الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَحْمَدُ «ثَلَاثٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: مُدْمِنُ خَمْرٍ، وَقَاطِعُ رَحِمٍ، وَمُصَدِّقٌ بِالسِّحْرِ» .
وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ «ثَلَاثٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْعَمَلَ وَلَمْ يُوفِهِ أَجْرَهُ» .
وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ، وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ، وَلَا نَمَّامٌ» . وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ وَلَا مُكَذِّبٌ بِقَدَرٍ» .
وَرَوَى أَحْمَدُ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ خَمْسٍ: مُدْمِنُ خَمْرٍ وَلَا مُؤْمِنٌ بِسِحْرٍ وَلَا قَاطِعُ رَحِمٍ وَلَا كَاهِنٌ وَلَا مَنَّانٌ» .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ أَيْ طُرُقَهَا» .
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ: «ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالدَّيُّوثُ، وَرَجُلَةُ النِّسَاءِ» . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ هِيَ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا الْعَلَائِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّهُ نُصَّ فِيهَا عَلَى بَعْضِ الذُّنُوبِ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ أَوْ مَا يَسْتَلْزِمُهَا، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِعَوْنِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ عِنْدَ ذِكْرِنَا لِتَفَاصِيلِهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ مَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِكَثِيرٍ، وَلَكِنْ قَدْ قَصَدْنَا بِتَقْدِيمِ هَذِهِ الْإِشَارَةَ إلَى بَيَانِ أَصْلِ مَا قَالَهُ الْعَلَائِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَأَمَّا تَحْقِيقُ كُلِّ كَبِيرَةٍ وَمَا جَاءَ فِيهَا فَسَنَبْسُطُهُ عِنْدَ ذِكْرِهَا مُفَصَّلَةً مُسْتَوْفَاةً، يَسَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمِينَ.
وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ: الْكَبَائِرُ سَبْعَ عَشْرَةَ: أَرْبَعٌ فِي الْقَلْبِ: الشِّرْكُ، وَالْإِصْرَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَالْقُنُوطُ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ. وَأَرْبَعٌ فِي اللِّسَانِ: الْقَذْفُ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، وَالسِّحْرُ - وَهُوَ كُلُّ كَلَامٍ يُغَيِّرُ الْإِنْسَانَ أَوْ شَيْئًا مِنْ أَعْضَائِهِ -، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ - وَهِيَ الَّتِي تُبْطِلُ بِهَا حَقًّا أَوْ تُثْبِتُ بِهَا بَاطِلًا، وَثَلَاثٌ فِي الْبَطْنِ: أَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ظُلْمًا، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَشُرْبُ كُلِّ مُسْكِرٍ، وَاثْنَتَانِ فِي الْفَرْجِ: الزِّنَا، وَاللِّوَاطُ، وَاثْنَتَانِ فِي الْيَدِ: الْقَتْلُ وَالسَّرِقَةُ وَوَاحِدَةٌ فِي الرِّجْلِ: الْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ، وَوَاحِدَةٌ فِي جَمِيعِ الْجَسَدِ: عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ انْتَهَى.
[خَاتِمَةٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعَاصِي كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا]
قَدَّمْتهَا هُنَا لِتَكُونَ إنْ شَاءَ اللَّهُ زَاجِرَةً عَنْ اقْتِحَامِ حِمَى الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ، الْمُوجِبَةِ لِلْهَلَاكِ وَالْبُعْدِ وَالطَّرْدِ عَنْ دَارِ السَّلَامِ. وَلِلْخِزْيِ وَالْهَوَانِ وَالذِّلَّةِ وَالْخُسْرَانِ وَالْبَوَارِ وَالدَّمَارِ وَالْوَبَالِ وَالْعِثَارِ لَا سِيَّمَا فِي دَارِ الْقَرَارِ.
اعْلَمْ وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ لِطَاعَتِهِ، وَأَنَالَنَا مِنْ سَوَابِغِ رِضَاهُ وَمَهَابَتِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَذَّرَ عِبَادَهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ بِمَا أَعْلَمَهُمْ بِهِ مِنْ نَوَامِيسِ رُبُوبِيَّتِهِ وَأَقَامَهُ مِنْ سَطَوَاتِ قَهْرِهِ وَجَبَرُوتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ. قَالَ تَعَالَى:{فَلَمَّا آسَفُونَا} [الزخرف: 55] أَيْ أَغْضَبُونَا {انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء: 123] وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ اللَّهَ يَغَارُ وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ» . وَفِيهِمَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ فَلِذَا حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إلَيْهِ الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ عز وجل» .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا أَذْنَبَ نُكِتَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ فَإِنْ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ زَادَتْ حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ» : أَيْ تُغَشِّيهِ وَتُغَطِّيهِ تِلْكَ النُّكْتَةُ السَّوْدَاءُ فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» .
وَعَنْ ابْنِ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ أُمِّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنهما أَنَّهَا قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي. قَالَ: اُهْجُرِي الْمَعَاصِيَ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ الْهِجْرَةِ، وَحَافِظِي عَلَى الْفَرَائِضِ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ الْجِهَادِ، وَأَكْثِرِي مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي الْعَبْدُ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرِهِ» .
وَسَأَلَ أَبُو ذَرٍّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْهِجْرَةِ - أَيْ أَصْحَابِهَا - أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ» . وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ: وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: هَلْ تَرَكَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ دِينَهُمْ أَيْ حَتَّى عُذِّبُوا بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ كَمَسْخِهِمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ وَأَمْرِهِمْ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إذَا أُمِرُوا بِشَيْءٍ تَرَكُوهُ، وَإِذَا نُهُوا عَنْ شَيْءٍ رَكِبُوهُ حَتَّى انْسَلَخُوا مِنْ دِينِهِمْ كَمَا يَنْسَلِخُ الرَّجُلُ مِنْ قَمِيصِهِ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ لِمَا تَأْمَنُ سُوءَ عَاقِبَتِهِ وَلِمَا يَتْبَعُ الذَّنْبَ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ؟ ، وَقِلَّةُ حَيَائِك مِنْ مَلَكِ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ: - أَيْ بَقَاؤُك عَلَيْهِ بِلَا تَوْبَةٍ - أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ الَّذِي عَمِلْتَهُ، وَفَرَحُك بِالذَّنْبِ إذَا ظَفِرْتَ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ، وَضَحِكُكَ وَأَنْتَ لَا تَدْرِي مَا اللَّهُ صَانِعٌ بِك أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ، وَحُزْنُك عَلَى الذَّنْبِ إذَا فَاتَك أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ، وَخَوْفُك مِنْ الرِّيحِ إذَا حَرَّكَتْ سِتْرَ بَابِك وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ وَلَا يَضْطَرِبُ فُؤَادُك مِنْ نَظَرِ اللَّهِ إلَيْك أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ، وَيْحَك هَلْ تَدْرِي مَا كَانَ ذَنْبُ أَيُّوبَ عليه الصلاة والسلام فَابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالْبَلَاءِ فِي جَسَدِهِ وَذَهَابِ مَالِهِ؟ إنَّمَا كَانَ ذَنْبُهُ أَنَّهُ اسْتَعَانَ بِهِ مِسْكِينٌ عَلَى ظَالِمٍ يَدْرَؤُهُ عَنْهُ فَلَمْ يُعِنْهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْهَ الظَّالِمَ عَنْ ظُلْمِ هَذَا الْمِسْكِينِ فَابْتَلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى انْتَهَى.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَوْ صَحَّ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ، إذْ الْأَنْبِيَاءُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - مَعْصُومُونَ عَنْ الذَّنْبِ كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا عَمْدِهَا وَسَهْوِهَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا عَلَى الصَّحِيحِ الْمُخْتَارِ فِي الْأُصُولِ وَكَأَنَّهُ إنَّمَا سَكَتَ لِعَجْزِهِ عَنْ نُصْرَتِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يَعْتِبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ تَرَكَ الْأَكْمَلَ مِنْ نَصْرِهِ وَإِنْ ظَنَّ عَجْزَهُ عَنْهُ. وَقَالَ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ: لَا تَنْظُرْ إلَى صِغَرِ الْخَطِيئَةِ وَلَكِنْ اُنْظُرْ إلَى مَنْ عَصَيْتَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: يَا ابْنَ آدَمَ تَرْكُ الْخَطِيئَةِ أَيْسَرُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ: مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الْمَعَاصِي.
وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ» ، فَأَتَى بِالِاسْتِطَاعَةِ فِي جَانِبِ الْمَأْمُورَاتِ وَلَمْ يَأْتِ بِهَا فِي جَانِب الْمَنْهِيَّاتِ إشَارَةً إلَى عَظِيمِ خَطَرِهَا وَقَبِيحِ وَقْعِهَا، وَأَنَّهُ يَجِبُ بَذْلُ الْجَهْدِ وَالْوُسْعِ فِي الْمُبَاعَدَةِ عَنْهَا سَوَاءٌ اسْتَطَاعَ ذَلِكَ أَمْ لَا، بِخِلَافِ الْمَأْمُورَاتِ فَإِنَّ الْعَجْزَ لَهُ مَدْخَلٌ فِيهَا تَرْكًا وَغَيْرَهُ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رضي الله عنه: بِقَدْرِ مَا يَصْغُرُ الذَّنْبُ عِنْدَك يَعْظُمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَبِقَدْرِ مَا يَعْظُمُ عِنْدَك يَصْغُرُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى مُوسَى: يَا مُوسَى أَوَّلُ مَنْ مَاتَ، أَيْ هَلَكَ وَخَسِرَ مِنْ خَلْقِي إبْلِيسُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ عَصَانِي وَإِنَّمَا أَعُدُّ مَنْ عَصَانِي مِنْ الْأَمْوَاتِ.
وَقَالَ حُذَيْفَةُ، إذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِذَا أَذْنَبَ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ حَتَّى يَصِيرَ قَلْبُهُ كُلُّهُ أَسْوَدَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ السَّلَفِ: الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ أَيْ رَسُولُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا إذَا أَوْرَثَتْ الْقَلْبَ هَذَا السَّوَادَ وَعَمَّتْهُ لَمْ يَبْقَ يَقْبَلُ خَيْرًا قَطُّ، فَحِينَئِذٍ يَقْسُو وَيَخْرُجُ مِنْهُ كُلُّ رَحْمَةٍ وَرَأْفَةٍ وَخَوْفٍ فَيَرْتَكِبُ مَا أَرَادَ وَيَفْعَلُ مَا أَحَبَّ، وَيَتَّخِذُ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيُضِلُّهُ وَيُغْوِيهِ وَيَعِدُهُ وَيُمَنِّيهِ، وَلَا يَرْضَى مِنْهُ بِدُونِ الْكُفْرِ مَا وَجَدَ لَهُ إلَيْهِ سَبِيلًا.
قَالَ تَعَالَى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 117]{لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 118]{وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء: 119]{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا - أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} [النساء: 120 - 121] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5]{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] .
وَرَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ وَهْبٍ قَالَ: " إنَّ الرَّبَّ سبحانه وتعالى قَالَ فِي بَعْضِ مَا يَقُولُ لِبَنِي إسْرَائِيلَ: إنِّي إذَا أَطَاعَنِي الْعَبْدُ رَضِيتُ عَنْهُ وَإِذَا رَضِيتُ عَنْهُ بَارَكْتُ فِيهِ. وَفِي آثَارِهِ وَلَيْسَ لِبَرَكَتِي نِهَايَةٌ، وَإِذَا عَصَانِي الْعَبْدُ غَضِبْتُ عَلَيْهِ وَإِذَا
غَضِبْتُ عَلَيْهِ لَعَنْتُهُ وَلَعْنَتِي تَبْلُغُ السَّابِعَ مِنْ وَلَدِهِ " انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ
قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [النساء: 9] . وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] أَيْ الْجَزَاءِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «كَمَا تَدِينُ تُدَانُ» أَيْ كَمَا تَفْعَلُ يُفْعَلُ مَعَك، فَالْقِصَاصُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيك أُخِذَ مِنْ ذُرِّيَّتِك، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:{خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 9] فَإِنْ كَانَ لَك خَوْفٌ عَلَى صِغَارِك وَأَوْلَادِك الْمَحَاوِيجِ الْمَسَاكِينِ فَاتَّقِ اللَّهَ فِي أَعْمَالِك كُلِّهَا لَا سِيَّمَا فِي أَوْلَادِ غَيْرِك، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْفَظُك فِي ذُرِّيَّتِك وَيُيَسِّرُ لَهُمْ مِنْ الْحِفْظِ وَالْخَيْرِ وَالتَّوْفِيقِ بِبَرَكَةِ تَقْوَاك مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُك بَعْدَ مَوْتِك وَيَنْشَرِحُ بِهِ صَدْرُك، وَأَمَّا إذَا لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فِي أَوْلَادِ النَّاسِ وَلَا فِي حُرُمِهِمْ، فَاعْلَمْ أَنَّك مُؤَاخَذٌ فِي ذَلِكَ بِنَفْسِك وَذُرِّيَّتِك وَأَنَّ مَا فَعَلْتَهُ كُلَّهُ يُفْعَلُ بِهِمْ.
فَإِنْ قُلْت: هُمْ لَمْ يَفْعَلُوا فَكَيْفَ عُوقِبُوا بِزَلَّاتِ آبَائِهِمْ وَانْتُقِمَ مِنْهُمْ بِمَعَاصِي أُصُولِهِمْ؟ قُلْت: لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لِأُولَئِكَ الْأُصُولِ وَنَاشِئُونَ عَنْهُمْ. {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا} [الأعراف: 58]- {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] . قِيلَ كَانَ ذَلِكَ الصَّالِحُ هُوَ الْجَدُّ السَّابِعُ لِأُمٍّ.
فَإِنْ قُلْت: قَدْ نَجِدُ فِي فَرْعِ الْعُصَاةِ صَالِحًا وَبِالْعَكْسِ، أَلَا تَرَى ابْنَ نُوحٍ وَابْنَ آدَمَ الْقَاتِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَى آدَمَ وَنُوحٍ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَسَلَّمَ.
قُلْت: هَذَا مَعَ قِلَّتِهِ لَأَمْرٌ بَاطِنٌ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَكُنْ عَنْهُ مِنْهُ إلَّا الْإِعْلَامُ بِعَجْزِ الْخَلْقِ حَتَّى الْكُمَّلِ مِنْهُمْ عَنْ هِدَايَةِ أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِمْ {إِنَّكَ لا تَهْدِي} [القصص: 56] أَيْ لَا تُوصِلُ مَنْ أَحْبَبْتَ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَفَادَتْهُ آيَةُ {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ} [النساء: 9] إلَخْ أَنَّ بَعْضَ الْأُصُولِ رُبَّمَا عُوقِبَ بِهِ الْفُرُوعُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ بِفَرْضِ اسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ، إلَّا أَنَّ صَلَاحَ الْأُصُولِ رُبَّمَا انْتَفَعَ بِهِ الْفُرُوعُ فَلَيْسَ ذَلِكَ أَمْرًا كُلِّيًّا فِيهِمَا، وَرُبَّمَا كَانَ لِلْفَاسِقِ ظَاهِرًا أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ بَاطِنَةٌ يُثِيبُهُ اللَّهُ بِهَا فِي ذُرِّيَّتِهِ فَيَتَعَيَّنُ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [النساء: 9] .
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ أَيْضًا " كَتَبَتْ عَائِشَةُ إلَى مُعَاوِيَةَ رضي الله عنهما: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ عَادَ حَامِدُهُ مِنْ النَّاسِ ذَامًّا " وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: احْذَرْ أَنْ تُبْغِضَك قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْتَ لَا تَشْعُرُ. قَالَ الْفُضَيْلُ: هُوَ الْعَبْدُ يَخْلُو بِمَعَاصِي اللَّهِ فَيُلْقِي اللَّهُ بِغَضَبِهِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ. وَلَمَّا ارْتَكَبَ الدَّيْنُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ وَحَصَلَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ غَمٌّ شَدِيدٌ قَالَ: إنِّي لَأَعْرِفُ سَبَبَ هَذَا الْغَمِّ أَصَبْتُ ذَنْبًا مِنْ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: إنَّ الرَّجُلَ لَيُصِيبُ الذَّنْبَ فِي السِّرِّ فَيُصْبِحُ وَعَلَيْهِ مَذَلَّةٌ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: عَجِبْت مِنْ ذِي عَقْلٍ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ لَا تُشَمِّتْ بِي الْأَعْدَاءَ ثُمَّ هُوَ يُشَمِّتُ بِنَفْسِهِ كُلَّ عَدُوٍّ، قِيلَ لَهُ كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ يَعْصِي اللَّهَ فَيَشْمَتُ فِي الْقِيَامَةِ كُلُّ عَدُوٍّ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: أَوْحَى اللَّهُ إلَى نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ قُلْ لِقَوْمِك لَا يَدْخُلُوا مَدَاخِلَ أَعْدَائِي: وَلَا يَلْبَسُوا مَلَابِسَ أَعْدَائِي، وَلَا يَرْكَبُوا مَرَاكِبَ أَعْدَائِي، وَلَا يَطْعَمُوا مَطَاعِمَ أَعْدَائِي فَيَكُونُوا أَعْدَائِي كَمَا هُمْ أَعْدَائِي، وَقَالَ الْحَسَنُ: هَانُوا عَلَى اللَّهِ فَعَصَوْهُ وَلَوْ عَزُّوا عَلَيْهِ لَعَصَمَهُمْ. وَقَالَ: إنَّ الرَّجُلَ أَيْ الْكَامِلَ لَيُذْنِبُ الذَّنْبَ فَمَا يَنْسَاهُ وَلَا يَزَالُ مُتَخَوِّفًا مِنْهُ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: إنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ فِي أَصْلِ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ وَقَعَ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا فَطَارَ.
وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ رضي الله عنه قَالَ: إنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ أَصَابَ ذَنْبًا فَحَزِنَ عَلَيْهِ فَجَعَلَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَيَقُولُ بِمَ أُرْضِي رَبِّي فَكُتِبَ صِدِّيقًا. وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ دَادَا قَالَ: قَالَ لِي كَهْمَسٌ: يَا أَبَا سَلَمَةَ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَأَنَا أَبْكِي عَلَيْهِ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، قُلْت: مَا هُوَ؟ قَالَ: زَارَنِي أَخٌ لِي فَاشْتَرَيْت لَهُ سَمَكًا بِدَانِقٍ فَلَمَّا أَكَلَ قُمْت إلَى حَائِطِ جَارٍ لِي فَأَخَذْت مِنْهُ قِطْعَةَ طِينٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ فَأَنَا أَبْكِي عَلَى ذَلِكَ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِذَا مَكَّنَك اللَّهُ الْقُدْرَةَ مِنْ ظُلْمِ الْعِبَادِ فَاذْكُرْ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْك، وَاعْلَمْ أَنَّك لَا تَفْعَلُ بِهِمْ أَمْرًا مِنْ الظُّلْمِ إلَّا كَانَ زَائِلًا عَنْهُمْ: أَيْ بِمَوْتِهِمْ بَاقِيًا عَلَيْك أَيْ عَارُهُ وَنَارُهُ فِي الْآخِرَةِ. وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ
آخِذٌ لِلْمَظْلُومِ حَقَّهُ مِنْ الظَّالِمِ، وَإِيَّاكَ إيَّاكَ أَنْ تَظْلِمَ مَنْ لَا يَنْتَصِرُ عَلَيْك إلَّا بِاَللَّهِ عز وجل، أَيْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا عَلِمَ الْتِجَاءَ عَبْدٍ إلَيْهِ بِالصِّدْقِ وَالِاضْطِرَارِ انْتَصَرَ لَهُ عَلَى الْفَوْرِ. {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62] . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَّامٍ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ رَفَعَتْ رُءُوسهَا إلَى السَّمَاءِ فَقَالَتْ رَبَّنَا مَعَ مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مَعَ الْمَظْلُومِ حَتَّى يُؤَدَّى إلَيْهِ حَقُّهُ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: يَا أَهْلَ الْمَعَاصِي لَا تَغْتَرُّوا بِطُولِ حِلْمِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَاحْذَرُوا أَسَفَهُ أَيْ غَضَبَهُ بِسَبَبِ الْمَعَاصِي فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] .
وَقَالَ يَعْقُوبُ الْقَارِي: رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ رَجُلًا آدَمَ أَيْ أَسْمَرَ طِوَالًا، وَالنَّاسُ يَتْبَعُونَهُ، فَقُلْت مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ، فَاتَّبَعْتُهُ فَقُلْت: أَوْصِنِي رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى، فَكَلَحَ - أَيْ عَبَسَ فِي وَجْهِي -، فَقُلْت مُسْتَرْشِدًا: فَأَرْشِدْنِي أَرْشَدَك اللَّهُ، فَأَقْبَلَ عَلَيَّ وَقَالَ: ابْتَغِ رَحْمَةَ اللَّهِ عِنْدَ طَاعَتِهِ، وَاحْذَرْ نِقْمَتَهُ عِنْدَ مَعْصِيَتِهِ وَلَا تَقْطَعْ رَجَاءَك مِنْهُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ، ثُمَّ وَلَّى وَتَرَكَنِي. وَفِي التَّوْرَاةِ: يَا بَنِي إسْرَائِيلَ إنِّي كُنْتُ أُحِبُّكُمْ فَلَمَّا عَصَيْتُمُونِي أَبْغَضْتُكُمْ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: غَرَّنِي الْقَمَرُ فَمَرَرْت فِي الْمَقَابِرِ فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ قَدْ خَرَجَ مِنْ قَبْرٍ يَجُرُّ سِلْسِلَةً فَإِذَا رَجُلٌ آخِذٌ بِالسِّلْسِلَةِ فَجَذَبَهُ حَتَّى رَدَّهُ إلَى قَبْرِهِ قَالَ فَسَمِعْته يَضْرِبُهُ وَهُوَ يَقُولُ: أَلَمْ أَكُنْ أُصَلِّي أَلَمْ أَكُنْ أَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ أَلَمْ أَكُنْ أَصُومُ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّك كُنْت إذَا خَلَوْت بِالْمَعَاصِي لَمْ تُرَاقِبْ اللَّهَ تَعَالَى. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: كُنْت كَثِيرَ التَّرَدُّدِ إلَى الْمَقَابِرِ أَذْكُرُ الْمَوْتَ وَالْبِلَى فَبَيْنَمَا أَنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ بِهَا إذْ غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَنِمْت فَرَأَيْت قَبْرًا قَدْ انْشَقَّ وَسَمِعْت قَائِلًا يَقُولُ: خُذُوا هَذِهِ السِّلْسِلَةَ فَاسْلُكُوهَا فِي فِيهِ وَأَخْرِجُوهَا مِنْ دُبُرِهِ، وَإِذَا الْمَيِّتُ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَلَمْ أَكُنْ أَقْرَأُ الْقُرْآنَ أَلَمْ أَحُجَّ بَيْتَك الْحَرَامَ؟ وَجَعَلَ يُعَدِّدُ أَفْعَالَ الْبِرِّ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَإِذَا قَائِلٌ يَقُولُ كُنْت تَفْعَلُ ذَلِكَ ظَاهِرًا، فَإِذَا خَلَوْت بَارَزْتَنِي بِالْمَعَاصِي وَلَمْ تُرَاقِبْنِي.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمَدِينِيِّ قَالَ: كَانَ لَنَا صَدِيقٌ فَقَالَ: خَرَجْت إلَى ضَيْعَتِي فَأَدْرَكَتْنِي صَلَاةُ الْمَغْرِبِ فَأَتَيْت إلَى جَنْبِ مَقْبَرَةٍ فَصَلَّيْت الْمَغْرِبَ قَرِيبًا مِنْهَا، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ إذْ سَمِعْت مِنْ جَانِبِ الْقُبُورِ أَنِينًا فَدَنَوْت إلَى الْقَبْرِ الَّذِي سَمِعْت مِنْهُ الْأَنِينَ وَهُوَ يَقُولُ: آهْ قَدْ كُنْت أَصُومُ قَدْ كُنْت أُصَلِّي فَأَصَابَنِي قُشَعْرِيرَةٌ، فَدَعَوْت مَنْ حَضَرَنِي
فَسَمِعَ مِثْلَ مَا سَمِعْت وَمَضَيْت إلَى ضَيْعَتِي، وَرَجَعْتُ يَعْنِي فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَصَلَّيْت فِي مَوْضِعِي الْأَوَّلِ وَصَبَرْت حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ وَصَلَّيْت الْمَغْرِبَ ثُمَّ اسْتَمَعْت إلَى ذَلِكَ الْقَبْرِ فَإِذَا هُوَ يَئِنُّ وَيَقُولُ: آهْ قَدْ كُنْت أُصَلِّي قَدْ كُنْت أَصُومُ، فَرَجَعْتُ إلَى مَنْزِلِي وَمَرِضْتُ بِالْحُمَّى شَهْرَيْنِ. وَأَقُولُ: قَدْ وَقَعَ لِي نَظِيرُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنِّي كُنْت وَأَنَا صَغِيرٌ أَتَعَاهَدُ قَبْرَ وَالِدِي رحمه الله لِلْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ فَخَرَجْت يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ بِغَلَسٍ فِي رَمَضَانَ، بَلْ أَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ بَلْ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَلَمَّا جَلَسْتُ عَلَى قَبْرِهِ وَقَرَأْت شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَكُنْ بِالْمَقْبَرَةِ أَحَدٌ غَيْرِي، فَإِذَا أَنَا أَسْمَعُ التَّأَوُّهَ الْعَظِيمَ وَالْأَنِينَ الْفَظِيعَ بِآهْ آهْ آهْ وَهَكَذَا بِصَوْتٍ أَزْعَجَنِي مِنْ قَبْرٍ مَبْنِيٍّ بِالنُّورَةِ وَالْجِصِّ لَهُ بَيَاضٌ عَظِيمٌ، فَقَطَعْت الْقِرَاءَةَ وَاسْتَمَعْت فَسَمِعْت صَوْتَ ذَلِكَ الْعَذَابِ مِنْ دَاخِلِهِ وَذَلِكَ الرَّجُلُ الْمُعَذَّبُ يَتَأَوَّهُ تَأَوُّهًا عَظِيمًا بِحَيْثُ يُقْلِقُ سَمَاعُهُ الْقَلْبَ وَيُفْزِعُهُ فَاسْتَمَعْتُ إلَيْهِ زَمَنًا، فَلَمَّا وَقَعَ الْإِسْفَارُ خَفِيَ حِسُّهُ عَنِّي، فَمَرَّ بِي إنْسَانٌ فَقُلْت قَبْرُ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا قَبْرُ فُلَانٍ لِرَجُلٍ أَدْرَكْته وَأَنَا صَغِيرٌ، وَكَانَ عَلَى غَايَةٍ مِنْ مُلَازَمَةِ الْمَسْجِدِ وَالصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا وَالصَّمْتِ عَنْ الْكَلَامِ.
وَهَذَا كُلُّهُ شَاهَدْته وَعَرَفْته مِنْهُ فَكَبُرَ عَلَيَّ الْأَمْرُ جِدًّا لِمَا أَعْلَمُهُ مِنْ أَحْوَالِ الْخَيْرِ الَّتِي كَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُتَلَبِّسًا بِهَا فِي الظَّاهِرِ، فَسَأَلْت وَاسْتَقْصَيْت الَّذِينَ يَطَّلِعُونَ عَلَى حَقِيقَةِ أَحْوَالِهِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الرِّبَا، فَإِنَّهُ كَانَ تَاجِرًا ثُمَّ كَبِرَ وَبَقِيَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْحُطَامِ، فَلَمْ تَرْضَ نَفْسُهُ الظَّالِمَةُ الْخَبِيثَةُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ جَنْبِهِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ بَلْ سَوَّلَ لَهُ الشَّيْطَانُ مَحَبَّةَ الْمُعَامَلَةِ بِالرِّبَا حَتَّى لَا يَنْقُصَ مَالُهُ فَأَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ حَتَّى فِي رَمَضَانَ حَتَّى فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَلَمَّا قُلْت ذَلِكَ لِبَعْضِ أَهْلِ بَلَدِهِ قَالَ لِي: أَعْجَبُ مِنْهُ عَبْدُ الْبَاسِطِ رَسُولُ الْقَاضِي فُلَانٍ وَهَذَا الرَّجُلُ أَعْرِفُهُ أَيْضًا كَانَ رَسُولًا لِلْقُضَاةِ أُولَى أَمْرِهِ ثُمَّ صَارَ ذَا ثَرْوَةٍ فَقُلْت: وَمَا شَأْنُهُ؟ قَالَ: لَمَّا حَفَرْنَا قَبْرَهُ لِنُنْزِلَ عَلَيْهِ مَيِّتًا آخَرَ رَأَيْنَا فِي رَقَبَتِهِ سِلْسِلَةً عَظِيمَةً، وَرَأَيْنَا فِي تِلْكَ السِّلْسِلَةِ كَلْبًا أَسْوَدَ عَظِيمًا مَرْبُوطًا مَعَهُ فِي تِلْكَ السِّلْسِلَةِ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى رَأْسِهِ يُرِيدُ نَهْشَهُ بِأَنْيَابِهِ وَأَظْفَارِهِ فَخِفْنَاهُ خَوْفًا عَظِيمًا وَبَادَرْنَا بِرَدِّ التُّرَابِ فِي الْقَبْرِ. قَالُوا: وَرَأَيْنَا فُلَانًا عَنْ رَجُلٍ آخَرَ لَمَّا حَفَرْنَا قَبْرَهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إلَّا جُمْجُمَةُ رَأْسِهِ فَإِذَا فِيهَا مَسَامِيرُ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ عَرِيضَةُ الرُّءُوسِ مَدْقُوقَةٌ فِيهَا كَأَنَّهَا بَابٌ عَظِيمٌ، فَتَعَجَّبْنَا مِنْهَا وَرَدَّيْنَا عَلَيْهَا التُّرَابَ، قَالُوا: وَحَفَرْنَا عَنْ فُلَانٍ فَخَرَجَتْ لَنَا حَيَّةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ قَبْرِهِ وَرَأَيْنَاهَا مُطَوِّقَةً بِهِ فَأَرَدْنَا دَفْعَهَا عَنْهُ فَتَنَفَّسَتْ عَلَيْنَا حَتَّى كِدْنَا كُلُّنَا نَهْلَكُ عَنْ آخِرِنَا.
فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ
النَّاشِئِ عَنْ غَضَبِ اللَّهِ وَمَعْصِيَتِهِ.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ: أَذْنَبْت ذَنْبًا فَاحْتَقَرْته فَأُتِيتُ فِي مَنَامِي فَقِيلَ لِي: لَا تُحَقِّرَنَّ مِنْ الذُّنُوبِ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، إنَّ الصَّغِيرَ عِنْدَك الْيَوْمَ يَكُونُ كَبِيرًا غَدًا عِنْدَ اللَّهِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَنْمَاطِيُّ: رَأَيْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فِي الْمَنَامِ عَلَى خِلْقَتِهِ الَّتِي وَصَفُوهُ بِهَا وَهُوَ يَقُولُ: لَوْلَا الَّذِينَ لَهُمْ وِرْدٌ يَقُومُونَا وَآخَرُونَ لَهُمْ سَرْدٌ يَصُومُونَا لَدُكْدِكَتْ أَرْضُكُمْ مِنْ تَحْتِكُمْ سَحَرًا لِأَنَّكُمْ قَوْمُ سُوءٍ لَا تُطِيعُونَا وَاعْلَمْ أَنَّ أَعْظَمَ زَاجِرٍ عَنْ الذُّنُوبِ هُوَ خَوْفُ اللَّهِ تَعَالَى وَخَشْيَةُ انْتِقَامِهِ وَسَطْوَتِهِ، وَحَذَرُ عِقَابِهِ وَغَضَبِهِ وَبَطْشِهِ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] .
وَعَنْ وَهْبِ بْنِ الْوَرْدِ قَالَ: كَانَ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَسَلَّمَ يَقُولُ: حُبُّ الْفِرْدَوْسِ وَخَشْيَةُ جَهَنَّمَ يُورِثَانِ الصَّبْرَ عَلَى الْمُصِيبَةِ وَيُبْعِدَانِ الْعَبْدَ مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا وَمَعَاصِيهَا.
وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ: وَاَللَّهِ لَقَدْ مَضَى بَيْنَ أَيْدِيكُمْ أَقْوَامٌ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُهُمْ عَدَدَ الْحَصَى ذَهَبًا أَنْ لَا يَنْجُوَ لِعِظَمِ الذَّنْبِ فِي نَفْسِهِ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ تَسْمَعُونَ مَا أَسْمَعُ؟ أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إلَّا وَمَلَكٌ سَاجِدٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ قَائِمٌ أَوْ رَاكِعٌ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَخَرَجْتُمْ أَوْ لَصَعِدْتُمْ إلَى الصُّعُدَاتِ - أَيْ الْجِبَالِ - تَجْأَرُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى خَوْفًا مِنْ عَظِيمِ سَطْوَتِهِ وَشِدَّةِ انْتِقَامِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ «لَا تَدْرُونَ تَنْجُونَ أَوْ لَا تَنْجُونَ» . وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ: مَنْ أَتَى الْخَطِيئَةَ وَهُوَ يَضْحَكُ دَخَلَ النَّارَ وَهُوَ يَبْكِي.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ النَّارَ» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ
{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْت لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا» . وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ:«يَا رَسُولَ اللَّهِ {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ الَّذِي يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ؟ قَالَ: لَا يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَقِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: يَا أَبَا سَعِيدٍ كَيْفَ نَصْنَعُ بِمُجَالَسَةِ قَوْمٍ يُحَدِّثُونَا عَنْ الرَّجَاءِ حَتَّى تَكَادَ قُلُوبُنَا تَطِيرُ؟ فَقَالَ لَهُ: إنَّك وَاَللَّهِ أَنْ تَصْحَبَ قَوْمًا يُخَوِّفُونَك حَتَّى تُدْرِكَ أَمْنًا خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَصْحَبَ أَقْوَامًا يُؤَمِّنُونَك حَتَّى تَلْحَقَك الْمَخَاوِفُ. وَلَمَّا طُعِنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَقَرُبَتْ وَفَاتُهُ قَالَ لِابْنِهِ: وَيْلَك ضَعْ خَدِّي عَلَى الْأَرْضِ لَا أُمَّ لَك وَوَيْلِي وَأَيُّ وَيْلِي إنْ لَمْ يَرْحَمْنِي، وَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا هَذَا الْخَوْفُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ بِك الْفُتُوحَ وَمَصَّرَ بِك الْأَمْصَارَ وَفَعَلَ بِك وَفَعَلَ؟ قَالَ: وَدِدْت أَنْ أَنْجُوَ لَا عَلَيَّ وَلَا لِي. وَفِي رِوَايَةٍ: لَا أَجْرًا وَلَا وِزْرًا. وَكَانَ زَيْنُ الْعَابِدِينَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ رضي الله عنهم إذَا تَوَضَّأَ وَفَرَغَ مِنْ وُضُوئِهِ أَخَذَتْهُ رَعْدَةٌ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ: وَيْحَكُمْ، أَتَدْرُونَ إلَى مَنْ أَقُومُ وَلِمَنْ أُرِيدُ أَنْ أُنَاجِيَ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: الْخَوْفُ يَمْنَعُنِي مِنْ أَكْلِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَمَا أَشْتَهِيهِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ مِنْ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ لَهُ إلَّا ظِلُّهُ رَجُلًا ذَكَرَ اللَّهَ أَيْ وَعِيدَهُ وَعِقَابَهُ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ: أَيْ خَوْفًا مِمَّا جَنَاهُ وَاقْتَرَفَهُ مِنْ الْمُخَالَفَاتِ وَالذُّنُوبِ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى» .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ عَيْنٍ بَاكِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا عَيْنًا غَضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، وَعَيْنًا سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَيْنًا يَخْرُجُ مِنْهَا مِثْلُ رَأْسِ الذُّبَابِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى» .
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَلِجُ - أَيْ لَا يَدْخُلُ - النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ» وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما: لَأَنْ أَدْمَعَ دَمْعَةً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَقَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: بَلَغَنِي أَنَّهُ لَا تُصِيبُ دُمُوعُ الْإِنْسَانِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ مَكَانًا مِنْ جَسَدِهِ إلَّا حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ الْمَكَانَ عَلَى النَّارِ، وَكَانَ لِصَدْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنْ الْبُكَاءِ أَيْ فَوَرَانٌ وَغَلَيَانٌ كَغَلَيَانِ الْقِدْرِ عَلَى النَّارِ. وَقَالَ الْكِنْدِيُّ: الْبُكَاءُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تُطْفِئُ الدَّمْعَةُ مِنْهُ أَمْثَالَ الْبِحَارِ مِنْ النَّارِ. وَكَانَ ابْنُ السِّمَاكِ يُعَاتِبُ نَفْسَهُ وَيَقُولُ لَهَا: تَقُولِينَ قَوْلَ الزَّاهِدِينَ وَتَعْمَلِينَ عَمَلَ الْمُنَافِقِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ الْجَنَّةَ تَطْلُبِينَ أَنْ تَدْخُلِيهَا، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِلْجَنَّةِ قَوْمٌ آخَرُونَ وَلَهُمْ أَعْمَالٌ غَيْرُ مَا نَحْنُ عَامِلُونَ.
وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى جَعْفَرٍ الصَّادِقِ فَقُلْت لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ أَوْصِنِي، قَالَ: يَا سُفْيَانُ لَا مُرُوءَةَ لِكَذُوبٍ وَلَا رَاحَةَ لِحَسُودٍ وَلَا إخَاءَ لِمَلُولٍ وَلَا سُؤْدُدَ لِسَيِّئِ الْخُلُقِ، قُلْت: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: يَا سُفْيَانُ كُفَّ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ. تَكُنْ عَابِرًا وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَك تَكُنْ مُسْلِمًا، وَاصْحَبْ النَّاسَ بِمَا تُحِبُّ أَنْ يَصْحَبُوك بِهِ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَلَا تَصْحَبْ الْفَاجِرَ فَيُعَلِّمَك مِنْ فُجُورِهِ، أَيْ لِلْحَدِيثِ:«الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ» ؛ وَشَاوِرْ فِي أَمْرِك الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ. قُلْت: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: يَا سُفْيَانُ مَنْ أَرَادَ عِزًّا بِلَا عَشِيرَةٍ وَهَيْبَةً بِلَا سُلْطَانٍ فَلْيَخْرُجْ مِنْ ذُلِّ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ، قُلْت: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: أَدَّبَنِي أَبِي بِثَلَاثٍ: قَالَ لِي: أَيْ بُنَيَّ إنَّ مَنْ يَصْحَبْ صَاحِبَ السُّوءِ لَا يَسْلَمْ، وَمَنْ يَدْخُلْ مَدَاخِلَ السُّوءِ يُتَّهَمْ، وَمَنْ لَا يَمْلِكْ لِسَانَهُ يَنْدَمْ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: سَأَلْتُ وُهَيْبَ بْنَ الْوَرْدِ أَيَجِدُ طَعْمَ الْعِبَادَةِ مَنْ يَعْصِي اللَّهَ تَعَالَى؟ قَالَ لَا، وَلَا مَنْ يَهُمُّ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْفَرْجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: الْخَوْفُ هُوَ النَّارُ الْمُحْرِقَةُ لِلشَّهَوَاتِ، فَإِذًا فَضِيلَتُهُ بِقَدْرِ مَا يَحْرُقُ مِنْ الشَّهْوَةِ وَبِقَدْرِ مَا يَكُفُّ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَيَحُثُّ عَلَى الطَّاعَةِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ الْخَوْفُ ذَا فَضِيلَةٍ وَبِهِ تَحْصُلُ الْعِفَّةُ وَالْوَرَعُ وَالتَّقْوَى وَالْمُجَاهَدَةُ وَالْأَعْمَالُ الْفَاضِلَةُ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى؟ كَمَا عُلِمَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154]
وقَوْله تَعَالَى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8] وقَوْله تَعَالَى: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] وقَوْله تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] وَقَالَ تَعَالَى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى: 10] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] .
وَكُلُّ مَا دَلَّ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ دَلَّ عَلَى فَضِيلَةِ الْخَوْفِ، لِأَنَّ الْخَوْفَ ثَمَرَةُ الْعِلْمِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا اقْشَعَرَّ جَسَدُ الْعَبْدِ مِنْ مَخَافَةِ اللَّهِ عز وجل تَحَاتَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا يَتَحَاتُّ عَنْ الشَّجَرَةِ الْيَابِسَةِ وَرَقُهَا» .
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى: وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَلَا أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ، إنْ أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: كُلُّ قَلْبٍ لَيْسَ فِيهِ خَوْفُ اللَّهِ فَهُوَ خَرَابٌ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99] وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: الْبُكَاءُ عَلَى الْخَطِيئَةِ يَحُطُّ الذُّنُوبَ كَمَا يَحُطُّ الرِّيحُ الْوَرَقَ الْيَابِسَ.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَوْ نُودِيَ لِيَدْخُلْ الْجَنَّةَ كُلُّ النَّاسِ إلَّا رَجُلًا وَاحِدًا لَخَشِيتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الرَّجُلَ، وَهَذَا عُمَرُ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما وَقَدْ بَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْجَنَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ سَأَلَ حُذَيْفَةَ - صَاحِبَ سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُنَافِقِينَ وَالْفِتَنِ - فَقَالَ لَهُ: يَا حُذَيْفَةُ هَلْ أَنَا مِنْ الْمُنَافِقِينَ؟ فَقَالَ لَا وَاَللَّهِ لَسْتَ مِنْهُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَخَافَ عُمَرُ أَنْ تَكُونَ نَفْسُهُ قَدْ لَبَّسَتْ عَلَيْهِ وَسَتَرَتْ عُيُوبَهُ عَنْهُ، وَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَعْدُ مَشْرُوطًا بِشُرُوطٍ لَمْ تَحْصُلْ مِنْهُ فَلَمْ يَغْتَرَّ بِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: بَكَى أَبُونَا آدَم صلى الله عليه وسلم حِينَ أُهْبِطَ مِنْ الْجَنَّةِ ثَلَاثَمِائَةِ عَامٍ حَتَّى جَرَتْ أَوْدِيَةُ سَرَنْدِيبَ مِنْ دُمُوعِهِ، وَسَرَنْدِيبُ مَحَلٌّ مِنْ الْهِنْدِ أَعْدَلُ الْبِلَادِ مُطْلَقًا نَزَلَ بِهِ آدَم حَتَّى لَا يُؤَثِّرَ فِيهِ مُفَارَقَةُ الْجَنَّةِ إضْرَارًا بَيِّنًا، وَلَوْ نَزَلَ بِغَيْرِهِ مِمَّا لَمْ يَعْتَدِلْ حَرُّهُ وَبَرْدُهُ فِي سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ لَأَضَرَّ بِهِ إضْرَارًا بَيِّنًا. وَقَالَ وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ: لَمَّا عَاتَبَ اللَّهُ تَعَالَى نُوحًا صلى الله عليه وسلم فِي ابْنِهِ فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46] بَكَى ثَلَاثَمِائَةِ عَامٍ حَتَّى صَارَ فِي خَدَّيْهِ أَمْثَالُ الْجَدَاوِلِ أَيْ الْأَنْهَارِ الصِّغَارِ مِنْ الْبُكَاءِ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ دَاوُد يَبْكِي حَتَّى يَبِلَّ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ دُمُوعِهِ، وَيَبْكِي حَتَّى يَنْبُتَ الْعُشْبُ مِنْ دُمُوعِهِ، ثُمَّ يَبْكِي حَتَّى يَنْقَطِعَ صَوْتُهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
- رضي الله عنهما: كَانَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ يَبْكِي حَتَّى تَقَطَّعَ خَدَّاهُ وَبَدَتْ أَضْرَاسُهُ، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: لَوْ أَذِنْتَ لِي يَا بُنَيَّ حَتَّى أَتَّخِذَ لَك قِطْعَتَيْنِ مِنْ لُبُودٍ تُوَارِي بِهِمَا أَضْرَاسَك عَنْ النَّاظِرِينَ، فَأَذِنَ فَأَلْصَقَتْهُمَا بِخَدَّيْهِ فَكَانَ يَبْكِي فَكَانَتَا تَبْتَلَّانِ بِالدُّمُوعِ فَتَجِيءُ أُمُّهُ فَتَعْصِرُهُمَا فَتَسِيلُ دُمُوعُهُ عَلَى ذِرَاعَيْهَا.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ: " وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ ". وَفِيهِ أَيْضًا: «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا مَرِضَ فَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ: أَيْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْحُزْنُ إذَا قَامَ مَقَامَك لَا يُسْمِعُ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ» .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى: كَانَ فِي وَجْهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ خَطَّانِ أَسْوَدَانِ مِنْ الْبُكَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما فِي قَوْله تَعَالَى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9] هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه.
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ لِضِرَارٍ: صِفْ لِي عَلِيًّا، قَالَ: أَلَا تُعْفِينِي؟ قَالَ: بَلْ صِفْهُ، قَالَ: أَوَ لَا تُعْفِينِي؟ قَالَ: لَا أُعْفِيك، قَالَ: أَمَّا إذَا أَنَّهُ لَا بُدَّ فَإِنَّهُ كَانَ بَعِيدَ الْمَدَى: أَيْ وَاسِعَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ لَا تُدْرَكُ غَايَتُهُ فِيهِمَا، شَدِيدَ الْقُوَى: أَيْ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَنُصْرَةِ دِينِهِ، يَقُولُ فَصْلًا وَيَحْكُمُ عَدْلًا، يَتَفَجَّرُ الْعِلْمُ مِنْ جَوَانِبِهِ وَتَنْطِقُ الْحِكْمَةُ مِنْ نَوَاحِيهِ، يَسْتَوْحِشُ مِنْ الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا وَيَسْتَأْنِسُ بِاللَّيْلِ وَظُلْمَتِهِ، كَانَ وَاَللَّهِ غَزِيرَ الدَّمْعَةِ طَوِيلَ الْفِكْرَةِ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ: أَيْ تَأَسُّفًا وَحُزْنًا إذْ هَذَا فِعْلُ الْمُتَأَسِّفِ الْحَزِينِ، وَيُخَاطِبُ نَفْسَهُ: أَيْ بِالْمُزْعِجَاتِ وَالْمُقَلْقِلَاتِ، يُعْجِبُهُ مِنْ اللِّبَاسِ مَا خَشُنَ وَمِنْ الطَّعَامِ مَا حَضَرَ، كَانَ وَاَللَّهِ كَأَحَدِنَا يُجِيبُنَا إذَا سَأَلْنَاهُ وَيَأْتِينَا إذَا دَعَوْنَاهُ، وَنَحْنُ وَاَللَّهِ مَعَ تَقْرِيبِهِ لَنَا وَقُرْبِهِ مِنَّا لَا نُكَلِّمُهُ هَيْبَةً لَهُ، فَإِنْ تَبَسَّمَ فَعَنْ مِثْلِ اللُّؤْلُؤِ الْمَنْظُومِ، يُعَظِّمُ أَهْلَ الدِّينِ وَيُحِبُّ الْمَسَاكِينَ، وَلَا يَطْمَعُ الْقَوِيُّ فِي بَاطِلِهِ وَلَا يَيْأَسُ الضَّعِيفُ مِنْ عَدْلِهِ، وَأَشْهَدُ بِاَللَّهِ لَرَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِهِ وَقَدْ أَرْخَى اللَّيْلُ سُتُورَهُ وَغَارَتْ نُجُومُهُ، وَقَدْ تَمَثَّلَ فِي مِحْرَابِهِ قَابِضًا عَلَى لِحْيَتِهِ يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ السَّلِيمِ: أَيْ اللَّدِيغِ، وَيَبْكِي بُكَاءَ الْحَزِينِ وَكَأَنِّي أَسْمَعُهُ يَقُولُ: يَا رَبَّنَا يَا رَبَّنَا يَتَضَرَّعُ إلَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ: يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا إلَيَّ تَعَرَّضْت أَمْ بِي تَشَوَّقْت، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ غُرِّي غَيْرِي قَدْ بَتَتُّك ثَلَاثًا لَا رَجْعَةَ لِي فِيكِ،
فَعُمْرُك قَصِيرٌ وَعَيْشُك حَقِيرٌ وَخَطَرُك كَبِيرٌ، آهٍ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ وَبُعْدِ السَّفَرِ وَوَحْشَةِ الطَّرِيقِ، فَذَرَفَتْ عُيُونُ مُعَاوِيَةَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَمَا مَلَكَهَا وَهُوَ يُنَشِّفُهَا بِكُمِّهِ وَقَدْ اخْتَنَقَ الْقَوْمُ بِالْبُكَاءِ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا الْحَسَنِ، كَانَ وَاَللَّهِ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ حُزْنُك عَلَيْهِ يَا ضِرَارُ؟ قَالَ: حُزْنُ مَنْ ذُبِحَ وَلَدُهَا فِي حِجْرِهَا فَلَا تَرْقَأُ عَبْرَتُهَا وَلَا يَسْكُنُ حُزْنُهَا. وَبَكَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ الشَّنُّ الْبَالِي، وَبَكَى تِلْمِيذُهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ حَتَّى عَمِشَتْ عَيْنَاهُ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: قُلْت لِيَزِيدَ بْنِ مَرْثَدٍ: مَالِي أَرَى عَيْنَك لَا تَجِفُّ؟ قَالَ: وَمَا مَسْأَلَتُك عَنْهُ؟ فَقُلْت لَهُ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَنْفَعَنِي بِهِ، قَالَ: يَا أَخِي إنَّ اللَّهَ قَدْ تَوَعَّدَنِي إنْ أَنَا عَصَيْتُهُ أَنْ يَسْجُنَنِي فِي النَّارِ، وَاَللَّهُ لَوْ لَمْ يَتَوَعَّدْنِي أَنْ يَسْجُنَنِي إلَّا فِي حَمَّامٍ لَكُنْت حَرِيًّا أَنْ لَا تَجِفَّ لِي عَيْنٌ، قَالَ: فَقُلْت لَهُ: فَهَكَذَا أَنْتَ فِي خَلَوَاتِك، قَالَ: وَمَا مَسْأَلَتُك عَنْهُ؟ قُلْت: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَنْفَعَنِي بِذَلِكَ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنَّ ذَلِكَ لَيَعْرِضُ لِي حِينَ أَسْكُنُ إلَى أَهْلِي: أَيْ لِإِرَادَةِ وَطْئِهَا، فَيَحُولُ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَ مَا أُرِيدُ، وَإِنَّهُ لَيُوضَعُ الطَّعَامُ بَيْنَ يَدَيَّ فَيَعْرِضُ لِي فَيَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ أَكْلِهِ حَتَّى تَبْكِيَ امْرَأَتِي وَيَبْكِيَ صِبْيَانُنَا لَا يَدْرُونَ مَا أَبْكَانَا، وَلَرُبَّمَا أَضْجَرَ ذَلِكَ امْرَأَتِي فَتَقُولُ: يَا وَيْحَهَا مَا خُصَّتْ بِهِ مِنْ طُولِ الْحُزْنِ مَعَك فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا تَقَرُّ لِي مَعَك عَيْنٌ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ: اشْتَكَى ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الطَّبِيبُ: اضْمَنْ لِي خَصْلَةً تَبْرَأْ عَيْنُك، فَقَالَ وَمَا هِيَ؟ قَالَ: لَا تَبْكِ. قَالَ: وَأَيُّ خَيْرٍ فِي عَيْنٍ لَا تَبْكِي؟ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ: رَأَيْت يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ بِوَاسِطَ وَكَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ عَيْنَيْنِ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَكْفُوفَ الْبَصَرِ، فَقُلْت: يَا أَبَا خَالِدٍ مَا فَعَلَتْ الْعَيْنَانِ الْجَمِيلَتَانِ؟ قَالَ: ذَهَبَ بِهِمَا بُكَاءُ الْأَسْحَارِ.
وَدَخَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ فَتْحٍ الْمَوْصِلِيِّ عَلَيْهِ فَرَآهُ يَبْكِي وَدُمُوعُهُ خَالَطَهَا صُفْرَةٌ، فَقَالَ: بَكَيْتَ الدَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: عَلَى مَاذَا؟ قَالَ: عَلَى تَخَلُّفِي عَنْ وَاجِبِ حَقِّ اللَّهِ، ثُمَّ رَآهُ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك؟ قَالَ: غَفَرَ لِي، قَالَ: فَمَا صَنَعَ فِي دُمُوعِك؟ قَالَ: قَرَّبَنِي، فَقَالَ لِي: يَا فَتْحُ عَلَى مَاذَا بَكَيْتَ؟ قُلْت يَا رَبِّ عَلَى تَخَلُّفِي عَنْ وَاجِبِ حَقِّك، قَالَ فَالدَّمُ قُلْت خَوْفًا أَنْ لَا تَفْتَحَ لِي، فَقَالَ يَا فَتْحُ مَا أَرَدْتَ بِهَذَا كُلِّهِ، وَعِزَّتِي لَقَدْ صَعِدَ حَافِظَاك أَرْبَعِينَ سَنَةً بِصَحِيفَتِك مَا فِيهَا خَطِيئَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْبُكَاءَ إمَّا مِنْ حُزْنٍ وَإِمَّا مِنْ وَجَعٍ، وَإِمَّا مِنْ فَزَعٍ وَإِمَّا مِنْ فَرَحٍ، وَإِمَّا شُكْرًا وَإِمَّا خَشْيَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ أَعْلَاهَا دَرَجَةً وَأَغْلَاهَا ثَمَنًا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْبُكَاءُ لِلرِّيَاءِ وَالْكَذِبِ فَلَا يَزْدَادُ صَاحِبُهُ إلَّا طَرْدًا وَبُعْدًا وَمَقْتًا، وَحُقَّ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا جَرَى لَهُ بِهِ الْقَلَمُ فِي سَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ سَعَادَةٍ مُؤَبَّدَةٍ أَوْ شَقَاوَةٍ مُخَلَّدَةٍ، وَهُوَ فِيمَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ قَدْ رَكِبَ الْمُحَرَّمَاتِ وَخَالَفَ خَالِقَهُ فِي الْمَنْهِيَّاتِ أَنْ يُكْثِرَ بُكَاءَهُ وَأَسَفَهُ وَحُزْنَهُ وَنَحِيبَهُ وَلَهَفَهُ، وَأَنْ يَهْجُرَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَأَنْ يَجْأَرَ إلَى اللَّهِ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ مِنْ سَوَابِقِ مُخَالَفَاتِهِ وَقَبَائِحِ شَهَوَاتِهِ، عَسَى أَنْ يُوَفِّقَهُ إلَى التَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَأَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالْعِصْيَانِ إلَى الْعِلْمِ وَالطَّاعَةِ وَمَا لَهُمَا مِنْ ثَمَرَاتِ الْمَعْرِفَةِ وَالْفُتُوحِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَقُّ النَّاسِ قُلُوبًا أَقَلُّهُمْ ذُنُوبًا.
وَفِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: أَمْسِكْ عَلَيْك لِسَانَك وَلْيَسَعْك بَيْتُك وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِك» .
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاَللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً» وَمِنْ ثَمَّ غَلَبَ الْخَوْفُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَغَلَبَ أَمْنُ الْمَكْرِ عَلَى الظَّلَمَةِ الْأَطْغِيَاءِ وَالْفَرَاعِنَةِ الْأَغْبِيَاءِ وَالْجَهَلَةِ وَالْعَوَامِّ وَالرَّعَاعِ وَالطَّغَامِ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ حُوسِبُوا وَفُرِغَ مِنْهُمْ فَلَمْ يَخْشَوْا
سَطْوَةَ الْعِقَابِ وَلَا نَارَ الْعَذَابِ وَلَا بُعْدَ الْحِجَابِ. {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19] .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ «أَنَّهُمْ اقْتَسَمُوا الْمُهَاجِرِينَ أَوَّلَ مَا قَدِمُوا عَلَيْهِمْ بِالْقُرْعَةِ، قَالَتْ، فَطَارَ لَنَا: أَيْ وَقَعَ فِي سَهْمِنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ مِنْ أَفْضَلِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَكَابِرِهِمْ وَمُتَعَبِّدِيهِمْ وَمِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَاشْتَكَى فَمَرَّضْنَاهُ، حَتَّى إذَا تُوُفِّيَ وَجَعَلْنَاهُ فِي ثِيَابِهِ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْت: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْك أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْك لَقَدْ أَكْرَمَك اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَمَا يُدْرِيك أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ؟ فَقُلْت: لَا أَدْرِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا عُثْمَانُ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ» : أَيْ فَالْإِنْكَارُ عَلَيْهَا إنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا أَبْرَزَتْ تِلْكَ الشَّهَادَةَ جَازِمَةً بِهَا مُتَيَقِّنَةً لِمُقْتَضَاهَا مِنْ غَيْرِ مُسْتَنَدٍ قَطْعِيٍّ تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَكَانَ اللَّائِقُ بِهَا أَنْ تُبْرِزَهَا فِي حَيِّزِ الرَّجَاءِ لَا الْجَزْمِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم:«مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي قَالَتْ: فَوَاَللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا» : أَيْ عَلَى جِهَةِ الْجَزْمِ وَالتَّيَقُّنِ، بَلْ عَلَى جِهَةِ الرَّجَاءِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى، قَالَتْ: وَأَحْزَنَنِي ذَلِكَ فَنِمْت فَرَأَيْت لِعُثْمَانَ عَيْنًا تَجْرِي، فَجِئْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْته فَقَالَ: ذَاكَ عَمَلُهُ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ هَذَا قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَدَّهُ وَبَكَى حَتَّى سَالَتْ دُمُوعُهُ الْكَرِيمَةُ عَلَى خَدِّ عُثْمَانَ وَبَكَى الْقَوْمُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«اذْهَبْ عَنْهَا أَيْ الدُّنْيَا أَبَا السَّائِبِ لَقَدْ خَرَجْت عَنْهَا وَلَمْ تَتَلَبَّسْ مِنْهَا بِشَيْءٍ» وَسَمَّاهُ صلى الله عليه وسلم السَّلَفَ الصَّالِحَ "، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قُبِرَ بِالْبَقِيعِ رضي الله عنه.
فَتَأَمَّلْ زَجْرَهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْجَزْمِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى اللَّهِ فِي عُثْمَانَ هَذَا مَعَ كَوْنِهِ شَهِدَ بَدْرًا، وَقَوْلَهُ:«وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، وَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ» ، وَكَوْنَهُ قَبَّلَهُ وَبَكَى، وَوَصْفَهُ لَهُ بِأَعْظَمِ الْأَوْصَافِ وَأَفْضَلِهَا، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَتَلَبَّسْ مِنْ الدُّنْيَا بِشَيْءٍ، وَبِأَنَّهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ تَعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لَك وَإِنْ عَمِلْتَ مِنْ الطَّاعَاتِ مَا عَمِلْتَ أَنْ تَكُونَ عَلَى حَيِّزِ الْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَعَذَابِهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ. {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة: 17] .
وَنَظِيرُ إنْكَارِهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا عَلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ إنْكَارُهُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها. فَقَدْ
وَقَدْ أَخَذَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ أَطْفَالَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُقْطَعُ بِدُخُولِهِمْ الْجَنَّةَ، وَاشْتَدَّ إنْكَارُ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ الشَّنِيعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِقَوَاطِعِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَتَزْيِيفُهُمْ وَتَغْلِيطُهُمْ لِقَائِلِهَا، وَلَا مُتَمَسَّكَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ إجْمَاعًا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِأَنَّهُمْ يُقْطَعُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، فَحِينَئِذٍ كَانَ لَا يَنْبَغِي الْجَزْمُ فَأَنْكَرَ عَلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْجَزْمُ. وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا شَهِدَتْ بِهِ النُّصُوصُ الْقَطْعِيَّةُ فَلَا إنْكَارَ عَلَى مَنْ جَزَمَ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَطْفَالِ الْكُفَّارِ، وَالْأَصَحُّ مِنْهُ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ أَيْضًا، وَرُبَّمَا يَأْتِي لَنَا عَوْدَةٌ إلَى ذَلِكَ، وَكَيْفَ لَا يَخَافُ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا الْحَاقَّةُ، وَالْوَاقِعَةُ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَالْغَاشِيَةُ» .
قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَعَلَّ ذَلِكَ لِمَا فِيهِنَّ مِنْ التَّخْوِيفِ الْفَظِيعِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِنَّ مَعَ قِصَرِهِنَّ عَلَى حِكَايَةِ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَعَجَائِبِهَا وَفَظَائِعِهَا، وَأَحْوَالِ الْهَالِكِينَ وَالْمُعَذَّبِينَ مَعَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هُودٌ مِنْ الْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ كَمَا أُمِرَ، وَهَذَا مِنْ أَصْعَبِ الْمَقَامَاتِ الَّذِي لَا يَتَأَهَّلُ لِلْقِيَامِ بِهِ إلَّا هُوَ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ كَمَقَامِ الشُّكْرِ إذْ هُوَ صَرْفُ الْعَبْدِ فِي كُلِّ ذَرَّةٍ وَنَفَسٍ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ حَوَاسِّهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ إلَى مَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَطَاعَتِهِ بِمَا يُنَاسِبُ كُلَّ جَارِحَةٍ مِنْ جَوَارِحِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَلِذَا لَمَّا «قِيلَ لَهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ مُجَاهَدَتِهِ لِنَفْسِهِ وَكَثْرَةِ بُكَائِهِ وَخَوْفِهِ وَتَضَرُّعِهِ: أَتَفْعَلُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟» .
وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] رُبَّمَا فَهِمَ مِنْهُ بَعْضُ مَنْ لَا تَأَمُّلَ لَهُ أَنَّ فِيهِ رَجَاءً عَظِيمًا، وَأَيُّ رَجَاءٍ عَظِيمٍ فِيهِ مَعَ كَوْنِهِ تَعَالَى شَرَطَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي مَغْفِرَتِهِ أَرْبَعَةَ شُرُوطٍ: التَّوْبَةَ وَالْإِيمَانَ
الْكَامِلَ الْمُرَادَ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» ، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ، ثُمَّ سُلُوكَ سَبِيلِ الْمُهْتَدِينَ مِنْ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشُهُودِهِ، وَإِدَامَةِ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَالْإِقْبَالِ بِالْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَالِهِ وَحَالِهِ وَدُعَائِهِ وَإِخْلَاصِهِ.
وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص: 67]، وَلَا تَغْتَرَّ بِمَا قِيلَ:(عَسَى) : مِنْ اللَّهِ وَاجِبَةُ الْوُقُوعِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَكْثَرِيٌّ لَا كُلِّيٌّ. قَالَ تَعَالَى: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] ، وَفِرْعَوْنُ لَعَنَهُ اللَّهُ لَمْ يَتَذَكَّرْ وَلَمْ يَخْشَ تَذَكُّرًا وَخَشْيَةً نَافِعَيْنِ لَهُ، بَلْ نَبَّهَك اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّك إذَا تُبْت تَوْبَةً نَصُوحًا وَآمَنْت إيمَانًا كَامِلًا وَعَمِلْت صَالِحًا كُنْت عَلَى رَجَاءِ حُصُولِ الْفَلَاحِ لَك وَالْهِدَايَةِ وَالْقُرْبِ مِنْ حَضْرَةِ الْحَقِّ؛ فَإِيَّاكَ وَأَنْ تَأْمَنَ مَكْرَ اللَّهِ وَإِنْ وَصَلْتَ إلَى مَا وَصَلْتَ. {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99] وَاسْتَحْضِرْ قَوْله تَعَالَى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 8] وَقَوْلَهُ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ - إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ - وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ} [هود: 102 - 104]{يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105]{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106] الْآيَةَ، وقَوْله تَعَالَى:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71]{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72] وَقَوْلَهُ: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] وَقَوْلَهُ: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ: 20] وَقَوْلَهُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]{وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] وَقَوْلَهُ: {وَالْعَصْرِ} [العصر: 1]{إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2]{إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] .
فَانْظُرْ بِعَيْنِ بَصِيرَتِك وَنُورِ سَرِيرَتِك إلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ حَكَمَ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ إذْ أَلْ فِيهِ لِلْعُمُومِ وَالِاسْتِغْرَاقِ بِدَلِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ بِأَنَّهُ خَاسِرٌ إلَّا مَنْ جَمَعَ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ فَإِنَّهُ الَّذِي يَنْجُو مِنْ الْخُسْرَانِ الْمُؤَدِّي إلَى الْهَلَاكِ: الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ بِأَنْ يَتَلَبَّسُوا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ وَالْأَحْكَامِ وَالشُّرُوطِ فِي سَائِرِ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ فَلَا يُوجَدُ مِنْهَا شَيْءٌ إلَّا وَقَدْ أَخْلَصُوا فِيهِ وَابْتَغَوْا
بِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ بِأَنْ يَصْبِرُوا عَلَى الطَّاعَاتِ وَمَا يَلْقَوْنَهُ مِنْ الْمَكَارِهِ وَالْبَلِيَّاتِ، وَعَنْ الْمَعَاصِي وَمَا لَهَا مِنْ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ، فَمَنْ تَحَقَّقَ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ كَمَا ذَكَرْنَا كَانَ عَلَى رَجَاءٍ عَظِيمٍ مِنْ السَّلَامَةِ مِنْ الْخَسَارِ وَالْعَارِ وَالشَّنَارِ وَالْبَوَارِ، وَمِنْ الْوُصُولِ إلَى شُهُودِ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ، وَالْفَوْزِ بِرِضَاهُ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ، حَقَّقَ اللَّهُ لَنَا ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. كَيْفَ يَصِحُّ لِعَاقِلٍ أَنْ يَأْمَنَ سَطَوَاتِ الْحَقِّ وَانْتِقَامَهُ، وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ: أَيْ بَيْنَ إرَادَتِهِ تَعَالَى السَّعَادَةَ لِأَقْوَامٍ وَالشَّقَاوَةَ لِآخَرِينَ، وَسُمِّيَ الْقَلْبُ قَلْبًا لِأَنَّهُ أَشَدُّ تَقَلُّبًا مِنْ قِدْرٍ أُغْلِيَ عَلَى مَا فِيهَا بِأَعْظَمِ الْوَقُودِ؛ وَمِنْ ثَمَّ كَانَ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي سُجُودِهِ «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِك» .
وَقَدْ قَالَ مُقَلِّبُ الْقُلُوبِ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج: 28] وَلَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى لَطَفَ بِعِبَادِهِ الْعَارِفِينَ وَالْعُلَمَاءِ الْوَارِثِينَ فَرَوَّحَ قُلُوبَهُمْ بِرُوحِ الرَّجَاءِ لَاحْتَرَقَتْ أَكْبَادُهُمْ مِنْ نَارِ خَوْفِهِ الَّتِي سَعَّرَهَا بِمَا أَظْهَرَهُ مِنْ نَوَامِيسِ قَهْرِهِ وَعَدْلِهِ الَّتِي لَوْ انْكَشَفَتْ حَقَائِقُهَا لَزَهَقَتْ النُّفُوسُ وَتَقَطَّعَتْ الْقُلُوبُ.
وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْلِفُ بِاَللَّهِ إنَّ مَنْ أَمِنَ السَّلْبَ عِنْدَ مَوْتِهِ سُلِبَ عِنْدَ مَوْتِهِ: أَيْ جَزَاءً لِأَمْنِهِ مَكْرَ اللَّهِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: مَاتَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، فَلَمَّا اشْتَدَّ بِهِ جَعَلَ يَبْكِي فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَتُرَاكَ كَثِيرَ الذُّنُوبِ؟ فَرَفَعَ رَأْسَهُ وَأَخَذَ شَيْئًا مِنْ الْأَرْضِ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَذُنُوبِي أَهْوَنُ عِنْدِي مِنْ هَذَا، إنِّي أَخَافُ أَنْ أُسْلَبَ الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ أَمُوتَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: لَمَّا اُحْتُضِرَ أَبِي جَلَسْتُ عِنْدَهُ وَبِيَدِي الْخِرْقَةُ لِأَشَدَّ بِهَا لَحْيَيْهِ، فَجَعَلَ يَغْرَقُ ثُمَّ يُفِيقُ وَيَقُولُ: أَلَا ابْعَدْ، فَقُلْت: يَا أَبَتِ مَا هَذَا الَّذِي قَدْ لَهِجْتَ بِهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ أَوَمَا تَعْلَمُ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: إبْلِيسُ قَائِمٌ بِحِذَائِي يَقُولُ يَا أَحْمَدُ فُتَّنِي، فَأَقُولُ أَلَا ابْعَدْ حَتَّى أَمُوتَ. وَكَانَ سَهْلٌ يَقُولُ: الْمَرِيدُ يَخَافُ أَنْ يُبْتَلَى بِالْمَعَاصِي، وَالْعَارِفُ يَخَافُ أَنْ يُبْتَلَى بِالْكُفْرِ.
وَيُرْوَى أَنَّ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَكَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى الْجُوعَ وَالْعُرْيَ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ: عَبْدِي أَمَا رَضِيتَ أَنْ عَصَمْتُ قَلْبَك عَنْ أَنْ تَكْفُرَ بِي حَتَّى تَسْأَلَنِي الدُّنْيَا، فَأَخَذَ التُّرَابَ فَوَضَعَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: بَلَى قَدْ رَضِيتُ يَا رَبِّ فَاعْصِمْنِي مِنْ الْكُفْرِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا خَوْفَ الْعَارِفِينَ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ مَعَ رُسُوخِ
أَقْدَامِهِمْ وَقُوَّةِ إيمَانِهِمْ، فَكَيْفَ لَا يَخَافُ ذَلِكَ الضُّعَفَاءُ؟ .
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلِسُوءِ الْخَاتِمَةِ عَلَامَاتٌ تَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَوْتِ مِثْلُ الْبِدْعَةِ؛ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «أَهْلُ الْبِدْعَةِ كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ» . وَمِثْلُ نِفَاقِ الْعَمَلِ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ» وَلِذَلِكَ اشْتَدَّ خَوْفُ السَّلَفِ مِنْهُ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ النِّفَاقِ كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ.
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: اسْتَعِيذُوا بِاَللَّهِ مِنْ خُشُوعِ النِّفَاقِ، قِيلَ: وَمَا خُشُوعُ النِّفَاقِ؟ قَالَ: أَنْ يُرَى الْجَسَدُ خَاشِعًا وَالْقَلْبُ فَاجِرًا.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: إنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي عَيْنِكُمْ مِنْ الشَّعْرِ كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمُوبِقَاتِ.
وَرَوَى الشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ إمَامُ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَنِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: «أَوْصَانِي حَبِيبِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ هُنَّ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، قَالَ لِي: يَا أَبَا ذَرٍّ جَدِّدْ السَّفِينَةَ فَإِنَّ الْبَحْرَ عَمِيقٌ: يَعْنِي الدُّنْيَا، وَخَفِّفْ الْحِمْلَ فَإِنَّ السَّفَرَ بَعِيدٌ، وَاحْمِلْ الزَّادَ فَإِنَّ الْعَقَبَةَ طَوِيلَةٌ، وَأَخْلِصْ الْعَمَلَ فَإِنَّ النَّاقِدَ بَصِيرٌ» .
وَسُئِلَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رضي الله عنه عَنْ الْخَشْيَةِ فَقَالَ: هِيَ أَنْ تَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى تَحُولَ خَشْيَتُهُ بَيْنَك وَبَيْنَ مَعَاصِيهِ، فَهَذِهِ هِيَ خَشْيَتُهُ.
وَأَمَّا الْغِرَّةُ بِاَللَّهِ: فَهِيَ أَنْ يَتَمَادَى الرَّجُلُ فِي الْمَعْصِيَةِ وَيَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْمَغْفِرَةَ. وَدَخَلَ بَعْضُهُمْ مُتَنَزَّهًا فَخَطَرَ فِي سِرِّهِ أَنْ يَفْعَلَ فِيهِ مَعْصِيَةً، وَقَالَ مَنْ يَرَانِي؟ فَسَمِعَ صَوْتًا مُزْعِجًا {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] ؟ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33] وَهُوَ أَنْ يَدُومَ عَلَى الْمَعَاصِي وَيَتَمَنَّى الْمَغْفِرَةَ. وَقَالَ بِشْرٌ لِلْفُضَيْلِ: عِظْنِي يَرْحَمُك اللَّهُ، فَقَالَ: مَنْ خَافَ اللَّهَ تَعَالَى دَلَّهُ الْخَوْفُ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ. وَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى طَاوُسٍ فَخَرَجَ لَهُ شَيْخٌ فَقَالَ لَهُ أَنْتَ طَاوُسٌ؟ قَالَ: لَا، أَنَا ابْنُهُ، قَالَ: إنْ كُنْتَ ابْنَهُ لَقَدْ خَرَّفَ أَبُوك، فَقَالَ: إنَّ الْعَالِمَ لَا يُخَرِّفُ، ثُمَّ قَالَ: إذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِ فَأَوْجِزْ، فَدَخَلَ فَقَالَ إذَا سَأَلْتَ فَأَوْجِزْ فَقَالَ: لَئِنْ أَوْجَزَ لِي أَوْجَزْتُ، فَقَالَ إنِّي مُعَلِّمُك فِي مَجْلِسِي هَذَا التَّوْرَاةَ
وَالْإِنْجِيلَ وَالْقُرْآنَ، فَقَالَ لَئِنْ عَلَّمْتَنِي هَذِهِ الثَّلَاثَةَ لَا أَسْأَلُك عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: خِفْ اللَّهَ مَخَافَةً حَتَّى لَا يَكُونَ عِنْدَك شَيْءٌ أَخْوَفَ عِنْدَك مِنْهُ، وَارْجُهُ رَجَاءً أَشَدَّ مِنْ خَوْفِك إيَّاهُ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِك.
وَيُؤَيِّدُ قَوْلَهُ: - إنَّ الْعَالِمَ لَا يُخَرِّفُ - قَوْلُ عِكْرِمَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [النحل: 70] مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ: - أَيْ بِحَقِّهِ - لَا يَصِلُ لِهَذِهِ الْحَالَةِ، فَالْمُرَادُ بِكَوْنِ الْعَالِمِ لَا يُخَرِّفُ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى خَرَفِ الْعَوَامّ مِنْ عَوْدِ الْكَبِيرِ كَالطِّفْلِ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ، بَلْ أَقْبَحَ مِنْهُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي تُصَانُ عَنْهُ الْعُلَمَاءُ بِاَللَّهِ.
وَفَسَّرَ مُجَاهِدٌ قَوْله تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] فَقَالَ: هُوَ الَّذِي يَهُمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى فَيَدَعُهَا وَيَتْرُكُهَا خَوْفًا وَحَيَاءً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى.
وَرُوِيَ أَنَّ شَابًّا تَقِيًّا عَابِدًا مُلَازِمًا لِلْمَسْجِدِ فِي زَمَنِ عُمَرَ أَحَبَّتْهُ امْرَأَةٌ فَدَعَتْهُ إلَى نَفْسِهَا حَتَّى اخْتَلَى بِهَا ثُمَّ ذَكَرَ وُقُوفَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ فَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ فَأَخْرَجَتْهُ وَأَلْقَتْهُ عَلَى بَابِهَا فَجَاءَ أَبُوهُ وَحَمَلَهُ إلَى بَيْتِهِ فَاصْفَرَّ وَارْتَعَدَ حَتَّى مَاتَ فَجُهِّزَ وَدُفِنَ فَوَقَفَ عُمَرُ عَلَى شَفِيرِ قَبْرِهِ وَقَرَأَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] فَنُودِيَ مِنْ قَبْرِهِ إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَانِيهِمَا يَا عُمَرُ وَأَعْطَانِي الرِّضَا.
عَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ قَالَ: مِنْ أَعْظَمِ الِاغْتِرَارِ أَنَّ الْمُذْنِبَ يَرْجُو الْعَفْوَ مِنْ غَيْرِ نَدَامَةٍ، وَيَتَوَقَّعُ الْقُرْبَ مِنْ اللَّهِ بِغَيْرِ طَاعَةٍ، وَيَنْتَظِرُ الْجَزَاءَ بِلَا عَمَلٍ وَيَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ مَعَ الْإِفْرَاطِ
وَأَعْظَمُ حَامِلٍ عَلَى خَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَشْيَةِ سَطْوَتِهِ الْعِلْمُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وَمِنْ ثَمَّ غَلَبَ الْخَوْفُ عَلَى عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ حَتَّى قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: لَيْتَنِي كُنْتُ شَعْرَةً فِي صَدْرِ مُؤْمِنٍ. وَقَالَ عُمَرُ عِنْدَ مَوْتِهِ: الْوَيْلُ لِعُمَرَ إنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَيْتَنِي إذَا مِتُّ لَا أُبْعَثُ. وَقَدْ يَسْتَشْكِلُ هَذَا التَّمَنِّي بِمَا مَرَّ فِي الْمُكَفِّرَاتِ إلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ التَّمَنِّي، بَلْ إظْهَارَ أَنَّ لَهُ قَبَائِحَ يَخَافُ مِنْ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَا بَعْدَ الْبَعْثِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا وَقَعَ لِأُسَامَةَ حِبِّ رَسُولِ اللَّهِ وَابْنِ حِبِّهِ حَيْثُ قَتَلَ مَنْ نَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ ظَنًّا أَنَّهُ إنَّمَا نَطَقَ بِهِمَا اتِّقَاءً لَا حَقِيقَةً فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَاتَبَهُ وَكَرَّرَ
عَلَيْهِ قَوْلَهُ: «هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ» قَالَ أُسَامَةُ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَمَنَّ الْكُفْرَ وَلَا تَأْخِيرَ إسْلَامِهِ حَقِيقَةً إلَى بَعْدِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَإِنَّمَا تَمَنَّى سَبْقَ هَذِهِ الْفِعْلَةِ مِنْهُ لِإِسْلَامِهِ حَتَّى يُكَفِّرَهَا الْإِسْلَامُ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ.
قِيلَ: وَلَمَّا بَعُدَ عَنْ الْعِلْمِ أَقْوَامٌ لَاحَظُوا أَعْمَالَهُمْ وَاتَّفَقَ لِبَعْضِهِمْ مِنْ الْأَلْطَافِ مَا يُشْبِهُ الْكَرَامَاتِ انْبَسَطُوا بِالدَّعَاوَى، وَلَمْ يَتَّبِعُوا طَرِيقَ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي تَرْكِ الدَّعَاوَى رَأْسًا حَتَّى نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: وَدِدْت أَنْ قَدْ قَامَتْ الْقِيَامَةُ حَتَّى أَنْصِبَ خَيْمَتِي عَلَى جَهَنَّمَ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ: وَلِمَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إنِّي أَعْلَمُ أَنَّ جَهَنَّمَ إذَا رَأَتْنِي تَخْمُدُ فَأَكُونُ رَحْمَةً لِلْخَلْقِ.
وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْكَلَامِ وَأَفْحَشِهِ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَحْقِيرَ مَا عَظَّمَ اللَّهُ شَأْنَهُ مِنْ أَمْرِ النَّارِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى بَالَغَ فِي وَصْفِهَا فَقَالَ:{فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: 24] وَقَالَ تَعَالَى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12] .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: «نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي تُوقِدُونَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ جَهَنَّمَ قَالُوا وَاَللَّهِ إنْ كَانَتْ نَارُنَا لَكِفَايَةً يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا» .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا: «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا» .
وَلَقَدْ وَقَعَ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا وَعِنْدَهُ سِرَاجٌ فَخَطَرَتْ لَهُ مَعْصِيَةٌ فَقَالَ لِنَفْسِهِ: أَنَا أَجْعَلُ أُصْبُعِي فِي هَذِهِ الْفَتِيلَةِ فَإِنْ صَبَرْتِ عَلَيْهَا أَطَعْتُكِ فِي هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ، ثُمَّ أَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِي النَّارِ فَصَاحَ صَيْحَةً مُزْعِجَةً فَقَالَ: يَا عَدُوَّةَ اللَّهِ إذَا لَمْ تَصْبِرِي عَلَى نَارِ الدُّنْيَا هَذِهِ الَّتِي طَفِئَتْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَكَيْفَ تَصْبِرِينَ عَلَى نَارِ جَهَنَّمَ؟ وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ: خَوِّفْنَا يَا كَعْبُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ وَافَيْتَ الْقِيَامَةَ بِعَمَلِ سَبْعِينَ نَبِيًّا لَازْدَرَيْت عَمَلَك مِمَّا تَرَى، فَأَطْرَقَ عُمَرُ مَلِيًّا ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: زِدْنَا يَا كَعْبُ. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ فُتِحَ مِنْ جَهَنَّمَ قَدْرُ مَنْخَرِ ثَوْرٍ بِالْمَشْرِقِ، وَرَجُلٌ بِالْمَغْرِبِ لَغَلَى دِمَاغُهُ حَتَّى يَسِيلَ مِنْ حَرِّهَا، فَأَطْرَقَ عُمَرُ مَلِيًّا، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: زِدْنَا يَا كَعْبُ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ جَهَنَّمَ لَتَزْفِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ زَفْرَةً لَا
يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إلَّا خَرَّ جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيَقُولُ: رَبِّ نَفْسِي نَفْسِي لَا أَسْأَلُك الْيَوْمَ غَيْرَ نَفْسِي وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ أَيْضًا: إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَنَزَلَتْ الْمَلَائِكَةُ فَصَارَتْ صُفُوفًا فَيَقُولُ يَا جِبْرِيلُ ائْتِنِي بِجَهَنَّمَ فَيَأْتِي بِهَا جِبْرِيلُ، تُقَادُ بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ حَتَّى إذَا كَانَتْ مِنْ الْخَلَائِقِ عَلَى قَدْرِ مِائَةِ عَامٍ زَفَرَتْ زَفْرَةً طَارَتْ لَهَا أَفْئِدَةُ الْخَلَائِقِ ثُمَّ زَفَرَتْ ثَانِيَةً فَلَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إلَّا جَثَا لِرُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ تَزْفِرُ الثَّالِثَةَ فَتَبْلُغُ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، وَتَفْزَعُ الْعُقُولُ فَيَفْزَعُ كُلُّ امْرِئٍ إلَى عَمَلِهِ، حَتَّى إنَّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ يَقُولُ: بِخُلَّتِي لَا أَسْأَلُك إلَّا نَفْسِي، وَيَقُولُ مُوسَى: بِمُنَاجَاتِي لَا أَسْأَلُك إلَّا نَفْسِي، وَإِنَّ عِيسَى لَيَقُولُ: بِمَا أَكْرَمْتَنِي لَا أَسْأَلُك إلَّا نَفْسِي لَا أَسْأَلُك مَرْيَمَ الَّتِي وَلَدَتْنِي.
وَفِي حَدِيثٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَا جِبْرِيلُ مَا لِي لَا أَرَى مِيكَائِيلَ ضَاحِكًا؟ قَالَ: مَا ضَحِكَ مِيكَائِيلُ مُنْذُ خُلِقَتْ النَّارُ، وَمَا جَفَّتْ لِي عَيْنٌ مُنْذُ خُلِقَتْ جَهَنَّمُ مَخَافَةَ أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ عز وجل فَيَجْعَلَنِي فِيهَا» وَبَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَوْمًا فَقِيلَ لَهُ مَا يُبْكِيك؟ قَالَ: أَنْبَأَنِي اللَّهُ أَنِّي وَارِدٌ النَّارَ وَلَمْ يُنْبِئْنِي أَنِّي خَارِجٌ مِنْهَا.
فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ حَالَةَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ وَهُمْ الْمُطَهَّرُونَ مِنْ الْأَدْنَاسِ، وَهَذَا انْزِعَاجَهُمْ مِنْ النَّارِ، فَكَيْفَ هَانَتْ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُدَّعِي الْمَغْرُورِ، وَسَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ أَنَّ خَيْمَتَهُ تُطْفِئُ جَهَنَّمَ، وَأَنَّهُ يَقْطَعُ لِنَفْسِهِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ بِالنَّجَاةِ وَهِيَ لَيْسَتْ إلَّا لِلْعَشَرَةِ الَّذِينَ بَشَّرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْجَنَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْخَوْفِ مَا اقْتَضَى أَنْ يَقُولَ الصِّدِّيقُ وَهُوَ أَكْبَرُهُمْ: لَيْتَنِي كُنْت شَعْرَةً فِي صَدْرِ مُؤْمِنٍ، وَأَنْ يَقُولَ عُمَرُ: الْوَيْلُ لِعُمَرَ إنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ. وَفِي حَدِيثٍ «مَنْ قَالَ: إنِّي فِي الْجَنَّةِ فَهُوَ فِي النَّارِ» وَلَسْنَا نَعْنِي بِالْخَوْفِ رِقَّةَ النِّسَاءِ فَتَبْكِي سَاعَةً ثُمَّ تَتْرُكُ الْعَمَلَ وَإِنَّمَا نُرِيدُ خَوْفًا يَسْكُنُ الْقَلْبَ حَتَّى يَمْنَعَ صَاحِبَهُ عَنْ الْمَعَاصِي وَيَحُثَّهُ عَلَى مُلَازَمَةِ الطَّاعَةِ، فَهَذَا هُوَ الْخَوْفُ النَّافِعُ لَا خَوْفُ الْحَمْقَى الَّذِينَ إذَا سَمِعُوا مَا يَقْتَضِي الْخَوْفَ مِمَّا مَرَّ وَغَيْرِهِ لَمْ يَزِيدُوا عَلَى أَنْ يَقُولُوا: يَا رَبِّ سَلِّمْ نَعُوذُ بِاَللَّهِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُصِرُّونَ عَلَى الْقَبَائِحِ، وَالشَّيْطَانُ يَسْخَرُ بِهِمْ كَمَا تَسْخَرُ أَنْتَ بِمَنْ رَأَيْتَهُ وَقَدْ قَصَدَهُ سَبُعٌ ضَارٍ وَهُوَ إلَى جَانِبِ حِصْنٍ مَنِيعٍ؛ بَابُهُ مَفْتُوحٌ لَهُ؛ فَلَمْ يَفْزَعْ إلَيْهِ وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى: رَبِّ سَلِّمْ حَتَّى جَاءَهُ السَّبُعُ فَأَكَلَهُ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ مُسْرِفٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَمَّا
حَضَرَهُ قَالَ لِبَنِيهِ: إذَا أَنَا مِتُّ فَأَحْرِقُونِي وَاطْحَنُونِي ثُمَّ ذَرُونِي فِي الرِّيحِ، فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ، أَيْ لَئِنْ أَرَادَ تَعْذِيبِي - وَالتَّعْبِيرُ بِالْقُدْرَةِ عَنْ الْإِرَادَةِ سَائِغٌ - لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا، فَلَمَّا مَاتَ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ فَأَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَقَالَ اجْمَعِي مَا فِيكِ مِنْهُ فَفَعَلَتْ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ قَالَ مَا حَمَلَك عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ يَا رَبِّ خَشْيَتُكَ فَغَفَرَ لَهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ " مَخَافَتُك ".
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا قَالَ عُقْبَةُ لِحُذَيْفَةَ: أَلَا تُحَدِّثُنَا بِمَا سَمِعْتَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إنَّ رَجُلًا حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَلَمَّا أَيِسَ مِنْ الْحَيَاةِ أَوْصَى أَهْلَهُ إذَا مِتُّ فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا كَثِيرًا ثُمَّ أَوْقِدُوا نَارًا حَتَّى إذَا أَكَلَتْ لَحْمِي وَخَلَصَتْ إلَى عَظْمِي فَخُذُوهُ وَاطْحَنُوهُ فَذَرُّونِي فِي يَوْمٍ رَائِحٍ فَجَمَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ خَشِيتُك فَغَفَرَ لَهُ» . قَالَ عُقْبَةُ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ وَفِيهِ أَيْضًا: «إنَّ رَجُلًا كَانَ قَبْلَكُمْ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا فَقَالَ لِبَنِيهِ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ: أَيُّ أَبٍ كُنْت لَكُمْ؟ قَالُوا خَيْرُ أَبٍ قَالَ: فَإِنِّي لَمْ أَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَإِذَا مِتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ ذَرُونِي فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ، فَفَعَلُوا فَجَمَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: مَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ مَخَافَتُك فَتَلَقَّاهُ بِرَحْمَتِهِ» .