المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌48 - باب: ما جاء فى خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم - أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل

[ابن حجر الهيتمي]

فهرس الكتاب

- ‌تصدير

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌وقد اعتمدت فى شرح الكتاب على النسخ الآتية:

- ‌1 - النسخة الأصل:

- ‌2 - النسخة الثانية:

- ‌3 - النسخة الثالثة:

- ‌منهج التحقيق

- ‌ترجمة المصنف

- ‌ اسمه ونسبه:

- ‌ مولده:

- ‌ نشأته العلمية ورحلاته:

- ‌ مشايخه

- ‌ تلامذته:

- ‌ مؤلفاته:

- ‌فالمطبوع منها حسب علمنا الكتب التالية:

- ‌أما المخطوطات:

- ‌ عقيدته:

- ‌ مكانته العلمية وثناء العلماء عليه:

- ‌ وفاته:

- ‌ترجمة موجزة لمصنف الشمائل

- ‌ جواهر الدّرر في مناقب ابن حجر

- ‌تنبيهبيان المقصود بالرموز الواردة بالشرح

- ‌1 - باب: ما جاء فى خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌2 - باب: ما جاء فى خاتم النبوة

- ‌3 - باب: ما جاء فى شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌4 - باب: ما جاء فى ترجّل رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌5 - باب: ما جاء فى شيب رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌6 - باب: ما جاء فى خضاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌7 - باب: ما جاء فى كحل رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌8 - باب: ما جاء فى لباس رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌9 - باب: ما جاء فى عيش رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌10 - باب: ما جاء فى خف رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌11 - باب: ما جاء فى نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌12 - باب: ما جاء فى ذكر خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌13 - باب: ما جاء فى تختم رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌14 - باب: ما جاء فى صفة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌15 - باب: ما جاء فى صفة درع رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌16 - باب: ما جاء فى صفة مغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌17 - باب: ما جاء فى عمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌18 - باب: ما جاء فى صفة إزار رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌19 - باب: ما جاء فى مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌20 - باب: ما جاء فى تقنع رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌21 - باب: ما جاء فى جلسته صلى الله عليه وسلم

- ‌22 - باب: ما جاء فى تكأة رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌23 - باب: ما جاء فى اتكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌24 - باب: ما جاء فى أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌25 - باب: ما جاء فى صفة خبز رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌26 - باب: ما جاء فى إدام رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌27 - باب: ما جاء فى صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام

- ‌28 - باب: ما جاء فى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الطعام، وبعد الفراغ منه

- ‌29 - باب: ما جاء فى قدح رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌30 - باب: ما جاء فى صفة فاكهة رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌31 - باب: ما جاء فى صفة شراب رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌32 - باب: ما جاء فى شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌33 - باب: ما جاء فى تعطر رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌34 - باب: كيف كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌35 - باب: ما جاء فى ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌36 - باب: ما جاء فى صفة مزاح رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌37 - باب: ما جاء فى صفة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم «فى الشعر»

- ‌38 - باب: ما جاء فى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم «فى السّمر»

- ‌39 - باب: ما جاء فى صفة نوم رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌40 - باب: ما جاء فى عبادة النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌41 - باب: صلاة الضحى

- ‌42 - باب: صلاة التطوع فى البيت

- ‌43 - باب: ما جاء فى صوم رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌44 - باب: ما جاء فى قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌45 - باب: ما جاء فى بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌46 - باب: ما جاء فى فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌47 - باب: ما جاء فى تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌48 - باب: ما جاء فى خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌49 - باب: ما جاء فى حياء رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌50 - باب: ما جاء فى حجامة رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌51 - باب: ما جاء فى أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌52 - باب: ما جاء فى عيش رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌53 - باب: ما جاء فى سن رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌54 - باب: ما جاء فى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌55 - باب: ما جاء فى ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌56 - باب: ما جاء فى رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم

الفصل: ‌48 - باب: ما جاء فى خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم

‌48 - باب: ما جاء فى خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم

ــ

(باب ما جاء فى خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم

هو بضم فسكون أو ضم مراد وفى الأصل المفتوح الأول كالشرب والشرب، لكن خص المفتوح بالهيئات والسور المدركة بالبصر، والمضموم بالقوى المدركة بالبصيرة، فهو ملكة إنسانية ينشأ عنها جميل الأفعال، وكمال الأحوال، وهو الصورة الباطنة من النفس، وأوصافها، ومعانيها المختصة بها، بمنزلة خلق للصورة الظاهرة، وأوصافها، ومعانيها، وأوصافها حسنة وقبيحة، لكن تعلق الكمال وضده، بأوصاف الأولى أكثر منه بأوصاف الثانية، ومن ثم تكررت الأحاديث فى مدح حسن الخلق، وأصل هذا الباب أن الله خلق الإنسان، وجعل له قلبا يعقل منه فيه فبكمال العقل؛ تقتبس الفضائل، وتجتنب الرذائل، وإن كان خبر: «إن الله لما خلق العقل قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال:

أدبر فأدبر، قال: ما خلقت خلقا أشرف منك، فبك آخذ، وبك أعطى» كذبا موضوعا باطلا من سائر طرقه، ومدح العقل للعلم به عند كل أحد، غنى عن مثل هذا الكذب ومحله القلب على الأصح، ومن ثم كان إذا صلح القلب صلح سائر الجسد كله كما فى الحديث، وجعل سبحانه القلوب محل السر والإخلاص الذى هو سر الله يودعه قلب من يشاء من عباده، فأجل قلب أودعه ذلك قلبه صلى الله عليه وسلم، وقد جعل تعالى النفوس أعلاما على أسرار القلوب، فمن تحقق قلبه بسر الله الأكبر اتسعت أخلاقه بجميع الخلق والمحاسن الظاهرة، مما لم يشاركه فيه مخلوق أيضا، وتلك آيات على سر قلبه الشريف، كما تقرر، ومن ثم ورد:«أنه أوسع قلب اطلع الله عليه» أى: لما حباه به من شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر، والشق المتكرر كما مر بيانها، واختلف: هل حسن الخلق غريزة، أو مكتسب؟ فقيل: غريزة، لخبر البخارى:«إن الله قسم أخلاقكم بينكم كما قسم أرزاقكم» ، وقيل: مكتسب، لما صح فى خبر الأشج: إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة، قال: يا رسول الله قديمان كان فىّ، أو حديثان؟ قال:

قديما، قال: الحمد لله الذى جبلنى على خلقين يحبهما» فترديد السؤال عليه، وتقريره يشعر بأن منه ما هو جبلى ومنه ما هو مكتسب، وهذا هو الحق، ومن ثم قال القرطبى:

هو جبلة فى نوع الإنسان، وهم متفاوتون فيه، فمن غلبه حسنه فهو المحمود، وإلا أمر بالمجاهدة حتى يصير حسنا، وبالرياضة حتى يزيد حسنه وصح: «اللهم حسنت خلقى

ص: 495

328 -

حدثنا عباس بن محمد الدورى، حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ حدثنا ليث بن سعد، حدثنى أبو عثمان: الوليد بن أبى الوليد، عن سليمان بن خارجة، عن خارجة بن زيد بن ثابت، قال:

ــ

فحسن خلقى»، وفى مسلم فى دعاء الافتتاح:«واهدنى لأحسن الأخلاق لا يهدى لأحسنها إلا أنت» والظاهر أنه لما أراد بذلك العبودية، والخضوع لله، وإلا فهو مجبول على الأخلاق الكريمة فى أصل جبلته بالفضل الوهبى والجود الإلهى، من غير رياضة ولا تعب، بل لم تزل أنوار المعارف تشرق فى قلبه حتى اجتمع فيه من خصال الكمال ما لا يحيط به حد ولا يحصره عد، ومن ثم أثنى الله تعالى عليه فى كتابه العزيز فقال:

وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وَعَلَّمَكَ مالَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اَللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً، فوصفه بأنه عظيم فى قوته العملية والعلمية، وبأنه مغمور فى الثانية، مستغرق فيهما، مشتغل عن الأولى، ووصفه بالعظيم مع أن الغالب وصف الخلق بالكرم أى: السماحة والدعابة، إشارة إلى أن خلقه لم يقصر على ذلك؛ بل كان رحيما بالمؤمنين رءوفا بهم، شديدا على الكفار، غليظا عليهم، مهابا فى صدور الأعداء، منصورا بالرعب منه مسيرة شهر، فوصف بالعظيم، ليعم الإنعام والانتقام، لكن مظاهر الأول فيه أكثر، ومن ثم ورد بسند ضعيف:«إن الله بعثنى بمكارم الأخلاق، وكمال محاسن الأفعال» . وفى الموطأ بلاغا. «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» كيف وقد أدب بالقرآن؟ كما قالت عائشة:

«كان خلقه القرآن» قال العارف الشهاب السهروردى: فيه رمز غامض، وإيما خفى إلى الأخلاق الربانية، فاحتشمت الحضرة الإلهية أن تقول: كان متخلقا بأخلاق الله، فعبرت عن هذا بأن خلقه القرآن، استحياء من سبحات الجلال، وستر اللحان، بلطيف المقال، لوفور عقلها، وكمال أدبها انتهى، فأوصاف خلقه العظيم لا تتناهى، كما أن معانى القرآن لا تتناهى، وهذا غاية فى الاتساع لا ينتهى لانتهائها، ومن ثمة سعت أخلاقه أخلاق هذا العالم فلهذا أرسله الله إلى الثقلين الإنس والجن، وكذا الملائكة، بل وإلى كافة الخلق كما فى مسلم.

328 -

(نفر) يقع على الثلاثة إلى العشرة لا واحد له من لفظه. (ماذا أحدثكم)

328 - إسناده ضعيف: فيه: سليمان بن خارجة: مجهول. رواه الطبرانى فى الكبير (4882)، والبغوى فى شرح السنة (3573)، كلاهما من طريق سليمان بن خارجة به فذكره.

ص: 496

«دخل نفر على زيد بن ثابت، فقالوا له: حدّثنا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

ماذا أحدّثكم؟. كنت جاره فكان إذا نزل عليه الوحى بعث إلىّ فكتبته له، فكنّا إذا ذكرنا الدّنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطّعام ذكره معنا، فكلّ هذا أحدّثكم عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم».

329 -

حدثنا إسحاق بن موسى، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن

ــ

كأنهم طلبوا الإحاطة بأحواله صلى الله عليه وسلم فتعجب من ذلك، لأنها لا يمكن الإحاطة بها، بل ولا ببعضها من حيث الحقيقة والكمال الذى لا نهاية له، فأفادهم بهذا التعجب رد ما وقع فى نفوسهم، ثم أفادهم بعض ذلك على وجه يدل على غاية ضبط وإتقان لما يرويه، فقال:(كنت جاره. . .) إلخ أى: بيتى قريب من بيته فلى خبرة وإحاطة بأحواله أتم من غيرى. (بعث إلى) فيه مزيد اعتنائه بأمر الدين. (فكتبته) أى الوحى فهو من جملة كتبة الوحى بل أجلهم، ومن ثم كان يكتب له أيضا الكتب التى يرسلها للملوك وغيرهم، وهو أحد الأربعة الذين حفظوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد الثلاثة الذين جمعوا الصحف فى خلافة أبى بكر بأمره لعمر لهم بذلك، وهذا هو الجمع الأول، والثانى كان فى زمن عثمان، وهو الذى استمر عليه الأمر، وهو أيضا أعلم الصحابة بالفرائض، كما فى الحديث الصحيح:«أفرضكم زيد» . (ذكره معنا. . .) إلى آخره فيه دليل ظاهر على كمال خلقه، وحسن معاشرته، وغاية تلطفه بأصحابه صلى الله عليه وسلم ليزيد إقبالهم عليه، واستفادتهم منه. (فكل) بالرفع كما هو الرواية، ويجوز النصب فالتقدير: أحدثكم إياه. (هذا. . .) إلخ أعاده ليؤكد به الحديث، ويظهر اهتمامه به، ولا ينافى هذا ما تقرر فى الباب قبل هذا فى أحواله فى مجلسه، لأن ذكر الدنيا والطعام، قد يقترن به فوائد علمية، أو أدبية، وتقرير خلوه منهما، ففيه بيان جواز تحدث الكبير مع أصحابه فى المباحات، ومثل هذا البيان واجب عليه صلى الله عليه وسلم.

329 -

(العاصى) الجمهور على كتابته بالياء وحذفها لغة، كما قرأ به السبعة فى

329 - إسناده ضعيف: فيه محمد بن إسحاق وهو مدلس، وقد عنعنه ولم يصرح بالتحديث. وقد رواه الهيثمى فى مجمع الزوائد (9/ 15)، وقال: رواه الطبرانى، وإسناده حسن. قلت: بينا علة الضعف. وهى تدليس محمد بن إسحاق، وعدم تصريحه بالتحديث.

ص: 497

إسحاق، عن زياد بن أبى زياد، عن محمد بن كعب القرظى، عن عمرو بن العاص، قال:

«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بوجهه وحديثه على أشرّ القوم، يتألفهم بذلك.

فكان يقبل بوجهه وحديثه علىّ، حتّى ظننت أنّى خير القوم. فقلت: يا رسول الله: أنا خير أو أبو بكر؟ فقال: أبو بكر. فقلت: يا رسول الله: أنا خير أم عمر؟ فقال، عمر. فقلت: يا رسول الله: أنا خير أم عثمان؟ فقال: عثمان: فلمّا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدقنى، فلوددت أنّى لم أكن سألته».

ــ

الكبير المتعال. (أشر القوم) استعمال الألف فيه لغة قليلة هكذا والأكثر شر، وكذا يقال فى خير وأخير. (يتألفهم) جملة استئنافية من أسلوب الحكيم كأنه قيل: لما يفعل ذلك؟ قال: يتألفهم أى يستأنفهم لتزداد رغبتهم فى الإسلام، والضمير للأشر، لأنه جمع فى المعنى، أو للقوم، لأن التألف كان عاما لجميعهم، لكنه يزيد فى الأشر، ولا ينافى هذا ما تقدم مما يدل على استواء أصحابه فى إقباله عليهم، لأن ذلك حيث لا عذر هنا تخصيص بالإقبال بالأشر، إنما هو لعذر التألف. (حتى ظننت أنى خير القوم) هذا من عظيم تألفه، وحسن معاشرته، وكريم خلقه صلى الله عليه وسلم فى التألف مر هنا، وظنه ذلك لأنه كان حديثا فى الإسلام، إذ إسلامه قريب فتح مكة كخالد بن الوليد رضى الله عنه فكان لا يعرف شيمته صلى الله عليه وسلم من التألف، فظن بكثرة إقباله عليه أنه خير القوم فسأله عما يأتى قبل التفريع فى قوله:«فكان يقبل» اهه يقتضى كما هو الظاهر أن يقال: حتى ظننت أنى أشر القوم، ولذا فسر بعضهم إلى خلاف ذلك الظاهر فقال: الفاء تعليلية لا تفريعية انتهى، ويجاب: بأنه رضى الله عنه حكى شيمته صلى الله عليه وسلم باعتبار ما فى باطن الأمر لما عرضها بعد وباعتبار ما ظنه لجهله بهذا أولا فالتفريع بالاعتبار الأول، والظن بالاعتبار الثانى، وحاصله: أنه لما أقبل عليه ظن أنه خير القوم، وفى الحقيقة: أن إقباله عليه يدل على أنه شر القوم كما هو عادته فى التألف، فتأمل ذلك، فإنه مهم ليزيد إقبالهم عليه، واستفادتهم منه. (فصدقنى) أجاب سؤالى بجواب خفى، والفاء فى جواب لما مر على ما فى أكثر النسخ سائغة كما صرح به بعض أئمة النحو أى لكنها خلاف الغالب، ولم يزدد ذلك من قال: إنها زائدة، والجواب بعدها مقدر أى: لما سألته فصدقنى ندمت، وح فقوله:(فلوددت) عطف على فصدقنى على الأول، وعلى ندمت المقدر على

ص: 498

330 -

حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جعفر بن سليمان الضبعى، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال:

«خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لى: أفّ قطّ، وما قال لشىء صنعته لم صنعته، ولا لشىء تركته لم تركته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا، ولا مسست خزا ولا حريرا ولا شيئا كان ألين من كفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكا قطّ، ولا عطرا كان أطيب من عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم» .

ــ

الثانى. (أنى لم أكن سألته) أعاد ذلك لأنه قبل السؤال كان يظن أن إقباله صلى الله عليه وسلم لخيريته، فلما سأل وبان له أن إقباله إنما هو للتألف، وأن زيادته ينبئ عن الشر، فإن الإقبال ربما أنبأ عن شر عنده، فندمه لذلك، بل ولظهور خطأ ظنه الذى يستحق منه مثله، وهذا جواب ظاهر، ووقع لبعضهم هنا ما لا يفهم بعضه، ولا ينبغى نقله فاجتنبه، والحامل لعمرو على ذلك: بيان ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من عظيم التألف، ليقتدى به أمته فى ذلك، وإرشادا للسائل إلى أنه ينبغى أن لا يسأل عن شىء، إلا بعد تحقق أمره، وإلا بان خطؤه، وظهرت فضيحته وفى نسخة مصححة:«فصدّقنى» بالتشديد، قيل: وجهه غير ظاهر انتهى، ويوجه: بأنه صدقه فى ظنه أنه خير أصحابه لجهله بعادته، فلذلك لم يعمقه فى تطلعه إلى أفضليته حتى على الشيخين، وهذا معنى صحيح، فليحمل التشديد عليه، وعلى نسخة:«صدقنى» بلا فاء تكون جملة حالية بتقدير قد سواء فى ذلك المخفف والمشدد.

330 -

(عشر سنين) هى أكثر الروايات، ورواية مسلم:«تسع سنين» وهى محمولة على التحديد، والأولى على التقريب الفاء للكسر، إذ خدمة أنس له إنما هى فى أثناء السنة الأولى. (أف) اسم فعل للتضجر والتأوه يستعمل فى كل ما يستقذر للواحد والاثنين، والجمع، والمذكر، والمؤنث بلفظ واحد ولغاتها عشر معروفة. (قط) بضم الطاء المشددة مع فتح أوله، وضمه وبفتح فسكون، ثم الكسر مع التشديد وعدمه، وهى لتوكيد نفى الماضى. (وما قال. . .) إلخ فيه بيان كمال خلقه، وحسن عشرته،

330 - صحيح: رواه الترمذى فى البر والصلة (2015)، بسنده ومتنه سواء، ورواه البغوى فى شرح السنة (3558)، من طريق المصنف به فذكره.

ص: 499

331 -

حدثنا قتيبة بن سعيد، وأحمد بن عبدة الضبى، والمعنى واحد، قالا:

حدثنا حماد بن زيد، عن سلم العلوى، عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«أنّه كان عنده عليه السلام رجل به أثر صفرة. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يواجه أحدا بشىء يكرهه، فلمّا قام، قال للقوم: لو قلتم له يدع هذه الصّفرة» .

ــ

وعظيم حلمه، وصبره وفى ذلك فضيلة تامة لأنس، لأنه لم يرتكب فى تلك السنين من أمور الخدمة ما يقتضى المؤاخذة شرعا، إذ سكوته صلى الله عليه وسلم عن الاعتراض عليه يستلزم ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يسكت على حرام. (وكان) تعميم بعد تخصيص، لئلا يتوهم أن هذا شأنه مع أنس فقط. (من أحسن) لا ينافى كونه أحسن ألا ترى أنك لو قلت: زيد من أفضل علماء البلد لم يناف ذلك كونه أفضلهم؟ إذ الأفضل المتعدد بعضه أفضل من بعض، فتأمله مع جواب بعضهم عنه: بأن كان للاستمرار والدوام، فإذا كان دائما من أحسن الناس خلقا كان أحسن الناس خلقا انتهى، يظهر لك مما لا يخفى على ذى ذوق سليم. (خزا) هو مركب من حرير وغيره، وهو مباح إن لم يزد الحرير وزنا، ولا عبرة بزيادة الظهور فقط. (ولا شيئا) تعميم بعد تخصيص. (شممت) بكسر الميم الأولى ويجوز فتحها. (ولا عطرا) تعميم بعد تخصيص أيضا.

331 -

(لا يكاد يواجه) أى لا يقرب من أن يقابل أحدا بشىء يكرهه، وهذا لتضمنه نفى القرب من المواجهة أبلغ من لا يواجه. (لو قلت) للشرط فالجزاء محذوف أى:

لكان أحسن أى: لأن فيه نوع تشبه بالنساء، وهو من غير قصد التشبه بهن مكروه، أو

331 - إسناده ضعيف: رواه أبو داود فى الترجل (4182)، وفى الأدب (4789)، من طريق حماد بن زيد به فذكره ورواه أحمد فى المسند (3/ 133،154)، والنسائى فى اليوم والليلة (236)، كلاهما من طريق حماد بن زيد به فذكره. وقال أبو داود: سلم ليس هو علويا، كان يبصر فى النجوم، وشهد عندى عدى بن أرطأة على رؤية الهلال، فلم يجز شهادته. قلت: ضعف الحافظ سلم العلوى، وقال ابن حبان: منكر الحديث على قلته لا يحتج به إذا وافق الثقات، فكيف إذا انفرد. وكان شعبة شديد الحمل عليه اه، انظر: المجروحين (1/ 343)، وتهذيب التهذيب (4/ 135).

ص: 500

332 -

حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبى

ــ

للتمنى. (يدع هذه الصفرة) الظاهر أن ذلك الأثر لم يكن محرما، وإلا لم يؤخره صلى الله عليه وسلم أمره بتركه إلى مفارقته للمجلس، فزعم بعضهم: أن غضبه صلى الله عليه وسلم عند انتهاك المحارم لا ينافى تفويضه لغيره، والأمر بإزالتها، وإن أدى إلى ترافيها غفلة عن كلام الأئمة فى بحث الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر أنه يجب على القادر إزالة المنكر فورا بلسانه، أو بيده، ولا يجوز له أن يستنيب غيره فى ذلك إن أدت إلى الاستنابة تأخير ذلك المنكر ولو حظة، وهو صلى الله عليه وسلم قد سمع كلام هذا الرجل، ولم يأمرهم أن يقولوا له: أزل هذا، إلا بعد قيامه من المجلس، فأخّر الإزالة إلى انقضاء المجلس، وهذا لا يقوله إلا جاهل بالفقه وقواعده، فتعين ما ذكرته، أن ذلك الأثر الذى كان عليه لم يكن محرما، ويؤيد ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى على عمرو بن العاص ثوبين معصفرين أمره فورا بإزالتهما، فإن قلت: لم أمر هنا عمرا ومن ثمة أقامهم فى ذلك؟ قلت: بالتقرر أن عمرا عليه المحرم بخلاف ذلك الرجل، وبفرض عدم تحريم المعصفر الذى قال به كثيرون فوجهه: أن عمرا يفرح بذلك ويبادر إلى امتثاله، وذلك الرجل لعله كان قريب عهد بالإسلام، فخشى عليه أن يأمره بإزالة ما عليه ففوضه لغيره، لا على وجه الإلزام به، وهذا مما يصرح أيضا به لم يكن محرما، وقول بعضهم: إنما كره الصفرة، لأنها علامة لليهود، ومخصوصة بهم، ليس فى محله، لأن جعل الصفرة علامة لهم إنما حدثت فى بعض البلاد كمصر منذ زمن قريب، ففى الأوائل للجلال السيوطى: أول من أمر بتغيير أهل الذمة زيهم المتوكل، وفى السكردان لابن أبى حجلة: لبس النصارى العمائم الزرق، واليهود العمائم الصفر، والسامرة العمائم الحمر سنة سبع ومائة، وسبب ذلك: أن مغربيا كان جالسا بباب القلعة عند بيبرس الحاسنكرد سلام فحضر بعض كتاب النصارى بعمامة بيضاء، فقام له المغربى، وتوهم أنه مسلم، ثم ظهر أنه نصرانى، فدخل للسلطان الملك، الناصر محمد بن قلاوون يفاوضه فى تغيير زى أهل الذمة، ليمتاز المسلمون عنهم، فأجابهم لذلك انتهى.

332 -

(الجدلى) يفتح الجيم والدال المهملة، نسبة إلى جديلة قبيلة. (فاحشا) ذا

332 - صحيح: رواه المصنف فى البر والصلة (2016)، بسنده ومتنه سواء، ورواه الإمام أحمد فى مسنده (6/ 174)، وأبو داود الطيالسى فى مسنده (1520)، كلاهما من طريق شعبة به فذكره.

ص: 501

إسحاق، عن أبى عبد الله الجدلى، واسمه عبد بن عبد، عن عائشة أنها قالت:

«لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا، ولا متفحّشا، ولا صخّابا فى الأسواق ولا يجزى بالسّيّئة، ولكن يعفو ويصفح» .

ــ

فحش فى أقواله وأفعاله، وهو ما يخرج عن مقداره حتى يستقبح، واستعماله فى القول أكثر منه فى الفعل والصفة. (ولا متفحشا) أى متكلفا للفحش من ذلك، وهذا من عظيم فصاحة عائشة وبلاغتها وسعة علمها وفقهها، فإنها نفت عنه صلى الله عليه وسلم قول الفحش والتفوه به طبعا وتكلفا. (ولا صخابا) من الصخب بالصاد والخاء محركة، وهو الضجر واضطراب الأصوات للخصام. (فى الأسواق) لأنه ليس ممن يتنافس فى الدنيا وجمعها حتى يحضر الأسواق لذلك، فذكر، إما لكونها محل ارتفاع الأصوات لذلك، لا لإثبات الصخب فى غيرها، أو لأنه إذا انتفى فيها انتفى فى غيرها بالأولى، والمراد بالمبالغة هنا:

فى أصل الفعل على حد قوله تعالى: وَمارَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ وفى الآية أجوبة أخرى ذكرتها فى شرح همزية صاحب بردة المديح، ولكن وجهه أن ما قبل لكن ربما يتوهم أنه ترك الجزاء عجزا فاستدركه بذلك. (يعفو) بباطنه. (ويصفح) يعرض بظاهره امتثالا لقوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاِصْفَحْ إِنَّ اَللهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ وحسبك عفوه عن أعدائه المحاربين له المبالغين فى أذاه حتى كسروا رباعيته، وشجوا وجهه يوم أحد، فشق ذلك على أصحابه فقالوا: لو دعوت عليهم، فقال:«إنى لم أبعث لعّانا ولكن بعثت داعيا ورحمة اللهم اغفر لقومى» أو «اهد قومى فإنهم لا يعلمون» أى اغفر لهم ذنب الشجة لا مطلقا، وإلا لأسلموا، قاله ابن حبان، وانظر لجميل العفو مع قوله يوم الخندق:«شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، اللهم املأ بطونهم نارا» لأن ذلك حقه فعفى عنه، وهذا حق الله، فلم يعف عنه، إذ عفوه وصفحه، إنما كان فيما يتعلق بحقه، وقد روى الطبرانى، وابن حبان، والحاكم، والبيهقى عن أحد أحبار اليهود الذين أسلموا أنه قال: «لم يبق من علامة النبوة شىء، إلا وقد عرفته فى وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أخبرهما منه يسبق حلمه جهله، أى: لو تصور منه جهل، أو مراده بالجهل الغضب ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما فكنت أنظر به، لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله، فابتعت منه تمرا إلى أجل فأعطيته الثمن، فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة أتيته، فأخذت بمجامع قميصه، ونظرت إليه بوجه غليظ ثم قلت: ألا تقضى يا محمد حقى، فو الله إنكم يا بنى عبد المطلب مطل، فقال

ص: 502

333 -

حدثنا هارون بن إسحاق الهمدانى، حدثنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت:

«ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده شيئا قطّ، إلا أن يجاهد فى سبيل الله، ولا ضرب خادما ولا امرأة» .

ــ

عمر: أى عدو الله، أتقول لرسول الله ما أسمع؟ فو الله لولا ما أحاذر قومه لضربت بسيفى رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر فى سكون وتودد وتبسم، ثم قال: أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، تأمرنى بحسن الأداء، وتأمره بحسن التقاضى اذهب به يا عمر فاقضه حقه، وزد عشرين صاعا مكان مفازعته» ففعل فقلت: يا عمر كل علامات النبوة قد عرفتها فى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أخبرهما-يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الغضب عليه إلا حلما-فقد اختبرتهما فأشهدك أنى قد رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، ومحمد نبيا، وروى أبو داود:«أن أعرابيا جره بردائه حتى أثر فى رقبته الشريفة لخشونته، وهو يقول: احملنى على بعيرى هاتين-أى: حملهما لى طعاما-فإنك لا تحملنى من مالك، ولا مال أبيك فقال له صلى الله عليه وسلم: لا، وأستغفر الله ثلاث مرات لا أحملك حتى تقيدنى من جذبتك، فقال: لا والله أقيدكها ثم دعى رجلا فقال له: احمل له على بعيريه هذين على بعير تمرا، وعلى الآخر شعيرا» ورواه البخارى وفيه: «أنه لما جذبه تلك الجذبة الشديدة التفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء» وفى هذا عظيم عفوه، وصفحه، وصبره على الأذى نفسا ومالا، وتجاوزه عن جفاة الأعراب، وحسن تدبيره لهم مع أنهم كالوحش الشاردة، والطبع المتنافر البارد، والحمر المستنفرة التى فرت من قسورة، فمع ذلك سامحهم، واحتمل جفاهم، وصبر على أذاهم، إلى أن انقادوا إليه جميعا واجتمعوا، وقاتلوا دونه أهلهم، وآباءهم، وأبناءهم، واختاروه على أنفسهم وأوطانهم.

333 -

(شيئا) أى داعيا، لأنه صلى الله عليه وسلم ربما ضرب مركوبه وقد وكز بعير جابر حتى سبق

333 - إسناده صحيح: رواه مسلم فى الفضائل (2328)، وابن ماجه فى النكاح (2218)، وأحمد فى المسند (6/ 32، 229،232)، والدارمى فى النكاح (2/ 147)، أربعتهم من طريق هشام بن عروة به فذكره نحوه.

ص: 503

334 -

حدثنا أحمد بن عبدة الضبى، حدثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن الزهرى، عن عائشة، قالت:

«ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصرا من مظلمة ظلمها قطّ، ما لم ينتهك من محارم الله شىء، فإذا انتهك من محارم الله شىء كان من أشدّهم فى ذلك غضبا، وما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن مأثما» .

ــ

القافلة بعد أن كان متأخرا عنها، إلا أن يجاب بأن وقع فى بعير جابر كالمعجزة وضربه لمركوبه لم يكن مؤذيا فالكلام إنما هو فى المؤذى. (إلا أن يجاهد) احتاج إليه، لأنه وقع منه ذلك فى الجهاد حتى أنه قتل اللعين أبى بن خلف بأحد. (ولا ضرب خادما ولا امرأة) خصهما مع دخولهما فى شيئا اهتماما بشأنهما، ولكثرة وقوع ضرب هذين، والاحتياج إليه، ويؤخذ من تركه صلى الله عليه وسلم له فيه؛ أن ضربهما وإن جاز بشرطه المذكور فى الفقه، الأولى تركه، قالوا: بخلاف الولد، فالأولى تأديبه، ويوجه: بأن ضربه لمصلحة تعود إليه، فلم يندب العفو، بخلاف ضرب ذينك، فإنه لحظ النفس، فالعفو فيهما مخالفة لهواها، وكظما لغيظها.

334 -

(ما رأيت) ما علمت إذ هو الأنسب بالمقام. (منتصرا) منتقما. (مظلمة) هى بفتح الميم واللام مصدر، وبكسر اللام أو ضمها: ما أخد أو أحل من معصوم عدوانا، سواء كان فى البدن، أم العرض، أم المال، أم الاقتصاص. (ظلمها) المنصوب على الأول مفعول مطلق، وعلى الثانى مفعول به، وظلم يتعدى لمفعولين كما فى القاموس، خلافا لمن زعم قصره على واحد، فقد ظلم بها، وإن لم ينتقم صلى الله عليه وسلم منها، مع أن مرتكبها قد باء بإثم عظيم سيما لبيد بن الأعصم الذى سحره، واليهودية التى سمته، لأنه حق آدمى يسقط بعفوه بخلاف حقوق الله التى ذكرها بقوله:(ما لم تنتهك) ترتكب. (محارم الله) جمع محرم أى شىء حرمه الله على عباده، فإن قلت: مظلمته صلى الله عليه وسلم إيذاء، وإيذاؤه كفر، وهو حق الله كيف يسقط بعفوه؟ قلت: لا، ثم إن مطلق

334 - إسناده صحيح: رواه البخارى فى المناقب (3560)، وفى الأدب (6126)، وفى الحدود (6786)، ومسلم فى الفضائل (2327)، وأبو داود فى الأدب (4785)، وأحمد فى المسند (6/ 114،116،182، 223،262)، ومالك فى الموطأ (2/ 902)، خمستهم من طرق عن عائشة رضى الله عنها.

ص: 504

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

إيذائه كفر ألا ترى إلى عامر ممن جذب رداءه حتى أثر فى عنقه فعفى عنه وأعطاه وحمل بعيره؟ والحاصل: أن إيذائه إنما يصدر من مسلم جاف، وهذا له نوع عذر، فلم يكفر وعفى عنه، أو من منافق وقد أمر بتحمل أذاهم لئلا تنفر الناس عنه كما قيل ذلك له، وقد قيل له:«ألا تقتلهم؟ فقال: لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» أو من كافر معاهد فمصلحة تألفه اقتضته عدم مؤاخذته لجريمته أو حربى وهو غير ملتزم للأحكام، ولبعضهم هنا ما لا يفهم لعدم إحاطته لكلام الأئمة فاجتنبه. (من أشدهم) من زائدة، لأنه كان أشدهم كما صرحت به روايات أخر كذا قيل: ومر فى «من أحسنهم» ما يرده، وإن كونه من أشدهم، لا ينافى كونه أشدهم غضبا فينتقم ممن ارتكب ذلك لما علمت، أنه لا يقبل العفو من المحارم التى ينتقم لها، ولا يعفو عنها حتى الآدمى، إذا صمم فى طلبه، وفيه الحث على العفو، والحلم واحتمال الأذى، والانتصار لدين الله، وأنه يسن لكل ذى ولاية التخلق بهذا الخلق الكريم، فلا ينتقم لنفسه، ولا يهمل حق الله، على أنهم أجمعوا على أن القاضى لا يجوز له أن يقضى لنفسه، ولا لمن تقبل شهادته له، ولا ينافى ما فى الحديث، أمره صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خطل ونحوه، ممن كان يؤذيه، لأنهم كانوا مع ذلك ينتهكون حرمات الله، أو أن عفوه إنما كان فى ذنب لا يكفر به مرتكبه، كمن جفى فى رفع صوته عليه، ومن جذبه بردائه حتى أثر فى رقبته صلى الله عليه وسلم، بخلاف أولئك، فإنهم كفروا بإيذائه، فلم يمكن العفو عنهم، ومن ثم اقتص صلى الله عليه وسلم ممن نال من عرضه، ولا يرد ذلك مجاوزته عن المنافقين مع ما قصه الله عنهم، وما هو مشهور من أحوالهم معه، لأنهم كانوا مسلمين ظاهرا فخشى من تحدث الناس بأن محمدا يقتل أصحابه، وروى الحاكم «ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما بذكر-أى بصريح اسمه-وما ضرب بيده شيئا قط، إلا أن يضرب فى سبيل الله، ولا سئل شيئا قط فمنعه، إلا أن يسأل مأثما، ولا انتقم لنفسه من شىء، إلا أن تنتهك حرمات الله فتكون لله فينتقم» .

(وما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم. . .) إلخ أى إما بأن يخبره الله فيما فيه عقوبتان، فيختار الأخف، أو فى قتال الكفار وأخذ الجزية، فيختار أخذها، أو فى حق أمته فى المجاهدين فى العبادة والاقتصاد، فيختار الاقتصاد، وإما بأن يهمزه المنافقون والكفار فعلى هذا يتضح قولها. (ما لم يكن مأثما) أى مؤثما أى: إثما، كما فى رواية البخارى، ومنها أيضا:«فإن كان إثما كان أبعد الناس منه» ، وفى رواية للطبرانى: «ما لم يكن لله

ص: 505

335 -

حدثنا ابن أبى عمر، حدثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن عروة، عن عائشة، قالت:

«استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده، فقال: بئس ابن العشيرة، أو أخو العشيرة، ثمّ أذن له، فألان له القول. فلما خرج، قلت: يا رسول الله قلت ما قلت، ثمّ ألنت له القول: فقال: يا عائشة، إنّ شرّ النّاس من تركه النّاس-أو ودعه النّاس-اتّقاء فحشه» .

ــ

فيه سخط» فالإثم: المعصية، وزعم أنه يشمل ترك المندوب، إنما ينشأ مثله عن الجهل بكلام الفقهاء والأصوليين، وعلى الأول يكون الاستثناء منقطعا، إذ لا يتصور تخيير الله إلا بين جائزين.

335 -

(رجل) هو عيينة بن حصين الفزارى قاله جمع منهم النووى، وكان يقال له الأحمق المطاع، وفى رواية: أنه مخرمة، ولا يبعد أنهما قضيتان، ولم يكن أسلم حقيقة، بل ظاهرا، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يبين حاله ليعرفه من جهله، وكان بينه فى حياته وبعد وفاته، ما دل على ضعف إيمانه. (أو) للشك، ورواية البخارى. «بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة» من غير شك. (العشيرة) القبيلة وإضافة الابن والأخ إليها، كإضافة الأخ للعرب، فى يا أخا العرب، ووصفه له بأنه بئس أخو العشيرة، إما لأنه بين ذلك حاله للجاهل به المريد مخالطته، وهذا من أنواع الغيبة الجائزة الواجبة ثم رأيت الخطابى قال: ليس قوله صلى الله عليه وسلم فى أمته بالأمور التى يتسميهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك من بعضهم فى بعض، بل الواجب عليه أن يبين ذلك وينصح به، ويعرف الناس أمرهم فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة، وقال القرطبى:

فى الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق والفحش ونحو ذلك من جواز مدارتهم اتقاء شرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة فى دين الله، والقاضى عياض قال: لم تكن غيبة

335 - إسناده صحيح: رواه الترمذى فى البر والصلة (1996)، بسنده ومتنه سواء، ورواه البخارى فى الأدب (6032)، (6054)، (6131)، ومسلم فى البر والصلة (2591)، وأبو داود فى الأدب (4791)، وأحمد فى المسند (6/ 38،158،159)، جميعهم من طريق هشام بن عروة به فذكره نحوه.

ص: 506

336 -

حدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا جميع بن عمير بن عبد الرحمن العجلى، حدثنى رجل من بنى تميم من ولد أبى هالة زوج خديجة يكنى أبا عبد الله، عن ابن لأبى هالة، عن الحسن بن على رضى الله عنهما، قال: قال الحسين بن على رضى الله عنهما: سألت أبى عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى جلسائه، فقال:

«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ،

ــ

والله أعلم، ح لم يسلم فلم يكن القول فيه غيبة، أو كان أسلم، فلم يكن إسلامه ناصحا، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يبين ذلك، لئلا يغتر به من لم يعرف باطنه، وقد كانت فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم وبعده أمور تدل على ضعف إيمانه فيكون ما وصفه به صلى الله عليه وسلم من علامات النبوة انتهى، ويؤيد ذلك أنه ارتد فى زمن الصديق رضى الله عنه وحارب، ثم رجع فأسلم، ثم حضر بعد الفتوح فى عهد عمر رضى الله عنه. (فألان له القول) رواية البخارى «تطلق فى وجهه، وانبسط إليه» ، وتطلقه فى وجه عيينة إنما هو للتألف له ليسلم قومه، لأنه كان رئيسهم، وتقتدى به الأمة فى اتقاء شر من هذا سبيله، ومن مداراته، ليسلموا من شره، وغائلته، ولا مداهنة فى ذلك، لأنه كما قال القرطبى كالقاضى حسين: بذل الدنيا لصلاح الدين، وهو صلى الله عليه وسلم إنما بذل له من دنياه حسن عشرته، والرفق فى مكالمته ومع ذلك فلم يمدحه بقول فلم يناقض قوله فيه فعله، فإن قوله فيه قول حق وفعله معه حسن عشرة، فيزول معه مع هذا التقدير الإشكال، ولله الحمد قالا: وأما المدارة:

فهى بذل الدنيا لصلاح الدنيا، أو الدين، أو هما معا، وهى مباحة، وربما استحسنت.

(قلت: ما قلت: ثم ألنت له القول) حاصله: أنك خالفت بين الغيبة والحضور، فلم لم تذمه فى الحضور كما ذممته فى الغيبة فأجابها: بأن عدم ذمه فى حضوره، إنما هو تألفه اتقاء شره. (إن. . .) إلخ رواية البخارى:«متى عهدتينى فحاشا، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره» . (أو ودعه) فيه كقراءة. «ما ودعك ربك» ، بالتخفيف رد لقولهم، أماتوا ماض يدع، إلا أن يريدوا بإمانته ندرته فهو يعتاد استعمالا فصيحا قياسا.

336 -

(دائم البشر): بكسر أوله طلاقة الوجه، وبشاشته وحسن الخلق. (سهل

336 - ضعيف: وتقدم برقم (7)، (217)، (321).

ص: 507

ولا غليظ، ولا صخّاب ولا فحاش، ولا عيّاب، ولا مشاح، يتغافل عمّا يشتهى، ولا يؤيس منه، ولا يجيب فيه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكبار ومالا

ــ

الخلق لين الجانب): سريع العطف جميل الصفح وسهولة خلقه، إما من صعوبته فمعناها أن خلقه الحسن يتعادل فى كل شىء إرادة أو خشونته فمعناها: أنه لا يصدر عن خلقه مؤذ بغير حق. (ليس بفظ): صفة مشبهة ذكرت تأكيدا، أو مبالغة فى المدح، وإلا فهو معلوم من سهل الخلق، إذ هو ضده، لأنه السيئ الخلق وكذا القول فى (غليظ) إذ هو الجافى الطبع القاسى القلب. (ولا صخاب ولا فحاش): مر. (ولا عياب): أى ذى عيب، والمراد هنا بصخاب وما بعده: نفى أصل الفعل، نظير ما مر على حد. وَمارَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ، وروى الشيخان «أنه صلى الله عليه وسلم ما عاب ذواقا قط، ولا عاب طعاما قط، إن اشتهى أكله، وإلا تركه» وهذا فى المباح أما الحرام فكان يعيبه ويذمه، وينهى عنه، وأخذ أئمتنا وغيرهم من هذا، أن من آداب الطعام المتأكدة: أن لا يعاب كمالح، حامض، قليل الملح، غير ناضج، ومن التمثيل بذلك صرح به النووى يعلم أنه لا فرق بين عيبه من جهة الخلقة، ومن جهة الصنعة، وله وجه لكسر قلب الصانع، اللهم إلا إن قصد تأديبه بذلك فلا بأس، وعليه يحمل قول بعضهم: إنما يكره ذمه من جهة الخلقة لا من جهة الصنعة، لأن صنعة الله لا تعاب، وصنعة الآدميين تعاب. (ولا مشاح): اسم فاعل من المفاعلة من الشح أى: ولا بخيل، إذ الشح البخل، وقيل:

البخل أشده، وقيل: البخل مع الحرص، وقيل: البخل فى الجزئيات، كذا قيل فى حكاية هذين، وفى الفرق بين الحرص والبخل نظر كالتخصيص بالجزئيات، إذ من بخل بها بخل بالكليات من باب أولى، فإن أريد بالجزئى الأمر الحقير كان القول فيه وجه، وفى نسخة «ولا مزاح» والمراد: نفى المبالغة فى هذين لا نفى أصلهما لوقوعه أى:

المزاح عنه صلى الله عليه وسلم. (يتغافل): أى يتكلف الغفلة والإعراض. (عما لا يشتهى): من فعل لا ينبغى صدوره عن فاعله، وسؤال شىء منه لا ينبغى سؤاله عنه، ومع ذلك، (ولا يؤيس منه) راجيه أى: لا يصيره أيضا من بره وخيره ويؤيس من قيد فى الأصول بهمزة قبل السين من يئس، أى: قنط وآيسته جعلته قانطا، وفيه لغة أخرى: آيسته بالمد، فهو من أيس، مقلوب يئس، صرح به الصرفيون، وأجمعوا عليه، فهو مهموز العين لا غير، وبهذا رد شارح، وزعم آخر: أن أيس مهموز الفاء أى: لكن عذره أنه نظر إليه بعد القلب وهم نظروا إليه قبله، فقول الأول عن الثانى الويل كل الويل كيف اختير لشرح

ص: 508

يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذمّ أحدا، ولا يعيبه، ولا يطلب عورته،

ــ

كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بضاعته هذه؟ تشنيع فى غير محله على أنه لو سلم خطاؤه فى هذا، هو أخف من الغلط الفاحش فى الأحكام الشرعية والقواعد الأصولية التى وقع فيها هذا الرد، كما قدمت الإشارة إليه فى محالها. (لا يخيبه): إليه لأنه المشرع الأعظم، فلا يفعل، إلا ما يقتدى به فيه، بل يسكت عنه عفوا وتكرما، وفى نسخة «ولا يخيّبه» بالتشديد من التخيب، أى: لا يجعله محروما بالكلية، وفى أخرى:

بالتخفيف من الخيبة بمعنى الحرمان، وهى ترجع إلى التى قبلها خلافا لمن أوهم بينهما فرقا فى أصل المعنى. (ترك نفسه من ثلاث): أى منعها من ثلاث فضمن ترك معنى منع، وهذا أولى من بقائه على أصله لما يلزم عليه من التكلف البعيد الذى وقع لشارح حيث قال ما حاصله: من زائدة فى التعبير أى: ترك ثلاث نفسه، فثلاثة تمييز من النسبة، ولا ينافيه إبدال المعرفة منه لجواز إبدالها من التمييز، وإن لم يصلح تمييزا وبفرض امتناعه هو بدل بعد رده إلى أصله، فالثلاثة بدل عن المفعول فى المعنى بدل كل، إن قدمنا العطف على الربط، وبعض إن أخرناه عنه انتهى. (المراء): الجدال بالباطل فاندفع ما قيل، هذا مشكل بقوله تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (1).

(والإكبار): بالمثلثة طلب الكثير من مال أو نحوه، وبالموحدة جعل الشىء كبيرا بالباطل فلا ينافيه «أنا سيد ولد آدم» (2). (وترك الناس): خصهم لأن القصد بهذه الثلاث رعايتهم كما أن القصد بالثلاث الأولى رعاية نفسه فزعم أنه لا فرق بينهما ليس فى محله وغائر فى ترك الأسلوب بينهما تفننا. (لا يعنيه): يهمه. (لا يذم أحدا): أى بغير حق المرة. (ولا يعيبه): أى يلحق به عيبا لا يستحقه وهذا تأكيد، إذ الذم والعيب مترادفان، إلا أن يقال: الذم إنما يكون اختيارى أو لا ينافى ذلك كونه نقيض المدح، بناء على أنه يكون بالاختيار أيضا والعيب يكون بأعم من الاختيارى وغيره، ثم رأيت من فرق بينهما بأن الذم: يكون فى المواجهة، والعيب: ما كان بالغيبة، وهو مجرد تحكم من غير معنى يساعده. (ولا يطلب عورته): أى أموره الباطنة التى لا يؤدى اطلاع الناس عليها، ولا ينافى هذا ما مر من قوله:«ولا يسأل الناس عما فى الناس» لأن ذلك فى الأمور

(1) سورة النحل: آية (125).

(2)

رواه الحاكم فى المستدرك (3/ 124)، والطبرانى فى الكبير (3/ 90)، والبخارى فى التاريخ الكبير (7/ 400).

ص: 509

ولا يتكلّم إلا فيما رجا ثوابه، وإذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنّما على رءوسهم الطّير، فإذا سكت تكلّموا، لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلّم عنده أنصتوا له حتّى يفرغ. حديثهم عنده حديث أوّلهم. يضحك ممّا يضحكون، ويتعجّب مما يتعجّبون، ويصبر للغريب على الجفوة فى منطقه ومسألته، حتّى إن كان أصحابه

ــ

الظاهرة التى ترتبط بها مصالح وأحكام شرعية كما قدمته، وهذا فى التجسيس، والاطلاع على العورات وهذا لم يقع منه صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: وَلا تَجَسَّسُوا (1).

(رجاء ثوابه): أثره على ثياب عليه لأنه أليق بالأدب، إذ لا يتحتم على الله إثابة أحد وإن بلغ ما بلغ من العظم. (أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطير): كناية عن كونهم عنده كانوا على غاية تامة من السكون، وإطراق الرأس، وعدم الحركة والالتفات، أو عن كونهم مهابين مدهوشين فى هيبته صلى الله عليه وسلم ما إن كلامه عليه أهبة الوحى، وجلالة الرسالة، وأصل ذلك، أن سليمان كان إذا أمر الطير بأن يظلوا أصحابه، غضوا أبصارهم، ولم يتكلموا حتى يسألهم، مهابة منه، قيل للقوم إذا سكتوا مهابة: كأنما على رؤسهم الطير، أو عن كونهم متلذذين بكلامه، وأصل ذلك: أن الغراب يقع على رأس البعير، يلقط منه صغار القراد، فيسكن سكون راحة ولذة، لا يحرك رأسه، خوفا من طيرانه عنه. (وإذا سكت تكلموا): هذا كالذى قبله وبعده، من عظيم أدبهم فى حضرته وخضوعهم بين يديه وإجلالهم له وهيبته عندهم وتوقيرهم له، لشهودهم على شأنه، وكمال مرتبته صلى الله عليه وسلم، وتخلقهم بأخلاقه. (لا يتنازعون عنده الحديث): أى لا يتخاصمون فيه. (حديثهم عنده حديث أولهم): أى أفضلهم، إن كان لا يتقدم غالبا بالكلام بين يديه، إلا أكابر الصحابة فكان يصغى لحديث كل منهم، كما يصغى لحديث أولهم، ويحتمل أن المراد: إذا تكلم بشىء قبله منه، وعلم أنهم موافقوه عليه غالبا لمن من الله به عليهم من تألف قلوبهم، وكمال اتفاقها. (يضحك) إلخ: أى هو تابع لهم ضحكا وتعجبا، لكن علم مما مر أن غالب ضحكه التبسم، وهذا من خلقه العظيم على الجفوة هى الجفاء، والغلظة، وسوء الأدب، مما كان يصدر من جفاة العرب فى منطقهم ومسألتهم. (ليستجلبونهم): أى إلى مجلسه حتى يستفيدون من أسئلتهم ما لا يستفيدونه فى غيبتهم، لأنهم ح يهابون سؤاله والغرباء لا يهابونه، فيسألونه عما بدا لهم فيجيبهم.

(1) سورة الحجرات: آية (12).

ص: 510

ليستجلبونهم ويقول: إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فأرفدوه ولا يقبل الثّناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتّى يجوز فيقطعه بنهى أو قيام».

337 -

حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن بن مهدى، حدثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول:

«ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قطّ فقال: لا» .

ــ

(فأرفدوه): أى أعينوه بالعطاء والصلة. (إلا من مكافئ): أى مقارب فى مدحه غير مفرط بنحو مما أطرت النصارى به عيسى، أو من متحقق الإسلام يمدحه مما يوافق الواقع، وما من يطريه بوصف مما ليس له عما يستحيل على البشر فلا يقبله منه، بل يعنفه ويزجره عنه، وكذلك غير المتحقق الإسلام من المنافقين، ومن قصر فى الثناء عليه، إن لم يصفه بما يليق به بما رفعه الله إليه وأهله. (لا يقبل ثناؤهم): أى لا يفتخر به ولا يعول عليه، وقيل: المراد: لا يقبل الثناء، إلا ممن عليه سابقة نعمة وغلط قائله، بأن أحدا لا ينفك عن نعمته صلى الله عليه وسلم، فالثناء عليه فرض عين. (حتى يجوز): بالجيم والزاى أى: يتجاوز الحد والحق فيقطعه عليه ح، وفى بعض النسخ «بالراء» من الجور والميل. (بنهى أو قيام): عن المجلس فى هذا الحديث من نهاية كماله وعظيم خلقه ورفقه ولطفه، وحلمه، وصبره، وعفوه، وصفحه، وشفقته، ورأفته ورحمته ما لا تعد فوائده، ولا تقضى فوائده.

