الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثاني
(الإسرائيليات (2))
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
أقسام الإسرائيليات:
تنقسم باعتبار معنى الخبر الإسرائيلي وموضوعه، وهو بهذا ينقسم إلى ما يتعلق بالعقائد، وما يتعلق بالأحكام، وما يتعلق بالمواعظ أو الحوادث التي لا صلةَ لها لا بالعقائد، ولا بالأحكام، نأخذ مثالًا سريعًا عن كل نوعٍ من هذه الأنواع، ثم نثنِّي بما هو أهم، وهو أقسام الإسرائيليات من حيث القبول والرد.
أولًا: ما يتعلق بالعقائد:
رويت عندنا أحاديث صحيحة، منها ما رواه البخاري في كتاب التفسير، باب قوله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (الأنعام: 91) ونص الحديث الذي رواه الإمام البخاري قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع، والأراضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثَّرَى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول -جل وعلا-: أنا الملك. فضِحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه؛ تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} .
فمعنى قول الراوي: "فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبر": اختلف علماؤنا حول قول الراوي هذا، فمنهم من ذهب إلى أن ضحك النبي صلى الله عليه وسلم من قول الحبر لم يكن تصديقًا له، كما فهم الراوي، وصرح بذلك في رواية أخرى، وإنما كان تعجبًا وإنكارًا لقول اليهودي الذي يفيد التجسيم والتشبيه.
ممن ذهب إلى هذا الرأي الإمام الخطابي، كما نقل عنه ابن حجر في شرحه على هذا الحديث قال: قال الخطابي: لم يقع ذكر الإصبع في القرآن، ولا في حديث
مقطوع به، وقد تقرر أن اليد ليست بجارحة حتى يتوهم في ثبوتها الأصابع، بل هو توقيف أطلقه الشارع فلا يكيف هذا، ولا يشبه، ولعل ذكر الأصابع من تخليط اليهودي؛ لأن اليهود كما نعرف مشبهة، وفيما يدعونه من التوراة ألفاظ تدخل في باب التشبيه، ولا تدخل في مذاهب المسلمين.
وأما ضحكه صلى الله عليه وسلم من قول الحبر، فيحتمل الرضا والإنكار؛ يعني: يحتمل هذا وذاك، وأما قول الراوي:"تصديقًا له"، فهذا ظن من الراوي وحسبان، وقد جاء الحديث من طرق أخرى ليس فيها هذه الزيادة، وعلى كل حال على تقدير صحتها، قد يستدل بحمرة الوجه على الخجل، كما يستدل بصفرته على الوجل، ويكون الأمر بخلاف ذلك، كما فهمنا.
وعلى تقدير أن يكون هذا محفوظًا، فهو محمول على تأويل قول الله -جل وعلا-:{وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: 67).
كما أن الإمام ابن حجر نقل في موضعٍ آخر من (فتح الباري) عن ابن التين أنه قال: تكلف الخطابي في تأويل الإصبع، وبالغ حتى جعل ضحكه صلى الله عليه وسلم تعجبًا وإنكارًا لما قال الحبر، ورد ما وقع في الرواية الأخرى:"فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبًا وتصديقًا" بأنه على قدر ما فهم الراوي.
قال الإمام النووي: وظاهر السياق أنه ضحك تصديقًا له بدليل قراءة الآية التي تدل على صدق ما قال الحبر.
وعلى كل حال فالأولى في هذه الأشياء الكف عن التأويل مع اعتقاد تنزيه الله -جل وعلا- فإن كل ما يستلزم النقص من ظاهرها غير مراد في هذه النصوص.
ثانيًا: النوع الثاني: ما يتعلق بالأحكام، وهنا أيضًا روى الإمام البخاري رحمه الله في كتاب التفسير في باب:{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران: 93) روى لنا حديثًا عن نافع
عن ابن عمر: أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأةٍ قد زنيَا فقال لهم: ((كيف تفعلون بمن زنا منكم؟)) قالوا: نحممها؛ أي: نسود وجهها، أو نحممهما ونضربهما، فقال النبي عليه الصلاة والسلام:((لا تجدون في التوراة الرجم؟)) فقالوا: لا نجد فيها شيئًا. فقال لهم عبد الله بن سلام - عالمهم وحبرهم وإمامهم-: كذبتم: {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران: 93) فوضع مدراسها الذي يدرسها منهم كفه على آية الرجم، فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها، ولا يقرأ آية الرجم، فنزع يده عن آية الرجم، فقال: ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا: هي آية الرجم، فأمر بهما فرجما قريبًا من حيث موضع الجنائز.
قال: فرأيت أنهم يميلون وينحنون عليها، وهي تضرب بالحجارة، مثال ذلك، وهو ما يتعلق بالمواعظ أو الحوادث التي لا تمت إلى العقائد والأحكام بصلة ما أورده ابن كثير عند قوله:{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} (هود: 37) ذكر محمد بن إسحاق عن التوراة أن الله أمر نوحًا أن يصنع السفينة من خشب الساج، وأن يجعل طولها ثمانين ذراعًا وعرضها خمسين ذراعًا وأن يطلي باطنها وظاهرها بالقار، وأن يجعل لها جؤجؤًا أزور يشق الماء
…
كل هذا من كلام الإسرائيليات باعتباراتها المختلفة التي ذكرنا أنها تتعلق إما بالعقائد أو بالأحكام أو بالمواعظ.
أما أقسام الإسرائيليات من حيث القبول والرد، فهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أولًا: القسم الأول: ما جاء موافقًا لما في كتاب الله سبحانه وتعالى لما في قرآن ربنا، فهذا نؤمن به ونصدقه، مثال ذلك: ما رواه البخاري عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. قال: "والله إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ،
ولا غليظ، ولا صخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به قلوبًا غلفًا، وآذانًا صمًّا، وأعينًا عميًا".
قال عطاء: ثم لقيت كعبًا، فسألته عن ذلك، فما اختلفا حرفًا إلا أن كعبًا قال بلغته:"قلوبيًّا غلوفيًّا، وآذانًا صمميًّا، وأعينًا عمميًّا".
هذا هو القسم الأول جاء في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقوالهم ما يتفق تمامًا مع ما في القرآن الكريم.
القسم الثاني: ما جاء عنهم مخالفًا في شريعتنا، مثل الروايات التي تنص على أن الله لما فرغ من الخلق استراح في اليوم السابع، والتي تذكر أن الرب حَزِنَ؛ لأنه عمل الإنسان في الأرض، وأنه تأسَّف في قلبه لما كثرت ذنوب الإنسان، ومثلما ورد في شرب نوحٍ الخمر، فسكِر وتعرى، وما ورد في شأن لوط وأنه زنا بابنتيه وحملَا وأنجبَا!! كل هذه الأكاذيب والخرافات والأباطيل لا يمكن أن يقبلها عقل، ولا يتصور أنها ترد في شرع.
هذا القسم ينافي عقيدة الإسلام والمسلمين؛ ولذلك فهو مرفوض مردود في وجه صاحبه إلى أن يلقى ربه فيجازيه بما هو أهله من الخزي المقيم، والهوان العظيم.
القسم الثالث: لا يأتي موافقًا، ولا مخالفًا، إنما هو مسكوت عنه، لا دليل عليه في شرعنا يؤيد صدقه، ولا برهان في ديننا ينص على كذبه وإنكاره، مثال ذلك ما يروى عن اسم الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وعن عدد الذين أحياهم عيسى ابن مريم بإذن الله سبحانه وأسمائهم، أو عن أنواع الطعام التي كانت على مائدة عيسى عليه السلام أو عن البعض في البقرة الذي ضُرِبَ به قتيل بني إسرائيل، كما قال ربنا:{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} (البقرة: 74).
هذه الأمور لم تُقيد، ولم تفصل عندنا، فغالب ذلك -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في (مقدمة أصول التفسير) له،: هذا مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني،