الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْجُوعَ طَعَامُهُمْ، وَالسَّهَرَ إذَا نَامَ النَّاسُ إدَامُهُمْ وَالْفَقْرَ، وَالْفَاقَةَ شِعَارُهُمْ، وَالْمَسْكَنَةَ وَالْحَيَاءَ دِثَارُهُمْ، فَقْرُهُمْ لَيْسَ مِنْ الْفَقْرِ الْعَامِّ الَّذِي هُوَ مُطْلَقُ الْحَاجَةِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - لِأَنَّ هَذَا وَصْفُ كُلِّ مَخْلُوقٍ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15] بَلْ مِنْ الْفَقْرِ الْخَاصِّ الَّذِي هُوَ شِعَارُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَحِبَّائِهِ وَهُوَ خُلُوُّ الْقَلْبِ مِنْ التَّعَلُّقِ بِغَيْرٍ أَوْ سِوًى، وَالتَّمَلِّي بِشُهُودِهِ - تَعَالَى - فِي سَائِرِ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ حَشَرَنَا اللَّهُ فِي زُمْرَتِهِمْ لِمَا مَنَّ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ حَقَائِقِ مَحَبَّتِهِمْ آمِينَ.
تَنْبِيهٌ: عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ صَرِيحُ هَذَا الْوَعِيدِ الَّذِي لَا أَشَدَّ مِنْهُ إذْ مُحَارَبَةُ اللَّهِ - تَعَالَى - لِلْعَبْدِ لَمْ تُذْكَرْ إلَّا فِي أَكْلِ الرِّبَا وَمُعَادَاةِ الْأَوْلِيَاءِ، وَمَنْ عَادَاهُ اللَّهُ لَا يُفْلِحُ أَبَدًا بَلْ لَا بُدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ أَنْ يَمُوتَ عَلَى الْكُفْرِ، عَافَانَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ، ثُمَّ رَأَيْت الزَّرْكَشِيَّ فِي الْخَادِمِ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ الْحَدِيثِ وَتَأَمَّلْ هَذَا الْوَعِيدَ وَهُوَ حِينَئِذٍ وَأَكْلُ الرِّبَا فِي قَرْنٍ {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] وَفِي فَتَاوَى الْبَدِيعِيِّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: مَنْ اسْتَخَفَّ بِالْعَالِمِ طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ وَكَأَنَّهُ جَعَلَهُ رِدَّةً انْتَهَى، وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ - يَعْنِي الْحَافِظَ الْإِمَامَ ابْنَ عَسَاكِرَ -: اعْلَمْ يَا أَخِي وَفَّقَك اللَّهُ وَإِيَّانَا، وَهَدَاك سَبِيلَ الْخَيْرِ وَهَدَانَا أَنَّ لُحُومَ الْعُلَمَاءِ مَسْمُومَةٌ. وَعَادَةَ اللَّهِ فِي هَتْكِ مُنْتَقِصِهِمْ مَعْلُومَةٌ، وَمَنْ أَطْلَقَ لِسَانَهُ فِي الْعُلَمَاءِ بِالثَّلْبِ بَلَاهُ اللَّهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِمَوْتِ الْقَلْبِ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] .
[الْكَبِيرَةُ السَّابِعَةُ وَالْخَمْسُونَ سَبُّ الدَّهْرِ مِنْ عَالِمٍ بِمَا يَأْتِي]
أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «يَسُبُّ ابْنُ آدَمَ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ وَبِيَدِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ» وَفِي رِوَايَةٍ: «أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ وَإِذَا شِئْتُ قَبَضْتُهُمَا» . وَمُسْلِمٌ: «لَا يَسُبُّ أَحَدُكُمْ الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «لَا تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ وَلَا تَقُولُوا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» . وَأَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ: «قَالَ اللَّهُ عز وجل، يُؤْذِينِي
ابْنُ آدَمَ يَقُولُ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنِّي أَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ» . وَمَالِكٌ:«لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» . وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ: «يَقُولُ اللَّهُ عز وجل اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي فَلَمْ يُقْرِضْنِي وَيَشْتُمُنِي عَبْدِي وَهُوَ لَا يَدْرِي يَقُولُ: وَادَهْرَاهُ وَادَهْرَاهُ، وَأَنَا الدَّهْرُ» وَالْبَيْهَقِيُّ: «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ قَالَ اللَّهُ عز وجل: أَنَا الدَّهْرُ، الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي أُجَدِّدُهَا وَأُبْلِيهَا وَآتِي بِمُلُوكٍ بَعْدَ مُلُوكٍ» .
تَنْبِيهٌ: عَدُّ هَذَا هُوَ ظَاهِرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِبَادِئِ الرَّأْيِ لَا سِيَّمَا قَوْله تَعَالَى: «وَيَشْتُمُنِي عَبْدِي» فَعَدَّ - تَعَالَى - سَبَّ الدَّهْرِ شَتْمًا لَهُ أَيْ يُؤَدِّي إلَيْهِ وَهُوَ كُفْرٌ وَمَا أَدَّى إلَى الْكُفْرِ أَدْنَى مَرَاتِبِهِ أَنْ يَكُونَ كَبِيرَةً، لَكِنَّ كَلَامَ أَئِمَّتِنَا يَأْبَى ذَلِكَ وَيُصَرِّحُ بِأَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ لَا حَرَامٌ. فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ كَبِيرَةً، وَاَلَّذِي يُتَّجَهُ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ سَبَّ الدَّهْرَ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الزَّمَنَ فَلَا كَلَامَ فِي الْكَرَاهَةِ، أَوْ اللَّهَ - تَعَالَى - فَلَا كَلَامَ فِي الْكُفْرِ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَهَذَا هُوَ مَحَلُّ التَّرَدُّدِ لِاحْتِمَالِهِ الْكُفْرَ وَغَيْرَهُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَئِمَّتِنَا الْكَرَاهَةُ هُنَا أَيْضًا لِأَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْهُ الزَّمَنُ وَإِطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ التَّجَوُّزِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالُوا فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ: إنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إذَا نَزَلَتْ بِأَحَدِهِمْ نَازِلَةٌ أَوْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ أَوْ مَكْرُوهٌ يَسُبُّ الدَّهْرَ اعْتِقَادًا مِنْهُ أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُ فِعْلُ الدَّهْرِ، كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَسْتَمْطِرُ بِالْأَنْوَاءِ وَتَقُولُ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا اعْتِقَادًا أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ هُوَ الْأَنْوَاءُ فَكَانَ هَذَا كَاللَّعْنِ لِلْفَاعِلِ، وَلَا فَاعِلَ لِكُلِّ شَيْءٍ إلَّا اللَّهُ - تَعَالَى - خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَفَاعِلُهُ، فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ رَأَيْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ قَالُوا: إنَّ سَبَّ الدَّهْرِ كَبِيرَةٌ إنْ اعْتَقَدَ أَنَّ لَهُ تَأْثِيرًا فِيمَا نَزَلَ بِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ اعْتِقَادَ ذَلِكَ كُفْرٌ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ ابْنَ دَاوُد كَانَ يُنْكِرُ رِوَايَةَ أَهْلِ الْحَدِيثِ " وَأَنَا الدَّهْرُ " بِضَمِّ الرَّاءِ وَيَقُولُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الدَّهْرُ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى -. وَكَانَ يَرْوِيهِ " وَأَنَا الدَّهْرَ " بِفَتْحِ الرَّاءِ ظَرْفًا لِأُقَلِّب: أَيْ وَأَنَا أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ الدَّهْرَ - أَيْ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ وَمَمَرِّهِ، وَتَبِعَهُ بَعْضُهُمْ فَرَجَّحَ الْفَتْحَ وَلَيْسَ كَمَا قَالَا لِأَنَّ رِوَايَةَ «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» تُبْطِلُ مَا زَعَمَاهُ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الْجُمْهُورُ عَلَى ضَمِّ الرَّاءِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَا زَعَمَهُ ابْنُ دَاوُد: أَنَّ الدَّهْرَ يَكُونُ