الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن من الإسرائيليات المستنك ر ة في هذا ما روي أيضًا، أن يأجوج ومأجوج خُلقوا من مني خرج من آدم، فاختلط بالتراب، وزعموا أن آدم كان نائمًا فاحتلم، فمن ثمَّ اختلط منيه بالتراب، ومعروف أن الأنبياء لا يحتلمون؛ لأن الاحتلام من الشيطان، قال ابن كثير: وهذا قول غريب جدًّا لا دليل عليه لا من عقل ولا من نقل، ولا يجوز الاعتماد ها هنا على ما يحكيه بعض أهل الكتاب؛ لما عندهم من الأحاديث المفتعلة، والله أعلم. طبعًا هذا مذكور عند ابن كثير وعند غيره.
والخلاصة: إن ذا القرنين، ويأجوج ومأجوج حقائق ثابتة، وأصحاب الكهف حقائق ثابتة، ذكرتها سورة " الكهف "، لا شك في ذلك، ولا سيما قد أخبرنا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، ولكن الذي ننكره أشدّ الإنكار هذه الخرافات والأساطير التي حيكت حولهم، ودست إلى المرويات الإسرائيلية، والله بريء منها، ورسوله منها بريء، وإنما هي من أخبار بني إسرائيل وأكاذيبهم وتحريفاتهم.
قصة الذبيح ابن إبراهيم عليه السلام
-
ننتقل إلى موضوع واسع كثر الكلام فيه، وهو أيضًا عمر بالإسرائيليات الكثيرة، ألا وهو ما ورد في قصة الذبيح ابن إبراهيم عليه السلام أهو سيدنا إسماعيل أو أنه سيدنا إسحاق؟.
وردت في هذا إسرائيليات كثيرة وكثيرة؛ ومن الإسرائيليات ما يذكره كثير من المفسرين عند تفسير الآيات التي ذكرت هذا بتفصيل، في قوله -جل وعلا- في سورة " الصافات ": {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا
أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ *وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} (الصافات: 99 - 113).
هذه الآيات في تفسيرها في معظم كتب التفسير، روى المفسرون رو ايات كثيرة على رأسهم ابن جرير الطبري في تفسيره للآيات في (جامع البيان)، وكذا البغوي في (معالم التنزيل)، وصاحب (الدر المنثور) الإمام السيوطي، روايات كثيرة عن بعض الصحابة والتابعين وكعب الأحبار، ومعظمها يركز على أن الذبيح هو إسحاق، سبحان الله العظيم، المعروف أن الذبيح هو سيدنا إسماعيل وليس إسحاق، ومع ذلك أورد المفسرون روايات كثيرة في هذا الشأن، سنقف عليها إن شاء الله.
والأمر لم يقف ولم يقتصر عند المذكور عن الصحابة والتابعين، بل بعضهم رفع ذلك زورًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى ابن جرير، عن أبي كريب عن زيد بن حباب عن الحسن بن دينار، عن علي بن زيد بن جدعان، عن الحسن، عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب، عن النبي النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الذبيح إسحاق"، وهذا حديث ضعيف ساقط، لا يصح الاحتجاج به، فالحسن بن دينار مطرود، وشيخه علي بن زيد بن جدعان منكر الأحاديث، فهذا يبين درجة هذا الحديث.
وأخرج الديلمي في (مسند الفردوس) بسنده، عن أبي سعيد خضري رضي الله عنه قال: قال رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم: "إن داود سأل ربه مسألة، فقال: اجعلني مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأوحى الله إليه؛ إني ابتليت إبراهيم بالنار فصبر، وابتليت اسحاق بالذبح فصبر، وابتليت يعقوب فصبر"، هذا طبعًا كلام لا يصح.
وأيضًا أخرج الدارقطني والديلمي في (مسند الفردوس) بسندهما، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم: "الذبيح إسحاق"، وهي أحاديث لا تصح، هكذا قال علماؤنا؛ علماء الجرح والتعديل، وعلماء الحديث، وعلى رأسهم شيخنا "الشيخ أبو شهبة" قال: وهي أحاديث لم تثبت ولم تصح، وأحاديث الديلمي في (مسند الفردوس) شأنها معروف، والدارقطني ربما يُخرج في (سننه) ما هو موضوع.
كما أخرج الطبراني في (الأوسط)، وابن أبي حاتم في ت فسيره، من طريق الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يس ار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي أو شفاعتي؛ فاخترت شفاعتي، ورجوته أن تكون أعم لأمتي، ولو الذي سبقني إليه العبد الصالح، لعجلت دعوتي، إن الله - تعالى - لما فرج عن إسحاق كرب الذبح، قيل له: يا إسحاق، سل تعطى، قال: أما والله لأتعجلنها قبل نزغات الشيطان، اللهم من مات لا يشرك بالله شيئًا قد أحسن فاغفر له".
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف، كما قال شيخنا "الشيخ أبو شهبة"، وابن زيد يروي المنكرات والغرائب، فلا يحتج بمروياته، وقد قال ابن كثير: الحديث غريب منكر وأخشى أن يكون فيه زيادة مدرجة، وهي قوله: إن الله لما فرج عن إسحاق كرب الذبح، وإن كان محفوظًا فالأشبه أنه إسماعيل وحرفوه بإسحاق.
إلى غير ذلك من الأخبار وفيها من الموقوف والضعيف والموضوع كثير، ومتى صح حديث مرفوع في أن الذبيح إسحاق قبلناه، ووضعناه على العين والرأس، ولكنها كما ترى لم يصح منها شيء، هكذا قال العلامة ال ألوسي عندما عرض لذلك.
والحق أن المرويات في أن الذبيح إسحاق هي من إسرائيليات أهل الكتاب، وقد نقلها من أسلم منهم ككعب الأحبار، وحملها عنهم بعض الصحابة والتابعين، تحسينًا للظن بهم، فذهبوا إليه، وجاء بعدهم العلماء فاغتروا بها، وذهبوا إلى أن الذبيح إسحاق، وما من كتاب من كتب التفسير والسير والتواريخ إلا ويذكر فيه الخلاف بين السلف في هذا، إلا أن منهم من يعقب ببيان وجه الحق في هذا، ومنهم من لا يعقب اقتناعًا بها وتسليمًا لها.
يقول شيخنا العلامة فضيلة الشيخ دكتور "محمد أبو شهبة": وحقيقة هذه المرويات أنها من وضع أهل الكتاب؛ ل عداوتهم المتأصلة من قديم الزمان للنبي الأمي العربي محمد عليه الصلاة والسلام وقومه العرب، فقد أرادوا ألا يكون لإسماعيل الجد الأعلى للنبي صلى الله عليه وسلم والعرب فضل أنه الذبيح؛ حتى لا ينجر ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى الجنس العربي.
نقول أيضًا: إنهم حرفوا التوراة؛ أهل الكتاب حرفوا التوراة، ولأجل هذا ولأجل أن يكون هذا الفضل لجدهم إسحاق لا لأخيه إسماعيل حرفوا التوراة في هذا، ولكن الله أبى إلا أن يغفل عما يدل على هذه الجريمة النكراء، والجاني غالبًا يترك من الآثار ما يدل على جريمته، والحق يبقى له شعاع ولو خافت يدل عليه مهما حاول المبطلون إخفاء نوره وطمس معالمه، فقد حذفوا من التوراة لفظ إسماعيل، ووضعوا بدله لفظ إسحاق، ولكنهم غفلوا عن كلمة كشفت عن هذا التزوير، وذلك الدث المشين، وإليك نص التوراة:
ففي التوراة الإصحاح الثاني والعشرون، الفقرة الثانية هذا النص:"فقال الرب خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق، واذهب إلى أرض المريا واصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك" انظر إلى العبارة، فليس أدلّ على كذب
هذا من كلمة وحيدك، وإسحاق عليه السلام لم يكن وحيدًا قط؛ لأنه ولد ولإسماعيل نحو أربع عشرة سنة، نعرف أن أول من بشر به سيدنا إبراهيم من الأولاد سيدنا إسماعيل، ثم كان إسحاق بعد ذلك، وهذا صريح في توراتهم هذا الكلام، وقد بقي إسماعيل عليه السلام حتى مات أبوه الخليل إبراهيم وحضر وفاته ودفنه.
وإليك ما ورد في هذا أيضًا في سفر التكوين، الإصحاح السادس عشر، الفقرة السادسة عشر هذا نص آخر:" وكان إبرام -كلمة إبرام يعني إبراهيم- ابن ست وثمانين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل لإبرام".
