الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنْ ثَلَاثٍ: مِنْ زَلَّةِ عَالِمٍ، وَهَوًى مُتَّبَعٍ، وَحَكَمٍ جَائِرٍ» وَهَذَا حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدِهِ فِي مَوَاضِعَ وَصَحَّحَهُ فِي مَوَاضِعَ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ فِيهِ وَاهِيًا لَكِنْ احْتَجَّ بِهِ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ.
وَصَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى قَصَّاصٍ فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ ابْتَدَعْتَ بِدْعَةَ ضَلَالَةٍ، أَوْ إنَّك لَأَهْدَى مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ.،، فَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَهُوَ مَحْمُولٌ أَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُ فِي قَصَصِهِ مَا ابْتَدَعَهُ جَهَلَةُ الْقُصَّاصِ مِنْ ذِكْرِ الْأَكَاذِيبِ وَالْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْقَصَصُ عَلَى مَا يَنْبَغِي - بِأَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَيُعَرِّفَهُمْ مَا يَنْبَغِي أَوْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ تَعَلُّمُهُ - فَهَذَا مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ وَأَجَلِّ الْمَقَامَاتِ.
[الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ التَّكْذِيبُ بِالْقَدَرِ]
(الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ: التَّكْذِيبُ بِالْقَدَرِ) أَيْ بِأَنَّ اللَّهَ يُقَدِّرُ عَلَى عَبْدِهِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ كَمَا زَعَمَهُ الْمُعْتَزِلَةُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ، فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَ نَفْسِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ تبارك وتعالى فَهُمْ يُنْكِرُونَ الْقَدَرَ فَسُمُّوا قَدَرِيَّةً لِذَلِكَ، وَزَعْمُهُمْ أَنَّ الْأَحَقَّ بِهَذَا الِاسْمِ هُمْ الْمُثْبِتُونَ نِسْبَةَ الْقَدَرِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - يَرُدُّهُ صَرِيحُ مَا يَأْتِي مِنْ الْأَحَادِيثِ وَعَنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، وَالْحُجَّةُ لَيْسَتْ إلَّا فِي ذَلِكَ دُونَ الْعُقُولِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي اسْتَنَدُوا إلَيْهَا وَتَرْكِ النُّصُوصِ عَلَى عَادَاتِهِمْ الْقَبِيحَةِ الشَّنِيعَةِ مِنْ تَرْكِهِمْ صَرَائِحَ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ لِمُجَرَّدِ خَيَالٍ تَخَيَّلَتْهُ عُقُولُهُمْ كَإِنْكَارِهِمْ سُؤَالَ الْمَلَكَيْنِ، وَعَذَابَ الْقَبْرِ، وَالصِّرَاطَ، وَالْمِيزَانَ، وَالْحَوْضَ، وَرُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بِالْبَصَرِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا صَحَّتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ بَلْ تَوَاتَرَتْ مِنْ غَيْرِ رَيْبٍ وَلَا مِرْيَةٍ، فَقَبَّحَهُمْ اللَّهُ مَا أَخْذَلَهُمْ وَأَسْفَهَهُمْ وَأَجْهَلَهُمْ بِالسُّنَّةِ وَبِنَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم الَّذِي نَطَقَ بِهَا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]{إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِمْ فِيمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْقَدَرِيَّةِ.
وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا: أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخَاصِمُونَهُ فِي الْقَدَرِ فَنَزَلَ: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47]{يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 48]{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] فَالْقَدَرِيَّةُ هُمْ الْمُجْرِمُونَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ كَانَ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ كَالْمُعْتَزِلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَفِيهَا قَالَ آخَرُ: «أَنَّ أُسْقُفَ نَجْرَانَ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -
فَقَالَ: تَزْعُمُ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ الْمَعَاصِيَ بِقَدَرٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَنْتُمْ خُصَمَاءُ اللَّهِ فَنَزَلَ: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} [القمر: 47] إلَخْ» . وَصَحَّ: «كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ كُلِّهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي.
وَقَالَ طَاوُسٌ: أَدْرَكْت مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ: كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرِ اللَّهِ، وَسَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ أَوْ الْكَيْسِ وَالْعَجْزِ» . وَعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِأَرْبَعٍ: يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، وَيُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَيُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: " خَيْرِهِ وَشَرِّهِ " وَحَدِيثُ: «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَهُوَ صَرِيحٌ فِي مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «سِتَّةٌ لَعَنَهُمْ اللَّهُ وَكُلُّ نَبِيٍّ مُجَابِ الدَّعْوَةِ: الْمُكَذِّبُ بِقَدَرِ اللَّهِ، وَالزَّائِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَالْمُتَسَلِّطُ بِالْجَبَرُوتِ لِيُذِلَّ مَنْ أَعَزَّهُ اللَّهُ، وَالْمُسْتَحِلُّ حُرْمَةَ اللَّهِ، وَالْمُسْتَحِلُّ مِنْ عِتْرَتِي مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَالتَّارِكُ لِسُنَّتِي» .
قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: اعْلَمْ أَنَّ الْجَبْرِيَّ يَقُولُ: الْقَدَرِيُّ مَنْ يَقُولُ: الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ بِفِعْلِي فَهُوَ يُنْكِرُ الْقَدَرَ، وَالْمُعْتَزِلِيُّ يَقُولُ الْجَبْرِيُّ قَدَرِيٌّ لِأَنَّهُ يَقُولُ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ فَهُوَ مُثْبِتٌ لِلْقَدَرِ، وَالْفَرِيقَانِ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ السُّنِّيَّ الْقَائِلَ بِأَنَّ الْأَفْعَالَ بِخَلْقِ اللَّهِ وَكَسْبٍ مِنْ الْعَبْدِ لَيْسَ بِقَدَرِيٍّ انْتَهَى.
وَفِيهِ؛ إنْ صَحَّ رَدٌّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ الْحَامِلِ رَايَةَ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى النَّارِ فِي زَعْمِهِ فِي مَوَاضِعَ أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَكَذَبَ فِي ذَلِكَ وَافْتَرَى عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الصَّحَابَةِ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا الْحَامِلُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ خُبْثُ عَقِيدَتِهِ وَفَسَادُ طَوِيَّتِهِ فَهُوَ أَحَقُّ أَنْ يُقْرَأَ عَلَيْهِ {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89] {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ - أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا - فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} [النساء: 109 - 55] .
قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيّ: وَالْحَقُّ أَنَّ الْقَدَرِيَّ هُوَ الَّذِي يُنْكِرُ الْقَدَرَ وَيَنْسُبُ الْحَوَادِثَ
لِاتِّصَالَاتٍ بِالْكَوَاكِبِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ قُرَيْشًا تَخَاصَمُوا فِي الْقَدَرِ. وَمَذْهَبُهُمْ أَنَّ اللَّهَ مَكَّنَ الْعَبْدَ مِنْ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ ذَلِكَ فِي الْعَبْدِ وَقَادِرٌ عَلَى أَنْ يُطْعِمَ الْفَقِيرَ، وَلِهَذَا قَالُوا:{أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47] مُنْكِرِينَ لِقُدْرَتِهِ - تَعَالَى - عَلَى الْإِطْعَامِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ «صلى الله عليه وسلم: الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ» . فَإِنْ أُرِيدَ بِالْأُمَّةِ أُمَّةُ الدَّعْوَى فَالْقَدَرِيَّةُ فِي زَمَانِهِ هُمْ الْمُشْرِكُونَ الْمُنْكِرُونَ قُدْرَتَهُ تَعَالَى عَلَى الْحَوَادِثِ فَلَا تَدْخُلُ فِيهِمْ الْمُعْتَزِلَةُ، أَوْ أُمَّةُ الْإِجَابَةِ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ نِسْبَةَ الْقَدَرِيَّةِ إلَيْهِمْ كَنِسْبَةِ الْمَجُوسِ إلَى الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّهُمْ أَضْعَفُ الْأُمَمِ شُبْهَةً وَأَشَدُّهُمْ مُخَالَفَةً لِلْعَقْلِ، وَكَذَا الْقَدَرِيَّةُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَكَوْنُهُمْ كَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِكُفْرِهِمْ، فَالْحَقُّ أَنَّ الْقَدَرِيَّ هُوَ الَّذِي يُنْكِرُ قُدْرَةَ اللَّه تَعَالَى انْتَهَى.
وقَوْله تَعَالَى (كُلَّ) مَنْصُوبٌ عَلَى الِاشْتِغَالِ وَقُرِئَ شَاذًّا بِالرَّفْعِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ يُوهِمُ مَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ إذْ (كُلَّ) مُبْتَدَأٌ وَ (خَلَقْنَاهُ) صِفَتُهُ أَوْ صِفَةُ: شَيْءٍ، وَبِقَدَرٍ خَبَرُهُ أَيْ كُلُّ شَيْءٍ مَوْصُوفٍ بِالْخَلْقِ هُوَ بِتَقْدِيرٍ وَاحِدٍ فِي مَاهِيَّتِهِ وَزَمَانِهِ وَحِينَئِذٍ فَمَفْهُومُهُ أَنَّ الشَّيْءَ الْغَيْرَ الْمَخْلُوقِ لِلَّهِ تَعَالَى لَيْسَ بِقَدَرٍ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ أَنَّ ثَمَّ مَخْلُوقَاتٍ لِغَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - كَالْإِنْسَانِ يَخْلُقُ أَفْعَالَ نَفْسِهِ بِخِلَافِ قِرَاءَةِ النَّصْبِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا تُفِيدُ عُمُومَ خَلْقِهِ تَعَالَى لِكُلِّ شَيْءٍ. إذْ التَّقْدِيرُ إنَّا خَلَقْنَا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ: فَخَلَقْنَاهُ الثَّانِيَةُ تَفْسِيرٌ وَتَأْكِيدٌ لِخَلَقْنَا الْأُولَى لَا صِفَةٌ لِشَيْءٍ، لِأَنَّ الصِّفَةَ لَا تَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَ الْمَوْصُوفِ فَيَضِيعُ نَصْبُ كُلٍّ فَتَعَيَّنَ أَنَّ نَاصِبَهُ مُضْمَرٌ، وَأَنَّ خَلَقْنَاهُ الْمَذْكُورَ تَأْكِيدٌ وَتَفْسِيرٌ لَهُ كَمَا تَقَرَّرَ وَالتَّأْكِيدُ فِي نِيَّةِ الطَّرْحِ، فَكُلُّ شَيْءٍ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ مِنْ شُمُولِ الْخَلْقِ لَهُ، وَبِقَدَرٍ حَالٌ: أَيْ إنَّا خَلَقْنَا كُلَّ شَيْءٍ حَالَ كَوْنِهِ مُلْتَبِسًا بِتَقْدِيرِنَا لَهُ أَوْ بِمِقْدَارٍ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ. فَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي حَقِّيَّةِ مَذْهَبِهِمْ وَبُطْلَانِ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَمْ يَشْتَدَّ تَعَصُّبُ الزَّمَخْشَرِيِّ لَهُمْ هُنَا كَعَادَتِهِ لِضَعْفِ وَجْهِ الرَّفْعِ خِلَافًا لِقَوْمٍ زَعَمُوا أَنَّهُ الِاخْتِيَارُ صِنَاعَةً، بَلْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ الْوَجْهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَلَيْسَ كَمَا زُعِمَ لِأَنَّ إنَّا عِنْدَهُمْ تَطْلُبُ الْفِعْلَ، فَكَانَ النَّصْبُ هُوَ الِاخْتِيَارَ صِنَاعَةً أَيْضًا.
وَلَك أَنْ تَقُولَ وَلَوْ سَلَّمْنَا قِرَاءَةَ الرَّفْعِ هُنَا لَا دَلَالَةَ فِيهَا لِلْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّ خَلَقْنَاهُ كَمَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ يَحْتَمِلُ الْخَبَرِيَّةَ لِكُلٍّ وَهُمَا خَبَرَانِ فَأَفَادَتْ مَا يُفِيدُهُ النَّصْبُ مِنْ الْعُمُومِ، وَإِذَا احْتَمَلَتْ الْعُمُومَ وَغَيْرَهُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَيْهِ؛ وَعَلَى التَّنَزُّلِ وَأَنَّهُ صِفَةٌ فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ
يُفْهَمُ مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، إذْ لَنَا شَيْءٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ هُوَ ذَاتُ الْحَقِّ تبارك وتعالى، فَهَذَا هُوَ مَفْهُومُ الْآيَةِ، فَأَيُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ تُفْهِمُ غَيْرَ هَذَا، عَلَى أَنَّ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ ضَعِيفَةٌ جِدًّا لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِي حُجِّيَّتِهَا فِي الظَّنِّيَّاتِ فَمَا بَالُك بِهَا فِي الْقَطْعِيَّاتِ، وَمِنْ لَطَائِفِ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ الدَّلَالَةُ عَلَى جَلَالَتِهِ، وَإِفْهَامِهِ الْمَعَانِيَ الْغَامِضَةَ، الْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ هُنَا وَبِالرَّفْعِ وَحْدَهُ فِيمَا يَلِيهِ، وَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ إذْ لَوْ نُصِبَ لَفَسَدَ الْمَعْنَى إذْ التَّقْدِيرُ فَعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ فِي الزُّبُرِ وَهُوَ خِلَافُ الْوَاقِعِ.
إذْ فِيهِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ لَمْ تَفْعَلُوهَا، وَأَمَّا الرَّفْعُ فَمَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَوْصُوفٍ بِكَوْنِهِمْ فَعَلُوهُ ثَابِتٌ فِي الزُّبُرِ وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ وَاقِعٌ.
قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: قَدَّرَ اللَّهُ - تَعَالَى - الْأَشْيَاءَ: أَيْ عَلِمَ مَقَادِيرَهَا وَأَحْوَالَهَا وَأَزْمَانَهَا وَسَائِرَ مَا سَتُوجَدُ عَلَيْهِ قَبْلَ وُجُودِهَا ثُمَّ أَوْجَدَ مِنْهَا مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ عَلَى مَا فِي عِلْمِهِ فَلَا يَحْدُثُ شَيْءٌ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ إلَّا وَهُوَ صَادِرٌ عَنْ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَإِرَادَتِهِ فَقَطْ، وَلَيْسَ لِلْخَلْقِ فِي تِلْكَ الْأَنْوَاعِ اكْتِسَابٌ وَمُحَاوَلَةٌ وَنِسْبَةٌ مَا، وَإِضَافَةٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ إنَّمَا حَصَلَ لَهُمْ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، وَإِلْهَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَلَا خَالِقَ غَيْرُهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، لَا كَمَا افْتَرَاهُ الْقَدَرِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَنَّ الْأَعْمَالَ إلَيْنَا وَالْآجَالَ بِيَدِ غَيْرِنَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ: «وَلَمَّا قِيلَ يَا مُحَمَّدُ يَكْتُبُ عَلَيْنَا الذَّنْبَ وَيُعَذِّبُنَا بِهِ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم أَنْتُمْ خُصَمَاءُ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ مَجُوسَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُكَذِّبُونَ بِقَدَرِ اللَّهِ إنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ، وَإِنْ لَقِيتُمُوهُمْ فَلَا تُسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ» .
وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ رضي الله عنهم قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَيْسَ لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ نَصِيبٌ: أَهْلُ الْإِرْجَاءِ وَالْقَدَرِ» ، وَسَتَأْتِي بَقِيَّةُ طُرُقِهِ، وَالْأَوَّلُ هُمْ الْمُرْجِئَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ طَاعَةٌ؛ وَسُمِّيَتْ الْقَدَرِيَّةُ خُصَمَاءَ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ يُخَاصِمُونَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدِّرَ الْمَعْصِيَةَ عَلَى الْعَبْدِ ثُمَّ يُعَذِّبَهُ عَلَيْهَا.
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا جَمَعَ اللَّهُ الْخَلَائِقَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي نِدَاءً يَسْمَعُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ: أَيْنَ خُصَمَاءُ اللَّهِ فَتُقَدَّمُ الْقَدَرِيَّةُ فَيُؤْمَرُ بِهِمْ إلَى النَّارِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 48]{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] » . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِلَفْظِ: «إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ أَلَا لِيَقُمْ خُصَمَاءُ اللَّهِ وَهُمْ الْقَدَرِيَّةُ» ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْحَسَنُ: وَاَللَّهِ لَوْ أَنَّ قَدَرِيًّا صَامَ حَتَّى صَارَ كَالْحَبْلِ ثُمَّ صَلَّى حَتَّى صَارَ كَالْوَتَدِ لَكَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي سَقَرَ ثُمَّ قِيلَ لَهُ: ذُقْ مَسَّ سَقَرَ إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] أَيْ خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ عَمَلَكُمْ، أَوْ وَخَلَقَ الَّذِي تَعْمَلُونَهُ بِأَيْدِيكُمْ، فَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ كُلَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تبارك وتعالى، وَقَالَ تَعَالَى:{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] وَالْإِلْهَامُ: إيقَاعُ الشَّيْءِ فِي النَّفْسِ فَهُوَ - تَعَالَى - الْمُوقِعُ لِإِلْهَامِ الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى فَهُوَ الْخَالِقُ لَهُمَا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَلْزَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ جَعَلَ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِهِ إيَّاهَا لِلتَّقْوَى وَخِذْلَانِهِ إيَّاهَا لِلْفُجُورِ.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ مَنَّ عَلَى قَوْمٍ فَأَلْهَمَهُمْ الْخَيْرَ وَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ، وَابْتَلَى قَوْمًا فَخَذَلَهُمْ وَذَمَّهُمْ عَلَى أَفْعَالِهِمْ وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا غَيْرَ مَا ابْتَلَاهُمْ فَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ عَادِلٌ {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] » وَسَتَأْتِي أَحَادِيثُ بِمَعْنَاهُ وَأَكْثَرِ لَفْظِهِ، وَقَالَ تَعَالَى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125] وَهَذِهِ الْآيَةُ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا مِنْ أَقْوَى الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ضَلَالَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَانْحِرَافِهِمْ عَنْ سَبِيلِ الِاسْتِقَامَةِ.
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ إلَّا وَفِي أُمَّتِهِ قَدَرِيَّةٌ وَمُرْجِئَةٌ، إنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْقَدَرِيَّةَ وَالْمُرْجِئَةَ عَلَى لِسَانِ سَبْعِينَ نَبِيًّا» .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ، وَمَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ» . قَالَ: فَإِذَا لَقِيتَهُمْ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي مِنْهُمْ بَرِيءٌ وَأَنَّهُمْ مِنِّي بُرَآءُ، وَاَلَّذِي نَفْسُ عَبْدِ اللَّهِ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ جِبْرِيلَ الَّذِي فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، وَفِيهِ: «إنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا
الْإِيمَانُ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» .
وَوَرَدَ فِي الْقَدَرِ أَحَادِيثُ كُثْرٌ غَيْرُ مَا مَرَّ أَحْبَبْت ذِكْرَ أَكْثَرِهَا لِعِظَمِ فَائِدَتِهَا وَعُمُومِ عَائِدَتِهَا.
