المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌معنى الدخيل في الرأي - الدخيل في التفسير - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 التعريف بالدخيل في التفسير وأنواعه - الإسرائيليات (1)

- ‌تمهيد

- ‌تعريف الدخيل والأصيل

- ‌أنواع الدخيل، وفائدته

- ‌كيف نشأ الدخيل

- ‌معنى الإسرائيليات، والعلاقة بين الدخيل والإسرائيليات

- ‌الدرس: 2 الإسرائيليات (2)

- ‌أقسام الإسرائيليات:

- ‌أسباب تفشي الإسرائيليات، وخطورتها على أمة الإسلام

- ‌أقطاب الرواية الإسرائيلية:

- ‌الدرس: 3 الإسرائيليات (2) - نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (1)

- ‌تابع أقطاب الرواية الإسرائيلية

- ‌نماذج من الإسرائيليات

- ‌الدرس: 4 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (2)

- ‌تسلل الإسرائيليات إلى كتب التفسير

- ‌حكم رواية الإسرائيليات

- ‌قصة موسى عليه السلام مع بنات شعيب، وما ورد في تعيين أسمائهم

- ‌الدرس: 5 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (3)

- ‌قصة عصا موسى عليه السلام، وقضية الأجلين

- ‌بعض مواقف موسى عليه السلام مع فرعون

- ‌قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش

- ‌قصة "إرم ذات العماد

- ‌فتنة سليمان عليه السلام

- ‌الدرس: 6 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (4)

- ‌المسوخ من المخلوقات في روايات بني إسرائيل

- ‌ما ورد في بناء الكعبة المشرفة

- ‌الإسرائيليات في قصة التابوت

- ‌شجرة طوبَى

- ‌الدرس: 7 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (5)

- ‌قصة ذي القرنين:

- ‌قصة يأجوج ومأجوج

- ‌قصة الذبيح ابن إبراهيم عليه السلام

- ‌الدرس: 8 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (6)

- ‌قصة سليمان عليه السلام

- ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة أيوب عليه السلام

- ‌الدرس: 9 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (7)

- ‌تعقيب على قصة "إرم ذات العماد

- ‌الإسرائيليات التي وردت في سؤال موسى ربه الرؤية

- ‌موقف موسى من ألواح التوراة، وغضبه عند إلقائها

- ‌الدرس: 10 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (8)

- ‌الإسرائيليات التي وردت في تفسير آية: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}

- ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة أصحاب الكهف

- ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة يوسف عليه السلام

- ‌الدرس: 11 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (9)

- ‌تابع الإسرائيليات التي وردت في قصة يوسف عليه السلام

- ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة المائدة

- ‌الدرس: 12 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (10)

- ‌تابع الإسرائيليات التي وردت في قصة المائدة

- ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة "بلقيس"، وما حدث لنبي الله سليمان عليه السلام

- ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة آدم عليه السلام

- ‌الدرس: 13 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (11)

- ‌تابع الإسرائيليات التي وردت في قصة آدم عليه السلام

- ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة نوح عليه السلام

- ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة داود عليه السلام

- ‌الدرس: 14 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (12)

- ‌تابع الإسرائيليات التي وردت في قصة داود عليه السلام

- ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة موسى عليه السلام

- ‌الدرس: 15 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (13)

- ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة إدريس عليه السلام

- ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة إلياس عليه السلام

- ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة إبراهيم عليه السلام

- ‌الدرس: 16 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (14)

- ‌تابع الإسرائيليات التي وردت في قصة إبراهيم عليه السلام

- ‌الإسرائيليات التي وردت في قصة لوط عليه السلام

- ‌الدرس: 17 الدخيل في المنقول عن طريق الأحاديث الموضوعة (1)

- ‌تعريف الحديث الموضوع

- ‌علامات الحديث الموضوع

- ‌الدرس: 18 الدخيل في المنقول عن طريق الأحاديث الموضوعة (2) - نماذج من الأحاديث الموضوعة في التفسير (1)

- ‌تابع علامات الحديث الموضوع

- ‌حكم رواية الحديث الموضوع

- ‌الأحاديث الموضوعة في فضائل سور القرآن

- ‌ما جاء في فضل يونس عليه السلام، وما ورد في إهلاك قوم لوط

- ‌ما قيل عن عقوق الوالدين

- ‌الدرس: 19 نماذج من الأحاديث الموضوعة في التفسير (2)

