الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وساق عبارتهم بقوله: {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك} إلى قوله: {وقهم السيئات} [غافر: 9].
وأما السنة:
فأحاديث كثيرة، منها ما في الصحيحين: ضحى بالكبشين فجعل أحدهما عن أمته. وهو مشهور تجوز الزيادة بع على الكتاب، ومنها ما رواه أبو داود: اقرأوا على موتاكم سورة (يس). وحينئذ فتعين أن يكون قوله تعالى: {وأن ليس للإنسن إلا ما سعى (39)} [النجم: 39] على ظاهره، وفيه تأويلات أقربها ما اختاره المحقق ابن الهمام: أنها مقيدة بما يهبه العامل، يعني ليس للإنسان في سعي غيره نصيب إلا ما وهبه له، فحينئذ يكون له.
وأما قوله- عليه الصلاة والسلام: "لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد" ........
فهو في حق الخروج عن العهدة لا في حق الثواب، فأما من صلى وتصدق وجعل ثوابه لغيره من الأموات والأحياء، جاز ويصل ثوابها إليهم عند أهل السنة والجماعة وكذا في "البديع".
وبهذا علم أنه لا فرق بين أن ينوي بع عند الفعل للغير أو يفعله لنفسه، ثم بعد ذلك يجعل ثوابه لغيره، لإطلاق كلامهم، ولم أر حكم من أخذ شيئا من الدنيا ليجعل شيئا من عبادته للمعطى، وينبغي أن لا يصح ذلك.
وظاهر إطلاقهم أنه لا فرق بين الفرض والنفل، فإذا صلى فريضة وجعل ثوابها لغيره فإنه يصح ولكن لا يعود الفرض فير ذمته؛ لأن عدم/ الثواب لا يستلزم عدم السقوط عن ذمته، ولم أره منقولا. انتهى كلام صاحب "البحر".
وقال في "الهداية" في باب الحج عن الغير: له أن يجعل عمله لغيره صلاة وصوما أو غيرها عند أهل السنة والجماعة.
قال في"فتح القدير": لا يراد به أن الخلاف بيننا وبينهم في أنه له ذلك أو ليس له ذلك كما هو ظاهره، بل في أن ينجعا بالجعل أولا، بل يلغو.
قوله: "أو غيرها" كتلاوة القرآن والأذكار عند أهل السنة والجماعة، ليس المراد أن المخالف لما ذكره خارج عن أهل السنة والجماعة؛ فإن مالكاً والشافعي- رحمهما الله تعالى- لا يقولان بوصول العبادات البدانية المحضة كالصلاة والتلاوة، بل غيرهما كالصدقة والحج، بل المراد أن أصحابنا لهم كمال الاتباع والتمسك ما ليس لغيرهم، فعبر عنهم بأهل السنة والجماعة، فكأنه قال: عند أصحابنا. غير أن لهم وصفا عبر عنهم به.
وخالف في كل العبادات "المعتزلة" لقوله تعالى: {وأن ليس للإنسن إلا ما سعى (39)} [النجم: 39] وسعي غيره ليس من سعيه، وهي وإن كانت مسوقة قصا لما في صحف إبراهيم وموسي عليهم السلام؛ فحيث لم يتعقبه بإنكار كان شريعة لنا على ما عرف.
والجواب إنها وإن كانت ظاهرة على ما قالوه، لكن يحتمل أنها نسخت أو مقيدة، وقد ثبت ما يوجب المصير إلى ذلك، وهو ما رواه المصنف/ وهو في الصحيحين: أنه عليه السلام ضحى بكبشين أملحين، أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته. والملحة بياض يشوبه شعرات سود.
وفي سنن ابن ماجه بسنده عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- وأبي
هريرة رضي الله عنه: أنه عليه السلام إذا أراد أن يضحي، يشتري كبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين، فذبح أحدهما عن أمته ممن شهد لله بالتوحيد وشهد له بالبلاغ، وذبح الآخر عن محمد وآل محمد. ورواه أحمد والحاكم والطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة.
