الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْإِظْهَارَ قَدْ يَجِبُ وَقَدْ يُنْدَبُ، فَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُهُ عَقْلُ الطَّالِبِ، وَيُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ إعْلَامِهِ بِهِ فِتْنَةٌ يَجِبُ الْكَتْمُ عَنْهُ، وَفِي غَيْرِهِ إنْ وَقَعَ - وَهُوَ فَرْضُ عَيْنٍ أَوْ فِي حُكْمِهِ - وَجَبَ الْإِعْلَامُ، وَإِلَّا نُدِبَ مَا لَمْ يَكُنْ وَسِيلَةً لِمَحْظُورٍ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ التَّعْلِيمَ وَسِيلَةٌ إلَى الْعِلْمِ فَيَجِبُ فِي الْوَاجِبِ عَيْنًا فِي الْعَيْنِ وَكِفَايَةً فِيمَا هُوَ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَيُنْدَبُ فِي الْمَنْدُوبِ كَالْعَرُوضِ وَيَحْرُمُ فِي الْحَرَامِ كَالسِّحْرِ وَالشَّعْبَذَةِ. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: لَا يَجُوزُ تَعْلِيمُ الْكَافِرِ قُرْآنًا وَلَا عِلْمًا حَتَّى يُسْلِمَ، وَلَا تَعْلِيمُ الْمُبْتَدِعِ الْجَدَلَ وَالْحِجَاجَ لِيُحَاجَّ بِهِ أَهْلَ الْحَقِّ، وَلَا تَعْلِيمُ الْخَصْمِ عَلَى خَصْمِهِ حُجَّةً يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَهُ، وَلَا السُّلْطَانِ تَأْوِيلًا يَتَطَرَّقُ بِهِ إلَى إضْرَارِ الرَّعِيَّةِ، وَلَا نَشْرُ الرُّخَصِ فِي السُّفَهَاءِ يَتَّخِذُونَهَا طَرِيقًا لِارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ.
قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَمْنَعُوا الْحِكْمَةَ أَهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُمْ وَلَا تَضَعُوهَا فِي غَيْرِ أَهْلِهَا فَتَظْلِمُوهَا» .
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُعَلِّقُوا الدُّرَّ فِي أَعْنَاقِ الْخَنَازِيرِ» يُرِيدُ تَعْلِيمَ الْفِقْهِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَحْكَامِ عَلَى الْكَافِرِ بَعِيدٌ مِنْ قَوَاعِدِنَا لِأَنَّ الْمَرْجُوَّ إسْلَامُهُ؛ يَجُوزُ تَعْلِيمُهُ الْقُرْآنَ عِنْدَنَا فَأَوْلَى الْعِلْمُ، وَالْحَدِيثَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا وَارِدَانِ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ:«طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَوَاضِعُ الْعِلْمِ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ كَمُقَلِّدِ الْخَنَازِيرِ الْجَوْهَرَ وَاللُّؤْلُؤَ وَالذَّهَبَ» .
[الْكَبِيرَةُ الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ عَدَمُ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ]
(الْكَبِيرَةُ الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: عَدَمُ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ) أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا» .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَقَالَ غَرِيبٌ: «الزَّبَانِيَةُ أَسْرَعُ إلَى فَسَقَةِ الْقُرَّاءِ مِنْهُمْ إلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَيَقُولُونَ يُبْدَأُ بِنَا قَبْلَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ؟ فَيُقَالُ لَهُمْ لَيْسَ مَنْ يَعْلَمُ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ» .
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: وَلِهَذَا الْحَدِيثِ مَعَ غَرَابَتِهِ شَاهِدٌ صَحِيحٌ وَهُوَ مَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ فِي مَبْحَثِ الرِّيَاءِ: «أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ لَهُ قَارِئٌ» وَفِي آخِرِهِ: «أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ نَفَرٍ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ إسْنَادُهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ: «مَا آمَنَ بِالْقُرْآنِ مَنْ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ» .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ» . وَالتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ فِي الْمُتَابَعَاتِ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ» .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ: «إنَّ أُنَاسًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَنْطَلِقُونَ إلَى أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيَقُولُونَ بِمَ دَخَلْتُمْ النَّارَ فَوَاَللَّهِ مَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ إلَّا بِمَا تَعَلَّمْنَا مِنْكُمْ؟ فَيَقُولُونَ إنَّا كُنَّا نَقُولُ وَلَا نَفْعَلُ»
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ مُرْسَلًا بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ الْحَسَنِ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَخْطُبُ خُطْبَةً إلَّا اللَّهُ عز وجل سَائِلُهُ عَنْهَا - أَظُنُّهُ قَالَ مَا أَرَادَ بِهَا» .
قَالَ جَعْفَرٌ: كَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ إذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَكَى حَتَّى يَنْقَطِعَ ثُمَّ يَقُولُ: تَحْسِبُونَ أَنَّ عَيْنِي تَقَرُّ بِكَلَامِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عز وجل سَائِلِي عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا أَرَدْتُ بِهِ.
وَالْبَزَّارُ وَهُوَ غَرِيبٌ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم اللَّهُمَّ اغْفِرْ، سَلْ عَنْ الْخَيْرِ وَلَا تَسَلْ عَنْ الشَّرِّ، شِرَارُ النَّاسِ شِرَارُ الْعُلَمَاءِ» .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ: «مَثَلُ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَهُ كَمَثَلِ السِّرَاجِ يُضِيءُ لِلنَّاسِ وَيُحْرِقُ نَفْسَهُ» الْحَدِيثَ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي سَنَدِهَا مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ حِبَّانَ:«كُلُّ عِلْمٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إلَّا مَنْ عَمِلَ بِهِ» .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ» .
وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى حَيٍّ مِنْ قَيْسٍ أُعَلِّمُهُمْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَإِذَا هُمْ قَوْمٌ كَأَنَّهُمْ الْإِبِلُ الْوَحْشِيَّةُ طَامِحَةٌ أَبْصَارُهُمْ لَيْسَ لَهُمْ هَمٌّ إلَّا شَاةٌ أَوْ بَعِيرٌ، فَانْصَرَفْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا عَمَّارُ مَا عَمِلْتَ؟ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قِصَّةَ الْقَوْمِ وَأَخْبَرْتُهُ بِمَا فِيهِمْ مِنْ السَّهْوَةِ فَقَالَ: يَا عَمَّارُ أَلَا أُخْبِرُك بِأَعْجَبَ مِنْهُمْ؟ قَوْمٌ عَلِمُوا بِمَا جَهِلَ أُولَئِكَ ثُمَّ سَهَوْا كَسَهْوِهِمْ» .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ الْأَعْوَرُ، وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ:«إنِّي لَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي مُؤْمِنًا وَلَا مُشْرِكًا، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَحْجِزُهُ إيمَانُهُ وَأَمَّا الْمُشْرِكُ فَيَقْمَعُهُ كُفْرُهُ، وَلَكِنْ أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ مُنَافِقًا عَلِيمَ اللِّسَانِ، يَقُولُ مَا تَعْرِفُونَ، وَيَعْمَلُ مَا تُنْكِرُونَ» وَصَحَّ: «إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ» . وَصَحَّ عَنْ ابْنٍ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ: «إنِّي لَأَحْسِبُ الرَّجُلَ يَنْسَى الْعِلْمَ كَمَا تَعَلَّمَهُ لِلْخَطِيئَةِ يَعْمَلُهَا» .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ قَالَ: «نُبِّئْت أَنَّ بَعْضَ مَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ يَتَأَذَّى أَهْلُ النَّارِ بِرِيحِهِ فَيُقَالُ لَهُ وَيْلَكَ مَا كُنْتَ تَعْمَلُ مَا يَكْفِينَا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الشَّرِّ حَتَّى اُبْتُلِينَا بِك وَبِنَتْنِ رِيحِك؟ فَيَقُولُ كُنْتُ عَالِمًا فَلَمْ أَنْتَفِعْ بِعِلْمِي» . تَنْبِيهٌ: عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ ظَاهِرُ مَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ.
فَإِنْ قُلْت: التَّغْلِيظُ إنَّمَا جَاءَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَاتِ أَوْ فَعَلَ الْمُحَرَّمَاتِ لَا مِنْ مُجَرَّدِ عَدَمِ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ، وَلَوْ فِي الْمَنْدُوبَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ، وَحِينَئِذٍ فَلَوْ سُلِّمَ تَصْرِيحُهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ لَمْ يَحْسُنْ عَدُّهُ كَبِيرَةً مُغَايِرَةً لِنَحْوِ تَرْكِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَأْتِي.
قُلْتُ: يُمْكِنُ أَنْ يُوَجَّهَ عَدُّهُ، وَإِنْ لَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ بِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ مَعَ الْعِلْمِ أَفْحَشُ مِنْهَا مَعَ الْجَهْلِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَيْضًا تِلْكَ الْأَحَادِيثُ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا يَأْتِي فِي الْمَعْصِيَةِ بِحَرَمِ مَكَّةَ وَنَحْوِهِ مِنْ أَنَّ شَرَفَهُ اقْتَضَى فُحْشَ الْمَعْصِيَةِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، فَكَذَلِكَ الْعَالِمُ إذَا أَفْحَشَ فِي فِعْلِ الصَّغَائِرِ فَلَا بُعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ كَبِيرَةً بِوَاسِطَةِ مَا أُوتِيَهُ مِنْ تِلْكَ الْمَعَارِفِ الْمُقْتَضِيَةِ لِانْزِجَارِهِ عَنْ الْمَكْرُوهَاتِ فَضْلًا عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ.