا في عبوديته؛ فصنعوا له هذا الصرح الممرد فظنته ماءً؛ فكشفت عن ساقيها لتعبره؛ فإذا هي شعراء؛ فاستشارهم سليمان: ما يذهبه؟ فجعلت له الشياطين النورة.
هذا كلام طبعًا فيه كذب ظاهر؛ كأن النورة والحمام لم يكونا إلا لها، وكأن سليمان عليه السلام لم يكن له هم إلا إزالة شعر ساقيها، وهو تجنٍّ وكذب صارخ على الأنبياء، وإظهار الأنبياء بمظهر المتهالك على النساء ومحاسنهم، قبح الله اليهود هم وراء ذلك.
كلمة "الصرح": صنعوا له هذا الصرح: هو القصر المشيد المحكم البناء، المرتفع في السماء.
و"الممرد"، أي: الناعم الأملس، والقوارير هنا: هي الزجاج الصافي النقي.
يقول لنا شيخنا الشيخ أبو شهبة -معلقًا على هذا الكلام وناقلًا عن العلامة ابن كثير في (تفسيره) -: قال ابن كثير -بعد أن ذكر بعض المرويات-: والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب مما وجد في صحفهم؛ كرواية كعب ووهب، سامحهما الله فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل من
الأوابد؛ أي: الأمور المشكلة البعيدة المعاني مأخوذة من كلمة: "آبدة" وهي النافرة من الوحش التي يستعصى أخذها.
هي من أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان وما لم يكن، ومما حرف وبدل ونسخ، وقد أغنانا الله عن ذلك بما هو أصح من هـ وأنفع وأوضح وأبلغ -ولله الحمد والمنة.
أما التفسير الصحيح لبناء الصرح؛ فالحق أن سليمان عليه الصلاة والسلام أراد ببناء الصرح أن يريَهَا عظمةَ ملكه وسلطانه، وأن الله سبحانه وتعالى أعطاه من الملك ومن أسباب العمران والحضارة ما لم يعطِها؛ فضلًا عن النبوة التي هي فوق الملك، والتي دونها أية نعمة من النعم، وحاشا لسليمان عليه السلام وهو الذي سأل الله أن يعطيه حكمًا يوافق حكم الله فأوتيه، حاشاه أن يتحايل هذا التحايل حتى ينظر إلى ما حرم الله عليه: وهما ساقاها، وهو أجل من ذلك وأسمى.
ولولا أنها رأت من سليمان ما كان عليه من الدين المتين والخلق الرفيع لما أذعنت إليه لما دعاها إلى الله الواحد الحق، ولما ندمت على ما فرط منها من عبادة الكواكب والشمس وأسلمت مع سلمان لله رب العالمين، هذا ما يتعلق بالصرح.
أما ما يروى في الهدية: التي وردت في قوله -جل وعلا- على لسانها: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} (النمل: 35) فقد ورد فيها أيضًا إسرائيليات ولا نطيل فيها القول.
فمن الإسرائيليات ما ذكره كثير من المفسرين كابن جرير والثعلبي والبغوي وصاحب "الدر" في الهدية التي أرسلتها بلقيس إلى سيدنا سليمان -عليه الصلاة السلام- وإليك ما ذكره البغوي في (تفسيره) عند هذه الآية: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} :
قال البغوي: فأهدت إليه وصفاء ووصائف - أي: خدم من الرجال ومن النساء - قال ابن عباس: ألبستهم لباسًا واحدًا كي لا يعرف الذكر من الأنثى، وقال مجاهد: ألبس الغلمان لباس الجواري، وألبست الجواري لبسة الغلمان، واختلفوا في عددهم؛ فقال ابن عباس: مائة وصيف -أي: خادم- ومائة وصيفة، وقال مجاهد ومقاتل: مائتا غلام ومائتا جارية، وقال قتادة وسعيد بن جبير وغيرهما: أرسلت إليه بلبنة من ذهب في حرير وديباج - اللبنة: قطعة من الحجارة، أي: بوزنها وثقلها ذهب.
وقال وهب وغيره: عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية؛ فألبست الغلمان لباس الجواري وجعلت في سواعدهم أساور من ذهب، وفي أعناقهم أطواقًا من ذهب، وفي آذانهم أقراطًا وشنوفًا مرصعات بأنواع الجواهر، وألبست الجواري لباس الغلمان؛ الأقبية، والمناطق، وحملت الجواري على خمسمائة رمكة -أي: الفرسان والبغال- وحملت الغلمان على خمسمائة برذون -وهي البغال أيضًا- على كل فرس لجام مرصع بالجواهر وغواشيها من الديباج الملون، وبعثت إليه خمسمائة لبنة من ذهب، وخمسمائة لبنة من فضة، وتاجًا مكللًا بالدر والياقوت، وأرسلت إليه المسك والعنبر والعود، وعمدت إلى ح ط ة فجعلت فيها درة ثمينة غير مثقوبة وخرزة مثقوبة معوجة الثقب، وأرسلت مع الهدية رجالًا من عقلاء قومها وكتبت معهم كتابًا إلى سليمان بالهدية، وقالت: إن كنت نبيًّا فميز لي بين الوصائف والوصفاء -أي: بين الإناث والذكور- وأخبرني بما في الح ط ة قبل أن تفتحها، واثقب الدر ثقبًا مستويًا، وأدخل خيطًا في الخرزة المثقوبة من غير علاج إنس ولا جن.
ورووا أيضًا أن سليمان عليه السلام أمر الجن أن يضربوا لبنات الذهب ولبنات الفضة، ثم أمرهم أن يفرشوا الطريق من موضعه الذي هو فيه إلى تسعة فراسخ ميدانًا