وأخرج أبو نعيم في ترجمة ابن المبارك عنه عن يحيي بن عبد الله عن أبيه: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين موجوءين، فلما وجههما قال:" (إنى وجهت وجهى) الآية [الأنعام: 79]، اللهم لك ومنك عن محمد وأمته، بسم الله والله أكبر". ثم ذبح. ورواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، بنقص في المتن.
ورواه ابن شيبة عن جابر: أنه عليه السلام أتى بكبشين أملحين عظيمين أقرنين موجوءين، فأضجع أحدهما فقال:"بسم الله والله أكبر اللهم عن محمد وآل محمد"، ثم أضجع الآخر وقال: "بسم الله والله أكبر، اللهم عن محمد وأمته
ممن شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ". وكذا رواه إسحاق وأبو يعلى في مسنديهما.
وروي هذا المعني من حديث أبي رافع، رواه أحمد وإسحاق والطبراني والبزار والحاكم.
ومن حديث حذيفة بن أسيد الغفاري، أخرجه الحاكم في الفضائل.
ومن حديث أبي طلحة الأنصاري، رواه ابن شيبة، وعن طريق رواه أبو يعلى والطبراني.
ومن حديث أنس بن مالك، رواه ابن أبي شيبة والدارقطني. فقد روى
هذا عن عدة من الصحابة، وانتشرت فخرجوه، فلا يبعد أن يكون هذا القدر المشترك- وهو أنه ضحى عن أمته- مشهورا بجواز تقيد الكتاب به بما لم يجعله صاحبه.
أو تنظر إلى ما رواه الطبراني: أن رجلا سأل عليه السلام فقال: كان لي أبوان أبوان أبرهما حال حياتهما، فكيف لي ببرهما بعد موتهما؟ فقال عليه السلام "إن البر بعد الموت، أن تصلي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك".
وإلى ما رواه أيضا عن علي عنه عليه السلام قال: "من مر على المقابر وقرأ {قل هو الله أحد} [الإخلاص] أحد عشر مرة، ثم وهب أجرها للأموات، أعطي من الأجر بعدد الأموات".
وإلى ما روي عن أنس أنه سأله عليه السلام فقال: يا رسول الله، إنا نتصدق على موتانا ونحج عنهم وندعو لهم، فهل يصل ذلك إليهم؟ قال:"نعم، 'نه ليصل إليهم وإنهم ليفرحون به كما يفرح أحدكم بالطبق إذا أهدي إليه". رواه أبو حفص العكبري.
وعنه عليه السلام: "اقرأوا على موتاكم (يس) ". رواه أبو داود.
فهذه الآثار وما قبلها وما في السنة أيضا من نحوها عن كثير، تركناه لحال
الطول، يبلغ القدر المشترك بين الكل- وهو أن من جعل شيئا من الصالحات لغيره نفعه الله به- مبلغ التواتر.
وكذا ما في كتاب الله تعالى من الأمر بالدعاء للوالدين في قوله تعالى:
{وقل رب ارحمهما كما بياني صغيرا} [الإسراء: 24]، ومن الأخبار باستغفار الملائكة للمؤمنين، قال تعالى:{والملئكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض} [الشورى: 5]، قال تعالى في آية أخرى:{الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين ءامنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك) إلى قوله: {وقهم السيئات} [غافر: 7 - 9]: قطعي في حصول/ الانتفاع بعمل الغير، فيخالف ظاهرة الآية التي استدلوا بها، إذ ظاهرها أن لا ينفع استغفار أحد لأحد بوجه من الوجوه؛ لأنه ليس من سعيه، فلا يكون له منه شيء، فقطعنا بانتفاء إرادة ظاهرها على صرافته، فتقيد بما يهبه العامل وهو أولى من النسخ، أما أولا: فلأنه أسهل، إذ لم يبطل بعد الإرادة، وأما ثانيا: فلأنها من قبيا الإخبارات ولا يجري النسخ في الخبر.
وما يتوهم جوابا من أنه تعالى أخبر- في شريعة موسي وإبراهيم- أنه لا يجعل الثواب لغير العامل، ثم جعل لمن بعدهم من هل شريعتنا، حقيقة مرجعة إلى تقييد الأخبار لا إلى النسخ، إذ حقيقته أن يراد المعنى ثم ترفع إرادته، وهذا تخصيص بالإرادة بالنسبة إلى أهل تلك الشرائع، ولم يقع نسخ لهم، ولم ترد الأخبار أيضا في حقنا ثم نسخ.
وأما جعل اللام في {للإنسن} بمعنى "على" فبعيد من ظاهرها، ومن سياق الآية، فإنها وعظ للذي تولى وأعطى قليلا وأكدى.
وقد ثبت في ضمن إبطالنا/ لقول المعتزلة انتفاء قول الشافعي ومالك- رحمهما الله تعالى- في العبادات البدنية بما في الآثار، والله سبحانه هو
الموفق. انتهى.
أقول: وتأويل المحقق ابن الهمام عبارة الهداية- وهي قوله: عند أهل السنة والجماعة: أن المقصود بهم الحنفية- ليس بشيء، بل مقصده أن أهل السنة والجماعة قائلون بوصول ثواب العبادات إجمالا، وإن منع بعضهم وصول بعض العبادات كما روي ذلك عن مالك والشافعي، فام يمنع وصولها مطلقا، بخلاف المعتزلة، فإنهم يمنعون وصول شيء ما من العبادات للغير، فصار الخلاف معهم. فتكون عبارة صاحب "الهداية" وغيره في قوله: عند أهل السنة والجماعة. ردا على المعتزلة، فكأنه قال: إن أهل السنة والجماعة يقولون إن للإنسان أن يجعل ثواب أعماله للغير، والمعتزلة لا يقولون مطلقا، والخلاف في مجموع العبادات، انتهى.
وقد تقدم في كلام العيني، وفي كلام صاحب "فتح القدير"، أن العبادات البدنية كالصلاة والتلاوة لا تصل إلى الغير في مذهب الشافعي ومالك.
وقد جرى الخلاف في مذهب الشافعي، فذهب جماعة إلى الثواب يصل إلى من أهدى إليه، قال في "المواهب اللدنية": وقد اختلف العلماء في ثواب
القراءة، هل يصل إلى الميت؟ فذهب الأكثرون إلى المنع، وهو المشهور من مذهب الشافعي ومالك. وقال كثير من الحنفية والشافعية: يصل. وبه قال أحمد بن حنبل بعد أن قال: القراءة على القبر بدعه. بل نقل عن الإمام أنه قال: يصل إلى الميت كل شيء من صدقة وصلاة وحج واعتكاف وقراءة وذكر، وغير ذلك.
وذكر الشيخ شمس الدين بن القطان العسقلاني: إن وصول ثواب القراءة إلى الميت من قريب أو أجنبي هو الصحيح، كما تنفعه الصدقة والدعاء والاستغفار بالإجماع.
وقد أفتى القاضي حسين: بأن الاستئجار لقراءة القرآن على القبر جائز كالاستئجار للأذان وتعليم القرآن ............................
انتهى كلام صاحب المواهب.
فبما تقرر، ظهر أن في مذهب الشافعي قولان في المسألة:
أحدهما: الجواز، وقد صححه المتأخرون.
والآخر: المنع.
ومذهب الإمام أحمد موافق لمذهب الحنفية في الجواز.
وبما تقرر، من النقول، علم جواز إهداء ثواب سائر الأعمال للغير من الأحياء والأموات.
وبقيت أحاديث صريحة في جواز ذلك أحببنا إيرادها: منها: ما أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة/ من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، ولم تحج حتى ماتت افأحج عنها؟ قال:"حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فهو أحق بالوفاء".
وأخرج البخاري في كتاب "النذر والإيمان" فقال: أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أختي نذرت أن تحج، ولم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ فذكر مثل الحديث الأول.
وأخرج النسائي فقال: أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن أباها مات ولم يحج.
قال: "حجي عن أبيك".
وأخرج الترمذي عن أبي رزين العقيلي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن. فقال: "حج عن أبيك واعتمر". قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأخرج النسائي عن الفصل بن عباس رضي الله عنهما: أنه كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله، إن أمي عجوز كبيرة وإن حملتها لم تستمسك، وإن ربطتها خشيت أن أقتلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيه؟ " قال: نعم. قال: "حج عن أمك".
وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الفضل ابن عباس رضي الله عنهما رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءته امرأة من (خثعم) تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال:"نعم".
وذلك في حجة الوداع.
وأخرج الدارقطني عن ابن عباس رضي الله عنهما قالب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج عن أبويه أو قضى عنهما مغرما بعثه الله يوم القيامة مع الأبرار".
وأخرج أيضا عن زيد بن أرقم قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "إذا حج الرجل عن والديه تقبل منه ومنهما، واستبشرت أرواحهما، وكتب عند الله بارا".
وأخرج البخاري ومسلم عن عائشة- رضي الله تعالى عنهما-: أن رجلا جاء
إلى النبي صبى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمي افتلت نفسها ولم توص، وأظن لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال:"نعم".
فهذه الأحاديث صريحة في وصول ثواب الأعمال للغير.
وإذا كان الإنسان يثاب على إهداء ثواب عمله، من حج أو صدقة لوالديه، ويصل ثوابه إليه، ويثاب هو لكونهما سبب حياته الظاهرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أولى وأحرى؛ فإنه سبب حياته الباطنة صلى الله عليه وسلم، وجزاه الله أفضل ما جاز نبيا عن أمته، ورسولا عن قومه.
فإن قلت: قد ذكر في "المواهب اللدنية" قال: وأما إهداء القراءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يعرف فيه خبر ولا أثر. وقد أنكره جماعة منهم الشيخ برهان الدين ابن الفركاح، لأن الصحابة لم يفعله أحد منهم.
وحكى صاحب "الروح": أن من الفقهاء المتأخرين من استحبه، ومنهم من رآه بدعة، قالوا: والنبي صلى الله عليه وسلم غني/ عن ذلك، فإن له أجر كل من عمل خيرا
من أمته، من غير أن ينقص من أجر العامل شيء.
قال الإمام الشافعي- رحمة الله تعالى-: ما من خير يعلمه أحد من أمة النبي صلى الله عليه وسلم إلا والنبي صلى الله عليه وسام أصل فيه. انتهى كلامه.
قلت: هذا الكلام مردود، وأما كونه لا يعرف فيه خبر، فيكفي دليل كتاب الله تعالى، وهو/: أمر الله جل شأنه المؤمنين بالصلاة على نبيهم، والأحاديث بالدعاء في طلب الوسيلة له صلى الله عليه وسلم، فيقاس عليها سائر الأعمال، إذ لا فارق.
وأما كون الصحابة لم يفعله أحد منهم فهو محل نزاع، إذ يحتمل أن يكون فعلوه ولم ينقل إلينا، ويكفي ما ورد عنهم في الضحية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقاس عليه غيره.
وأما كونه صلى الله عليه وسلم غنيا، فهذا كلام واه، إذا الكامل يقبل الكمال، وكماله بحسب رتبته صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:{إن الله وملئكته يصلون على النبي يأيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما (56)} [الأحزاب: 56] فأمر الله عز وجل المؤمنين بالصلاة على نبيهم، وأن يطلبوا من الله تعالى الرحمة والرفعة والعلو في مقامات الكمال والقرب، وهو صلى الله عليه وسلم قد قربه الله تعالى واصطفاه، وقرب ورفع مقامه، وأمر الله تعالى للمؤمنين ليس لحاجة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، إنما هو لتعود المنفعة والبركة عليهم، وليزيده الله تعالى من فضله كمالا إلى كماله، فإن الكامل يقبل الزيادة، فإذا كان الله عز وجل قد أمر المؤمنين ليطلبوا له الزيادة، فكذلك إذا أهدوا له ثواب أعمالهم، إنما ذلك لتعود المنفعة والبركة عليهم، وليزيد الله سبحانه وتعالى نبيه من مراتب الكمالات.
وكذلك مما يرد هذا السؤال قوله صلى الله عليه وسلم مخاطبا لأمته: "إذا سألتم الله فاسألوه
لي الوسيلة، فإنها درجة لا يبلغها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكو هو"، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين بطلب الوسيلة له وحثهم على ذلك، وذلك لتزداد رفعته وتكثر مودته في قلوب أمته، فمن أهدى له شيئا من ثواب أعماله، فقد تسبب للمودة والتقرب إلى نبيه صلى الله عليه وسلم.
ومما يرد السؤال أيضا، ما أخرجه البيهقي في " الشعب" من طريق ابن شهاب عن محمد بن يحيى بن حبان: أن رجلا قال: يا رسول الله إني أريد أن أجعل صلاتي كلها لك. قال: "إذا يكفيك الله أمر دنياك وآخرتك". قال: وهو مرسب جيد.
فيحتمل قوله: صلاتي. يعني أهدي لك ثواب صلاتي كلها، أو دعائي.
وعلى كل حال هو دليل على جواز إهداء ثواب الأعمال، إما صريحا أو قياسا.
وقد أخرج الترمذي في الزهد من جامعه- وقال: حسن- عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رسول صلى الله عليه وسلم إذا وهب ثلثا الليل قام فقال: "يا أيها الناس اذكروا الله، جاءت الرجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه. جاء الموت بما فيه". قال أبي بن كعب: فقلت: يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال:"ما شئت". قلت: الربع؟ قال: "ما
شئت، وإن زدت فهو خير لك". قلت: النصف؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير لك". قلت فالثلثين؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير لك". قلت فالثلثين؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير لك"، قلت: أجعل لك صلاتي كلها. قال: "إذا تكفى همك، ويغفر لك ذنبك".
وقد روى عن علي- كرم الله وجهه ورضي عنه- وغيره من الصحابة رضي الله عنهم، أنهم كانوا يضحون عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته.
وعن أبي العباس محمد بن إسحاق السراج قال: ضحيت عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعين أضحية.
وبما ذكر من الأدلة، يعلم أن إهداء ثواب القراءة وأمثالها لا يدل على حاجة النبي صلى الله عليه وسلم، بل ذلك لتعود المنفعة على المؤمنين، ويزيد الله نبيه من فيض فضله وجوده.
ومن هذه الشبهة قال بعض المشايخ: لا يقال/ ارحم محمدا. لأن فيه نوع
ظن بالتقصير، قال في "العناية" شرح "الهداية": وحكى عن محمد بن عبد الله بن عمرو أنه كان يقول: نحن أمرنا بتعظيم الأنبياء وتوقيرهم، وفي قوله: وارحم محمدا، نوع ظن بالتقصير. وإليه ذهب شيخ الإسلام، فيترك ذلك.
وقال شمس الأئمة السرخسي: لا بأس به لأن الأثر ورد به، ولا عتب على من اتبع الأثر، ولأن أحدا لا يستغني عن رحمة الله تعالى.
ومقال في "نية المصلي": وروي عن بعض المشايخ أنه قال: لا يقال ارحم محمدا، وأكثر المشايخ على أنه يقال للتوارث. انتهى.
فمن قال أنه لا يقال، جنح إلى أن في ذلك تقصيرا، والحق أنه ليس كذلك؛ لأن الكامل يقبل الكمال كما تقدم، وكيف وقد ورد في ذلك عدة أحاديث، وقد جنح إلى المنع ابن عربي وابن عبد البر من المالكية، لكن الأحاديث حجة عليهم.
فقد ورد في صريح الأحاديث الترحم على النبي صلى الله عليه وسلم، وعن السلف الصالح أيضا.
والحاصل: أن من جنح إلى منع إهداء ثواب القراءة والترحم إنما خاف من إيهام الحاجة والنقص في جانب النبي صلى الله عليه وسلم، وليس الحال كذلك.
وقد رفع سؤال إلى الشيخ العلامة ابن حجر المكي- رحمه الله تعالى- ذكره في فتاويه، سئل- نفع الله بعلومه- في رجل قال: الفاتحة زيادة في شرف النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له رجل من أهل العلم: لا تعد إلى هذا الذي صدر منك تكفر. فهل الأمر كذلك؟ وهل يجوز الإنكار والحكم على القائل بالكفر؟ وما يلزم هذا المنكر؟
فأجاب- نفع الله تعالى به- بقوله: لم يصب هذا المنكر في إنكاره ذلك، وهو دال على قلة علمه لسوء فهمه، بل هو دال على قبيح مجازفته في دين الله تعالى، وتهوره بما قد يؤول إلى الكفر والعياذ بالله، إذ من كفر مسلما بغير موجب لذلك: كفر، على تفصيل ذكره الأئمة، فإنكاره هذا إما حرام أو كفر، فالتحريم محقق، والكفر مشكوك فيه/، فعلى حاكم الشريعة المطهرة أن يبالغ في زجر هذا المنكر، بتعزيزه بما يليق به في عظيم جرأته على الشريعة الغراء، وكذبه والسنة دالان على أن طلب الزيادة له صلى الله عليه وسلم أمر مطلوب محمود.
قال الله تعالى: {وقل رب زدني علما} [طه: 114].
وروى مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: "واجعل الحياة زيادة لنا في
كل خير"
وطلب كون (الفاتحة) وغيرها زيادة في شرفه، طلب لزيادة علمه وترقيه في مدارك الكمالات العلية، وإن كان كماله من أصله قد وصل الغاية التي لم يصل إليها كمال مخلوق. فعلم أن كلا من الآية الشريفة والحديث الصحيح، دال على أن مقامة صلى الله عليه وسلم وكماله يقبل الزيادة في العلم والثواب، وسائر المراتب والدرجات، وعلى أن غايات كماله لا حد لها ولا انتهاء، بل هو دائم في الترقي في تلك الغايات العلية، والمقامات السنية، لا يطلع عليه ولا يعمل كنهه إلا الله تعالى، وعلى أن كماله صلى الله عليه وسلم مع جلالته لا يمنع احتياجه إلى مزيد ترقي واستمداد من فيض فضل الله، وجوده وكرمه الذي لا غاية له ولا انتهاء. ثم أطال في هذا الجواب واستدل على ذلك بالأدلة.
وسئل أيضا شيخ الإسلام أبو يحيى زكريا الأنصاري الشافعي- رحمه الله تعالى- عن واعظ قال: لا يجوز إجماعا لقارئ القرآن والحديث أن يهدي مثل ثواب ذلك في صحائف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه أفتى المتقدمون والمتأخرون؟
فأجاب: / بأن ما ادعاه هذا الواعظ، القليل المعرفة، يستحق بكذبه على الإجماع العزير البالغ، وزعمه أنه لا يجوز، والعجب له كيف سانح له دعوى إجماع المسلمين، وإفتاء المتقدمين والمتأخرين على عدم الجواز، وهل هذا إلا مجازفة في دين الله تعالى، فإن جوازه- كما ترى- شائع ذائغ في الأعصار والأمصار. وأطال في الجواب عن ذلك.
انتهى ما أردنا إيضاحه، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.