- ‌تابع ما قيل عن عقوق الوالدين

- ‌الآثار والأحاديث الموضوعة والضعيفة في أسباب نزول الآيات

- ‌الدرس: 20 نماذج من الأحاديث الموضوعة في التفسير (3) - والدخيل في التفسير بالرأي

- ‌تابع الآثار والأحاديث الموضوعة والضعيفة في أسباب نزول الآيات

- ‌بعض القراءات الموضوعة

- ‌التفسير بالرأي

- ‌الدرس: 21 أنواع الدخيل في الرأي (1)

- ‌معنى الدخيل في الرأي

- ‌الدخيل عن طريق الفرق المبتدعة

- ‌الدرس: 22 أنواع الدخيل في الرأي (2)

- ‌تابع الدخيل عن طريق الفرق المبتدعة

- ‌الدخيل عن طريق الإلحاد

- ‌الدخيل عن طريق التفسير الصوفي

- ‌الدخيل عن طريق التفسير العلمي

الفصل: ‌معنى الدخيل في الرأي

الرحمن الرحيم

الدرس الحادي والعشرون

(أنواع الدخيل في الرأي (1))

‌معنى الدخيل في الرأي

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

لقد انتهينا من الدخيل في النقل والموضوعات والإسرائيليات، وبيان قدر كبير مما حوته كتب التفسير من هذا النوع، والآن ننتقل إلى الدخيل في التفسير بالرأي، وهذا يشتمل معنى الدخيل في الرأي - أنواع الدخيل في الرأي - ذِكْر نماذج لكل نوع من أنواع الدخيل في الرأي.

أولًا: الدخيل في الرأي:

الدخيل في الرأي: هو ما كان من التفسير ناشئًا عن رأي فاسد واجتهاد غير صحيح، وترجع أسبابه إلى إما الجهل بقوانين اللغة العربية وقواعدها، أو الشريعة وأصول الدين، أو التعصب لطائفة من الطوائف المارقة من عقيدة أهل السنة والجماعة، أو الكيد لدين الإسلام بتحريف القرآن عن موضعِهِ، ولم يستطيعوا النيل من الآيات؛ فعمدوا إلى دس أباطيلهم وإفساداتهم في كتب التفسير، فالتحريف تناول التفسير للقرآن، يحرفون الكلم عن مواضعه والباعث لهم على ذلك هو الحقد على الإسلام والكيد لأهله.

أما أنواع الدخيل في الرأي فكثيرة: أشهرها الدخيل عن طريق اللغة؛ حيث أورد كثير من المفسرين كلامًا في اللغة والإعراب والآراء والأقوال لم تكن صحيحة.

ثانيًا: الدخيل عن طريق الفرق المبتدعة: الشيعة، الخوارج، المعتزلة، وغيرهم فرق كثيرة، لكنَّ هؤلاء الثلاثة هم أشهر الفرق التي كتبوا في تفسير القرآن كلامًا فاسدًا، وآراء باطلةً، يتعصبون بها لعقائدهم الزائغة، وينتصرون بها لأهوائهم.

ثالثًا: الدخيل عن طريق الإلحاد المُتَعَمَّد: من الفرق التي لبثت ثوب الإسلام كذبًا وزورًا: الزنادقة، الباطنية، القاديانية، البابية، والبهائية، هذه أشهر الفرق التي ألحدت في دين الله، تظاهرت بالإسلام، لكنها تضمر في قلوبها الحقدَ الأسودَ الدفين الذي يريدون به هدمَ الإسلام، ونقض قواعده، والنيل من رسول

ص: 405

الإسلام، والتنقيص من شأن علماء الأمة سلفًا وخلفًا، والطعن في القرآن الكريم.

رابعًا: الدخيل عن طريق الصوفية، والصوفية فيهم قوم معتدلون يلتزمون شرع الله وهديه، وهؤلاء لا نتكلم عنهم، هؤلاء المنصفون الذين يعتزون بإيمانهم، ويلتزمون أخلاق الإسلام، وشعب الإيمان: التوكل على الله، الصبر، اليقين، المراقبة، الخوف، الرجاء، الزهد، الورع، هذه الصفات العظيمة، لكن خرج من بين الصوفية أناس مغالون؛ يغالون في تصوفهم، فخرجوا وشطحوا، ولهم مواقف كثيرة تخالف منهج الإسلام.