337 -

(فقال: لا): وكذا رواه الشيخان عن جابر، بل إما أن يعطيه أو يقول له:

ميسورة من القوم فيعده، ويدعو له، فعلم أنه ليس المراد أنه يعطى ما طلب منه جزما، وإنما المراد: أنه لا ينطق بالرد، بل إن كان عنده ما يسأله وساغ الإعطاء أعطاه، وإلا سكت كما فى حديث مرسل لابن الحنفية عند ابن سعد، وقال العز بن عبد السلام:

معناه لم يقل لا مانعا للعطاء، بل اعتذارا كما فى قوله: لا أَجِدُ ماأَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ (1)، وفرق بين هذا:«ولا أحملكم» انتهى، ولا يشكل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للأشعريين لما

337 - إسناده صحيح: رواه البغوى فى شرح السنة (3579) من طريق المصنف فذكره، رواه البخارى فى الأدب (6034)، ومسلم فى الفضائل (2311)، كلاهما من طريق سفيان به فذكره نحوه.

(1)

سورة التوبة: آية (92).

ص: 511

338 -

حدثنا عبد الله بن عمران أبو القاسم القرشى المكى، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عبيد الله، عن ابن عباس، قال:

«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود النّاس بالخير، وكان أجود ما يكون فى شهر رمضان حتّى ينسلخ، فيأتيه جبريل فيعرض عليه القرآن، فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الرّيح المرسله» .

ــ

طالبوه الحملان «والله لا أحملكم» لأن هذا وقع كالتأدب لهم لسؤالهم ما ليس عنده مع تحققهم ذلك بقوله: لا أَجِدُ ماأَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ومن ثم حلف قطعا لطمعهم فى تكلفه الفصيل نحو قرض، أو استيهاب، وعدم الاضطرار له، وأيضا فمحل ذلك، ما إذا قنع السائل بالسكوت، ولم يقنع بنحو وعد أو دعاء للاضطرار ح إلى قوله: لا بمعنى ما قال: «لا» : أى فى حال الاختيار مع عدم تعنت السائل، والاحتياج إلى تألفه أو نحوه.

338 -

(وكان أجود): بالرفع فى الأصح الأظهر على حد أخطب ما يكون الأمير قائما، والتقدير: كان أجود أكوانه إذا كان مستقرا فى رمضان. (حتى ينسلخ): أى يفرغ ففيه تجوز حيث جعل كونه جود، أو مبالغة لا تخفى، وبالنصب فما مصدرية ظرفية والمفضل عليه نفسه باعتبارين، أى: كان مدة كونه فى رمضان أجود منه فى غيره من حيث زيادة اجتهاده، وجوده فيه «وأجود» أفعل تفضيل من الجود، وهو إعطاء ما ينبغى لمن ينبغى، وسبب ذلك: أن نفسه أشرف النفوس، ومزاجه أعدل الأمزجة، ومن هو كذلك يكون فعله أحسن الأفعال، وخلقه أحسن الأخلاق، ومن هو كذلك يكون أجود الناس، وروى الشيخان عن أنس:«كان أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس» (1) واقتصاره على هذه الثلاثة من جوامع الكلم فإنها أمهات الأخلاق، إذ لا يخلو كل إنسان من ثلاث قوى: الغضبية: وكمالها الشجاعة، والشهوية: وكمالها الجود،

338 - إسناده صحيح: رواه البخارى فى بدء الوحى (6)، وفى الصوم (1902)، وفى المناقب (3554)، ورواه مسلم فى الفضائل (2308)، والنسائى فى الصيام (4/ 125)، وفى الكبرى (2405)، وأحمد فى المسند (1/ 131،288،326،363،366،367،373)، وابن سعد فى الطبقات (1/ 368،369)، والبغوى فى شرح السنة (3581)، جميعهم من طرق عن ابن عباس رضى الله عنهما.

(1)

رواه البخارى (10/ 381)، ومسلم (2307).

ص: 512

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

والعقلية: وكمالها النطق بالحكمة، وفى حديث ضعيف «أنا أجود بنى آدم» (1) وهو بلا ريب أجودهم مطلقا، كما أنه أكملهم فى سائر الأوصاف، ولأن جوده لم يقصر على نوع، بل كان بجميع أنواع الجود من بذل العلم والمال، وبذل نفسه لله فى إظهار دينه، وهداته عباده، وإيصال النفع إليهم بكل طريق من إطعام جائعهم، ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمل أثقالهم، وكان جوده صلى الله عليه وسلم كله لله فى ابتغاء مرضاته، إذ بذله المال لمحتاج، أو لمن يتألفه، أو ينفقه فى سبيل الله، وكان يؤثر على نفسه وأولاده، فيعطى عطاء يعجز عنه الملوك، وعيشه فى نفسه عيش الفقراء، فربما مر عليه الشهران لا يوقد فى بيته نارا، وربما ربط الحجر على بطنه الشريف من الجوع، وقد أتاه سبى، فشكت إليه فاطمة رضى الله عنها ما تلقاه من الخدمة، وطلبت منه خادما يكفيها ذلك، فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتحميد والتكبير، وقال:«لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع» ، و «كسته امرأة بردة فلبسها محتاجا إليها فسأله فيها بعض أصحابه فأعطاه إياها» رواه البخارى واستنبط منه الصوفية جواز استدعاء المريد من الشيخ خرقة التصوف تبركا بهم وبلباسهم، كما استدلوا لإلباس الشيخ للمريد بإلباسه صلى الله عليه وسلم أم خالد خميصة سوداء ذات علم، وما يذكره بعضهم من أن الحسن البصرى لبسها من على رضى الله عنه باطل، مع أن الحسن لم يسمع من على رضى الله عنه ولم يرد ولا فى خبر ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم ألبس الخرقة على الصورة المتعارفة بين الصوفية لأحد من أصحابه، ولا أمر أحدا منهم بفعلها، وكل ما يروى فى ذلك صريحا فباطل، ذكر ذلك أحد المتأخرين من المحدثين، نعم لبسها وألبسها بعض منهم تشبيها بالقوم، وتبركا بطريقهم، إذ ورد لبسهم لها مع الصحبة المتصلة إلى كميل بن زياد، وهو صحب عليا اتفاقا، وفى بعض الطرق، اتصالها بأويس القرنى، وهو قد اجتمع بعمر وعلى رضى الله عنهما، وكثير منهم يكتفى بمجرد الصحبة، وتلقين الذكر، وهو الذى آثرناه عن العارفين ممن رأيناه منهم، وفى هذا الحديث والأحاديث التى بعده عظيم سخائه، وجوده وكرمه صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما رواه مسلم: «أنه ما سئل شيئا إلا أعطاه، فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدا يعطى عطاء من لا

(1) رواه عبد الرزاق فى المصنف (20706)، بلفظ (البشر)، ورواه البغوى فى شرح السنة (13/ 258)، وأبو الشيخ فى أخلاق النبى صلى الله عليه وسلم (ص 59،60) بلفظ (الخلق).

ص: 513

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يخاف الفقر»، وأعطى صفوان بن أمية يوم حنين مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة حتى صار أحب الناس إليه بعد أن كان أبغضهم إليه، فكان ذلك سببا لحسن إسلامه، وروى المصنف:«أنه حمل إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير ثم قام إليها فقسمها فما رد سائلا قط حتى فرغ منها» وجاءته امرأة يوم حنين أنشدته شعرا تذكر فيه أيام رضاعته فى هوازن، فرد عليهم ما قيمته خمسمائة ألف ألف. قال ابن دحية: وهذا نهاية الجود الذى لم يسمع بمثله فى الوجود، وفى البخارى «أنه أتى بمال من البحرين فأمر بصبه فى المسجد، وكان أوتى به فخرج إلى المسجد، ولم يلتفت إليه فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدا إلا أعطاه إذ جاء العباس فسأله فقال له:

خذ، فحثى فى ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بعضهم يرفعه، فقال: لا، فقال: ارفعه أنت على، فقال: لا، فنشر منه، ثم ذهب يقله، فلم يستطع، فقال: كالأول، فقال: لا، ثم نثر منه، ثم احتمله، فاتبعه صلى الله عليه وسلم بصره حتى غاب عجبا من حرصه فما قام منها بدرهم»، وفى خبر مرسل «أنه كان مائة ألف» .

(فيأتيه): فاؤه للتعليل لكونه أجود الناس، أى: سبب أجوديته إتيان جبريل له كل ليلة من رمضان كما فى الصحيحين، وإنما كان إتيانه سببا لذلك، لأنه رسول ربه إليه، بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ومنه أنه أمين حضرته، والمتولى لقسمة مواهبه وعطيته «إنما أنا قاسم، والله معط» وذلك موجب نهاية الأجودية، وأيضا فإنه إذا جاءه، وعرض عليه القرآن، تجدد تخلقه بأخلاق ربه، وأفيض عليه غاية جوده، ونهاية قربه ح ويزداد جوده ويتسع، ولا ينافى هذا أن نفس كونه فى رمضان، له دخل فى الأجودية أيضا، باعتبار أنه تخلق بأخلاق الله تعالى وضع رمضان لإفاضته رحمته على عباده فيه أضعاف ما يفيضها عليهم فى غيره، ومن ثم أمر العباد كلهم فيه بمزيد الإنفاق على المحتاجين، والتوسعة على العيال، والأقارب، والمحبين. (من الريح): متعلق بأجود لتضمنه معنى أسرع، ويصح عدم التضمين نظرا لكون المرسلة ينشأ عنها جود كثير أيضا، لأنها تنشر نشر السحاب وتلقحها حتى تملأها ماء، ثم تبسطها حتى تعم الأرض فيصب ماؤها عليها، فيحيى به أموات الأرض.

(المرسلة): بفتح السين أى: المطلقة بمعنى أنه فى الإسراع فى الجود أجود منها وعبر بالمرسلة: إشارة إلى دوام هبوها بالرحمة، وإلى عموم النفع بجوده صلى الله عليه وسلم كما تعم الريح

ص: 514

339 -

حدثنا قتيبة بن سعيد، أخبرنا جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس ابن مالك، قال:

«كان النبىّ صلى الله عليه وسلم لا يدّخر شيئا لغد» .

340 -

حدثنا هارون بن موسى بن أبى علقمة المدينى، حدثنى أبى، عن هشام

ــ

المرسلة جميع ما تهب إليه، وفيه ندب إكثار الجود فى رمضان، وعند ملاقاة الصالحين، وعقبه فراقهم شكرا لنعمة الاجتماع بهم، وندب مدارسة القرآن وغير ذلك. (عن ابن عباس) إلخ: رواه عنه أيضا الشيخان، لكن مع تخالف فى بعض الألفاظ، وأحمد بزيادة:«لا يسأل شيئا إلا أعطاه» وفى معارضة جبريل النبى صلى الله عليه وسلم بالقرآن فى رمضان الإشارة إلى تأكد معاهدته، وإلى بقية ما لم ينسخ منه، ورفع ما نسخ فكان رمضان طرقا لتنزيله عرضا وأحكاما، كما أنه طرق له جملة وتفصيلا، إذ ابتداء نزوله فيه، وكذا نزوله إلى السماء جملة واحدة، وفى المسند خبر:«إن الصحف نزلت أول ليلة منه، والتوراة لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين» ، وروى الطبرانى وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو ببلوغ رمضان فكان إذا دخل شهر رجب وشعبان قال:«اللهم بارك لنا فى رجب وشعبان وبلغنا رمضان» .

339 -

(لا يدخر شيئا): أى لنفسه، وأما لعياله، فكان يدخر لهم قوت سنة على أنه مع ذلك كان ينوبه أشياء يخرج فيها ما ادخره لهم، فلا تنافى بين ادخاره، ومضى الزمن الطويل عليه، وليس عنده شىء له ولا لهم، ووجه مناسبة الحديث للترجمة: أن عدم الادخار يدل على عظيم التوكل والإيثار، وهما من محاسن الأخلاق.

340 -

(ابتع على): اشتر شيئا بثمن فى الذمة على أداؤه. (فأعطيه): أى شيئا مرة

339 - صحيح: رواه الترمذى فى الزهد (2362)، بسنده ومتنه سواء، ورواه البغوى فى شرح السنة (3584)، من طريق المصنف به فذكره. وقال أبو عيسى: غريب وقد روى هذا الحديث عن جعفر بن سليمان بن ثابت عن النبى صلى الله عليه وسلم مرسلا.

340 -

إسناده ضعيف: فيه موسى بن أبى علقمة الفروى: مجهول [التقريب:6993]. ورواه أبو الشيخ فى أخلاق النبى صلى الله عليه وسلم (ص 51)، من طريق هشام بن سعيد. قلت: وإسناده ضعيف أيضا، ففيه عبد الله ابن شبيب «واه» ، وكذلك فيه يحيى بن محمد بن حكيم، لم أعرفه.

ص: 515

ابن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب:

«أنّ رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه. فقال النّبىّ صلى الله عليه وسلم: ما عندى شىء، ولكن ابتع علىّ، فإذا جاءنى شىء قضيته. فقال عمر: يا رسول الله قد أعطيته، فما كلّفك الله ما لا تقدر عليه، فكره النّبىّ صلى الله عليه وسلم قول عمر. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق ولا تخف من ذى العرش إقلالا فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرف فى وجهه البشر، لقول الأنصارىّ. ثمّ قال: بهذا أمرت» .

341 -

حدثنا على بن حجر، أخبرنا شريك، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء، قالت:

«أتيت النّبىّ صلى الله عليه وسلم بقناع من رطب، وأجر زغب، فأعطانى ملء كفّه حليا وذهبا» .

ــ

بعد أخرى، قيل: هذه أو الميسور من القول، وهو قولك: ما عندى شىء، فاكتفت بذلك، ولا تجعل فى ذمتك دينا، فقيل: كلا هذين بعيد، والأقرب، أن المعنى قد أعطيته سؤاله، وجعلت له دينا فى ذمتك، فلا تفعل غير ذلك، لأن الله لم يكلفك بذلك انتهى، وليس كما زعم، بل البعيد ما ذكره، بل لا يطابق اللفظ أصلا، لأن الذى دل عليه كلام عمر أنه أعطاه بالفعل والقول، فلا يعطيه ثانيا بالتزام دين له فى ذمته.

(قول عمر): أى من حيث التزامه قنوط السائل وحرمانه، لا لمخالفته الشرع، وعلل بعضهم هذا بغير ما ذكر مما لا ينفع فاحذره. (إقلالا): أى شيئا من الفقر. (بهذا): أى الإنفاق وعدم الخوف. (أمرت): لا بما قال عمر كما أفاده تقديم الظرف المقيد للقصر أى قصر القلب وردا لاعتقاد عمر، وأفاد صلى الله عليه وسلم بذكره أمره بالإنفاق فى هذه الحالة، أنه مأمور به فى كل حال دعت إليه المصلحة بالاستئلاف ونحوه، لأنه يمكنه بقرض ونحوه، فإن عجر فبعده، وهى إنفاق لأنها التزام للنفقة، وإن لم يلزم ذلك عندنا ويلزم عند غيرنا.

341 -

(قالت) إلخ: تقدم بلفظه مع الكلام عليه فى فاكهة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبق هذا، أن له مناسبة تامة لعظيم خلقه.

341 - إسناده ضعيف: وانظر حديث رقم (195)، (196).

ص: 516

342 -

حدثنا على بن خشرم، وغير واحد، قالوا: حدثنا عيسى بن يونس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:

«أنّ النّبىّ صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهديّة ويثيب عليها» .

ــ

342 -

(كان يقبل الهدية ويثيب): أى يجازى عليها، وأصل الإثابة تكون فى الخير والشر، لكن خصها العرف بالخير. (عليها): فسن التأسى به صلى الله عليه وسلم فى ذلك، لكن محل الندب القبول حيث لا شبهة قوية فيها، وندب الإثابة حيث لم يظن المهدى إليه لغير حياء إلا فى مقابل، أما إذا ظن الباعث على الإهداء إنما هو الحياء، قال الغزالى: من يقدم من سفر ويفرق هداياه من العار فلا يجوز القبول إجماعا، لأنه «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس» ولأنه مكروه فى الباطن فهو كالمكره فى الظاهر، وإما إذا ظن أن الباعث عليه إنما هو الإثابة، فلا يجوز القبول، إلا إن أثابه بقدر ما فى ظنه مما تدل عليه قرائن حاله، وإنما أطال فى ذلك، لأن أكثر الناس يستهترون فيه، فيقبلون الهدية من غير بحث عن شىء مما ذكرته، وهذا من عظيم خلقه أيضا، واستشكال هذا واللذين قبله أنها إنما تدل على سخائه، مع أن الباب فى الخلق ليس فى محله، لأن السخاء من محاسن الأخلاق فله مناسبة بالترجمة أى مناسبة.

342 - إسناده صحيح: رواه الترمذى فى البر والصلة (3536) بسنده ومتنه سواء، ورواه البخارى فى الهبة (2585)، وأبو داود فى البيوع (3536)، وأحمد فى المسند (6/ 90)، ثلاثتهم من طريق عيسى بن يونس به فذكره.

ص: 517