وفي سفر التكوين الإصحاح الحادي والعشرون الفقرة الخامسة: "وكان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولد له إسحاق ابنه".
وأيضًا عبارة أخرى: "ورأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمرح، فقالت لإبراهيم: اطرد هذه الجارية وابنها؛ لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني اسحق، فقبح الكلام جدَّا في عيني إبراهيم لسبب ابنه، فقال الله لإبراهيم: لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك في كل ما تقول سارة اسمع لقولها؛ لأنه بإسح اق يدعى لك نسل وابن الجارية أيضًا سأجعله أمة لأنه نسلك" .. إلى آخر القصة.
فالكلام هنا، ما قول اليهود الذين يحرفون في هذا الكلام؟ وكيف يتأتى أن يكون إسحاق وحيدًا مع هذه النصوص التي هي من توراتهم التي يعتقدون صحتها ويزعمون أنها ليست محرفة؟ ثم ما رأيهم في الروايات التي تقول: إن الذبيح إسحاق بعدما تأكدوا تحريف التوراة في هذا؟.
دلَّ القرآن الكريم ودلت التوراة ورواية البخاري في ص حيحه على أن الخليل إبراهيم عليه السلام أسكن هاجر وابنها عند مكان البيت المحرم، وقد بُني فيما بعد، وقامت مكة بجوار هذا البيت، وقد عبَّرت التوراة بأنهما كانا في برية فاران، وفاران هي مكة كما يعبر عنها العهد القديم، وهذا هو الحق في أن قصة الذبح كان مسرحها بمكة ومنى، وفيها يذبح الحُجاج ذبائحهم اليوم، وقد حرف اليهود النص الأول وجعلوه جبل المريا، وهو الذي تقع عليه مدينة أورشاليم القديمة؛ مدينة القدس الإسلامية اليوم؛ ليتمَّ لهم ما أرادوا فأبى الحق إلا أن يظهر تحريفهم.
وقد ذكر العلامة شيخ الإسلام "ابن تيمية" وتلميذه "ابن كثير" أن في بعض نسخ التوراة لفظ "بكرك" بدل كلمة "وحيدك"، هما نقلوا عبارة وحيدك،"خذ ابنك وحيدك" في بعض الروايات "خذ ابنك بكرك" بدل وحيدك، وهذا أظهر في البطلان وأدل على تحريف كلام اليهود في توراتهم؛ إذ لم يكن إسحاق بكرًا للخليل بنص التوراة.
هيا نؤكد أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، فالحق أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام وهو الذي يدل عليه ظواهر الآيات القرآنية، والآثار عن الصحابة والتابعين، ومنها ما له حكم الرفع بتقرير النبي صلى الله عليه وسلم له، فلا عجب أن ذهب إليه جمهرة الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأئمة العلم والحديث؛ منهم الصحابة النجباء والسادة العلماء، منهم علي وابن عمر وأبو هريرة، فقد ذكروا أن الفاروق عمر رضي الله عنه كان يقول: إنه إسحاق، وأنا استبعد ذلك جدًّا، الإمام الشيخ أبو شهبة يقول: وأنا استبعد ذلك أن عمر يقول: إنه إسحاق، وهو أيقظ من أن يخدع برواية كعب، ولو صح ما نقل عنه؛ لتأثر الابن بأبيه، وكذلك اختلف في علي، فالبغوي على أنه يقول: إسحاق، وابن أبي حاتم على أنه يقول: إسماعيل، تفسير ابن كثير فيه
كثير.
مشاهير الصحابة؛ علي، وابن عمر، وأبو هريرة، وأبو الطفيل، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والشعبي، والحسن البصري، ومحمد بن كعب القر ظ ي، وابن المسيب، وأبو جعفر محمد الباكر، وأبو صالح، والربيع بن أنس، وأبو عمرو بن العلاء، وابن حنبل الإمام، وغيرهم؛ كل ذلك في الروايات القوية الثابتة عنهم أنه هو إسماعيل رضي الله عنه، وكذلك ورد عن ابن عباس.
في (زاد الميعاد) لابن القيم قال: إنه الصواب أن الذبيح إسماعيل عند علماء الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وهذا الرأي هو المشهور عند العرب قبل البعثة، نقلوه بالتواتر جيلًا عن جيل، وذكره أمية بن أبي السلط في شعر له.
ينقل لنا أيضًا العلامة "الشيخ أبو شهبة" فيقول تحت عنوان: العلماء المحققون على أنه إسماعيل عليه السلام فيقول: نقل العلامة ابن القيم عن شيخيه ابن تيمية كلام ً اهذا خلاصته: ولا خلاف بين النسابين أن عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام وإسماعيل هو القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأما القول بأنه إسحاق فباطل من عشرين وجهًا، وسمعت شيخ الإسلام "ابن تيمية" -قدس الله روحه- يقول: "هذا القول متلقى عن أهل الكتاب القول بأنه إسحاق مع أنه باطل بنص كتابهم، فإن فيه: إن الله أمر إبراهيم بذبح ابنه البكر، وفيه لفظ وحيده، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده، والذي غر هؤلاء أنه في التوراة التي بأيديهم اذبح ابنك إسحاق، قال: وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم؛ لأنها تناقد قوله: اذبح بكرك ووحيدك، ولكن اليهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف وأحبوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم، ويختاروه لأنفسهم دون العرب، ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله.
ثم إننا نقول: وكيف يسوغ أن يقال: إ ن الذبيح إسحاق؟ والله - تعالى - قد بشَّر أم إسحاق به وبابنه يعقوب، قال - تعالى -:{وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} (هود: 71)، فمحال أن يبشرها بأن يكون لها ولد، وللولد ولد، ثم يأمر بذبحه، هذا كلام عظيم من شيخنا الشيخ أبو شهبة، ولا ريب أن يعقوب عليه السلام داخل في البشارة، ويدل عليه أيضًا أن الله ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح في سورة " الصافات "، ثم قال بعد ذلك:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} (فاطر: 112)، وهذا ظاهر جدًّا في أن المُبَشَّر به غير الأول، بل هو كالنص في ذلك، وغير معقول في أفصح الكلام وأبلغه أن يبشر بإسحاق بعد قصة يكون فيها هو الذبيح؛ فتعيَّن أن يكون الذبيح غيره، وهذا لا يكون إلا إسماعيل عليه السلام.
وأيضًا لا ريب أن الذبيح كان بمكة؛ ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها، كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار؛ تذكيرًا لشأن إسماعيل وأمه، وإقامته لذكر الله، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة دون إسحاق وأمه، ولو كان الذبح بالشام -كما يزعم أهل الكتاب- لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة، وأيضًا فإن الله -سبحانه- سمى الذبيح "حليمًا"؛ لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه، ولما ذكر إسحاق سماه "عليمًا":{فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} (الذاريات: 28)، وهذا إسحاق بلا ريب؛ لأنه من امرأته وهي المبشرة به، وأما إسماعيل فمن السرية، وأيضًا فلأنهما بُشِّرا به على الكبر واليأس من الولد، فكان ابتلاؤهما بذبحه أمرًا بعيدًا، وأما إسماعيل فإنه ولد قبل ذلك .. إلى آخر ما قال، وكلمة إسماعيل من السرية؛ السرية: أي الجارية.
أما الآثار التي تدل على أن الذبيح إسماعيل فكثيرة، فقد دلَّت بعض الأحاديث عن الصحابة والتابعين، أحاديث وآثار على أن الذبيح إسماعيل، روى الحاكم في (المستدرك) وابن جرير في تفسيره بسنده، وغيرهما، عن عبد الله بن سعيد الصنابحي قال: "حضرنا مجلس معاوية، فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق، أيهما الذبيح؟ فقال بعضهم: إسماعيل، وقال البعض: إسحاق، فقال معاوية: على الخبير سقطم، كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فآتاه أعرابي، فقالوا: يا رسول الله خلفت الكلأ يابسًا، والمال عابسًا -يراد أن الحياة كان فيها شدة وبأس، شدة جوع وعطش- هلك ال عيال وضاع المال، فعُد علي مما أفاء الله -تعالى- عليك يابن الذبيحين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُنكر عليه، فقال القوم: من الذبيحان يا أمير المؤمنين؟ فقال: إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله إن سهل أمرها أن ينحر بعض بنيه، فلما فرغ أسهم بينهم فكانوا عشرة، فخرج السهم على عبد الله، فأراد أن ينحره فمنعه أخواله بنو مخزون، وقالوا: ارضِ ربك وافد ابنك، ففداه بمائة ناقة، قال معاوية: هذا واحد والآخر إسماعيل.
يقول الشيخ "أبو شهبة" في تخريجه على هذا الحديث هذا الحديث في حكم المرفوع لتقرير النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي على مقالاته، واختلف فيه؛ فمنهم من صححه، ومنهم ضعفه، ولكنه أثر موجود.
وشهد شاهد على أهلها فقد روى ابن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي، أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة، فقال له عمر: إن هذا لشيء ما كنت انظر فيه، وإني لأراه كما قلت، ثم أرسل إلى رجل كان يهوديًّا، فأسلم، وحسن إسلامه، وكان من علمائهم، فسأله: أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: إسماعيل والله يا أمير المؤمنين، وإن يهودًا لتعلم بذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب، وهذا هو الحق الذي يجب أن يصار إليه.
قال العلامة ابن كثير في تفسيره: والذي استدل به محمد بن كعب القرظي على أنه إسماعيل أثبت وأصح وأقوى، والله أعلم. انظر تفسير ابن كثير، وانظر أيضًا (معالم التنزيل) للبغوي، فقد أوردوا هذه الرواية وقالوا هذا الكلام.
وبعد هذا التحقيق والبحث يتبيَّن لنا أن الصحيح أن الذبيح إسماعيل عليه السلام وأن ما رُوي من أنه إسحاق والمرفوع منه إما موضوع وإما ضعيف لا يصح الاحتجاج به، والموقوف منه على الصحابة أو على التابعين إن صح سنده إليهم، نقول: هو صحيح الإسناد لكنه في المتن من الإسرائيليات التي رواها أهل الكتاب الذين أسلموا، وأنها في أصلها من دسائس اليهود وكذبهم وتحريفهم للنصوص؛ حسدًا للعرب ولنبي العرب، فقاتلهم الله أنَّى يُؤفكون، يريدون أن يقولوا: إن النبي من العرب من نسل إسماعيل عليه السلام نحن نقول: إنه رسولنا من نسل إسماعيل عليه السلام لكنهم يريدون أن يقولوا: إنه نبي للعرب فقط، ونحن نقول: هو نبي الله إلى قومه وإلى الناس كافة، فهو رسول الله إلى الناس جميعًا.
هذا الدسّ اليهودي جاز على بعض كبار العلماء كابن جرير والقاضي عياض والسهيل؛ فذهبوا إلى أنه إسحاق، وتحيَّر بعضهم في الروايات فتوقف؛ الإمام السيوطي العجب منه أن نراه يتوقف عند هذه الروايات، وحاول البعض الجمع بينها فزعم أن الذبح وقع مرتين، شيء عجيب، والحق هو ما سبق القول به وهو أنه إسماعيل عليه السلام فهو القول الذي تؤيّده الشواهد والآثار والنصوص، والله أعلم.
ثم نعقّب بأن الإسرائيليات في قصص الأنبياء والأمم السابقة كثيرة، ما أكثرها، وما أشدّ خطرها على كتب الثقافة الإسلامية؛ وخاصة كتب التفسير، كتب
التفسير على اختلاف مناهجها جاء فيها إسرائيليات كواذب، مرويات بواطل لا يحصيها العدّ، وهذا يتعلق بقصص الأنبياء والمرسلين والأمم والأقوام السابقين، والعجب أن بعض الصحابة والتابعين يروون هذا الهراء، وربما رفعوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هذه المرويات والحكايات لا تمّت إلى الحقيقة، ولا تمت إلى الإسلام، وإنما هي من خرافات بني إسرائيل وأكاذيبهم وافتراءاتهم على الله وعلى رسوله، رواها عن أهل الكتاب الذين أسلموا وأخذها منهم الصحابة أو بعض الصحابة والتابعين، وفيها ما هو محرف، وفيها ما هو منقول من الأباطيل، والحقيقة لا يمكن استقصاء كل ما ورد من الإسرائيليات وإلا احتجنا إلى مجلدات، وإنما سنكتفي بما ورد في المنهج ونبين بطلانه وخطأه، وخاصة ما يخل بالعقيدة الصحيحة إن شاء الله.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.