خامسًا: الدخيل عن طريق التفسير العلمي: هذا الباب الذي فُتح ليكون باب إعجاز لكتاب الله، ولو أن أصحابه التزموا القواعدَ الصحيحة، والقصد والاعتدال؛ فإن هذا باب إعجاز، أما وأنهم قد تطاولوا، وحمَّلُوا القرآن ما لا يحتمل، وخرجوا به عن قصده وهداياته؛ فهذا الجانب من التفسير العلمي لا بد أن نشير إليه وأنه فيه دخيل، وتحميلٌ لكتاب الله ما ليس يحتمله.

والآن نبدأ بالدخيل عن طريق اللغة:

والدخيل عن طريق اللغة يتناول أنواع عدة؛ فالمقصود من الدخيل هنا ما حدث لبعض المفسرين من إعرابٍ لبعض كلمات القرآن، أو توجيهها توجيهًا خاطئًا شاذًّا، لا يتمشّى مع القواعد المتعارف عليها؛ مما أدى إلى خطأ في المعنى، واضطراب في الفهم.

مثال ذلك: ما جاء في تفسير قوله تبارك وتعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (الأعراف: 16) الآية مسوقة على لسان إبليس، فجوز بعض

ص: 406

المفسرين كون {مَا} استفهامية كأنه قيل: بأي شيء أغويتني، ثم ابتدأ بقوله:{لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} فهذا الإعراب شاذ؛ لأن قوله {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} هنا ما ليست استفهامية.

وسنعرف الآن ماذا يقصد هؤلاء الذين حرفوا الآية بهذا الإعراب الشاذ، جعلوا "ما" استفهامية، كأنه قيل فبما أغويتني؟ كأنه قيل: بأي شيء أغويتني؟ ثم ابتدأ بقوله: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} إعراب شاذ مضطرب مخالف لما عليه قواعد اللغة العربية، وعليه لا يصلح تخريج الآية الكريمة؛ لأن الاستفهام هنا لا معنى له؛ إذ كيف يسأل إبليس ربه عز وجل بأي شيءٍ أغواه وأضله، ثم إن ما الاستفهامية إذا وقعت بعد حروف الجر؛ فإن ألفها تحذف، كما هو مقرر في علم القواعد النحوية الصحيحة كقوله تعالى:{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} (النبأ: 1) حذفت الألف.

وكقوله تعالى: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} (النازعات: 43) فأما إثبات الألف في تلك الحالة فهو قليل شاذ كما قال الزمخشري؛ وعلى هذا فإن القول بأن ما في الآية استفهامية قول باطل، والصحيح أنها مصدرية ليست استفهامية، والمعنى: فبسبب إغوائك إياي؛ لأقعدن لهم صراطك المستقيم، أي لأعترضن لهم على طريق الإسلام، كما يعترض العدو على الطريق ليقطعه على السابلة والمارين، فهنا ما مصدرية سببية.

مثال آخر: نقول: جاء في تفسير قوله تبارك وتعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} (القصص: 68) من الواضح: أن "ما" في قوله {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} نافية، أي: نفى اختيار الناس في أمرٍ قد اختاره الله سبحانه، هذا هو المعنى الصحيح لـ"ما"، لكن هناك قوم جعلوها، أي:"ما" موصولة، وبعضهم يجعلها مصدرية، وذلك غاية البطلان، كأنهم يقولون:

ص: 407

وربك يخلق ما يشاء مشيئته، ويختار ما كان لهم الخيرة، جعلوا "ما" في {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} هنا موصولة والبعض جعلها مصدرية؛ مع أن الواضح: أنها نافية؛ لأن المعنى يكون على أنها موصولة، أن الله يختار لهم الأمر الذي كان هو الخيرة، وعلى جعل ما مصدرية، يكون المعنى يختار اختيارهم فيه، وهذا ظاهر البطلان.

ومن أمثلة هذا النوع أيضًا: ما أورده المفسرون في تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (يوسف: 99) حيث ادعى بعضهم أن {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} موضعها بعد قوله تعالى: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} (يوسف: 98) وهذا ظاهر الضعف والبطلان؛ ولذلك يقول الزمخشري: ومن بدع التفاسير أن قوله تعالى: {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} من باب التقديم والتأخير، وأن موضعها ما بعد قوله:{سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} في كلام يعقوب؛ أي: سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله، ولا أدري ما أقوله فيه وفي نظائره.

