الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مُقَدِّمَةٌ فِي تَعْرِيفِ الْكَبِيرَةِ وَمَا وَقَعَ لِلنَّاسِ فِيهِ]
ِ وَفِي عَدِّهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ] اعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنْكَرُوا أَنَّ فِي الذُّنُوبِ صَغِيرَةً وَقَالُوا بَلْ سَائِرُ الْمَعَاصِي كَبَائِرُ، مِنْهُمْ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْإِرْشَادِ "، وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي " الْمُرْشِدِ " بَلْ حَكَاهُ ابْنُ فُورَكٍ عَنْ الْأَشَاعِرَةِ وَاخْتَارَهُ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ: مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا كُلُّهَا كَبَائِرُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِبَعْضِهَا صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا، ثُمَّ أَوَّلَ الْآيَةَ الْآتِيَةَ:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] بِمَا يَنْبُو عَنْهُ ظَاهِرُهَا.
وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: الذُّنُوبُ عَلَى ضَرْبَيْنِ صَغَائِرُ وَكَبَائِرُ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ انْتَهَى. وَرُبَّمَا ادَّعَى فِي مَوْضِعٍ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ وَاعْتَمَدَ ذَلِكَ أَيْضًا التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي مَعْصِيَةٍ: إنَّهَا صَغِيرَةٌ، إلَّا عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا تَصْغُرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ. وَيُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَكِنَّهُ مُنْقَطِعٌ أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ الْكَبَائِرُ فَقَالَ: كُلُّ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَهُوَ كَبِيرَةٌ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: كُلُّ شَيْءٍ عُصِيَ اللَّهُ فِيهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ.
وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ الْمَعَاصِيَ تَنْقَسِمُ إلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي التَّسْمِيَةِ وَالْإِطْلَاقِ لِإِجْمَاعِ الْكُلِّ عَلَى أَنَّ مِنْ الْمَعَاصِي مَا يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ وَمِنْهَا مَا لَا يَقْدَحُ فِيهَا، وَإِنَّمَا الْأَوَّلُونَ فَرُّوا مِنْ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ فَكَرِهُوا تَسْمِيَةَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى صَغِيرَةً نَظَرًا إلَى عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشِدَّةِ عِقَابِهِ وَإِجْلَالًا لَهُ عز وجل عَنْ تَسْمِيَةِ مَعْصِيَتِهِ صَغِيرَةً، لِأَنَّهَا بِالنَّظَرِ إلَى بَاهِرِ عَظَمَتِهِ كَبِيرَةٌ أَيُّ كَبِيرَةٍ، وَلَمْ يَنْظُرْ الْجُمْهُورُ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ، بَلْ قَسَّمُوهَا إلَى
صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] فَجَعَلَهَا رُتَبًا ثَلَاثَةً، وَسَمَّى بَعْضَ الْمَعَاصِي فُسُوقًا دُونَ بَعْضٍ وقَوْله تَعَالَى:{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ} [النجم: 32] .
وَسَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «الْكَبَائِرُ سَبْعٌ» وَفِي رِوَايَةٍ " تِسْعٌ " وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا: «وَمِنْ كَذَا إلَى كَذَا كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا مَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ» فَخَصَّ الْكَبَائِرَ بِبَعْضِ الذُّنُوبِ، وَلَوْ كَانَتْ الذُّنُوبُ كُلُّهَا كَبَائِرَ لَمْ يَسُغْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ مَا عَظُمَتْ مَفْسَدَتُهُ أَحَقُّ بِاسْمِ الْكَبِيرَةِ، عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] صَرِيحٌ فِي انْقِسَامِ الذُّنُوبِ إلَى كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْغَزَالِيُّ: لَا يَلِيقُ إنْكَارُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، وَقَدْ عُرِفَا مِنْ مَدَارِكِ الشَّرْعِ. ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْكَبِيرَةِ، وَلِأَصْحَابِنَا فِي حَدِّهَا وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهَا مَا لَحِقَ صَاحِبَهَا عَلَيْهَا بِخُصُوصِهَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ بِنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ. هَذِهِ عِبَارَةُ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَغَيْرِهِمَا، وَحَذَفَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ تَقْيِيدَ الْوَعِيدِ بِكَوْنِهِ شَدِيدًا، وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إلَى أَنَّ كُلَّ وَعِيدٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ إلَّا شَدِيدًا فَهُوَ مِنْ الْوَصْفِ اللَّازِمِ، وَخَرَجَ بِالْخُصُوصِ مَا انْدَرَجَ تَحْتَ عُمُومٍ فَلَا يَكْفِي ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ كَبِيرَةً بِخُصُوصِهِ، قِيلَ: وَلِكَوْنِ الْوَعِيدِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ فِي الْحَدِّ. انْتَهَى، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ بِنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ مُصَرِّحٌ بِذَلِكَ. ثَانِيهَا: أَنَّهَا كُلُّ مَعْصِيَةٍ أَوْجَبَتْ الْحَدَّ، وَبِهِ قَالَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ أَكْثَرُ مَا يُوجَدُ لَهُمْ وَهُمْ إلَى تَرْجِيحِ هَذَا أَمْيَلُ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَوْفَقُ بِمَا ذَكَرُوهُ فِي تَفْصِيلِ الْكَبَائِرِ: أَيْ لِأَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى كَبَائِرَ كَثِيرَةٍ وَلَا حَدَّ فِيهَا؛ كَآكِلِ الرِّبَا وَمَالِ الْيَتِيمِ وَالْعُقُوقِ وَقَطْعِ الرَّحِمِ وَالسِّحْرِ وَالنَّمِيمَةِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ وَالسِّعَايَةِ وَالْقِوَادَةِ وَالدِّيَاثَةِ وَغَيْرِهَا. وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ الْحَدَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ مِنْ الْحَدِّ الثَّانِي، وَإِنْ قَالَ الرَّافِعِيُّ إنَّهُمْ إلَى تَرْجِيحِهِ أَمْيَلُ؛ وَأَخَذَ مِنْهُ صَاحِبُ الْحَاوِي الصَّغِيرِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ الرَّاجِحُ فَجَزَمَ بِهِ، ثُمَّ رَأَيْت الْأَذْرَعِيَّ صَرَّحَ بِمَا ذَكَرْته فَقَالَ: عَجِيبٌ قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ إنَّ الْأَصْحَابَ إلَى الثَّانِي أَمْيَلُ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ. انْتَهَى.
لَكِنْ إذَا أُوِّلَ عَلَى أَنَّ مُرَادَ قَائِلِهِ مَا عَدَا الْمَنْصُوصَ
عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَدٌّ خَفَّ بُعْدُهُ وَانْدَفَعَ الْإِيرَادُ عَلَيْهِ بِأَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ تَسْمِيَةَ الْعُقُوقِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ كَبِيرَتَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَا حَدَّ فِيهِمَا عَلَى أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى الْأَوَّلِ أَيْضًا بَعْضُ مَا يَأْتِي مِمَّا عُلِمَ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ، وَسَيَأْتِي عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ذِكْرُ أَنْوَاعٍ مِنْ الْكَبَائِرِ اتِّفَاقًا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهَا نَصٌّ بِذَلِكَ. ثَالِثُهَا: أَنَّهَا كُلُّ مَا نَصَّ الْكِتَابُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، أَوْ وَجَبَ فِي جِنْسِهِ حَدٌّ؛ وَتَرْكُ فَرِيضَةٍ تَجِبُ فَوْرًا، وَالْكَذِبُ فِي الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَالْيَمِينِ، زَادَ الْهَرَوِيُّ فِي إشْرَافِهِ وَشُرَيْحٌ فِي رَوْضَتِهِ: وَكُلُّ قَوْلٍ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ الْعَامَّ. رَابِعُهَا: قَالَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ: كُلُّ جَرِيمَةٍ عَلَى مَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ، وَعِبَارَةُ إرْشَادِهِ جَرِيرَةٍ وَهِيَ بِمَعْنَاهَا تُؤْذِنُ: أَيْ تُعْلِمُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثٍ: أَيْ اعْتِنَاءِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ، وَرِقَّةُ الدِّيَانَةِ مُبْطِلَةٌ لِلْعَدَالَةِ، وَكُلُّ جَرِيمَةٍ أَوْ جَرِيرَةٍ لَا تُؤْذِنُ بِذَلِكَ بَلْ يَبْقَى حُسْنُ الظَّنِّ ظَاهِرًا بِصَاحِبِهَا لَا تُحِيطُ الْعَدَالَةَ، قَالَ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُمَيَّزُ بِهِ أَحَدُ الضِّدَّيْنِ عَنْ الْآخَرِ انْتَهَى.
وَلِهَذَا تَابَعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي الْمُرْشِدِ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ فِي نِهَايَتِهِ: الصَّادِرُ مِنْ الشَّخْصِ إنْ دَلَّ عَلَى الِاسْتِهَانَةِ لَا بِالدِّينِ وَلَكِنْ بِغَلَبَةِ التَّقْوَى وَتَمْرِينِ غَلَبَةِ رَجَاءِ الْعَفْوِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ، وَإِنْ صَدَرَ عَنْ فَلْتَةِ خَاطِرٍ أَوْ لَفْتَةِ نَاظِرٍ فَصَغِيرَةٌ؛ وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَا بِالدِّينِ: أَيْ لَا بِأَصْلِهِ فَإِنَّ الِاسْتِهَانَةَ بِأَصْلِهِ كُفْرٌ، وَمِنْ ثَمَّ عَبَّرَ فِي الْأُولَى بِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ وَلَمْ يَقُلْ بِعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ، وَالْكُفْرُ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ فَالْمُرَادُ تَفْسِيرُ غَيْرِهِ مِمَّا يَصْدُرُ مِنْ الْمُسْلِمِ. قَالَ الْبِرْمَاوِيُّ: وَرَجَّحَ الْمُتَأَخِّرُونَ مَقَالَةَ الْإِمَامِ الْحَسَنِ: الضَّبْطَ بِهَا وَلَعَلَّهَا وَافِيَةٌ بِمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ تَفْصِيلِ الْكَبَائِرِ الْآتِي بَيَانُهَا وَمَا أُلْحِقَ بِهَا قِيَاسًا انْتَهَى، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَ مُنَازَعَةَ الْأَذْرَعِيِّ فِيمَا قَالَهُ الْإِمَامُ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِذَا تَأَمَّلْت بَعْضَ مَا عُدَّ مِنْ الصَّغَائِرِ تَوَقَّفْت فِيمَا أَطْلَقَهُ انْتَهَى، وَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ اعْتِرَاضِ ابْنِ أَبِي الدَّمِ ضَابِطَ النِّهَايَةِ بِأَنَّهُ مَدْخُولٌ، وَبَيَّنَهُ بِمَا بَسَطَهُ عَنْهُ فِي الْخَادِمِ. عَلَى أَنَّك إذَا تَأَمَّلْتَ كَلَامَ الْإِمَامِ الْأَوَّلَ ظَهَرَ لَك أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ حَدًّا لِلْكَبِيرَةِ خِلَافًا لِمَنْ فَهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَشْمَلُ صَغَائِرَ الْخِسَّةِ وَلَيْسَتْ بِكَبَائِرَ، وَإِنَّمَا ضَبْطُهُ بِهِ مَا يُبْطِلُ الْعَدَالَةَ مِنْ الْمَعَاصِي الشَّامِلُ لِصَغَائِرِ الْخِسَّةِ، نَعَمْ هَذَا الْحَدُّ أَشْمَلُ مِنْ التَّعْرِيفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لِصِدْقِهِ عَلَى سَائِرِ مُفْرَدَاتِ الْكَبَائِرِ الْآتِيَةِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ لِمَا عَلِمْت أَنَّهُ يَشْمَلُ صَغَائِرَ الْخِسَّةِ وَنَحْوَهَا كَالْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ، وَلِمَا نَقَلَ الْبِرْمَاوِيُّ عَنْ الرَّافِعِيِّ
الْأَوْجُهَ السَّابِقَةَ قَالَ: قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ يَنْبَغِي أَنْ تُجْمَعَ هَذِهِ التَّعَارِيفُ كُلُّهَا لِيَحْصُلَ اسْتِيعَابُ الْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصَةِ وَالْمَقِيسَةِ لِأَنَّ بَعْضَهَا لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ هَذَا وَبَعْضَهَا لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْآخَرُ. قُلْت: لَكِنَّ تَعْرِيفَ الْإِمَامِ لَا يَكَادُ يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْهَا لِمَنْ تَأَمَّلَهُ انْتَهَى.
وَقَالَ فِي الْخَادِمِ بَعْدَ إيرَادِهِ مَا مَرَّ عَنْ الرَّافِعِيِّ: التَّحْقِيقُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِ أَنْوَاعِ الْكَبِيرَةِ، وَأَنَّ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْأَوْجُهِ يَحْصُلُ بِهِ ضَابِطُ الْكَبِيرَةِ انْتَهَى، وَلِهَذَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْكَبِيرَةُ: مَا أَوْجَبَ الْحَدَّ أَوْ تَوَجَّهَ إلَيْهِ الْوَعِيدُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كُلُّ مَا وَجَبَ فِيهِ حَدٌّ أَوْ وَرَدَ فِيهِ تَوَعُّدٌ بِالنَّارِ أَوْ جَاءَتْ فِيهِ لَعْنَةٌ، وَسَيَأْتِي نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الصَّلَاحِ وَغَيْرِهِ. وَاعْتُرِضَ قَوْلُ الْإِمَامِ كُلُّ جَرِيمَةٍ لَا تُؤْذِنُ بِذَلِكَ اهـ. بِأَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى غَصْبِ مَا دُونَ نِصَابِ السَّرِقَةِ أَتَى بِصَغِيرَةٍ وَلَا يَحْسُنُ فِي نُفُوسِ النَّاسِ الظَّنُّ فَكَانَ الْقِيَاسُ، أَنْ يَكُونَ كَبِيرَةً، وَكَذَلِكَ قُبْلَةُ الْأَجْنَبِيَّةِ صَغِيرَةٌ، وَلَا يَحْسُنُ فِي نُفُوسِ النَّاسِ الظَّنُّ بِفَاعِلِهَا. وَيُجَابُ بِأَنَّ كَوْنَ هَذَيْنِ صَغِيرَتَيْنِ، إنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ جَمْعٍ كَمَا يَأْتِي فِيهِمَا، وَأَمَّا عَلَى مُقَابِلِهِ الْآتِي أَنَّهُمَا كَبِيرَتَانِ فَلَا اعْتِرَاضَ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ أَنْ لَوْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا صَغِيرَةٌ وَأَنَّهَا مِمَّا يَسُوءُ ظَنُّ أَكْثَرِ النَّاسِ بِفَاعِلِهَا.
خَامِسُهَا: أَنَّهَا مَا أَوْجَبَ الْحَدَّ أَوْ تَوَجَّهَ إلَيْهِ الْوَعِيدُ، وَالصَّغِيرَةُ مَا قَلَّ فِيهِ الْإِثْمُ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي حَاوِيهِ. سَادِسُهَا: أَنَّهَا كُلُّ مُحَرَّمٍ لِعَيْنِهِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهٍ يَجْمَعُ وَجْهَيْنِ أَوْ وُجُوهًا مِنْ التَّحْرِيمِ كَانَ فَاحِشَةً؛ فَالزِّنَا كَبِيرَةٌ، وَبِحَلِيلَةِ الْجَارِ فَاحِشَةٌ، وَالصَّغِيرَةُ تَعَاطِي مَا تَنْقُصُ رُتْبَتُهُ عَنْ رُتْبَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَوْ تَعَاطِيهِ عَلَى وَجْهٍ دُونَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَعَاطَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَجْمَعُ وَجْهَيْنِ أَوْ وُجُوهًا مِنْ التَّحْرِيمِ كَانَ كَبِيرَةً، فَالْقُبْلَةُ وَاللَّمْسُ وَالْمُفَاخَذَةُ صَغِيرَةٌ وَمَعَ حَلِيلَةِ الْجَارِ كَبِيرَةٌ، كَذَا نَقَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُ عَنْ الْقَاضِي حُسَيْنٍ عَنْ الْحَلِيمِيِّ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ عِبَارَتِهِ فِي مَحَلِّهَا وَأَنَّهُ اخْتَارَ أَنَّهُ مَا مِنْ ذَنْبٍ إلَّا وَفِيهِ صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ وَقَدْ تَنْقَلِبُ الصَّغِيرَةُ كَبِيرَةً بِقَرِينَةٍ تُضَمُّ إلَيْهَا، وَتَنْقَلِبُ الْكَبِيرَةُ فَاحِشَةً بِقَرِينَةٍ تُضَمُّ إلَيْهَا إلَّا الْكُفْرَ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ أَفْحَشُ الْكَبَائِرِ وَلَيْسَ مِنْ نَوْعِهِ صَغِيرَةٌ، ثُمَّ مَثَّلَ لِذَلِكَ بِأَمْثِلَةٍ تَأْتِي فِي مَحَالِّهَا مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا. سَابِعُهَا: أَنَّهَا كُلُّ فِعْلٍ نَصَّ الْكِتَابُ عَلَى تَحْرِيمِهِ: أَيْ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ
أَشْيَاءَ: أَكْلُ لَحْمِ الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ، وَمَالِ الْيَتِيمِ وَنَحْوِهِ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ، وَرُدَّ بِمَنْعِ الْحَصْرِ فِي الْأَرْبَعَةِ. ثَامِنُهَا: أَنَّهُ لَا حَدَّ لَهَا بِحَصْرِهَا يَعْرِفُهُ الْعِبَادُ وَاعْتَمَدَهُ الْوَاحِدِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي بَسِيطِهِ فَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْكَبِيرَةَ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ يَعْرِفُهَا الْعِبَادُ بِهِ، وَإِلَّا لَاقْتَحَمَ النَّاسُ الصَّغَائِرَ وَاسْتَبَاحُوهَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ عز وجل أَخْفَى ذَلِكَ عَنْ الْعِبَادِ لِيَجْتَهِدُوا فِي اجْتِنَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ رَجَاءَ أَنْ تُجْتَنَبَ الْكَبَائِرُ، وَنَظَائِرُهُ إخْفَاءُ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ وَسَاعَةِ الْإِجَابَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ انْتَهَى، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ.
بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّ لَهَا حَدًّا مَعْلُومًا كَمَا مَرَّ؛ ثُمَّ رَأَيْت بَعْضَهُمْ نَقَلَ عَنْهُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يَخِفُّ بِهِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ فَقَالَ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ الْمُفَسِّرُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: الْكَبَائِرُ كُلُّهَا لَا تُعْرَفُ: أَيْ لَا تَنْحَصِرُ، قَالُوا: لِأَنَّهُ وَرَدَ وَصْفُ أَنْوَاعٍ مِنْ الْمَعَاصِي بِأَنَّهَا كَبَائِرُ، وَأَنْوَاعٍ أَنَّهَا صَغَائِرُ، وَأَنْوَاعٍ لَمْ تُوصَفْ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إنَّهَا مَعْرُوفَةٌ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ تُعْرَفُ بِحَدٍّ وَضَابِطٍ أَوْ بِالْعَدِّ؟ انْتَهَى. وَوَرَاءَ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْأَصْحَابِ عِبَارَاتٌ لِلْمُتَأَخِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ: مِنْهَا: قَوْلُ الْحَسَنِ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ: كُلُّ ذَنْبٍ أُوعِدَ فَاعِلُهُ بِالنَّارِ. وَمِنْهَا: قَوْلُ الْغَزَالِيِّ: كُلُّ مَعْصِيَةٍ يُقْدِمُ الْمَرْءُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِشْعَارِ خَوْفٍ وَوِجْدَانِ نَدَمٍ تَهَاوُنًا وَاسْتِجْرَاءً عَلَيْهَا فَهِيَ كَبِيرَةٌ، وَمَا يُحْمَلُ عَلَى فَلَتَاتِ النَّفْسِ وَلَا يَنْفَكُّ عَنْ نَدَمٍ يَمْتَزِجُ بِهَا وَيُنَغِّصُ التَّلَذُّذَ بِهَا فَلَيْسَ بِكَبِيرَةٍ. وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: وَلَا مَطْمَعَ فِي مَعْرِفَةِ الْكَبَائِرِ مَعَ الْحَصْرِ، إذْ لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا بِالسَّمْعِ وَلَمْ يَرِدْ. وَاعْتَرَضَ الْعَلَائِيُّ مَا قَالَهُ أَوَّلًا بِأَنَّهُ بَسْطٌ لِعِبَارَةِ الْإِمَامِ وَهُوَ مُشْكِلٌ جِدًّا إنْ كَانَ ضَابِطًا لِلْكَبِيرَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ، إذْ يَرِدُ عَلَيْهِ مَنْ ارْتَكَبَ نَحْوَ الزِّنَا نَادِمًا عَلَيْهِ، فَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَا تَنْخَرِمُ بِهِ عَدَالَتُهُ وَلَا يُسَمَّى كَبِيرَةً حِينَئِذٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ اتِّفَاقًا وَإِنْ كَانَ ضَابِطًا لِمَا عَدَا الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فَهُوَ قَرِيبٌ انْتَهَى.
قَالَ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ: كَأَنَّ الْعَلَائِيَّ فَهِمَ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَذْكُرُ حَدًّا يُدْخِلُ الْمَنْصُوصَ وَهَذَا مَمْنُوعٌ: أَيْ فَضَابِطُ الْغَزَالِيِّ لِمَا عَدَا الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فَهُوَ قَرِيبٌ، وَقَدْ ذَكَرَ الْعَلَائِيُّ نَفْسُهُ أَنَّ الْحُدُودَ إنَّمَا هِيَ لِمَا عَدَا الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا: قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ: الْأَوْلَى ضَبْطُ الْكَبِيرَةِ بِمَا يُشْعِرُ بِتَهَاوُنِ مُرْتَكِبِهَا بِدِينِهِ إشْعَارَ أَصْغَرِ الْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا. قَالَ: وَإِذَا أَرَدْت الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ فَاعْرِضْ مَفْسَدَةَ الذَّنْبِ عَلَى مَفَاسِدِ الْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، فَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ أَقَلِّ الْكَبَائِرِ فَهِيَ صَغِيرَةٌ وَإِلَّا فَكَبِيرَةٌ انْتَهَى، وَاعْتَرَضَهُ الْأَذْرَعِيُّ فَقَالَ: وَكَيْفَ السَّبِيلُ إلَى الْإِحَاطَةِ بِالْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا حَتَّى يُنْظَرَ فِي أَقَلِّهَا مَفْسَدَةً وَنَقِيسَ بِهَا مَفْسَدَةَ الذَّنْبِ الْوَاقِعِ هَذَا مُتَعَذَّرٌ انْتَهَى.
قَالَ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ عَقِبَ نَقْلِهِ اعْتِرَاضَ الْأَذْرَعِيِّ هَذَا: وَلَا تَعَذُّرَ فِي ذَلِكَ إذَا جُمِعَ مَا صَحَّ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ انْتَهَى. وَالْحَقُّ تَعَذُّرُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَإِنْ فُرِضَ إمْكَانُ جَمْعِ مَا صَحَّ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْإِحَاطَةَ بِمَفَاسِدِهَا كُلِّهَا حَتَّى نَعْلَمَ أَقَلَّهَا مَفْسَدَةً فِي غَايَةِ النُّدُورِ بَلْ التَّعَذُّرِ وَالِاسْتِحَالَةِ، إذْ لَا يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا الشَّارِعُ صلى الله عليه وسلم. وَمِمَّا هُوَ مُنْتَقَدٌ أَيْضًا قَوْلُهُ - أَعْنِي ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ -: مَنْ شَتَمَ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ أَوْ اسْتَهَانَ بِرَسُولِ مِنْ رُسُلِهِ أَوْ ضَمَّخَ الْكَعْبَةَ أَوْ الْمُصْحَفَ بِالْقَذَرِ كَانَ فِعْلُهُ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، مَعَ أَنَّ الشَّارِعَ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ، وَوَجْهُ رَدِّهِ أَنَّ هَذَا مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ أَوَّلُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ الْكَبَائِرِ إذْ الْمُرَادُ مِنْهُ مُطْلَقُ الْكُفْرِ إجْمَاعًا لَا خُصُوصُ الشِّرْكِ.
قَالَ الشَّمْسُ الْبِرْمَاوِيُّ: وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءٌ عَلَى تَفْسِيرِ الْكَبِيرَةِ بِالْأَعَمِّ مِنْ الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ لَا عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي سَبَقَ مِنْ مُقْتَضَى كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ انْتَهَى، وَقَدْ قَدَّمْت أَنَّ مُقْتَضَى كَلَامِ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْحُدُودَ السَّابِقَةَ إنَّمَا هِيَ لِمَا عَدَا الْكُفْرَ وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُسَمَّى كَبِيرَةً بَلْ هُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بَعْدَ مَا ذُكِرَ: وَكَذَلِكَ مَنْ أَمْسَكَ امْرَأَةً مُحْصَنَةً لِمَنْ يَزْنِي بِهَا أَوْ أَمْسَكَ مُسْلِمًا لِمَنْ يَقْتُلُهُ فَلَا شَكَّ أَنَّ مَفْسَدَتَهُ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَلَّ الْكُفَّارَ عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يَسْتَأْصِلُونَهُمْ بِدَلَالَتِهِ وَيَسْبُونَ حَرِيمَهُمْ وَأَطْفَالَهُمْ وَيَغْنَمُونَ أَمْوَالَهُمْ فَإِنَّ نِسْبَةَ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ أَعْظَمُ مِنْ التَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَكَذَا لَوْ كَذَبَ عَلَى إنْسَانٍ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِسَبَبِ كَذِبِهِ وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنْ قَالَ: وَقَدْ ضَبَطَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْكَبَائِرَ بِأَنَّ كُلَّ ذَنْبٍ قُرِنَ بِهِ وَعِيدٌ أَوْ حَدٌّ أَوْ لَعْنٌ فَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ فَتَغْيِيرُ مَنَارِ الْأَرْضِ أَيْ طُرُقِهَا كَبِيرَةٌ لِاقْتِرَانِ اللَّعْنِ بِهِ، فَعَلَى هَذَا
كُلُّ ذَنْبٍ يُعْلَمُ أَنَّ مَفْسَدَتَهُ كَمَفْسَدَةِ مَا قُرِنَ بِهِ الْوَعِيدُ أَوْ اللَّعْنُ أَوْ الْحَدُّ أَوْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ مَفْسَدَتِهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ انْتَهَى. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَعَلَى هَذَا فَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا تُؤْخَذَ الْمَفْسَدَةُ مُجَرَّدَةً عَمَّا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنْ أَمْرٍ آخَرَ فَإِنَّهُ قَدْ يَقَعُ الْغَلَطُ فِي ذَلِكَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ السَّابِقَ إلَى الذِّهْنِ فِي مَفْسَدَةِ الْخَمْرِ إنَّمَا هُوَ السُّكْرُ وَتَشْوِيشُ الْعَقْلِ فَإِنْ أَخَذْنَا بِمُجَرَّدِهِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ شُرْبُ الْقَطْرَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهُ كَبِيرَةً لِخُلُوِّهَا عَنْ الْمَفْسَدَةِ الْمَذْكُورَةِ، لَكِنَّهَا كَبِيرَةٌ لِمَفْسَدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ التَّجَرُّؤ عَلَى شُرْبِ الْكَثِيرِ الْمُوقِعِ فِي الْمَفْسَدَةِ فَهَذَا الِاقْتِرَانُ يُصَيِّرُهُ كَبِيرَةً انْتَهَى.
قَالَ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ: وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْقَطْرَةِ مِنْ الْخَمْرِ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ قَبْلَهُ، وَقَالَ فِي قَوَاعِدِهِ أَيْضًا بَعْدَ حِكَايَتِهِ مَا سَبَقَ: لَمْ أَقِفْ لِأَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى ضَابِطِ ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ ضَابِطًا يَسْلَمُ مِنْ الِاعْتِرَاضِ أَوْ ضَابِطًا جَامِعًا مَانِعًا انْتَهَى. وَمِنْهَا: قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيهِ: قَالَ الْجَلَال الْبُلْقِينِيُّ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ: الْكَبِيرَةُ كُلُّ ذَنْبٍ عَظُمَ عِظَمًا يَصِحُّ مَعَهُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْكَبِيرَةِ وَيُوصَفَ بِكَوْنِهِ عَظِيمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَلَهَا أَمَارَاتٌ: مِنْهَا: إيجَابُ الْحَدِّ، وَمِنْهَا: الْإِيعَادُ عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ بِالنَّارِ وَنَحْوِهَا فِي الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ؛ وَمِنْهَا: وَصْفُ فَاعِلِهَا بِالْفِسْقِ؛ وَمِنْهَا: اللَّعْنُ انْتَهَى.
وَلَخَّصَهُ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْبَارِزِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الَّذِي عَلَى الْحَاوِي فَقَالَ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْكَبِيرَةَ كُلُّ ذَنْبٍ قُرِنَ بِهِ وَعِيدٌ أَوْ لَعْنٌ بِنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ عُلِمَ أَنَّ مَفْسَدَتَهُ كَمَفْسَدَةِ مَا قُرِنَ بِهِ وَعِيدٌ أَوْ حَدٌّ أَوْ لَعْنٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ مَفْسَدَتِهِ، أَوْ أَشْعَرَ بِتَهَاوُنِ مُرْتَكِبِهِ فِي دِينِهِ إشْعَارَ أَصْغَرِ الْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا بِذَلِكَ كَمَا لَوْ قَتَلَ مَنْ يَعْتَقِدُهُ مَعْصُومًا فَظَهَرَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِدَمِهِ، أَوْ وَطِئَ امْرَأَةً ظَانًّا أَنَّهُ زَانٍ بِهَا فَإِذَا هِيَ زَوْجَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ انْتَهَى؛ وَمَا ذَكَرَهُ آخِرًا سَبَقَهُ إلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوَاعِدِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا يُؤَيِّدُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْكَبَائِرُ كُلُّ ذَنْبٍ خَتَمَهُ اللَّهُ بِنَارٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ لَعْنَةٍ أَوْ عَذَابٍ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا سَبَقَ مِنْ الْحُدُودِ إنَّمَا قَصَدُوا بِهِ التَّقْرِيبَ فَقَطْ، وَإِلَّا فَهِيَ لَيْسَتْ بِحُدُودٍ جَامِعَةٍ وَكَيْفَ يُمْكِنُ ضَبْطُ مَا لَا طَمَعَ فِي ضَبْطِهِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى تَعْرِيفِهَا بِالْعَدِّ مِنْ غَيْرِ ضَبْطِهَا بِحَدٍّ؛ فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ أَنَّهَا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي
أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ إلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] وَقِيلَ هِيَ سَبْعٌ.
وَيُسْتَدَلُّ لَهُ بِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ: الشِّرْكَ بِاَللَّهِ، وَالسِّحْرَ، وَقَتْلَ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلَ الرِّبَا، وَالتَّوَلِّيَ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا «الْكَبَائِرُ: الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ» زَادَ الْبُخَارِيُّ:«وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ» . وَمُسْلِمٌ بَدَلَهَا: «وَقَوْلُ الزُّورِ» .
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا ذَكَرَهُ كَذَلِكَ قَصْدًا لِبَيَانِ الْمُحْتَاجِ مِنْهَا وَقْتَ ذِكْرِهِ لَا لِحَصْرِ الْكَبَائِرِ فِي ذَلِكَ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْكَبَائِرَ سَبْعٌ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَعَطَاءٌ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَقِيلَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ أَرْبَعٌ، وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْهُ أَنَّهَا ثَلَاثٌ، وَعَنْهُ أَنَّهَا عَشَرَةٌ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالطَّبَرَانِيُّ هِيَ إلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى السَّبْعِ، وَقَالَ أَكْبَرُ تَلَامِذَتِهِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رضي الله عنهما: هِيَ إلَى السَّبْعِمِائَةِ أَقْرَبُ يَعْنِي بِاعْتِبَارِ أَصْنَافِ أَنْوَاعِهَا، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَفْسِهِ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: كَمْ الْكَبَائِرُ سَبْعٌ هِيَ؟ قَالَ: هِيَ إلَى السَّبْعِمِائَةِ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى سَبْعٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ: أَيْ التَّوْبَةِ بِشُرُوطِهَا، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ. قَالَ الدَّيْلَمِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: وَقَدْ ذَكَرْنَا عَدَدَهَا فِي تَأْلِيفٍ لَنَا بِاجْتِهَادِنَا، فَزَادَتْ عَلَى أَرْبَعِينَ كَبِيرَةً فَيُؤَوَّلُ إلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْعَلَائِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ: إنَّهُ صَنَّفَ جُزْءًا جَمَعَ فِيهِ مَا نَصَّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ عَلَى أَنَّهُ كَبِيرَةٌ وَهُوَ: الشِّرْكُ، وَالْقَتْلُ، وَالزِّنَا وَأَفْحَشُهُ بِحَلِيلَةِ الْجَارِ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ، وَالسِّحْرُ، وَالِاسْتِطَالَةُ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَالنَّمِيمَةُ، وَالسَّرِقَةُ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ، وَاسْتِحْلَالُ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَنَكْثُ الصَّفْقَةِ، وَتَرْكُ السُّنَّةِ وَالتَّعَرُّبُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، وَمَنْعُ ابْنِ السَّبِيلِ مِنْ فَضْلِ الْمَاءِ، وَعَدَمُ التَّنَزُّهِ مِنْ الْبَوْلِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَالتَّسَبُّبُ إلَى شَتْمِهِمَا، وَالْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ، فَهَذِهِ الْخَمْسَةُ وَالْعِشْرُونَ هِيَ مَجْمُوعُ مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ.
قُلْت: وَيُزَادُ عَلَيْهِ الْغُلُولُ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَمَنْعُ الْفَحْلِ؛ بَلْ جَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ الْبَزَّارِ الْآتِي مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَالْإِلْحَادُ بِالْبَيْتِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَيْهَقِيّ وَهَذَا غَيْرُ اسْتِحْلَالِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِصِدْقِهِ بِفِعْلِ مَعْصِيَةٍ فِيهِ وَلَوْ سِرًّا، ثُمَّ رَأَيْت الْجَلَالَ الْبُلْقِينِيَّ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِهِ مَا مَرَّ عَنْهُ: وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِمَّا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ أَشْيَاءُ وَهِيَ مَنْعُ الْفَحْلِ وَتَعَلُّمُ السِّحْرِ، وَطَلَبُ عَمَلِهِ، وَسُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ عز وجل، وَالْغُلُولُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَكِنَّ حَدِيثَهُ ضَعِيفٌ، وَبِذَلِكَ يَبْلُغُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ كَبِيرَةً، لَكِنَّ مَنْعَ الْفَحْلِ إسْنَادُ حَدِيثِهِ ضَعِيفٌ، وَلَا يَبْلُغُ ضَرَرُهُ ضَرَرَ غَيْرِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فِي الْحَدِيثِ، وَيُقَالُ عَلَيْهِ: السَّرِقَةُ لَمْ يَجِئْ فِي الْأَحَادِيثِ النَّصُّ عَلَى أَنَّهَا كَبِيرَةٌ إنَّمَا جَاءَ فِيهَا الْغُلُولُ وَهُوَ السَّرِقَةُ مِنْ مَالِ الْغَنِيمَةِ، نَعَمْ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ:«وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ» ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ:«فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» وَقَوْلُهُ: وَنَكْثُ الصَّفْقَةِ لَمْ يَجِئْ فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ النَّصُّ عَلَى أَنَّهُ كَبِيرَةٌ وَإِنَّمَا فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ، وَقَوْلُهُ: وَتَرْكُ السُّنَّةِ لَمْ يَأْتِ أَيْضًا فِي الْأَحَادِيثِ النَّصُّ عَلَى أَنَّهُ كَبِيرَةٌ، وَإِنَّمَا رَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ «أَنَّ نَحْوَ الْمَكْتُوبَةِ وَالْجُمُعَةِ وَرَمَضَانَ كَفَّارَاتٌ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: الْإِشْرَاكِ، وَنَكْثِ الصَّفْقَةِ، وَتَرْكِ السُّنَّةِ» وَفَسَّرَ صلى الله عليه وسلم نَكْثَ الصَّفْقَةِ بِأَنْ تُبَايِعَ رَجُلًا بِيَمِينِك ثُمَّ تُخَالِفَ إلَيْهِ فَتُقَاتِلَهُ بِسَيْفِك، وَتَرْكَ السُّنَّةِ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْجَمَاعَةِ، وَيُعَضِّدُهُ خَبَرُ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد:«مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ» وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ اتِّبَاعُ الْبِدَعِ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا.
وَلَا بَأْسَ بِالْإِشَارَةِ إلَى تِلْكَ الْأَحَادِيثِ وَهِيَ نَوْعَانِ: مَا صُرِّحَ فِيهِ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ أَوْ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ أَوْ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ أَوْ مُوبِقٌ أَوْ مُهْلِكٌ، وَمَا ذُكِرَ فِيهِ نَحْوُ لَعْنٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ وَعِيدٍ شَدِيدٍ
فَمِنْ الْأَوَّلِ خَبَرُ الشَّيْخَيْنِ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا: الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَقَوْلُ الزُّورِ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا جَعَلَ الْأَوَّلَيْنِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَضَمَّ الْقَتْلَ إلَيْهِمَا، وَجَعَلَ قَوْلَ الزُّورِ وَشَهَادَتَهُ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ. وَرَوَيَا أَيْضًا «أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك، قُلْتُ: إنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِك» .
وَرَوَيَا أَيْضًا: «مِنْ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ، قِيلَ: وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ وَأُمَّهُ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَأُمَّهُ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْأَخِيرَةَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا عَدَّ الشِّرْكَ، وَالْعُقُوقَ، وَالْقَتْلَ، وَالْيَمِينَ الْغَمُوسَ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَعَدَّ فِي أُخْرَى الشِّرْكَ، وَالْقَتْلَ إلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالرِّبَا، وَالتَّوَلِّيَ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ مُوبِقَاتٍ، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ عَدَّ هَذِهِ السَّبْعَ وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ وَاسْتِحْلَالَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ كَبَائِرَ
، وَسَيَأْتِي رِوَايَاتٌ أَنَّ عَدَمَ التَّنَزُّهِ مِنْ الْبَوْلِ كَبِيرَةٌ، وَفِي حَدِيثٍ لِلْبَزَّارِ فِيهِ مَنْ ضَعَّفَهُ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ زِيَادَةُ: وَالِانْتِقَالُ إلَى الْأَعْرَابِ بَعْدَ هِجْرَتِهِ، وَفِي أُخْرَى فِيهَا ابْنُ لَهِيعَةَ " وَالتَّعَرُّبُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ "، وَفِي أُخْرَى فِيهَا ضَعِيفٌ " وَالرُّجُوعُ إلَى الْأَعْرَابِيَّةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ " وَفُسِّرَ بِأَنْ يُهَاجِرَ الرَّجُلُ حَتَّى إذَا وَقَعَ سَهْمُهُ فِي الْفَيْءِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ خَلَعَ ذَلِكَ مِنْ عُنُقِهِ فَرَجَعَ أَعْرَابِيًّا كَمَا كَانَ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بَعْضُ السَّلَفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} [محمد: 25] وَيُوَافِقُهُ نَقْلُ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ أَنَّ مِنْ الْكَبَائِرِ الْمُرْتَدَّ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ هِجْرَتِهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ فِيهَا رَجُلٌ مُنْكَرٌ «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ: الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم مُحْتَبِيًا فَحَلَّ حُبْوَتَهُ وَأَخَذَ صلى الله عليه وسلم بِطَرَفِ لِسَانِهِ فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ» . وَفِي أُخْرَى فِيهَا مُدَلِّسٌ «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ: الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، ثُمَّ قَرَأَ: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14] وَكَانَ مُتَّكِئًا فَاحْتَفَزَ وَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ» .
وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعِيفٌ «أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَمَنْعُ فَضْلِ الْمَاءِ وَمَنْعُ الْفَحْلِ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ أَيْضًا: «أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْفِرَارُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَوْمَ الزَّحْفِ،
وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَرَمْيُ الْمُحْصَنَاتِ، وَتَعَلُّمُ السِّحْرِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ» وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ «هِيَ - أَيْ الْخَمْرُ - أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ وَأَمُّ الْفَوَاحِشِ، مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَوَقَعَ عَلَى أُمِّهِ وَخَالَتِهِ وَعَمَّتِهِ» .
وَرُوِيَ أَيْضًا: «إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ: اسْتِطَالَةَ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» وَيُوَافِقُهُ رِوَايَةُ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد: «مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الِاسْتِطَالَةُ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ» وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ: «مَنْ جَمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ أَتَى بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ» .
وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَزَّارُ: «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ مَا الْكَبَائِرُ؟ فَقَالَ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَالْإِيَاسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، وَهَذَا أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ» . قِيلَ: وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ مَوْقُوفًا، وَالدَّارَقُطْنِيُّ «الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ» . قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ.
وَمِنْ الثَّانِي خَبَرُ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقُلْت: خَابُوا وَخَسِرُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْمُسْبِلُ إزَارَهُ: - أَيْ خُيَلَاءَ كَمَا فِي رِوَايَاتٍ أُخَرَ - وَالْمَنَّانُ: الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إلَّا مِنَّةً، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ» . وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ تَفْسِيرُهُمْ «بِشَيْخٍ زَانٍ، وَمَلِكٍ كَذَّابٍ، وَعَائِلٍ مُسْتَكْبِرٍ» .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ «إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عِبَادًا لَا يُكَلِّمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ قِيلَ وَمَنْ أُولَئِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مُتَبَرِّئٌ مِنْ وَالِدَيْهِ رَاغِبٌ عَنْهُمَا أَوْ مُتَبَرِّئٌ مِنْ وَلَدِهِ، وَرَجُلٌ أَنْعَمَ عَلَيْهِ قَوْمٌ فَكَفَرَ نِعْمَتَهُمْ وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ» : أَيْ أَنْعَمُوا عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ.
وَرَوَى الشَّيْخَانِ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ» أَيْ نَمَّامٌ.