مِنْهَا: أَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ: «مَنْ كَذَّبَ بِالْقَدَرِ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا جِئْت بِهِ» وَأَبُو يَعْلَى: «مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ» . وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ: «لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِأَرْبَعٍ: يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، وَيُؤْمِنُ بِالْمَوْتِ، وَيُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ، وَيُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» . وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ: «مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَيُؤْمِنْ بِقَدَرِ اللَّهِ فَلْيَلْتَمِسْ إلَهًا غَيْرَ اللَّهِ» . وَأَيْضًا «الْقَدَرُ نِظَامُ التَّوْحِيدِ فَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ وَآمَنَ بِالْقَدَرِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى» .
وَأَيْضًا: «فَرَغَ إلَيَّ ابْنُ آدَمَ مِنْ أَرْبَعٍ: الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ وَالرِّزْقِ وَالْأَجَلِ» .
وَأَيْضًا: «إذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُزِيغَ عَبْدًا أَعْمَى عَلَيْهِ الْحِيَلَ» .
وَالْحَاكِمُ: «لَا يُغْنِي حَذَرٌ عَنْ قَدَرٍ» .
وَالْبَيْهَقِيُّ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي وَقَدَرِي فَلْيَلْتَمِسْ رَبًّا غَيْرِي» .
وَابْنُ عَدِيٍّ وَالطَّبَرَانِيُّ: «خَلَقَ اللَّهُ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فِي بَطْنِ أُمِّهِ مُؤْمِنًا، وَخَلَقَ فِرْعَوْنَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ كَافِرًا» . وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ: «السَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ» . وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ: «فَرَغَ اللَّهُ عز وجل إلَى كُلِّ عَبْدٍ مِنْ خَمْسٍ: مِنْ أَجَلِهِ وَرِزْقِهِ وَأَثَرِهِ وَمَضْجَعِهِ وَشَقِيٍّ أَوْ سَعِيدٍ» .
وَالطَّبَرَانِيُّ: «فَرَغَ اللَّهُ مِنْ الْمَقَادِيرِ وَأُمُورِ الدُّنْيَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» .
وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ: «قَدَّرَ اللَّهُ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» . وَمُسْلِمٌ: «كَتَبَ اللَّهُ - تَعَالَى - مَقَادِيرَ الْخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» .
وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ: «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ» .
وَأَبُو نُعَيْمٍ: «لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ هَرَبَ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَهْرُبُ مِنْ الْمَوْتِ لَأَدْرَكَهُ كَمَا يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ» .
وَابْنُ عَسَاكِرَ: «لَوْ دَعَا لَك إسْرَافِيلُ وَجَبْرَائِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ وَأَنَا فِيهِمْ مَا تَزَوَّجْتَ إلَّا الْمَرْأَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَك» . وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ: «لَوْ قَضَى كَانَ» .
وَأَبُو نُعَيْمٍ «لَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِأَكْسَبَ مِنْ أَحَدٍ قَدْ كَتَبَ اللَّهُ الْمُصِيبَةَ وَالْأَجَلَ، وَقَسَمَ الْمَعِيشَةَ وَالْعَمَلَ فَالنَّاسُ فِيهَا يَجْرُونَ إلَى مُنْتَهًى» .
وَابْنُ مَاجَهْ: «مَا أَصَابَنِي شَيْءٌ مِنْهَا إلَّا وَهُوَ مَكْتُوبٌ عَلَيَّ وَآدَمُ فِي طِينَتِهِ» .
وَالْبَيْهَقِيُّ: «لَا تُكْثِرْ هَمَّك مَا يُقَدَّرُ يَكُونُ وَمَا تُرْزَقُ يَأْتِيك» . وَالدَّيْلَمِيُّ: «إذَا أَرَادَ اللَّهُ إنْفَاذَ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ سَلَبَ ذَوِي الْعُقُولِ عُقُولَهُمْ حَتَّى يَنْفُذَ فِيهِمْ قَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ فَإِذَا مَضَى أَمْرُهُ رَدَّ إلَيْهِمْ عُقُولَهُمْ وَوَقَعَتْ النَّدَامَةُ» . وَالْخَطِيبُ: «إذَا أَحَبَّ اللَّهُ إنْفَاذَ أَمْرٍ سَلَبَ كُلَّ ذِي لُبٍّ لُبَّهُ» . وَالسُّلَمِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: «إذَا أَرَادَ اللَّهُ إمْضَاءَ أَمْرٍ نَزَعَ عُقُولَ الرِّجَالِ حَتَّى يَمْضِيَ أَمْرُهُ، فَإِذَا أَمْضَاهُ رَدَّ إلَيْهِمْ عُقُولَهُمْ وَوَقَعَتْ النَّدَامَةُ» . وَمُسْلِمٌ: «إذَا أَرَادَ اللَّهُ خَلْقَ شَيْءٍ لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْءٌ» .
وَالطَّبَرَانِيُّ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا يُهْدَى إلَيْهِ مِنْ الْقَوْلِ، مَنْ خَلَقَهُ اللَّهُ لِوَاحِدَةٍ مِنْ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَفَّقَهُ لِعَمَلِهَا» . وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ: «كُلُّ امْرِئٍ مُهَيَّأٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» . وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» . وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالدَّيْلَمِيُّ: «إنَّ اللَّهَ مَنَّ عَلَى قَوْمٍ فَأَلْهَمَهُمْ الْخَيْرَ فَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ، وَابْتَلَى قَوْمًا فَخَذَلَهُمْ وَذَمَّهُمْ عَلَى فِعَالِهِمْ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَرْحَلُوا عَمَّا ابْتَلَاهُمْ بِهِ فَعَذَّبَهُمْ وَذَلِكَ عَدْلُهُ فِيهِمْ» .
وَأَحْمَدُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَحُذَيْفَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ: «لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ لَهُمْ خَيْرًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ مِنْك حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ فَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَلَوْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَدَخَلْتَ النَّارَ» .
وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالْأَرْبَعَةُ: «مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلَّا وَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ مَكَانَهَا مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلَّا وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً، قِيلَ: أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ قَالَ لَا، اعْمَلُوا وَلَا تَتَّكِلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ» . وَابْنُ مَاجَهْ: «مَنْ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنْ الْقَدَرِ سُئِلَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ لَمْ يُسْأَلْ عَنْهُ» .
وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ: أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» .
وَالتِّرْمِذِيُّ: «لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَحَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ» .
وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ» . الْحَدِيثَ.
