الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السابع
(نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (5))
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
قصة ذي القرنين:
ذلك الرجل الذي تحدثت عنه سورة "الكهف"، وبينت لنا أنه كان رجلًا ملِكًا، آتاه الله من كل شيء، والقرآن الكريم عندما يشير إلى أشياء هو يشير إلى أشياء باختصار على قدر ما يأخذ من العظة والعبرة، لكن الإسرائيليات فتحت الأبواب على مصاريعها، فما تمر قصة لنبي، أو قصة لشخصية، كذي القرنين، ولقمان، وأصحاب الأخدود، وعزير، وغير هؤلاء، إلا وترى أن الإسرائيليات سرت إلى كتب التفسير بأخبار كثيرة في هذا الشأن.
فنقول: ومن الإسرائيليات التي طفحت بها بعضُ كتب التفسير ما يذكرونه في تفسيرهم عند الآيات التي ذُكرت في سورة الكهف.
أما الآيات فهي قول الله -جل وعلا-: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا} (الكهف: 83 - 85) والآيات تتوالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} (الكهف: 86){حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} (الكهف: 90){حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} (الكهف: 93). وردت الآيات في هذا الشأن واضحة، أوجزت الإخبار عن هذا الملك الذي كان مطيعًا لله، وسخَّر الله له كثيرًا من الأشياء كما قال:{وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا} .
الإمام ابن جرير عادةً ما يكون أسبقَ مَن تحدَّث ونقل هذه الأخبار كغيره من التفاسير القديمة، ذكر في تفسيره بسنده عن وهب بن منبه اليماني، وكان له عِلم بالأحاديث الأولى، كان له دراية وصلة بالأخبار القديمة والقصص القديم، وما كان قبل الإسلام، فيقول:
ذو القرنين رجل من الروم، ابن عجوز من عجائزهم، ليس له ولد غيره، وكان اسمه الإسكندر، وإنما سُمي ذا القرنين أن صفحتي رأسه كانتَا من النحاس، فلما بلغ: وكان عبدًا صالحًا، قال الله عز وجل له: يا ذا القرنين، إني باعثك إلى أمم الأرض، وهي أمم مختلفة ألسنتهم، وهم جميع أهل الأرض، ومنهم أمتان بينهما طول الأرض كله، ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض كله، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج.
ثم استرسل في ذكر أوصافه، وما وهبه الله من العلم والحكمة، وأوصاف الأقوام الذي لقيهم، وما قال لهم، وما قالوا له، وفي أثناء ذلك يذكر ما لا يشهد له عقل ولا نقل، وقد سوَّد بهذه الأخبار أكثر من أربع صحائف من كتابه (جامع البيان) التي ليس لها مستند.
إ نه قد ورد في قصة ذي القرنين أخبار وروايات كثيرة، ذكرها ابن جرير في ت فسيره وغيره، وكنا وصلنا إلى أنه ذكر أشياء لا يشهد لها عقل ولا نقل، وما ورد في وصف ذي القرنين والأمم التي شهدها.
وردت كذلك روايات أخرى في سبب تسميته بـ"ذي القرنين" مما لا يخلو عن الخط أوالتخليط والتخبُّط، فقد ذكر ذلك عن غير ابن جرير، الإمام السيوطي في كتابه التفسير (الدر المنثور)، حيث قال:
وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم، والشيرازي في (الألقاب)، وأبو الشيخ، عن وهب بن منبه اليماني أيضًا، وهو صاحب الرواية التي نقلها ابن جرير، وكان له علم بالأحاديث الأولى أنه كان يقول: كان ذو القرنين رجلًا من الروم، ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره، وكان اسمه " الإسكندر "، وإنما سمي ذا القرنين؛ ل أن صفحتي رأسه كانتا من نحاس، هكذا كما وردت
رواية ابن جرير. ونحن لا نشك في أن ذلك مما تلقاه وهب بن منبه عن كتبهم، وفيها ما فيها من الأباطيل والأكاذيب.
ثم حملها عنه بعض التابعين، وأخذها عنهم محمد بن إسحاق وغيره من أصحاب كتب التفسير والسير والأخبار. ويرحم الله الإمام الحافظ ابن كثير حيث قال في ت فسيره:
وقد ذكر ابن جرير هاهنا عن وهب بن منبه أثرًا طويلًا عجيبًا في سير ذي القرنين، وبنائه السد، وكيفية ما جرى له، وفيه طول وغرابة ونَكَارة في أشكالهم وصفاتهم وطولهم وقصر بعضهم وآذانهم، إلى غير ذلك.
كما روى ابن أبي حاتم عن أبيه أحاديث غريبة في ذلك لا تصح أسانيدها، والله أعلم.
هذا كلام ابن كثير، وحتى لو صح الإسناد إليها فلا شك في أنها من الإسرائيليات؛ لأنه لا تنافي بين الأمرين؛ فهي صحيحة السند إلى من رويت عنه، لكنها في نفسها من قصص بني إسرائيل المكذوب الباطل وأخبارهم التي لا تصح، ولو أن هذه الإسرائيليات وقف بها عند منابعها أو من حملها عنهم من الصحابة والتابعين لكان الأمر محتملًا، ولكن الإثم والكذب والباطل أن تُنسب هذه الأخبار إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولو أنها كما أسلفنا، كانت صحيحة في معناها ومبناها لما حل نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدًا، فكيف وهي أكاذيب ملفقة وأخبار باطلة؟.
روى أيضًا ابن جرير وغيره عند تفسير قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} (الكهف: 83)، أورد حديثًا مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا زيد بن حباب عن ابن لهيعة قال: حدثني
عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن شيخين من تجيب أنهما انطلقا إلى عقبة بن عامر فقالا له: جئنا لتحدثنا، فقال:" كنت يومًا أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت من عنده، فلقيني قوم من أهل الكتاب، فقالوا: نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن لنا عليه، فدخلت عليه فأخبرته، فقال: ما لي ولهم، ما لي علم إلا ما علمني الله، ثم قال: اسكب لي ماءً، فتوض أثم صلى، قال: فلما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه، ثم قال: أدخلهم عليّ ومن رأيت من أصحابي، فدخلوا فقاموا بين يديه، فقال: إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبًا، وإن شئتم أخبرتكم، قالوا: بلى، أخبرنا، قال: جئتم تسألون عن ذي القرنين، وما تجدونه في كتابكم، كان شابًّا من الروم، فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندري، فلما فرغ جاءه ملك، فعلى به في السماء، فقال له: ما ترى، فقال: أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به فقال: ما ترى؟ قال: أرى مدينتي، ثم علا به، فقال: ما ترى؟ قال: أرى الأرض، قال: فهذا اليم محيط بالدنيا، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل، وتثبِّت العالم، فأتي به السد، وهو جبلان ليّنان ينزلق عنهما كل شيء، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج، ثم مضى به إلى أمة أخرى، وجوههم وجوه الكلاب، يُقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب، ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم "، ثم عقَّب ذلك بسرد المرويات في سرد المرويات في سبب تسميته بذي القرنين .. إلخ. كل هذا ذكره (جامع البيان) ابن جرير.
وذكر الإمام السيوطي في (الدر المنثور) مثل ذلك، وقال: إ نه أخرجه ابن عبد الحكم في (تاريخ مصر)، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في (الدلائل).
والحقيقة أن كل هذا من الإسرائيليات التي دُسَّت على النبي صلى الله عليه وسلم ولو شئت أن أقسم بين الركن والمقام أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال هذا لأقسمت، وابن لهيعة ضعيف في الحديث، وقد كشف لنا الإمام الحافظ ابن كثير عن حقيقة هذه الرواية في ت فسيره، وأنحى باللائمة على من رواها، فقال رحمه الله:
وقد أورد ابن جرير هـ اهنا والأموي في مغازيه، حديثًا أسنده وهو ضعيف، عن عقبة بن عامر، أن نفرًا من اليهود جاءوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين فأخبرهم بما جاءوا له ابتداء، فكان فيما أخبرهم به: أنه كان شابا من الروم، وأنه بنى الإسكندرية، وأنه علا به ملك في السماء، وذهب به إلى السد، ورأى أقوامًا وجوههم مثل وجوه الكلاب، وفيه طول ونكارة، ورفعه لا يصح، وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل، والعجب أن أبا زرعة الرازي، مع جلالة قدره، ساقه بتمامه في كتابه (دلائل النبوة)، وذلك غريب منه، وفيه من النكارة أنه من الروم، وإنما الذي كان من الروم الإسكندر الثاني وهو ابن فيليبس المقدوني، الذي تؤرخ به الروم، وكان وزيره أرسطا طاليس الفيلسوف المشهور، والله أعلم. هذا كلام العلامة ابن كثير.
وهنا نسأل من هو ذو القرنين؟
والذي نقطع به أنه ليس الإسكندر المقدوني؛ لأن ما ذكره المؤرخون في تاريخه لا يتفق وما حكاه القرآن الكريم عن ذي القرنين، والذي نقطع به أيضًا أنه كان رجلًا مؤمنًا صالحًا، ملكه شرق الأرض وغربها، وكان من أمره ما قصه الله - تعالى - في كتابه، وهذا ما ينبغي أن نؤمن به وأن نصدقه، أما معرفة هويته، وما اسمه؟ ومن أين؟ وفي أي زمان كان؟ فليس في القرآن ولا في السنة الصحيحة ما