الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وما ذكر من اجتهاد سيدنا عثمان رضي الله عنه لا ينفي أن بعض الصحابة اطلع على أنها مرتبة كذلك، وأنها سورة مستقلة.
وأما ترتيبها على ما ذكر، فيدل عليه جمع سيدنا أبي بكر، فإن مصحف سيدنا عثمان رضي الله عنه على وفق جمع سيدنا أبي بكر رضي الله عنه ليس فيه مخالفة له في الترتيب، وإنما ما جمعه أبو بكر رضي الله عنه لم يقتصر فيه على لغة من اللغات- كما يأتي تحقيقه-، فلما رأى عثمان رضي الله عنه أن في ذلك ضررا بسبب الاختلاف، جمع الناس على لغة واحدة؛ لئلا يختلفوا.
وأما كونها سورة مستقلة؛ / فلأنها في مصحف أبي، وابن مسعود، سورة مفردة، بل في مصحف ابن مسعود مكتوب فيها البسملة، فدل ذلك على أنهم اطلعوا على أنها مستقلة من النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا لصنعوا كما فعل عثمان رضي الله عنه.
والحاصل:
أن ترتيب آي القرآن وسوره توقيفي.
فإن قلت: فما نصنع بترتيب مصحف أبي، وابن مسعود، فإن مصحفهما على غير هذا الترتيب في السور، وهذا يدل على أن ترتيب السور ليس توقيفيا؟
قلت: الجواب عنه من وجهين:
الأول: أنهم اطلعوا على هذا الترتيب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنهم ظنوا أنه ليس لازما، بل لكل أحد أن يرتب كيف يشاء، فرتبوا مصاحفهم على اجتهادهم.
الثاني: أنهم رتبوا مصاحفهم على ما كانوا يتلقونه من النبي صلى الله عليه وسلم وقت التعليم، ولم يطلعوا على أن ترتيب المصحف غير ترتيب القراءة، فرتبوه على وفق ما سمعوه.
فإن قلت: قد روي أنه عليه السلام كان يقرأ سورة ثم يقرأ التي قبلها؟
قلت: ترتيب السور في القراءة ليس بواجب، فلعله فعله عليه السلام لبيان الجواز.
وأما جمعه آي القرآن، فكان ثلاث مرات:
الأول: لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، بحسب الوقائع، كان يؤلف بإشارة جبريل.
أخرج الحاكم في "المستدرك"- بسند على شرط الشيخين- عن زيد بن ثابت قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن في الرقاع. الحديث.
قال البيهقي: يشبه أن يكون المراد تأليف ما نزل من الآيات المفرقة/ في سورها وجمعها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى.
قلت: وقد تقدم من حديث ابن أبي العاص، في قوله تعالى:{إن الله يأمر بالعدل والإحسن} أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتاني جبريل، فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع نت هذه السورة. فالقرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مؤلف بهذا التأليف، مرتب بهذا الترتيب، غير أنه ليس بمجموع في محل واحد، ولا في حفظ كل أحد إلا أفرادا معدودين.
الجمع الثاني: جمع سيدنا أبي بكر، بإشارة سيدنا عمر رضي الله عنهما.
روى البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إلي أبو بكر رضي الله عنه عقب مقتلة أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: إن عمر
أتاني فقال إن القتل قد استحر بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. فقلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: هو خير. فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر.
قال زيد: قال أبو بكر: إنك شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه.- فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن-. قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير. فلم يزل أبو بكر يراجعني، حتى شرح الله صدري للذي شرح إليه صدر أبي بكر وعمر، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف، وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة (التوبة) مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع غيره، {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} حتى خاتمة (براءة)[129]. فكانت الصحف عند أبي بكر، حتى توفاه الله عز وجل، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر.
قال في "النهاية"، وفيه: أنه خرج وفي يده عسيب؛ أي جريدة من النخل، وهي السعفة مما لا ينبت عليه الخوض، ثم قال: ومنه حديث زيد بن ثابت.
واللخاف: جمع لخفة، وهي حجارة بيض رقاق، وقال الخطابي: صفائح الحجارة.
والحاصل: أن اللخاف هي الحجارة الرقاق الخفاف.
وفي بعض الأحاديث: "والرقاع" جمع رقعة، وتكون من جلد أو ورق أو ثوب.
وفي بعض الأحاديث: "والأقتاب"، جمع قتب وهو الخشب الذي على ظهر البعير، ويركب عليه.
قال الحارث المحاسبي- رضي الله عنه ونفع به- في كتاب "فهم السنن": كتابة القرآن ليست بمحدثة، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب، وإنما أمر الصديق رضي الله عنه بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعا، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فيها القرآن منتشرا، فجمعها جامع وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء.
قال: فإن قيل: /كيف وفعت الثقة بأصحاب الرقاع، وصدور الرجال؟
قيل: لأنهم كانوا يبدون عن تأليف معجز، ونظم معروف قد شاهدوا تلاوته من النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة، فكان تزوير ما ليس منه مأمونا، وإنما كان الخوف من ذهاب شيء من صحفه. انتهى.
وأيضا فكانوا جماعة من الصحابة قد جمعوه في حفظهم، منهم: زيد بن ثابت؛ فكان أخذهم لما في الرقاع والصدور تأكيدا لما عندهم، فالزيادة فيه والنقص مأمونة.
وقد أخرج ابن أبي داود من طريق هشام بن عروة، عن أبيه: أن أبا بكر رضي الله عنه قال لعمر وزيد: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه. وكل ذلك لزيادة التأكيد والتثبت.
وفي مغازي موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، قال: لما أصيب المسلمون باليمامة فزع أبو بكر رضي الله عنه وخاف أن يهلك من القراء طائفة، فأقبل الناس بما كان معهم وعندهم، حتى جمع على عهد أبي بكر رضي الله عنه في الأوراق، وكان أبو بكر أول من جمع القرآن في المصحف.
فإن قلت: كيف ذهبت إلى/ أن أول من جمع القرآن في المصحف أبو بكر رضي الله عنه وقد روى ابن أبي داود في "المصاحف"، من طريق ابن سيرين قال: قال علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه- لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم آليت أن لا آخذ علي ردائي إلا الصلاة جماعة، حتى أجمع القرآن. فجمعه.
قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله تعالى-: هذا الأثر ضعيف لانقطاعه، وبتقدير صحته، فمراده بجمعه: حفظه في صدره.
قلت: والحمل على جمعه في الصدر، ينافيه ما أخرجه ابن أبي شيبة في "المصاحف" عن ابن سيرين، وفيه أنه كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ. وأن ابن سيرين قال: فطلبت ذلك الكتاب، وكتبت فيه إلى المدينة، فلم أقدر عليه.
فالجواب: أن جمع سيدنا علي- كرم الله وجهه- جمع خاص له ولأهل العلم مثله، وهو أنه جمع القرآن وضم إليه تفسير آياته، والناسخ والمنسوخ منها، فصار نفعه خاصا بأهل العلم، بخلاف جمع سيدنا أبي بكر، بأنه أول ما جمعه جمعا عاما يتداوله كل أحد، ويقرؤه ويتعلم منه الصغير والكبير.
فكان الجمع للخاف مبتدأ من أبي بكر رضي الله عنه؛ ويدل لهذا الذي ذكرته، ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف بسند حسن، عن عبد خير قال: سمعت
عليا يقول: أعظم الناس في المصاحف أجرا؛ أبو بكر رضي الله عنه؛ أول من جمع كتاب الله تعالى. فاعترف سيدنا علي بأن أبا بكر رضي الله عنه أول من جمع المصحف من حيث ما تقرر، والله أعلم.
وروى أيضا: أن سالما مولى أبي حذيفة أول من جمعه. رواه ابن أبي شيبة في "المصاحف".
قال حافظ السنة السيوطي- رحمه الله تعالى-: وإسناده منقطع، وهو محمول على أنه كان أحد الجامعين بأمر أبي بكر رضي الله عنه.
الجمع الثالث: جمع سيدنا عثمان رضي الله عنه:
روى البخاري عن أنس: أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قدم على سيدنا عثمان وكان يغازي أهل الشام، في فتح أرمينية، وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال لعثمان: أدرك الأمة/ قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى.
فأرسل إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك.
فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير،
وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوه، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
قال زيد: ففقدت آية من (الأحزاب)، حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري، {من المؤمنين رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه} [الأحزاب: 23]، فألحقناها في سورتها في المصحف.
قال الحافظ ابن حجر: وكان ذلك سنة خمس وعشرين.
قال العلامة ابن التين وغيره:
والفرق بين جمع أبي بكر، وبين جمع عثمان:
أن جمع أبي بكر كان لخشيه أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته؛ لأنه لم يكن مجموعا في موضع واحد؛ فجمعه في صحائف مرتبا لآيات سوره على ما أوقفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القراءة حين قرأوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض، فخشي من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك المصحف في مصحف واحد، مرتبا لسوره، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش، محجا بأنه نزل بلغتهم، وإن كان قد وسع في قراءته بلغة غيرهم، رفعا للحرج والمشقة في ابتداء الأمر، فرأى أن الحاجة إلى ذلك انتهت، فاقتصر على لغة واحدة. انتهى.
وقال الحارث المحاسبي- نفع الله به-: المشهور عند الناس، أن جامع القرآن عثمان، وليس كذلك، إنما حمل عثمان الناس على قراءة بوجه واحد، على اختيار وقع بينه من شهده من المهاجرين والأنصار، لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل الشام والعراق في حروف القرآن، فأما قبل ذلك فكانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن، وأما السابق إلى جمع الجملة فهو الصديق، وقد قال علي- كرم الله وجهه-: لو وليت لعملت بالمصاحف الذي عمل عثمان. انتهى.
فجمع عثمان رضي الله عنه، إنما هو لما رأى اختلاف الناس في القراءات على حسب لغاتهم، حتى كان يقول أحدهم: قراءتي خير من قراءتك. فلما بلغ عثمان ذلك، قال: هذا يكاد أن يكون كفرا.
وروى أيضا: أن الغلمان والمعلمين اقتتلوا على عهد عثمان رضي الله عنه بسبب