الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير بالرأي
ولننتقل إلى التفسير بالرأي حتى ننطلق بعد ذلك إلى بيان أقسام الدخيل في الرأي وأنواعه وألوانه، وقبل أن نبدأ الحديث عن تفاسير الفرق المبتدعة، وما يتفرع على التفسير بالرأي، نَمُرُّ بإيجاز سريع حول التفسير بالرأي.
نقول: التفسير بالرأي هل يجوز أو لا يجوز؟ ما هي ضوابط التفسير بالرأي؟ لن نتطرق إلى الأدلة بالتفصيل إلى القائلين بجوازه أو بمنعه، إنما نبذة عن التفسير بالرأي لكي نصل بعد ذلك إلى تفاسير الفرق المبتدعة.
ونبدأ بالتفسير بالرأي: اختلف العلماء في التفسير بغير المأثور؛ أي: بالتفسير بالرأي والاجتهاد؛ فذهب قوم إلى أنه لا يجوز لأحد أن يفسر شيئًا من القرآن، ولو كان عالمًا أديبا متسعًا في معرفة الأدلة والعلوم اللازمة للمفسر، وليس له أن ينتهي إلا إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وإلى صحابته الآخذين عنه ومن أخذ عنهم من التابعين.
وأجاز تفسير القرآن بالرأي والاجتهاد الأكثرون من السلف الصالح والعلماء؛ ولكل وجهة، ولكل أدلة، وسنعرف أن التفسير بالرأي إذا اكتملت له أسبابه وشروطه صار مقبولًا ممدوحًا، أما إذا اختلت الشروط ولم يستكمل العلومَ الكاملة التي تؤهل صاحبها للتفسير بالرأي؛ فسوف يصنف هذا من قبيل التفسير بالرأي المذموم، ومن ذلك دخلت أقوال الباطنية، والشيعة، والمعتزلة، والخوارج، وغير هؤلاء من الفرق الذين برأيهم أفسدوا كثيرًا من التفسير حول آيات القرآن الكريم.
ولنبدأ باختصارٍ وإيجازٍ: القائلون بعدم جواز التفسير بالرأي والاجتهاد أدلتهم؛ روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ)) وحديث آخر: ((اتقوا الحديث عليَّ إلا ما علمتم، فمن كذب علي متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار، ومن قال في القرآن برأيه؛ فليتبوأ مقعده من النار)).
ثالثًا: سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن تفسير حرفٍ من القرآن، فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، وأين أذهب وكيف أصنع، إذا قلت في حرف من كتاب الله؛ أي: في كلمة من كتاب الله بغير ما أراد الله، وفي رواية: إذا قلتُ في كتاب الله بما لا أعلم.
وأيضًا أوردوا عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن تفسير آية من آيات القرآن، قال: أنا لا أقول في القرآن شيئًا، بينما لو سئل عن الحلال والحرام تكلم.
وروي عن الشعبي أنه قال: ثلاثة لا أقول فيهن حتى أموت؛ القرآن والروح والرؤى -الرؤى هي تفسير الأحلام- وروي مثل هذا أدلةٌ كثيرة.
والذين أجازوا التفسير بالرأي والاجتهاد ناقشوا هذه الأدلة؛ قالوا: أما الأحاديث التي وردت في صحتها وثبوتها نظر، وأن المراد من قول من يقول في القرآن: إنني لا أتكلم، واتقوا الحديث وإنكار أبو بكر هذا يحمل على أن المراد من يفسر بمجرد رأيه وهواه، بأن يجعل الرأي أصلًا والقرآن تبعًا لرأيه؛ وذلك بأن يكون المسألة فيها رأي، وإليه ميل بطبعِهِ وهواه، فيتأول على وفق رأيه وهواه؛ فهذا لا شك مردود.
وأن المراد بالأحاديث التي ترفض، والتي تحذر من القول في القرآن المراد من يفسر المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى أو الذي يفسر القرآن، ولم يستكمل العلوم اللغوية والشرعية التي تؤهله، فمثل هذا وإن أصاب القول والصواب؛ فقد أخطأ الطريق الصحيح في تفسيره.
وما ذكر عن السلف من أنهم كانوا يتحاشون الكلامَ في القرآن فأيضًا هذا ما عارضه ما ورد عن الصديق رضي الله عنه فقد سئل عن معني الكلالة، فقال: أقول فيها
برأيي؛ فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه؛ الكلالة هي من لا ولد له ولا والد؛ فلما ولي الخلافة الفاروق عمر رضي الله عنه وأرضاه- قال: إني لأستحي أن أخالف أبي بكر في رأي رآه.
وهذا يدل على أن قوله: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني؟ إنما أراد به أن يتكلم بما لم يقم عليه دليل، أو بما لا علم له به، أو تخوفًا من أن لا يصيب مراد الله سبحانه وتعالى.
يقول لنا العلامة الحافظ ابن كثير: فهذه الآثار الصحيحة، وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم من الكلام في التفسير بما لا علم لهم فيه، فأما من تكلَّم بما يعلم من ذلك لغةً وشرعًا؛ فلا حرج عليه، ولذلك روي عن هؤلاء وغيرهم أقوالٌ في التفسير كثيرة، ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه، وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد، فكذلك يجب القول فيما سئل عنه الإنسان عملًا بقوله تعالى:{لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (آل عمران: 187) ولِمَا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي ورد من طرق: ((من سئل عن علم فكتمه؛ أُلجم يوم القيامة بلجام من نار)).
وأيضًا نقول استلالًا لجواز التفسير بالرأي مع الانضباط بالشروط: روي عن كثير من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير القرآن الكثير والكثير، كالسادة الأخيار؛ عليٌ، وابن مسعود، وابن عباس حبر الأمة الذي لا تجد آية من كتاب الله، إلا وله فيها رأي، وكذا أُبي بن كعب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأنس، وأبو هريرة، وغيرهم؛ فلولا أنت تفسير القرآن جائز لمن تأهل له؛ لما فعلوه؛ لأنهم كانوا أشد الناس ورعًا وتقوى، ووقوفًا عند حدود الله سبحانه وتعالى.
ثم تذكر أن تفسير القرآن قد ورد عن كثير من خيار التابعين؛ سعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، وعكرمة، وقتادة، والحسن البصري، وعطاء، ومسروق، والشعبي وغيرهم؛ مما يدل على أن من امتنع منهم من تفسير القرآن إنما كان زيادة احتياط، ومبالغةً في تورعهم.
بعد ذلك نقول: التفسير بالرأي والاجتهاد، هل هو يترجح جوازه؟ نقول: نعم، وإذا كانت الأدلة التي استند إليها المانعون لم تنهض أمام البحث والنظر، فقد تبين جوازُ التفسير بالرأي إذا كان مستكملًا للشروط.
مما يجب أن ننتبه إليه أن التفسير بالرأي ليس من قبيل الدخيل في التفسير؛ فإن التفسير بالرأي والاجتهاد الذي توفرت لصاحبه أسبابه؛ وهي العلم بالعلوم، والعلم بالأحكام الشرعية، وفروع اللغة العربية هذا جائز، وهذا واضح.
وأيضًا لو لم نفسر القرآن بالاجتهاد؛ لفات معني التدبر والتأمل في القرآن، الذي حثنا الله عليه في غير آية، ولفات الكثير مما اشتمل عليه الكتاب الكريم من الأحكام والآداب، وليس من شك في أن الصحيح الثابت المروي في تفسير القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم قليل بالنسبة إلى ما لم يروَ عنه فيه شيء، وكذلك ما روي عن الصحابة والتابعين لم يستوعب كل آيات القرآن الكريم هذا ما فيه من بعض الضعيف الموضوع والإسرائيليات.
وبعد ذلك نستطيع أن نقول: لا بد من البدء في تفسير القرآن الكريم بالرأي والاجتهاد، والأدلة في ذلك كثيرة ولو أننا وقفنا عند قول الله -جل وعلا-:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) وإلي قوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24) والآيات التي تذم كاتم العلم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (البقرة: 159).
ولا يخفى أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أصحاب مدارس عظيمة؛ فكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أعظم مدارس التفسير ثلاثة؛ مدرسة ابن عباس بمكة، ومدرسة ابن مسعود بالكوفة، ومدرسة أُُبَي بالمدينة؛ إن كل مدرسة من هذه المدارس كان لها رجالها وتلاميذها، وقد ملئوا ثقافة الأمة بأقوال صحيحة، وتفاسير مرضية.
والخلاصة: هل التفسير بالرأي كله مقبول؟
الجواب: إن التفسير بالرأي قسمان؛ الأول: التفسير الممدوح المقبول:
وهو التفسير المبني على المعرفة الكافية بالعلوم اللغوية، والقواعد الشرعية والأصولية؛ أصول الدين وأصول الفقه، وعلم الحديث والمصطلح، وألا يعارض نقلًا صحيحًا، ولا عقلًا سليمًا، ولا علمًا يقينًا ثابتًا مستقرًّا، مع بذل غاية الوسع في البحث والاجتهاد، والمبالغة في تحري الحق والصواب.
ومن هذا تفاسير كثيرة منها: تفاسير الإمام الرازي، ومنها (البحر للمحيط) لأبي حيان و (تفسير البيضاوي) و (تفسير روح المعاني) للآلوسي و (زاد المسير) لابن الجوزي، تفاسير كثيرة تملأ ثقافتنا الإسلامية.
القسم الثاني من التفسير بالرأي: وهو التفسير المذموم المردود:
وهو تفسير من غير تأهلٍ له بالعلوم التي لا بد منها للمفسر، أو التفسير بالهوى والاستحسان، أو التفسير المقصود به تأييد المذهب الفاسد والنِّحْلة الخاصة والرأي الباطل، أو تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى وهذا اللون من التفسير كثيرًا ما يشتمل على المرويات الواهية والباطلة، ولا ننطرق تفصيلًا؛ فإننا نعرف تفاسير الشيعة، تفاسير المعتزلة، تفاسير الخوراج، التفسير الإشاري لبعض الصوفية المغالين، ويندرج تحت هذا تفاسير الباطنية، وأقوال البابية، والبهائية، والملاحدة، ونحو ذلك.
أما الآن؛ فإذا قلنا: إن التفسير بالرأي إذا استوفى شروطه، واستكمل العلوم اللازمة جائز؛ فما هو المنهج القويم في تفسير القرآن الكريم؟
نستطيع أن نقول: إن المنهج القويم لمن يفسر كتاب الله تعالي يجب عليه أن يبحث في القرآن عن معنى الآيات؛ فإن لم يجد تفسير القرآن بالقرآن، فليطلبه فيما صح وثبت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن لم يجد فليطلبه في أقوال الصحابة، وليتحاشى الضعيف والموضوع والإسرائيليات؛ فإن لم يجد في أقوال الصحابة، فليطلبه في أقوال التابعين.
ويلاحظ أن التابعين إذا اتفقوا على شيء كان ذلك أمارة غالبًا على تلقيه عن الصحابة، أما إذا اختلفوا فلنتخير من أقوالهم، ونرجح ما يشهد له الدليل؛ فإن لم نجد في أقوالهم ما يصلح أن يكون تفسيرًا للآية؛ فليجتهد المفسر رأيه، ولا يقصر إذا كان مستكملًا لأدوات الاجتهاد، وعليه أن يراعي القواعد الآتية التي أسوقها باختصارٍ:
1 -
أن يتحرى في التفسير مطابقة المُفَسِّر للمُفَسر، وأن يتحرز في ذلك عن نقص لما يحتاج إليه في إيضًاح المعنى، أو زيادة لا يحتاج إليها.
2 -
أن يعنى بأسباب النزول؛ فإن أسباب النزول كثيرًا ما تعين على فهم المراد من الآية.
3 -
أن يعنى بذكر المناسبات بين الآيات، وقد اختلفت مناهج المفسرين في هل المناسبة أولًا أو سبب النزول؟ فمنهم من يذكر المناسبة؛ لأنها المصححة لنظم الكلام وهي سابقة عليه، وبعضهم يذكر السبب أولًا؛ لأن السبب مقدم على المسبب، وبه يتضح المعني. والتحقيق: أن التفصيل بين أن يكون وجه المناسبة متوقفًا على سبب النزول كقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) فهذا ينبغي تقديم السبب على المناسبة؛ لأنه حينئذ من باب تقديم الوسائل على المقاصد، وإن لم يتوقف وجه المناسبة على السبب؛ فالأولى تقديم المناسبة.
4 -
أن يجرد المفسر نفسه من الميل إلى مذهب بعينه؛ حتى لا يحمله ذلك على تفسير القرآن برأيه ومذهبه؛ فيقع في الزيغ والضلال.
5 -
مراعاة المعنى الحقيقي والمجازي؛ حتى لا يصرف الكلام عن حقيقته إلى مجازه إلا بصارف، وليقدم الحقيقة الشرعية على الحقيقة اللغوية، وكذا الحقيقة العرفية، وليراعي حمل كلام الله على معانٍ جديدة أولى من حمله على التأكيد.
6 -
ينبغي مراعاة نظم الكلام وتأليفه والغرض الذي سيق له؛ فإن ذلك يعينه على فهم المعني المراد وإصابة الصواب، قال الإمام الزركشي في (البرهان): ليكن محطُّ نظر المفسر مراعاة نظم الكلام الذي سيق له.
7 -
يجب على المفسر البداءة بما يتعلق بالمفردات، وتحقيق معانيها، ثم يتكلم عليها بحسب التركيب؛ فيبدأ بالإعراب إن كان خفيًّا، ثم المعاني، ثم البيان، ثم البديع، ثم يبين المعني المراد، ثم ما يستنبط من الآيات من أحكامٍ وآداب، وليراعي القصد فيما يذكر من لغويات أو نحويات أو بلاغيات، فلا يتوسع فيما ليس فيه فائدة.
أخيرًا؛ يجب أن يتحاشى عن ذكر الأحاديث والآثار الضعيفة والموضوعة، ويتجنب الروايات المدسوسة من الإسرائيليات ونحوها حتى لا يقع فيما وقع فيه كثيرٌ من المفسرين السابقين من الموضوعات والإسرائيليات في أسباب النزول، أو في قصص الأنبياء والسابقين، وبدء الخلق والميعاد، ونحو ذلك؛ فيكون تفسيره قد سَلِمَ من هذه الأباطيل التي تضعف جانب التفسير.
هذا فيما يتعلق بالشروط والمنهج القويم الذي يجب أن يلتزمه من يفسر القرآن بالرأي والاجتهاد.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والله أعلم.