وَالْأَرْبَعَةُ وَالْعُقَيْلِيُّ: «بُعِثْتُ دَاعِيًا وَمُبَلِّغًا وَلَيْسَ إلَيَّ مِنْ الْهُدَى شَيْءٌ، وَخُلِقَ إبْلِيسُ مُزَيِّنًا وَلَيْسَ لَهُ مِنْ الضَّلَالِ شَيْءٌ» .
وَمُسْلِمٌ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ: «إذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً بَعَثَ اللَّهُ إلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَشَحْمَهَا وَعَظْمَهَا ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّك مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ أَجَلُهُ؟ فَيَقْضِي رَبُّك مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ رِزْقُهُ؟ فَيَقْضِي رَبُّك مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَخْرُجُ الْمَلَكُ بِالصَّحِيفَةِ فَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا مَرَّ وَلَا يَنْقُصُ» . وَمُسْلِمٌ عَنْهُ أَيْضًا: «إنَّ النُّطْفَةَ تَقَعُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ يَتَصَوَّرُ عَلَيْهَا
الْمَلَكُ الَّذِي يَخْلُقُهَا فَيَقُولُ: يَا رَبِّ ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَجْعَلُهُ اللَّهُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ سَوِيٌّ أَمْ غَيْرُ سَوِيٍّ فَيَجْعَلُهُ اللَّهُ سَوِيًّا أَوْ غَيْرَ سَوِيٍّ ثُمَّ يَقُولُ: مَا رِزْقُهُ وَمَا أَجَلُهُ؟ ثُمَّ يَجْعَلُهُ اللَّهُ شَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا» . وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنْهُ أَيْضًا: «يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَمَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَاذَا أَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؛ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى؟ فَيَقُولُ اللَّهُ فَيَكْتُبُ وَيَكْتُبُ عَمَلَهُ وَأَثَرَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ ثُمَّ تُطْوَى الصَّحِيفَةُ فَلَا يُزَادُ عَلَى مَا فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ» . وَالشَّيْخَانِ وَالْأَرْبَعَةُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: «إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إلَيْهِ مَلَكًا، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اُكْتُبْ عَمَلَهُ، وَأَجَلَهُ، وَرِزْقَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ» .
وَظَاهِرُ " ثُمَّ " فِيهِ يُنَافِي مَا قَبْلَهُ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْوَاوِ أَوْ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَجِنَّةِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لَهُ الْمَلَكُ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لَهُ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ.
وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ وَمَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ - أَيْ أَوْجَدَ فِيهِ ذُرِّيَّةً مُلْتَبِسَةً بِقُدْرَتِهِ وَيُمْنِهِ وَبَرَكَتِهِ - فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ
ذُرِّيَّةً فَقَالَ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ» .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ: «إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ أَخَذَ الْخَلْقَ مِنْ ظَهْرِهِ فَقَالَ هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ، وَلَا أُبَالِي» .
وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ: «احْتَجَّ آدَم وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى: أَنْتَ الَّذِي خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَتَهُ وَأَسْكَنَك جَنَّتَهُ أَخْرَجْتَ النَّاسَ مِنْ الْجَنَّةِ بِذَنْبِك وَأَشْقَيْتَهُمْ، قَالَ آدَم: يَا مُوسَى أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاك اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْك التَّوْرَاةَ أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي فَحَجَّ آدَم مُوسَى» . وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد: «إنَّ مُوسَى سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ آدَمَ فَأَرَاهُ إيَّاهُ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ أَبُونَا آدَم؟ أَنْتَ الَّذِي نَفَخَ اللَّهُ فِيك مِنْ رُوحِهِ وَعَلَّمَك الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَك؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا حَمَلَك عَلَى أَنْ أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ لَهُ آدَم: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ أَنَا مُوسَى قَالَ: أَنْتَ نَبِيُّ بَنِي إسْرَائِيلَ الَّذِي كَلَّمَك اللَّهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَك وَبَيْنَهُ رَسُولًا مِنْ خَلْقِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا وَجَدْتَ أَنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَبِمَ تَلُومُنِي فِي شَيْءٍ سَبَقَ مِنْ اللَّهِ فِيهِ الْقَضَاءُ؟ قَالَ: فَحَجَّ آدَم مُوسَى» .
وَجَاءَ فِي الْقَدَرِيَّةِ أَحَادِيثُ غَيْرُ مَا مَرَّ. يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُمْ عَلَى مَنْ مَرَّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ وَتُنَزِّهُ أَهْلَ السُّنَّةِ مِنْ قَوْلِ أُولَئِكَ الْمُبْتَدِعَةِ الضُّلَّالِ: إنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ هُمْ الْقَدَرِيَّةُ.
مِنْهَا: أَخْرَجَ أَحْمَدُ: «لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ، وَمَجُوسُ أُمَّتِي الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا قَدَرَ إنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ» . وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ: «لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ وَمَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا قَدَرَ، فَإِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ، وَهُمْ شِيعَةُ الدَّجَّالِ وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَحْشُرَهُمْ مَعَهُ»
وَأَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ: «سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ يُكَذِّبُونَ بِالْقَدَرِ» .
وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ، وَالْخَطِيبُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ:«صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَيْسَ لَهُمَا فِي الْإِسْلَامِ نَصِيبٌ: الْمُرْجِئَةُ وَالْقَدَرِيَّةُ» . وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ أَنَسٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ وَاثِلَةَ وَعَنْ جَابِرٍ:«صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَا تَنَالُهُمْ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْمُرْجِئَةُ وَالْقَدَرِيَّةُ» . وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ: «صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَا يَرِدَانِ عَلَى الْحَوْضِ وَلَا يَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ: الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُرْجِئَةُ» .