ثانيًا: ما يتعلق بمدلول اللفظ: هناك نوع آخر أورده المفسرون، وهو من اللغة الباطلة، وذلك أن تفسير القرآن بغير ما يدل عليه في لغة العرب مما ينتج عنه الخطأ في التأويل، مثال ذلك: ما جاء عن بعض أدعياء العلم في قوله تبارك وتعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} (الإسراء: 71) فقد ذكروا في تفسير هذه الآية من أن كلمة إمامهم. قالوا: إن إمام جمع "إم"، أو جمع أم، وأن الناس يدعون يوم القيامة بأسماء أمهاتهم لا بآبائهم سترٌ عليهم، وهذا خطأ؛ لأن جمع أم أمهات، كما قال تعالى:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} (النساء: 23) وليس على إمام.

ص: 408

والمعنى الصحيح للآية: يوم ندعو كل أناس من بني آدم بمن ائتموا له من نبي، أو مقدم في الدين، أو كتاب دين، فيقال: يا أتباع فلان، يا أهل دين كذا، يا أهل كتاب كذا؛ فحملهم كلمة إمام على أنها جمع أمٍّ هذا كلام غير صحيح.

ثانيًا: وضع الكلام على غير موضعه: مثال ذلك قوله تبارك وتعالى {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) أورد بعضهم كلامًا وتفسيرًا لا يليق وغير مراد من الآية؛ فبعض المتصوفة فسروا الآية بأن معناه: "من ذل ذي يشفى عو" انظر إلى تقطيع الآية وفسروا كل كلمة بمعنى، من ذل: أي من الذل، ذي: إشارة إلى النفس، يشفى: من الشفا جواب مَن، عو: أمر من الوعي، وهذا إلحاد في آيات الله.

ولا يخفى أن من في الآية استفهامية؛ فالله جل جلاله في هذه الآية يذكر {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} استفهام بمعنى النفي، استفهام إنكاري، كأن الله يقول: لا أحد يشفع عند الله في الآخرة إلا بإذنه سبحانه وتعالى وإلا لمن ارتضى الله سبحانه وتعالى كما فسرت الآيات يفسر بعضها بعضًا فمن هم هنا استفهامية لا شرطية، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي ولذا جاء الاستثناء بعده. والمقصود من الآية: بيان كبرياء الله، وعظم شأنه، وأن لا أحد يساويه، أو يدانيه؛ بحيث يستقل أن يدفع ما يريده الله دفعًا على وجه الشفاعة؛ فضلًا عن أن يستقل بدفعه عنادًا، أو مكابرة، أو مناصبة، وهذا تأييس للكفار؛ حيث زعموا أن آلهتهم شفعاء لهم عند الله تبارك وتعالى تفاسير (البيضاوي) و (الألوسي) و (الكشاف) وغيرهم.

مثال آخر: تفسير الآية بشيء لا يليق مع الذوق السليم، واللغة العربية الفصيحة، مثال ذلك قولهم عند الآية:{وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} (الأحزاب: 27) فإن

ص: 409

قوما فسروا الأرض بمعنى نساء الأعداء، والزمخشري يصف هذا التفسير بأنه من البدع. ومن المعلوم: أن الآيات تتكلم عن غزوة الأحزاب وعن بني قريظة، وما أنعم الله به على المسلمين من توريثهم أرض بني قريظة وأموالهم الذين نقضوا العهد وغدروا في غزوة الأحزاب، فحمل الآية على أن أرضًا لم تطئوها نساء الأعداء، هذا تفسير الآية بشيء إن لا يصح، ولا يليق ذوقًا أبدًا.

أمثلة أخرى: تفسير الآية بلغة شاذة أو غريبة:

مع أن القرآن الكريم نزل بأفصح اللغات؛ فوجب على المفسر أن يحمله على أفضل وجوه التأويل، ويبتعد عن تفسير الآية بلغةٍ شاذةٍ أو غريبة، ومن أمثلة ذلك ما ورد في تفسير قوله تعالى:{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّة} (التوبة: 8) فالإل معناها القرابة، وقيل: العهد، وقيل: الحلف، ولكن قومًا فسروا الإل بمعنى الله سبحانه وتعالى كيف يصح هذا، وأسماء الله توقيفية؟! أي: لا يصح أن يسمى الله باسم إلا إذا جاء صريحًا في آية كالأسماء المذكورة في خواتيم سورة الحشر أو ورد في حديث صحيح، فكلامهم هذا تفسيرٌ للآية بلغةٍ غريبةٍ شاذة.

وخذ مثالًا آخر أيضًا من أمثلة هذا النوع: ما أوردوه في قوله جل وعلا: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} (القصص: 32) فالرهب هنا مقصود منه الخوف، وفي ذلك يقول الإمام القرطبي رحمه الله: وهو بمعنى الخوف، والمعنى: إذا هالك أمر يدك وشعاعها، فأدخلها في جيبك وارددها إليك، تعد كما كانت، فهناك قوم فسروا الرهب بمعنى الكُم، وهو تفسير غريب لا يتفق مع مفهوم الآية.

ص: 410

هناك أيضًا أن تفسر الآية تفسرًا يصادم الشرع ويأباه العقل، وذلك كما فسر بعضهم قوله تعالى:{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (ق: 19) قال: إن الخطاب هنا للرسول، والإنسان يعجب من ذلك، والله تعالى يقول لرسوله:{وَلَلآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُوْلَى} (الضحى: 4) فهذا تفسيرٌ يصادم هذه الآية، ويأبى العقل قبوله؛ إذ كيف يفضل صلى الله عليه وسلم الحياة الفانية على الآخرة الباقية ذات النعيم الدائم والمتاع المقيم.

والصحيح: إن هذه الآية، إنما وردت للفاجر أو الكافر، أما البر المؤمن فلا يحيد عن الموت، ولا يهرب منه؛ فضلًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف يحيد النبي عن الموت، وهو الذي خيَّرَهُ الله بين الدنيا وبين ما عنده؛ فاختار ما عند الله كما ثبت في (الصحيحين).

أيضًا، هنا نجد نماذج لا يُرَاعَى فيها سياقُ الكلام أثناء التفسير وذلك كقول المفسرين في تفسير قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} (البقرة: 243) فالمعروف أن كلمة ألوف جمع ألف، لكن بعض المفسرين فسروا الألوف بالألفة، وهذا التفسير بعيد من سياق الكلام؛ لأنه لا معنى لذكر الألفة هنا، ولا مناسبة تقتضيها، وإنما التفسير الصحيح لقوله تعالى:{وَهُمْ أُلُوفٌِ} أي عددهم كثير، فالألوف جمع ألف، وهذا هو المناسب لسياق الكلام.

ننتقل من نماذج اللغة إلى ما يتعلق بعلم القراءات: والقراءات أيضًا هي من اللغة، إن البدع التي تتعلق بالقراءات في كتب التفسير صنفان؛

ص: 411

فهناك رد قراءة نزل بها جبريل الأمين عليه السلام من عند الله على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك استحداث قراءة ليس لها سند صحيح.

مثال الأول: ما ذكره المفسرون، فبعضهم رد قراءة حمزة أحد القراء السبعة لقوله تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} (النساء: 1) فالقراءة بجر الأرحام "تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ" قراءة حمزة، والذي جعلهم يردون هذه القراءة مسايرتهم لمذهب البصريين في قاعدة العطف التي تقول: إن الضمير المجرور لا يعطف عليه إلا بإعادة الجار له، نحو: مررت بك وبزيد، وهم يقولون: لا يجوز: مررت بك وزيدٍ، هكذا يشرح ابن عقيل وكتب اللغة، ولكن هذا ليس محل اتفاق بين النحاة؛ فقد أجاز الكوفيون هذا العطف؛ ونظرًا لوروده في النثر والنظم فقد مال إليه العلامة ابن مالك حيث قال:

وعود خافض لدى عطف على

ضمير خفض لازمًا قد جعل

وليس عندي لازمًا إذ أتى

في النظم والنثر الصحيح مثبتَا

العلامة ابن مالك مالَ إلى الجواز، وهو ما عليه الكوفيون.

ويرد الإمام القشيري على هذا الرأي برد يقوم على دعامتين: إحدهما: أن القراءة جاءت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهذه القراءة أخذت عن الرسول بطريق التواتر.

ثانيًا: إن العربية تؤخذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم فالرسول هو عربي، وأفصح من نطق بالضاد، والقرآن كلام رب العالمين يؤخذ منه القواعد، ولا يقعّد عليه.

أيضًا من هذه الأمثلة التي ردوا بها قراءة صحيحة، ما ورد في قراءة سيدنا جبريل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية:{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ} (الأنعام: 137) لقد

ص: 412

رد الزمخشري قراءة ابن عامر ببناء الفعل لما لم يسمّ فاعله "وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلَادَهَمْ شُرَكَائِهُمْ" ببناء الفعل لما لا يسم فاعله، ورفع القتل وأضاف لشركائهم، فصار قتلُ أولادَهم شركائِهِم، وبخفض شركائهم، ونصب أولادَهُم، لوقوع القتل عليهم، وحال بينهم وبين المضاف إليه.

وفي ذلك يقول: وأما قراءة ابن عامر: "زُيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلَادَهَمْ شُرَكَائِهُمْ" برفع القتل، ونصب الأولاد، وجر الشركاء على إضافة القتل إلى شركائهم، والفصل بينهما بغير الظرف؛ فشيء لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر؛ لكان سمجًا مردودًا إلى أن قال: فكيف به في الكلام المنثور، فكيف به في القرآن المعجز بحسن لفظه ونظمه، وجزالته.

والذي جعله يقول بهذا: أنه رأى في بعض شركائهم مكتوب بالياء، ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء؛ لأن الأولاد شركاؤهم في أموالهم لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب.

ولقد احتج الزمخشري في رد هذه القراءة: بأنها مخالفةٌ للقواعد النحوية التي لا تجيز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير ظرف، كما أرجع خطأ ابن عامر في قراءته هذه إلى رسم المصحف؛ حيث قال: والذي حمله على ذلك أنه رأى في بعض المصاحف شركايهم مكتوبًا بالياء؛ فالسبب إذًا في رد هذه القراءة في رأي الزمخشري: هو رسم المصحف، وأن ابن عامر اعتمد على المصحف، ولم يعتمد على الرواية، وهذا غير صحيح؛ بل إنه منكر مردود؛ وذلك لأن هذه القراءة رويت، وشاعت القراءة بها قبل تدوين المصاحف، وجمع القرآن، ثم حين دونت المصاحف لم يكن النقط عرف، ولا الشكل اخترع؛ فظهرت حركة القراءات قبل النقل، والضبط؛ فكانت قراءتهم للكلمة على حسب ما يروون، وينقلون لا على ما يقرءون في المصاحف.

وبهذا نقول: فالعمدة في القراءة الرواية والمشافهة والتلقي، وليس رسم المصحف أو خطه، ونحن لا يمكننا بحال أن نقبل من الزمخشري تخطئته لقراءة ابن عامر، بل

ص: 413

إننا نكر عليه رده لهذه القراءة، وتعلله في ذلك بأن الفصل بين المضاف والمضاف إليه غير جائز عند النحاة. ونقول: إن ذلك جائز عندهم؛ فإذا كان بعض النحاة قد منعه؛ فإن آخرين قد أجازوا الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف إذا كان المضاف شبه فعل بأن كان مصدرًا أو اسم فاعل، وكان عاملًا النصب فيما هو فاصل كما هو الحال في الآية التي نحن بصدد تفسيرها.

وحتى لو سلمنا: أن قراءة ابن عامر منافية لقياس العربية؛ لوجب قبولها أيضًا بعد أن تحقق صحة نقلها، كما قبلت أشياء ثبتت، وإن نافت القياس مع أن صحة نقلها هي المعتمد، وطبعًا صحة القراءة أولى

إلى آخر الكلام في هذا المثال.

الكلام في هذا تكلم فيه أبو حيان وغيره، ونكتفي بهذا في رد كلام (الكشاف) حيث يتبين لنا أن قراءة ابن عامر قراءة صحيحة يجب قبولها، وقد نص أئمة القُرَّاءَ على أن الاعتماد في قبول القراءة، إنما هو في ثباتها، وصحة نقلها، لا على ما عُرِفَ في اللغة أو فشا أو كان مقيسًا فيها، بل الأثبت الأثر، والأصح في النقل والرواية، وهو ثابت عندنا.

من ذلك أيضًا: ما استحدثه البعض؛ فاستحداث قراءة ليس لها سند صحيح ما قرئ في قوله تعالى: "فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصِبْ"(الشرح: 7) روي عن بعض الرافضة أنه قرأ فانصِب بكسر الصاد، ويقصد بذلك عليًّا للإمامة، ولا شك أن هذه القراءة من الرافضة، وهي مرفوضة لعدم ورودها من طريق صحيح، سواء كانت القراءة التي يتكلم عنها هؤلاء يرفضون قراءة ثابتة، أو يختلقون قراءةً غير صحيحة؛ فهذا كلام لا يقبل، وإنما هو مرفوض.

ص: 414