الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الحادي عشر
(نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (9))
تابع الإسرائيليات التي وردت في قصة يوسف عليه السلام
-
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
لا زلنا مع نبي الله يوسف عليه السلام تلك القصة التي ذُكرت مكتملة في سورة "يوسف" وفيها ما فيها من الإسرائيليات التي أوردها المفسرون في تفسيرهم، وسبق أن تكلمنا عن يوسف عليه السلام وعن الآيات التي بينت أن امرأة العزيز راودته عن نفسه، وأنه كان صادقً؛ إذ لم يقترب من جانب الخط، والآيات في هذا في هذه السورة وغيرها كثيرة، فالله جل جلاله يقول:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف: 24).
وقلت: من الآيات ما يوضح براءة هذا الرسول المعصوم -صلوات الله وسلامه عليه- وماذا بعد قول الله -جل وعل-: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (يوسف: 23).
وتتوالى الآيات ونرى الآية {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف: 24).
ولقد شهد الشيطان نفسه من الآيات ليوسف عليه السلام عندما قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص: 82) فيوسف من عباد الله المخلصين.
والآيات على لسان هذه المرأة بطلة المراودة عندما تقول: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} ولما استبقا الباب وصل يوسف إلى الباب يهرب منها؛ فعند ذلك وجده الملك وعندها جاء شاهد ليشهد في القضية {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ} 29).
والآيات كثيرة فهي أيضًا تقول: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (يوسف: 51).
ثم ننتقل بعد ذلك إلى قوله -جل وعل-: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} (يوسف: 52) وفيها إسرائيليات كثيرة وردت، وقبلها نذكر ما ذكره المفسرون أيضًا إذ يقولون: إن يوسف هم بهذه المرأة هما صحيحًا وجلس منها مجلس الرجل من المرأة، فلما رأى البرهان من ربه زالت كل شهوة عنه.
هذا كلام لا يقبله العقل ويقدح في عصمه الأنبياء، ومن هنا نستكمل ما بدأناه، يقول علماؤن؛ يقول الدكتور محمد أبو شهبة، والعلماء ذوي البصيرة يقولون: إن هذا الكلام فيه غفلة شديدة من الأئمة الذين ذكروا هذا الكلام، وهذا كلام لا نرضاه، ولولا أننا ننزه ألسنتنا وأقلامنا عن الهُجر من القول، وأنهم خلطوا في مؤلفاتهم عملًا صالحًا وآخر سيئًا؛ لقسونا عليهم في الحكم على نقلهم لهذا الكلام، فنسأل الله لنا ولهم العفو والمغفرة.
يقول شيخنا الدكتور محمد أبو شهبة: وهذه الأقوال التي أسرف في ذكرها هؤلاء المفسرون؛ إما إسرائيليات وخرافات وضعها زنادقة أهل الكتاب القدماء الذين أرادوا بها النيل من الأنبياء والمرسلين، ثم حملها معهم أهل الكتاب الذين أسلموا وتلاقها عنهم بعض الصحابة والتابعين بحسن نية أو اعتمادًا على ظهور كذبها وزيفه، وإما أن تكون مدسوسة على هؤلاء الأئمة دسّها عليهم أعداء الأديان كي تروج تحت هذا الستار، وبذلك يصلون إلى ما يريدون من إفساد العقائد وتعكير صفو الثقافة الإسلامية الأصيلة الصحيحة؛ وهذا ما نميل إليه.
ننتقل إلى الفرية الأخرى على سيدنا يوسف؛ وهي ما ذكروه في قوله -جل وعل-: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} فلكي يؤيدوا باطلهم الذي ذكر فيما
مضي رواه عن الصحابة والتابعين ما لا يليق بمقام الأنبياء، واختلقوا على النبي -صلي الله عليه وسلم- زورًا، وقوّلوه ما لم يقله؛ قال صاحب (الدُّر) وأخرجه الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في (شُعب الإيمان) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما جمع الملك النِّسوة قال لهن: انتن {رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (يوسف: 51)، قال يوسف:{ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} فغمزه جبريل عليه السلام فقال: ولا حين هممت به، قال:{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} (يوسف: 53) هذا كلام لا يقبل لا عقلًا ولا شرعًا؛ وانظر إلى كلام النسوة: {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} (يوسف: 51)، وانظر اعتراف المرأة صاحبة القصة {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} -أي: ظهر- {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} .
أما نسبه هذا القول: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} نسبته إلى يوسف وما زادوه من أنّ جبريل جاءه وكلمه، وقال: ولا حين هممت به، هذا كلام مدسوسٌ يَقينًا. أخرج ابن جرير عن مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد، والسُدي مثل هذا الكلام.
وأخرج الحاكم في (تاريخه) وابن مردويه والديلمي عن أنس رضي الله عنه أنّ رَسول الله -صلي الله عليه وسلم- قرأ هذه الآية: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} قال: "لما قال يوسف ذلك قال له جبريل عليه السلام: ولا يوم هممت بما هممت به؛ فقال: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} ".
قال: وأخرج ابن جرير عن عكرمة مثله وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن حكيم بن جابر في نفس الآية قال جبريل: "ولا حين حللت السراويل" إلى
غير ذلك من المرويات المكذوبة يقينًا والإسرائيليات الباطلة التي خرجها بعض المفسرين الذين كان منهجهم ذكر المرويات، وجمع أكبر قدر منها سواء منها ما صح وما لا يصح، والإخباريون الذين لا تحقيق عندهم للمرويات، وليس أدل على ذلك من أنها لم يخرجها أحدٌ من أهل الكتب الصحيحة، ولا أصحاب الكتب المعتمدة الذين يرجع إليهم في مثل هذا.
يقول شيخنا دكتور محمد أبو شهبة: وقد فات هؤلاء الدساسين الكذابين أن قوله -تعالى-: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} ليس من مقالة سيدنا يوسف عليه السلام وإنما هو من مقالة امرأة العزيز وهو ما يتفق وسياق الآية؛ ذلك أن العزيز لما أرسل رسوله إلى يوسف لإحضاره من السجن قال له: {قَالَ ارْجِعْ إلى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} (يوسف: 50) فأحضر النّسوة وسألهن، وشهدن ببراءة يوسف فلم تجد امرأة العزيز بدًّا من الاعتراف فقالت:{الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} (يوسف: 51 - 53).
فكل ذلك من قولها، ولم يكن يوسف حاضرًا ثَمّ -أي: هناك- بل كان في السجن؛ فكيف يعقل أن يصدر منه ذلك في مجلس التحقيق الذي عقده العزيز.
وقد انتصر لهذا الرأي الذي يتلاءم مع السياق والسباق شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية، وألف في ذلك تصنيفًا مستقلا على حده.
قال الإمام الحافظ المفسر ابن كثير في تفسيره: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} تقول إنما اعترفت بهذا على نفسها، أو إنما اعترفت بهذا علي نفسي؛ ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر، ولا وقع المحظور الأكبر، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع؛ فلهذا اعترفت ليعلم أني برئيه {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} تقول المرأة: ولست أبرئ نفسي؛ فإن النفس
تتحدث وتتمنى ولهذا راودته {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلا مَا رَحِمَ رَبِّي} أي: إلا من عصمه الله سبحانه وتعالى {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام، وقد حكاه الماوردي في تفسيره، وانتدب لنصره الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله فأفرضه بتصنيف على حدة، هذا كلام العلامة ابن كثير.
وبعد أن ذكر بعض ما ذكره ابن جرير الذي ذكرناه آنفًا عن ابن عباس وتلاميذه وغيره، قال: والقول الأول أقوى وأظهر وهو قول ابن عباس الذي يؤيد ما انتصر له الإمام ابن تيمة؛ لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف عليه السلام عندهم، بل بعد ذلك أحضره الملك.
ننتقل بعد ذلك إلى التفسير الصحيح لهذه الآية التي ذل فيها كثيرون؛ وهى قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} (يوسف: 24).
يقول شيخنا الشيخ أبو شهبة والعلماء ذوي البصيرة: والصحيح في تفسير قوله -تعالى-: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبّه} أنّ الكلام تم عند قوله -تعالى-: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} وليس من شك في أن همها كان بقصد الفاحشة {وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبّه} الكلام من قبيل التقديم والتأخير، والتقدير:"ولولا أن رَأَى برْهان ربه لهم بها" وقوله -تعالى-: {وَهَمَّ بِهَا} هذا جواب لولا مقدم عليه، ومعروف في اللغة العربية أنّ "لول" حرف امتناع لوجود؛ أي: امتناع الجواب لوجود الشرط؛ فامتنع الهم لوجود البرهان؛ أي: فيكون الهم ممتنعا لوجود البرهان الذي ركزه الله في فطرته، والمقدم إما الجواب أو دليله؛ على الخلاف في هذا بين النحويين.
لكن هنا نسأل: ما المراد بالبرهان الذي رآه؟ المراد هو حجة الله الباهرة الدالة على قبح الزنى، وهو شيء مركوز في فطر الأنبياء، ومعرفه ذلك عندهم وصل إلى عين اليقين، وهو ما نعبر عنه بالعصمة؛ فهذا البرهان هو الفطرة النقية والقلب السليم والإخلاص الذي ركزه رب العالمين في قلوب الأنبياء، والعصمة هي التي تحولُ بين الأنبياء والمرسلين وبين وقوعهم في المعصية.
ويرحم الله الإمام جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما حيث قال: البرهان النبوة التي أودعها الله في صدره حالت بينه وبين ما يُسخط الله عز وجل وهذا هو القول الجزل الذي يوافق ما دل عليه العقل من عصمة الأنبياء، ويدعو إليه السابق واللاحق.
وأما كون جواب "لول" لا يجوز أن يتقدم عليها؛ فهذا أمر ليس ذا خطر حتى نعدل عن هذا الرأي الصواب إلى التفسيرات الأخرى الباطلة لهمّ يوسف عليه السلام والقرآن هو أصل اللغة؛ فورود أي أسلوب في القرآن يكفي في كونه أسلوبًا عربيًّا فصيحًا، وفي تأصيل أي قاعدة من القواعد النحوية؛ أي: إن كلمات القرآن ولغة القرآن يُقعّد منها، ولا يُقعد عليها؛ فلا يجوزُ لأجل الأخذ بقاعدة نحوية أن نقع في محظورٍ لا يليق بالأنبياء كهذا، وخاصة أن قواعد النحو قواعد أغلبية وليست مجمع عليها من جميع العرب.
وقد قال الإمام الألوسي في تفسيره في الرد على المُبرد في تشنيعه على قراءة حمزة -هذا في موضع آخر- وحمزة أحد القراء السبعة فله قراءة في قوله: "وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ"(النساء: 1) بجر لفظ "الأرحام" عطفًا على الضمير المجرور من غير إعادة حرف الجر، وحمزة أحد القراء السبعة الذين قالوا أساطين الدين: إنّ قراءتهم متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع هذا لم يقرأ به وحده، بل قرأ به جماعه من غير السبعة؛ كابن مسعود وابن عباس والنخعي والحسن البصري وقتادة ومجاهد وغيرهم كما نقله ابن يعيش.
فالتشنيع على هذا الإمام في غاية الشناعة، ونهاية الجسارة والبشاعة، وربما يُخشى منه الكفر، وما ذكر من امتناع العطف على الضمير المجرور هو مذهب البصريين، ولسنا متعبدين باتباعهم، وقد أطال أبو حيان في (البحر) الكلام في الرد عليهم، وادعى أن ما ذهبوا إليه غير صحيح، بل الصحيح ما ذهب إليه الكوفيين من الجواز.
وورد ذلك في (لسان العرب) نثرًا ونظمًا وإلى ذلك ذهب العلامة ابن مالك.
وقيل: إن ما حصل من هَمّ يوسف كان خَطرةً وحديث نفس بمقتضى الفطرة البشرية، ولم يستقر ولم يظهر له أثر؛ قال البغوي في تفسيره: قال بعض أهل الحقائق: الهمُ همان؛ همُ ثابتً: وهو إذا كان معه عزم وعقد ورضى، مثل هم امرأة العزيز، والعبد مأخوذ به. وهمُ عارضً: وهو الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم، مثل هم يوسف عليه السلام والعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم به ويعمل، هكذا قال البغوي.
وقيل: همت به هم شهوة وقصد للفاحشة، وهم هو بضربه، يقول شيخنا الشيخ أبو شهبة: ولا أدري كيف يتفق هذا القول وقوله -تعالي-: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} .
مما أذكر أيضًا أن القول بأن هَمّ يوسف كان بضربها ودفعها قال به كثيرٌ من المفسرين، وسواء كان يتوافق ولا يتوافق؛ ففيه تنزيه لساحته، لكن الحق ما سبق إليه القول؛ وهو أن جواب "لول" فيه تقديم وتأخير فلولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فيكون الهمُّ ممتنعًا ولم يقع منه لوجود البرهان، وهو الذي ركزه الله في فطرة الأنبياء والمرسلين من نقاء القلب والعصمة الواجبة لهم.
فنقول: القول الجزل هو هذا الرأي الذي نستريح إليه، والسر في إظهاره في هذا الأسلوب والله أعلم تصوير المشهد المثير المغري العرم الذي هيئته امرأة العزيز لنبي الله يوسف، وأنه لولا عصمة الله له، وفطرته النبوية الذكية لكانت الاستجابة له، والهَمُّ بِهَا أمرًا مُحققًا، وفى هذا تكريمُ ليوسف وشهادة له بالعفة البالغة والطهارة الفائقة.
ننتقل بعد ذلك إلى ما ورد في لُبث يوسف عليه السلام في السجن ولعلها المشهد الأخير الذي نروي فيه ما ساقه المفسرون.
فمن الإسرائيليات ما يذكره بعضُ المُفَسّرين في مدة سجن يوسف -علية السلام- وفي سبب لُبثه ومُكثه في السجن بضع سنين، وذلك عند تفسير قوله -تعالى-:{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} (يوسف: 42) فقد ذكر ابن جرير والثعلبي والبغوي وغيرهم أقوالًا كثيرة في هذا، فقد قال وهب بن مُنبه: أصاب أيوب البلاء سبع سنين، وتُرك يوسف في السجن سبع سنين، وعذب "بختنصر" فحول في السباع سبع سنين.
والحقيقة يعلق الشيخ أبو شهبة لا أدري ما المناسبة بين نبي الله وبين "بختنصر" الذي أذل اليهود وسباهم.
على كل حال؛ وقال مالك بن دينار: لما قال يوسف للساقي: اذكرني عند ربك، قيل له: يا يوسف، اتخذت من دوني وكيلًا لأطيلنّ حبسك؛ فبكى يوسف، وقال: يا ربّ، أنسى قلبي كثرة البلوى؛ فقلت كلمة ولن أعود.
وقال الحسن البصري: دخل جبريل عليه السلام على يوسف في السجن، فلما رآه يوسف عرفه، فقال له: يا أخ المنذرين، أني أراك بين الخاطئين، فقال له جبريل:
يا طاهر، يا بن الطاهرين يقرأ عليك السلام رب العالمين، ويقول لك: أما استحييت مني أن استشفعت بالآدميين فوعزتي وجلالي لألبثنك في السجن بضع سنين، فقال يوسف: وهو في ذلك عني راضٍ؟ قال: نعم، قال: إذًا لا أبالي.
وقال كعب الأحبار: قال جبريل ليوسف: إن الله -تعالى- يقول: من خلقك؟ قال: الله عز وجل، قال: فمن حببك إلى أبيك؟ قال: الله، قال: فمن نجاك من كرب البئر، قال: الله، قال: فمن علمك تأويل الرؤي؟ قال: الله، قال: فمن صرف عنك السوء والفحشاء؟ قال: الله، قال: فكيف استشفعت بآدمي مثلك؟ فلما انقضت سبع سنين قال الكلبي: وهذه السبع سوى الخمسة التي قبل ذلك.
يعلق شيخنا الشيخ أبو شهبة فيقول: بعض المفسرين لا يكتفي بالسبع، بل يضم إليها خمسًا قبل ذلك، ولا أدري ما مستنده في هذا، وظاهر القرآن لا يشهد له؛ فلو كان كذلك لصرح به القرآن أو لأشار إليه؛ فلما انقضت السنين جاءه الفرج من الله؛ فرأى الملك ما رأى من الرؤيا العجيبة، وعجز الملأ عن تفسيره؛ تذكر الساقي يوسف وصِدْق تعبيره للرؤى فذهب إلى يوسف، فعبرها له خير تعبير فكان ذلك سبب نجاته من السجن، وقول امرأة العزيز:{الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} وأغلب الظن عندي أنّ هذا من الإسرائيليات، هذا كلام علمائن؛ يقول الدكتور محمد أبو شهبة: وهذا من الإسرائيليات؛ فقد صورت سجن يوسف على أنه عقوبة من الله؛ لأجل الكلمة التي قالها، مع أنه عليه السلام لم يقل هجرًا ولا منكرًا؛ فالأخذ في أسباب النجاة العادية، وفي أسباب إظهار البراءة والحق لا ينافي قط التوكل على الله -تعالى- والبلاء للأنبياء ليس عقوبة، وإنما هو لرفع درجاتهم؛ وليكونوا أسوة وقدوة لغيرهم في باب الابتلاء.
وفي الحديث الصحيح عن النبي -صلي الله عليه وسلم-: ((أشد الناس بلاء الأنبياء، فالأمثل فالأمثل))، وقد روى أبن جرير هاهنا حديثًا مرفوعًا؛ فقال: حَدّثنا ابن وكيع قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن إبراهيم ابن يزيد، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا، قال: قال النبي -صلي الله عليه وسلم-: "لو لم يقل -يعني: يوسف- الكلمة التي قالها ما لبث في السجن طول ما لبث؛ حيث يبتغي الفرج من عند غير الله" ولو أن هذا الحديث كان صحيحًا أو حسنًا؛ لكان للمتمسكين بمثل هذه الإسرائيليات التي أظهرت سيدنا يوسف بمظهر الرجل المذنب المدان وجهة؛ ولكن الحديث شديد الضعف، كما قال علماؤنا: لا يجوز الاحتجاج به أبدًا، وهذا قول شيخنا الدكتور محمد أبي شهبة.
قال الإمام الحافظ الناقد ابن كثير: وهذا الحديث ضعيف جدًّ؛ أي لا يحتج به، لا في الأحكام ولا في الفضائل؛ فما بالك في مثل هذا؛ لأن سيفان بن وكيع الراوي عنه ابن جرير ضعيف، وإبراهيم بن يزيد أضعف منه أيضًا، وقد روى عن الحسن وقتادة مرسلً؛ روي الحديث مرسلًا عن كل منهما، وهذه المرسلات هاهنا لا تقبل، لو قبل المرسل من حيث هو في غير هذا الموطن، والله أعلم، طبعًا لا يحتج به.
وقد تكلف بعض المفسرين بالإجابة عما يدل عليه هذا الحديث وحاله كما سمعت، بل تكلف بعضهم؛ فجعل الضمير فيه {فَأَنْسَاهُ} ، جعل الضمير ليوسف وهو غير صحيح، والذي يجب أن نعتقده أن يوسف عليه السلام مكث في السجن كما قال الله -تعالى- بضع سنين، وكلمه البضع من الثلاث إلى التسع أو إلى العشرة بغير تحديد بالمدة؛ فجائز أن تكون سبعة، وجائز أن تكون تسعًا، وجائز أن تكون خمسًا، ما دام ليس هناك نقل صحيح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم وكذلك