وَالْخَطِيبُ: «عَزَمْتُ عَلَى أَنْ لَا تَتَكَلَّمُوا فِي الْقَدَرِ» . وَابْنُ عَدِيٍّ: «عَزَمْت عَلَى أَنْ لَا تَتَكَلَّمُوا فِي الْقَدَرِ، وَلَا يَتَكَلَّمُ فِي الْقَدَرِ إلَّا شِرَارُ أُمَّتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ» . وَالدَّارَقُطْنِيُّ: «لُعِنَتْ الْقَدَرِيَّةُ عَلَى لِسَانِ سَبْعِينَ نَبِيًّا» .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ: «لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْقَدَرِ وَلَا تُفَاتِحُوهُمْ» . وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ:«اتَّقُوا الْقَدَرَ فَإِنَّهُ شُعْبَةٌ مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ» . وَأَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ: «الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ» . وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ عَدِيٍّ وَالْخَطِيبُ: «أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي خَصْلَتَيْنِ: تَكْذِيبًا بِالْقَدَرِ وَتَصْدِيقًا بِالنُّجُومِ» . وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ: «آخِرُ الْكَلَامِ فِي الْقَدَرِ لِشِرَارِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
. تَنْبِيهٌ: عَدُّ مَا مَرَّ فِي التَّرْجَمَةِ كَبِيرَةً هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرْتهَا نَصٌّ فِيهِ وَهُوَ، وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِي تَرْكِ السُّنَّةِ الَّذِي مَرَّ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ، لَكِنْ أُفْرِدَ هَذَا بِالذِّكْرِ لِشِدَّةِ قُبْحِهِ وَلِكَثْرَةِ وُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ؛ إذْ مَسْأَلَةُ خَلْقِ الْأَفْعَالِ مِنْ مُهِمَّاتِ مَسَائِلِ الْكَلَامِ، وَمَنْ أَدِلَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ فِيهَا عَلَى مَا زَعَمُوهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، وَإِعْرَاضًا عَنْ صَرَائِحِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَغَيْرِهَا، وَعَنْ جَمِيعِ مَا مَرَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -
قَالَ إمَامُهُمْ فِي الضَّلَالَةِ الْجُبَّائِيُّ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ لَفْظَ السَّيِّئَةِ تَارَةً يَقَعُ عَلَى الْبَلِيَّةِ وَالْمِحْنَةِ، وَتَارَةً يَقَعُ عَلَى الذَّنْبِ وَالْمَعْصِيَةِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ السَّيِّئَةَ إلَى نَفْسِهِ أَوَّلًا، وَإِلَى الْعَبْدِ ثَانِيًا، وَلَا بُدَّ مِنْ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا فَنَقُولُ: لَمَّا كَانَتْ السَّيِّئَةُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ مُضَافَةً إلَيْهِ تَعَالَى؛ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي مُضَافَةً إلَى الْعَبْدِ لِيَزُولَ التَّنَاقُضُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْمُتَجَاوِرَتَيْنِ، وَقَدْ حَمَلَ الْمُخَالِفُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى تَغْيِيرِ الْآيَةِ وَقَرَءُوا: أَفَمِنْ نَفْسِك أَيْ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ فَغَيَّرُوا الْقُرْآنَ وَسَلَكُوا مِثْلَ طَرِيقَةِ الرَّافِضَةِ فِي ادِّعَاءِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي الْقُرْآنِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ أَضَافَ اللَّهُ - تَعَالَى - الْحَسَنَةَ - الَّتِي هِيَ الطَّاعَةُ - إلَى نَفْسِهِ دُونَ السَّيِّئَةِ وَكِلَاهُمَا فِعْلُ الْعَبْدِ عِنْدَكُمْ؟ .
قُلْنَا: الْحَسَنَةُ، وَإِنْ كَانَتْ فِعْلَ الْعَبْدِ فَإِنَّمَا وَصَلَ إلَيْهَا بِتَسْهِيلِهِ وَأَلْطَافِهِ فَصَحَّتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ، وَأَمَّا السَّيِّئَةُ فَهِيَ غَيْرُ مُضَافَةٍ إلَيْهِ - تَعَالَى - بِأَنَّهُ فَعَلَهَا وَلَا أَرَادَهَا وَلَا أَمَرَ بِهَا وَلَا رَغَّبَ فِيهَا فَلَا جَرَمَ انْقَطَعَتْ هَذِهِ النِّسْبَةُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ. انْتَهَى كَلَامُ الْجُبَّائِيِّ الْمُنْبِئُ عَنْ قُصُورِ فَهْمِهِ وَفَسَادِ تَصَوُّرِهِ وَقِلَّةِ عِلْمِهِ؛ إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالسَّيِّئَةِ وَالْحَسَنَةِ أَوَّلًا وَثَانِيًا طَاعَةً وَلَا مَعْصِيَةً، بَلْ النِّعَمَ وَالْمِحَنَ وَهُمَا لَيْسَا مِنْ فِعْلِهِمْ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ التَّعْبِيرُ بِأَصَابَكَ، إذْ لَا يُقَالُ فِي الطَّاعَةِ: الْمَعْصِيَةُ أَصَابَنِي، بَلْ أَصَبْتُهُ بِخِلَافِ النِّعَمِ وَالْمِحَنِ فَإِنَّهَا الَّتِي يُقَالُ: فِيهَا أَصَابَتْنِي، وَالسِّيَاقُ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ، إذْ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَالَ الْمُنَافِقُونَ الْيَهُودُ: مَا زِلْنَا نَعْرِفُ النَّقْصَ فِي ثِمَارِنَا وَمَزَارِعِنَا مُنْذُ قَدِمَ الرَّجُلُ وَأَصْحَابُهُ، فَكَانُوا يَنْسِبُونَ النِّعَمَ إلَى اللَّهِ وَالْمِحَنَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ مُخْبِرًا عَنْهُمْ بِمَقَالَتِهِمْ الْفَاسِدَةِ ثُمَّ رَدَّهَا بِقَوْلِهِ:{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78] مُبَيِّنًا لِمَصْدَرِهَا الْأَصْلِيِّ، ثُمَّ بَيَّنَ السَّبَبَ فَخَاطَبَهُ صلى الله عليه وسلم، وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} [النساء: 79] أَيْ نِعْمَةٍ كَخِصْبٍ وَنَصْرٍ {فَمِنَ اللَّهِ} [النساء: 79] أَيْ مِنْ مَحْضِ فَضْلِهِ إذْ لَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ عَلَيْهِ - تَعَالَى - شَيْئًا {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ} [النساء: 79] أَيْ مِحْنَةٍ
كَجَدْبٍ وَهَزِيمَةٍ {فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] أَيْ مِنْ أَجْلِ عِصْيَانِهَا فَهِيَ مِنْ اللَّهِ لَكِنْ بِسَبَبِ ذَنْبِ النَّفْسِ عُقُوبَةً لَهَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَرَأَ: وَمَا أَصَابَك مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِك وَأَنَا كَتَبْتُهَا عَلَيْك. وَقَدْ قَالَ إبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] فَأَضَافَ الْمَرَضَ لِنَفْسِهِ وَالشِّفَاءَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ - تَعَالَى - خَالِقًا لِلشِّفَاءِ وَالْمَرَضِ، وَإِنَّمَا فَصَلَ بَيْنَهُمَا رِعَايَةً لِلْأَدَبِ، لِأَنَّهُ - تَعَالَى - إنَّمَا يُضَافُ إلَيْهِ عَلَى الْخُصُوصِ الشَّرِيفُ دُونَ الْخَسِيسِ، فَيُقَالُ: يَا خَالِقَ الْخَلْقِ وَلَا يُقَالُ: يَا خَالِقَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَيُقَالُ: يَا مُدَبِّرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا يُقَالُ: يَا مُدَبِّرَ الْقَمْلِ وَالْخَنَافِسِ فَكَذَا هُنَا.
وَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ وَجَدْتَ نَظْمَ الْآيَةِ عَلَيْهِ عَلَى غَايَةٍ مِنْ السَّبْكِ وَالِالْتِئَامِ وَالرَّصَانَةِ وَالْبَلَاغَةِ اللَّائِقَةِ بِالْقُرْآنِ. وَأَمَّا عَلَى مَا زَعَمُوهُ فَيَخْتَلُّ النَّظْمُ وَيَتَغَيَّرُ الْأُسْلُوبُ لِغَيْرِ مُوجِبٍ وَلَا دَاعٍ إلَّا بِتَكْلِيفٍ تَامٍّ، وَجَلَالَةُ الْقُرْآنِ تَأْبَى ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْإِصَابَةِ الْمُوَافِقَ لِلِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ صَرِيحٌ فِيمَا قُلْنَاهُ وَعَلَى التَّنَزُّلِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّيِّئَةِ وَالْحَسَنَةِ مَا قَالُوهُ، فَلَا دَلَالَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ أَيْضًا بَلْ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَيْهِمْ لِدَلَالَتِهَا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ حَصَلَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ حَسَنَةٌ إذْ هِيَ الْغِبْطَةُ الْخَالِيَةُ عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ الْقُبْحِ وَهُوَ كَذَلِكَ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ حَسَنَةً، وَمِنْ ثَمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت: 33] كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ وَبِهَا فُسِّرَ الْإِحْسَانُ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90] ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ حَسَنَةٌ فَكُلُّ حَسَنَةٍ مِنْ اللَّهِ بِنَصِّ الْآيَةِ حَتَّى عَلَى مَا زَعَمُوهُ، وَحِينَئِذٍ فَيَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْإِيمَانَ مِنْ اللَّهِ سبحانه وتعالى كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ. لَا يُقَالُ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ {فَمِنَ اللَّهِ} [النساء: 79] أَنَّهُ قَدَّرَهُ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ لِمَعْرِفَةِ حُسْنِهِ وَقُبْحِ ضِدِّهِ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ. لِأَنَّا نَقُولُ جَمِيعُ الشَّرَائِطِ مُشْتَرَكَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ عِنْدَكُمْ، فَالْعَبْدُ بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ أَوْجَدَهُ وَلَا مَدْخَلَ فِيهِ لِقُدْرَةِ اللَّهِ، وَإِعَانَتِهِ عَلَى زَعْمِكُمْ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ عِنْدَكُمْ عَنْ اللَّهِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، وَهَذَا مُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النساء: 79] فَبَانَ بُطْلَانُ مَا ذَهَبْتُمْ إلَيْهِ مِنْ الْآيَةِ وَأَنَّهُ لَا يَنْفَعُكُمْ، وَإِذَا ثَبَتَ بِهَا أَنَّ الْإِيمَانَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَذَلِكَ الْكُفْرُ إذْ كُلُّ مَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ مِنْ اللَّهِ قَالَ: الْكُفْرُ مِنْ اللَّهِ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا مِنْ اللَّهِ دُونَ الْآخَرِ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ.
وَأَيْضًا: فَالْعَبْدُ لَوْ قَدَرَ عَلَى إيجَادِ الْكُفْرِ فَالْقُدْرَةُ الصَّالِحَةُ لِإِيجَادِ الْكُفْرِ إمَّا أَنْ تَصْلُحَ لِإِيجَادِ الْإِيمَانِ أَوْ لَا، فَإِنْ صَلُحَتْ لِإِيجَادِهِ عَادَ الْقَوْلُ بِأَنَّ إيمَانَ الْعَبْدِ مِنْهُ وَقَدْ عُلِمَ بُطْلَانُهُ مِنْ الْآيَةِ كَمَا تَقَرَّرَ، وَإِنْ لَمْ تَصْلُحْ لِإِيجَادِهِ لَزِمَ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الشَّيْءِ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى ضِدِّهِ وَذَلِكَ عِنْدَهُمْ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْإِيمَانُ مِنْهُ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْكُفْرُ مِنْهُ.
وَأَيْضًا: إذَا لَمْ يُوجِدْ الْعَبْدُ الْإِيمَانَ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُوجِدَ الْكُفْرَ لِأَنَّ الْمُسْتَقِلَّ بِإِيجَادِ الشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُ مُرَادٍ، وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا عَاقِلٌ قَطُّ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ الْحَاصِلُ فِي قَلْبِهِ هُوَ الْجَهْلَ وَالضَّلَالَ، فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مُوجِدًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَقْصِدُ إلَّا تَحْصِيلَ الْعِلْمِ الْحَقِّ الْمُطَابِقِ وَجَبَ أَنْ لَا يَتَحَصَّلَ فِي قَلْبِهِ إلَّا الْحَقُّ، وَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُهُ وَمَطْلُوبُهُ وَمُرَادُهُ لَمْ يَقَعْ بِإِيجَادِهِ فَبِأَنْ يَكُونَ الْجَهْلُ - الَّذِي لَمْ يُرِدْهُ وَمَا قَصَدَ تَحْصِيلَهُ وَهُوَ فِي غَايَةِ النَّفْرَةِ عَنْهُ - غَيْرَ وَاقِعٍ بِإِيجَادِهِ أَوْلَى.
وَأَمَّا مَا شَنَّعَ بِهِ الْجُبَّائِيُّ عَلَى مَنْ قَرَأَ: أَفَمِنْ نَفْسِك؟ بِالِاسْتِفْهَامِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ افْتِرَائِهِ كَشِيعَتِهِ. إذْ أَهْلُ السُّنَّةِ لَمْ يُعَوِّلُوا عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَلَا جَعَلُوهَا حُجَّةً لَهُمْ، وَإِنَّمَا الْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ صَحَّ أَنَّهُ قَرَأَ بِهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَجَبَ قَبُولُهَا وَتَكُونُ حِينَئِذٍ دَلِيلًا عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ إذَا صَحَّ سَنَدُهَا كَالْخَبَرِ الصَّحِيحِ فِي الْحُجِّيَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهَا وَلَيْسَتْ الْحُجِّيَّةُ مُفْتَقِرَةً إلَيْهَا، عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ الْمَشْهُورَةَ يَصِحُّ حَمْلُهَا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ كَهُوَ فِي تِلْكَ الْقِرَاءَةِ إنْ صَحَّتْ، نَظِيرُ مَا قَالَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْله تَعَالَى حِكَايَةٍ عَنْ خَلِيلِهِ:{فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 77] مِنْ أَنَّ هَذَا إنَّمَا ذَكَرَهُ اسْتِفْهَامًا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، فَكَذَا هُنَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَتَوَقَّفْ الْحُجِّيَّةُ عَلَيْهِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ، وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي وَقَعَ عَلَى وَفْقِ قَصْدِهِ قَدْ بَانَ بِقَوْلِهِ:{فَمِنَ اللَّهِ} [النساء: 79] أَنَّهُ لَيْسَ وَاقِعًا مِنْهُ بَلْ مِنْ اللَّهِ، فَهَذَا الْكُفْرُ الَّذِي لَمْ يَقْصِدْهُ وَلَمْ يُرِدْهُ وَلَمْ يَرْضَ بِهِ أَلْبَتَّةَ كَيْفَ يَدْخُلُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ وَاقِعٌ مِنْهُ بَلْ هُوَ مِنْ اللَّهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ مَا لِلنَّفْسِ فِيهِ حَظٌّ وَقَصْدٌ، وَإِرَادَةٌ وَمَحَبَّةٌ لَا يَقَعُ مِنْهَا بَلْ مِنْ اللَّهِ، فَأَوْلَى مَا لَيْسَ لَهَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْوَاقِعَ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْهَا. وَفِي خَتْمِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 79] إيمَاءٌ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا إسْنَادُ جَمِيعِ
الْأُمُورِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، إذْ الْمَعْنَى لَيْسَ لَك إلَّا الرِّسَالَةُ وَالتَّبْلِيغُ وَقَدْ فَعَلْت وَمَا قَصَّرْت وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا حُصُولُ الْهِدَايَةِ فَلَيْسَ إلَيْك بَلْ إلَى اللَّهِ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] أَوْ {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الرعد: 43] عَلَى صِدْقِك، وَإِرْسَالِك أَوْ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَةَ وَالسَّيِّئَةَ مِنْ اللَّهِ.
وَمِنْ الْأَدِلَّةِ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ مَا فِي الْقُرْآنِ فِي آيٍ كَثِيرَةٍ مِنْ نَحْوِ الْخَتْمِ عَلَى الْقَلْبِ وَالسَّمْعِ، وَالطَّبْعِ، وَالْكِنَانِ، وَالرَّيْنِ عَلَى الْقَلْبِ وَالْوَقْرِ فِي الْأُذُنِ وَالْغِشَاوَةِ عَلَى الْبَصَرِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ فَذَلِكَ كُلُّهُ ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِهِمْ، ثُمَّ لَهُمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ خَلْقِ الْكُفْرِ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ خَلَقَ الدَّاعِيَةَ الَّتِي إذَا انْضَمَّتْ إلَى الْقُدْرَةِ صَارَ مَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ مَعَهَا سَبَبًا لِوُقُوعِ الْكُفْرِ.
وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ قَبَّحَهُمْ اللَّهُ، فَإِنَّهُمْ تَأَوَّلُوا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَأَخْرَجُوهَا عَنْ ظَوَاهِرِهَا بِطَرِيقِ التَّحَكُّمِ وَالتَّشَهِّي تَحْكِيمًا لِعُقُولِهِمْ الْفَاسِدَةِ الْقَاصِرَةِ فِي نُصُوصِ الشَّرْعِ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا تَارَةً بِالرَّدِّ وَتَارَةً بِالتَّأْوِيلِ، فَخَذَلَهُمْ اللَّهُ وَأَبَادَهُمْ فَمَا أَغْبَاهُمْ وَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَاهُمْ وَأَبْعَدَهُمْ عَنْ سَبِيلِ الْهُدَى وَمُجَانَبَةِ الضَّلَالِ وَالرَّدَى، وَأَنْسَاهُمْ لِآيَاتِ اللَّهِ الْبَيِّنَاتِ وَدَلَائِلِ خَلْقِهِ - تَعَالَى - لِسَائِرِ الْحَادِثَاتِ، وَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَبْدِ الضَّعِيفِ الْعَاجِزِ الْمُقَصِّرِ الْجَاهِلِ بِاَللَّهِ تبارك وتعالى وَبِمَا طَوَاهُ عَنْهُ مِمَّا اسْتَأْثَرَ بِهِ مِنْ عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ أَنْ يَنْسَى قَوْله تَعَالَى لِخَلْقِهِ إعْلَامًا لَهُمْ بِذَلِكَ {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] ثُمَّ يَقُولُ: كَيْفَ يَذُمُّ الْكُفَّارَ عَلَى شَيْءٍ خَلَقَهُ فِيهِمْ، وَأَيُّ ذَنْبٍ لَهُمْ حِينَئِذٍ حَتَّى يُعَذِّبَهُمْ عَلَيْهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْخُرَافَاتِ الْمُنْبِئَةِ عَنْ الْخُرُوجِ عَنْ حَيْزِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْخُضُوعِ لِلْحَقِّ وَالرِّضَا بِقِسْمَتِهِ - تَعَالَى -، وَكَفَى هَؤُلَاءِ هَذِهِ الْمَهَاوِي السَّخِيفَةُ الَّتِي وَقَعُوا فِيهَا فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا وَعَانَدُوا وَلَجُّوا، وَلَوْ تَأَمَّلُوا مَا هُمْ عَلَيْهِ لَوَجَدُوا أَنْفُسَهُمْ آخِذِينَ بِحُجْزَةِ قَوْلِ الْكُفَّارِ:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47] قَالَ - تَعَالَى - جَوَابًا لَهُمْ: {إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس: 47] فَكَذَا أُولَئِكَ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ مُضِلَّاتِ الْآرَاءِ وَغَوَائِلِ الْفِتَنِ، وَأَصْلَحَ مِنَّا مَا ظَهَرَ وَجَمِيعَ مَا بَطَنَ إنَّهُ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ.